قرنق والمشاركة الملغومة....... الله يستر

" قرنق " .. من المناوأة المعلنة إلى المشاركة الملغومة

بعد أكثر من عقدين يصل زعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان " جون قرنق " إلى الخرطوم كشريك في السلطة التي غادرها في عهد الرئيس " جعفر النميري " وهو عقيد في الجيش السوداني ، ومن الطريف في مغادرته الأولى إن النميري أوكل له مهمة إنهاء التمرد في الجنوب فإذا به يتزعّم التمرد ويتحوّل إلى أشرس مقاتل ضد سلسلة من الأنظمة التي توالت في الخرطوم ، كما أن " جون قرنق " بدأ يساريا ينال الدعم اللازم من معسكر اليسار في ذلك الحين وفي المقدمة منهم النظام اليساري الإثيوبي برئاسة " منغستو هيلا ماريام " ، غير أن يسارية " قرنق " التاريخية لم تمنعه من التقلّب في مراجل التحولات وتغيير الأولويات مما ساعده على إدارة سلسلة من الحوارات والتحالفات مع مختلف ألوان الطيف السياسي السوداني ، بنفس القدر الذي تمكّن فيه من تحويل وجهة تحالفاته الدولية متناغما ببراغماتية مشهودة مع الأوضاع العالمية الناشئة عطفا على انهيار المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي ، ولقد أفاد بصورة واعية من الميزات النسبية للحالة الجنوبية سواء لجهة انتشار المسيحية في الجنوب ، الأمر الذي اكسبه تعاطف الدوائر المسيحية العالمية ، أو لجهة تبنيه لمطالب شمولية في نظرته للسودان المستقبلي الذي تنتفي فيه الدكتاتورية وشريعة القبيلة والطائفة والسلالة الواحدة ، الأمر الذي رفع رصيده في أوساط الدوائر السياسية العالمية ، وجعله يستقطب قطاعا هاما من الانتلجنسيا السودانية الشمالية التي لا تختلف معه في هذه النظرات .
قرنق اليساري السابق استطاع أن يجعل البراغماتية والتكتيك السياسي وسيلة لتحقيق أهداف حركته المتواشجة مع فرقاء المعارضة " الشمالية " في سلسلة من المطالب والتحديدات المنهجية لطبيعة الدولة المطلوبة وآلياتها .
حرص على محاورة مصر والتشاور معها ، وبلطبع طمأنتها بالنسبة لورقة الأمن المائي الأكثر حساسية وخطورة في البعد الاستراتيجي المصري ، وانفتح في ذات الوقت على الولايات المتحدة وأوروبا ، ولقد كان مؤشرا دالا وصول نائب وزير الخارجية الأمريكي إلى الخرطوم في الطائرة الخاصة التي أقلت قرنق.
وعلى خط متصل لم يوفر هذا المحارب على مختلف الجبهات أسباب التواصل مع فرقاء الشمال والجنوب السوداني مساهما بصورة فاعلة في سلسلة التكتلات والتمحورات والاستقطابات السياسية دون أن يفقد البوصلة ويتخلّى عن أهدافه المركزية التي يلخصها دوما بمشروع " السودان الجديد " والموحد على اسس فدرالية لامركزية تضمن المواطنة المتساوية والتشارك في الحقوق والواجبات ، خارج نطاق الجغرافيا الاثنية والدينية التي أرهقت كاهل السودان .
يجمع على هذه المطالب كل العقلاء في السودان ، بل أن " قرنق " أفلح في تسييج رؤيته الشاملة من خلال اعتماد استشارات " شمالية " راكزة ، تلخص ذاكرة المكان والزمان وتعتلي إلى مستوى صياغة المشروع الوطني الشامل للسودان الكبير ، فيما تمثل ترمومتر القياس التي تجعل الشركاء يقرأون أوضاع السودان الرسمي ومتوالياته الطائفية المعقدة .
ان تكريس مقولة السودان الجديد والموحد ، والتحالف مع طيوف الألوان السياسية الوطنية من شمال السودان وشرقه وغربه وجنوبه ، والتعامل مع المستجدات بروحية الباحث عن المشتركات ، كل هذه المسائل أسهمت في تتويج الحوار الطويل بين السلطة والجيش الشعبي لتحرير السودان ، دون أن ننسى بالطبع الضغوط الخارجية والأمريكية منها على وجه التحديد
بهذه المقدمات يصل قرنق المثير للجدل إلى الخرطوم وسيصبح الآن الرجل الثاني في الدولة ، وسينتقل من مربع المناوأة المعلنة إلى المشاركة الملغومة ، ولكن ... وتحت كلمة " الملغومة " يمكننا وضع عشرات الأسطر ، لأن الفرح الغامر الذي شمل السودانيين التوّاقين إلى مستقبل أبهى وأجمل لا يبعدنا عن الحقيقة الجوهرية التي تصل وتفصل بين طرفي المصالحة ، فيما تضع استحقاقا مباشرا وثقيلا يتلخّص في توسيع دائرة المصالحة ، وتعميم مفردات " ماساكوش " على بقية أقاليم السودان المغيّبة .
هل سيقتنع الثائر المتمرد والشريك الحالي بمغانم السلطة وجاهها متخليا عن محدداته المعروفة ؟ أم أنه سيتقاطع إيجابا مع الرأي القائل بضرورة انتقال الاتفاق من الثنائية إلى التعددية ؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة ، فالتلال والآكام تمتد على مرمى البصر ، وما سيأتي في قادم الأيام ليس اقل أهمية من الإنجاز الراهن .



د. عمر عبد العزيز

والعهده على الراوي

........................

.

......