نضج الزاد وغاب الأكلة

العرب الرحّل كانوا يمرون من هنا ، يحملون أغراضهم ونساءهم فوق ظهور ثيرانهم . تنطلق ماشيتهم بطول الطريق وكأنها نالت تدريبا مسبقا على الحركة الجماعية . نحن اعتدنا على مرورهم من هنا في مثل هذا الموسم ، فلا تزعجنا حركتهم ، وزروعنا ليست خضراء لنخشى عليها من هجمة مواشيهم ، فقد انتهى موسم الحصاد ، ولم يبق إلا التبن لنبيعه للعرب الرحّل لترتع فوقه مواشيهم وتنصب إلى جواره بيوت الشعر ، وتنتشر رائحة اللبن المخثّر والسمن البلدي . والترعة ممتلئة لسقيا الرعية ، وشجرة الطلح تلك باقية أبد الدهر تمد ظلها رغم أنف الهجير ..
تتجول تلك البنت في قريتنا ، لتبيع الروب ، واللبن المجفف المعروف باسم ( الإقط ) ، والنبق المطحون المعروف بإسم ( التابوت ) .. شعرها متناثر فوق أكتافها ، لا يلاقي منها أدنى اهتمام ، وبروز صدرها يتقدمها فلا تواريه إلا بقليل حياء . وفي أذنيها قرط فضي يسمونه ( فِدوة ) ، ويلف يدها سوار يسمونه ( جبيرة ) .. كنت وأنا أجلس داخل الدكّان الذي يمتلكه والدي أراقب هذه البنت رائحة وغادية . وحين أجد فرصة أناديها :
بت العرب !
فتأتيني ظنا منها أنني سأشتري منها قرعة من الروب ، لكنّي أقدم لها قطعة من الحلوى ، فتأخذها وتهديني ابتسامة صافية .. ثم تملأ لي قرعة من الروب ، تقدمها لي وطرف إبهامها منغمس في الروب . تغريني بابتسامة أخرى ، لكني أتذكر وصية أمي :
ما تشربوا روب العرب ، ديل عمرهم ما بيستحموا .
تردّ بنت العرب :
ماك داير؟
أردّ عليها بحركة من رأسي ، فتفهم أنني أرفض هديتها . لكنّها تراقب عيناي وهما تتحركان في كل اتجاهات جسدها ، فتسحب قرعة الروب ، ثم تعيده إلى ( السعن ). أسألها لماذا لا تشرب الروب بدلا عن إعادته إلى ( السعن ) ، فترد عليّ :
حلّابة ما شرّابة ...
ولا أفهم قصدها ، فتنصرف دون أن تقول المزيد .. ودون أن تودعني .
يتكرر هذا المشهد كل يوم منذ وصول العرب الرحّل إلى قريتنا وحتى تاريخ عودتهم إلى ديارهم . ينزلون إلى هنا كل عام ، والبنت تكبر ، وتأتيني في الدكان لتسلّم عليّ دون أن أناديها . تمدّ لي يدها وتقترب مني أكثر ، وتناديني بإسمي . ومنها تنبعث رائحة الروب ، فأشتهيه ، وهي لا تقدمه لي . سألتها لماذا لا تقدم لي قرعة ممتلئة بالروب . قالت :
إت ماك داير روبنا . إت عايفنا .
تبسمتُ تبسما عنى لها أمرا ، فقالت :
هسة كان داير بدّيك قرعة ملانة .
قلت :
داير .
فملأت القرعة ومدّتها لي ، وطرف إبهامها مغمور في الروب . فأمسكت القرعة من جهة يدها ، وضغطت على يدها ، ثم داعبت إبهامها في وضعه ذاك .. فلم ترد ، ولم تبد تجاوبا ، ولم تمنعني .
ملأت المغرفة من جوال السكّر ، وجعلته في قرعة الروب ، ثم أدرته بالقلم الذي كنت أسجل به ديون زبائن الدكان . واحتسيت نصف القرعة ، ثم قدمتُ لها النصف الآخر . شربت ، ومسحت فمها بكم فستانها ، وقالت :
أتاري الروب بالسكر حلو خلاس ..
ثم انسحبت من أمام الدكان ، وهي تواصل مشوارها عبر أزقة القرية لتبيع ما تبقى من الروب .
كل يوم تأتيني ( عاشّة ) ، تقف أمام الدكان وكأنها تريد شراء شئ ، ثم تملأ لي قرعة من الروب بنكهة إبهامها المغمور فيه ، نضيف إليه شيئاً من السكر ، ثم نديره بقلم الكتابة ، ونقتسمه سويا . ثلاثة مواسم ظلت ( عاشّة ) تأتيني فيها كل يوم وتبقى معي مدة لا تقل عن عشر دقائق ، استنشق فيها رائحة الروب والسمن التي تفوح من جسدها ومن جلبابها ، ونحتسي سويا قرعة الروب بالسكر بنكهة إبهام ( عاشّة ) ، وفي كل يوم كانت ( عاشّة ) تقترب مني اكثر فتتيح لي المزيد من الفرص ، فأملأ رئتاي من عبق الروب والسمن البلدي .
سالت ( عاشّة ) مرة :
( عاشّة ) إنتي ما جاك راجل ؟
قالت :
والله الفريك نجض بس وين البياكلوه ..
كنت أنتظر العطلة الصيفية بشوق عارم للقاء ( عاشّة ) ، والصيف لا يبرد هجيره إلا بعد تقاسم القرعة من الروب مع ( عاشّة ) . وفي تلك السنة كان الحصاد وفيرا ، وكان لدينا الكثير من التبن ، وكانت الترعة ممتلئة بالماء ، وكان الحرّ قائظا ، لكن العرب الرّحل لم يزوروا قريتنا في هذا الموسم . وبتكرار سؤالي أجابني والدي :
المشروع يا ولدي ، الحكومة سوّت ليهم مشروع . ارتاحوا الحمد لله ...
قلت في نفسي :
ومن يريحني أنا من الأضرار التي جلبها لي هذا المشروع ؟

لا يوجد من يأكل الفريك !

وهذه قرعة من الروب مع نسمات الصباح ،،

انت (احيانا) كاتب لدرجة الصدق العمد !!
جميل جداً..اننانملك حساً..ونحكي..ونحاول ان نروي
لنشعر اننامازلنا أحياء..
منتهي الزاد وغياب الاكيلة..
سواك غني ..حتجي المن بدري جات
حتجي البت الحديقة..
اعجبني الحكي الموغل .. في اي شي
وقرعة الروب ..
وام مساير..

الفريك ياود قاسم...وبليلة الفريك...وفريك البصل...وفريك الفجل..وفريك الجزر..وفريك البنجر..الفريك ياودقاسم...عمق الوصف...وأستواء الفريك ونجضانه...كإستواء بنت اللبون والتنى...أكل الملوك...كبادها كالبيضنجان اللاصف...وكذلك كالعتان والعبران...التى قرمت على العنكوليب والدفره والسعد...رخصا لحمها...كلحم الأرانب البريه...ولكن من يمتلك سنون اللبن...ومن الآتى بلبن الطير وهبوب الريف ليحظى به...فذلك القريب البعيد وقتذاك...فما أنت بنائل غير نصف القرعه وماهى نائله الا سوهاج السكر فى الروب وأضغاث أحلام ستظل زكرى وكأجراس الكنائس تخفت كلما إبتعد المرء عن المكان وكلما ساخ فى الزمان

ولك الشكر على جلب الصور ذات الأبعاد السداسيه وذات الأمانى السندسيه

منصور

منصور
هذه مداخلة تحفة ،،، قرأتها ثلاث مرات ،،، وقبلها - والله - وماك طالبني حليفة ، قريت حمار شيخ صالح ثلاث مرات ...
اكتب ، وسنقرأ ،، بس قول لي إنت من وين يا منصور ،،، أنا حاسس كده إنك زولنا ...

أساسي
الغريب أنني لم أعد أراك كثيرا في المنبر ،،،
ما بك ؟
هل أقامت لكم الحكومة مشروعا وأراحتكم ؟
ثم ماذا بعد تمايز الصفوف ، في أي صف أنت تقف الآن ؟ أعتقد أنك في صفنا ...

ياهو دا الله فتح ليك بيهو ..؟
سياسية ؟؟؟؟
ايوا نا في صفكم الان
موش انت تبع سيدي محمد عثمان
وهو تبع الحكومة الان؟
كنت اتصور ان البوست اجمل من ان تقحم فيه السياسة
ولكن ...

أساسي
أرد عليك قبل الآخرين ، وهم أصدقائي ، فلن ينزعجوا ،،،
إنت لست في صف الحكومة ، أنت في صفنا ،،، وأنا شعرت بغيابك ، وقلت أكيد أساسي رجع بعد غيبة إلى قواعده سالما ،،، هذا كان حدسي ، وما يزال ...
أنا يا أساسي ممكن أكون اختلفت معك أكثر من مرة لكني لست من الذين اتهموك ب ( الكوزنة ) ، بالعكس أنا دائما أصر على أنك من صفنا ...
وإقحامي للسياسة في البوست هو من فرحتي بعودتك ، خاصة وأنك من سنة أو أكثر لم تتداخل في أي من بوستاتي سياسية كانت أم أدبية ...

الاخ ود قاسم
سلام.
من ناحية كتاااااااااااااااب دى ما فيها كلام.
الا كتابتك بتوجع بلحيل.
بتذكرنا الحلة وايام الطلق ودق القمح وقطعان الضان القادمة من البطانة.
لك الود
والف باقة ورد

انه حق
ان اوقع اعجابى بهذه السطور الحية
احمد

والله ياود قاسم أنا من الخرطوم ومن أمدرمان ومن محافظة كررى ومن محلية السروراب إتولدت وأتربيت وأتعلمت بالسروراب وأمدرمان ولكن لى أصدقاء فى أى مكان فى السودان وأحاول أن أعرف ما لا أعرف من أى مصدر فبداوتى مدنيه ومدنيتى بدويه ونحن جموعيه سمانيه نسكن بين جبل الأولياء الى الشلال السادس شمالا شرقا وغربا تتخللنا جيوب من المحس والعبدلاب والبطاحين عمودية آل طلحه وقليل من الحسانيه والعقليين ثم دعاة التهميش الذين جاءوا من كل فج عميف ليشهدوا منافع لهم وهمشونا فى شقهم جاءوا ناس هاك اللباسات.. والمعاهو قزاز... وترمس ترمس وجردقه وحرجل وهاك الفسيخ وبنصلح الكوانين وسكسك سكسك وناس موية زيت... الشرق أتى والغرب أتى وتلاقت قمم يا مرحا وعطاء اللقية تهميشنا...مع الأعتذار لأستاذى محمد سعد دياب

الزاد الذي نضج وغاب أكَلَتُه. قطعة أدبية قابلة للأكل والاجترار. تذكرت ما قاله أبكر آدم اسماعيل عن مقدرتك السردية المذهلة .. وضيق النفَس الذي يكبلها ويعيق استرسالها. كتّاب يا زميل.

وهذا المنصور المفتاح من الكتاب الذين أتابع كتاباتهم وكنت محتاراً مثلك يا ود قاسم: من أين هبط هذا الرجل. أها طلع ما منكم ولا منّنا. ودي نفسها من المحيّرات.

ياود شانتير عليك الشيخ الطيب إنت من وين والله أنا من بلد لو قلت خمسه كلمات بصححونى فى أربعه بلد جابت العباسى محمد سعيد وأولاده وجابت الشيخ قريب الله وأولاده وأحفاده وجابت الشيخ المصطفى الشيخ إبراهيم الدسوقى وأولاده سيف والمعز ودسوقى ومن قبلهم الأستاذ محمد شريف ثم الشيخ الطيب بحر القوم وجابت الفكى الأمين ود محقين وجابت الشيخ أدم لزيدابى ودمرون الباهى والنور وعبدالله وجار النبى ليك زاهى وحليلهم أهل الله ثم أنجبت الحبر يوسف نورالدائم ومحمد الواثق يوسف مصطفى والمرحوم حسن الفاتح قريب الله...ناظرها سرور محمد رملى ومكها المك ودناصر وفارسها الزبير ود رحمه وحكامتها الرجاء التاريخ التى كتب عنها سليمان خالد محمد عبدالمحمود




منصور

شنتير ، كيفك يا أبو الزمل ..
تعرف أنا فعلا مصاب بقصر النفَس ، لكني وأنا أحكي بعض حكاياتي لمؤانسي وألاحظ أنهم يستمعون إلي بإصغاء تام ، ويعجبهم الكثير مما أحكي عن قريتنا وعن أخوالي وأعمامي ، وخالاتي وعماتي ، وبعض أجدادي الذين لم أرهم لكن سيرتهم انتقلت إلي ، لكن شخصا واحدا يشتكي من طول حكاياتي ، وهو زوجتي ، فتتململ وتطالبني بالاختصار دائما ، وكلما زارني زائر وجلس وأطال جلسته ، ثم أحسست أن الزمن يمر ، تقول : يا اخي إنت قاعد تنضم بلا عدّاد ، وحكاياتك الما بتخلص دي ،،، ما عارفاك بتجيب الكلام ده كلو من وين . يا أخي إنت لأي حاجة ما عندك صبر ، بتجيب الصبر على الكلام ده كلو من وين ؟
ولو تركتني لكنت أجريت تمارينا لتطويل نفَس الحكي ...

Quote: أنا من الخرطوم ومن أمدرمان ومن محافظة كررى ومن محلية السروراب إتولدت وأتربيت وأتعلمت بالسروراب وأمدرمان ولكن لى أصدقاء فى أى مكان فى السودان وأحاول أن أعرف ما لا أعرف من أى مصدر فبداوتى مدنيه ومدنيتى بدويه ونحن جموعيه سمانيه نسكن بين جبل الأولياء الى الشلال السادس شمالا شرقا وغربا تتخللنا جيوب من المحس والعبدلاب والبطاحين عمودية آل طلحه وقليل من الحسانيه والعقليين ثم دعاة التهميش الذين جاءوا من كل فج عميف ليشهدوا منافع لهم وهمشونا فى شقهم جاءوا ناس هاك اللباسات.. والمعاهو قزاز... وترمس ترمس وجردقه وحرجل وهاك الفسيخ وبنصلح الكوانين وسكسك سكسك وناس موية زيت... الشرق أتى والغرب أتى وتلاقت قمم يا مرحا وعطاء اللقية تهميشنا...

منصور
قل لي أنك السودان ، أنك عُصارة الخلطة ،،، من ورث مثلما ورثت فقد ورث الجمال والبهاء والطيبة والأريحية ،،، والمدنية والبداوة ،،، فكان كذاك الذي يخرج من بطن النحلة ، مختلفا ألوانه ،،، ممسكا من كل غصن بزهرة ، ممتصا منها أفضل ما فيها ،،، فأنت الرحيق ، أنت الرحيق ..

الأستاذ أحمد عثمان
لك التحية والشكر على مرورك البهيج والتسجيل في سجل الزوار ...

المعتمد
من ناحية الوجع فأنا مشحون بصور لا تنتهي ، أحبها ، أخبئها من نوائب الدهر ، أحفظها في الثنايا وداخل الجوف ،،، رصدتها كاميرة الذاكرة منذ الطفولة ، وأنا أمسك بطرف ثوب حبوبتي أو قُرْقابها، وأتبعها أينما تذهب ، للبلاد أو الحواشة أو لتملأ جردل الطلس الأخضر من ماء الترعة المشبع بطمي الحياة ، وألاعبها أحيانا حين أختبئ بين سرابات العيش أو القطن أو ( ألبد ) لها و ( أخلعها ) ،،، فلا تضربني ولا تنهرني ، بل تضحك في وجهي وتضمني ،، وتحمد لي ( شيطنتي ) ... وقد طاردت العصافير ، والجراد ، ووقفت أمام كوم حطب القطن المراد إحراقه أتصيد الفئران التي تختبئ داخله وهي سمينة ومنتفخة لأنها أكلت الفول والقطن وكلها حبوب زيتية تزيد معدلات السمنة وترفع الكوليسترول ،،، ثم رعيت البهم والعجول ، وعندما يغيب الراعي أو يمرض أو يختفي ونضطر لإيجاد بديل له كنا نرعى البقر أنا واختي الكبرى ،،، هذا غير المراسيل للدكان وللديوان ولبيوت البكا ولبيوت الأفراح .. لك كثير السلام والمحبة

الخال ود قاسم لك التحية ولعائشة بت العرب التي أوحت لك بهذه الصورة الادبية الفريدة
حقيقة كتاباتك تعجبني وخاصة التفاصيل الخفية وما وراء السطور بس زي ما قال عمك شانتير نفسك قصير ولا تحب الاسترسال في الكتابة والا لكنت نافست الطيب صالح

ود قاسم

أيها الرائع كروعة نخيل بلادي

إلينا بالمزيد!

ايمن جبارة الله الخضر
لك التحية ،،، واسمك يعني لي الكثير ،،، اكتب لي لأعرفك أكثر ...
[email protected]

حبيب بلدو
كيفك يا جميل
شكرا للطفك ، والتفاصيل أحيانا تقودنا إلى ما لا يحمد عقباه ،،، لكن ولا يهمك لو اتقابلنا سأحكي لك المزيد ولكن حتى باب الحوش ، لن تجد الفرصة للدخول في غرف النوم ...
لك التحية والود ..

Quote: والله الفريك نجض بس وين البياكلوه ..

الأخ ود قاسم


هنا أحس اننى فى الوطن الحبيب وفى ريفه الجميل وأحس بصدق يأتى على لسان الحرائر حينما يأتى الكلام بلا ترتيب ولا تزويق ولكنه من الاعماق ...

هذا سرد سودانى صرف يمتع القارىء ويجعله يرحل الى هنالك ولعل ابناء الريف هم وحدهم من يستمتعون بمثل هذا السرد وتتلاصف فى أذهانهم صور شتى غابت منذ أزمنة ...

العبارة عميقة ورائعة بحق وفيها الكثير الكثير ..

لك تحياتى

الخال
بعد غيبه

الظاهر عليك كنت زمااااان بتاع جكس
كل واحده تشوفه سمحه تتكبكب فيهاتديها حلاوة ؟؟
يعني الدكان بتاع ابوك خسران خسران
تقولي لي دي قصه من وحي خيالي

عمر مهدي
مشتاقين
مش زمان ،،، لسة ...
والدكان داك راح فيها ،،، بس هسة في حلاوة كتييييييييرة ...
كيف أخبارك ، ومالك غائب ..
اظهر وبان ...

العمدة قرشو
سعيد أنا بزيارتك ، وسعيد أكثر بأن النص أعجبك ،،،
لك التحية والمودة ..