وَلَدُ الأَعرَج..

وَلَدُ الأَعرَج..


06-23-2005, 08:29 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=80&msg=1119554940&rn=0


Post: #1
Title: وَلَدُ الأَعرَج..
Author: عدلان أحمد عبدالعزيز
Date: 06-23-2005, 08:29 PM

.
لحين إجازة الدســتور.. نقرأ قصة (وَلَدُ الأَعرَج) مع ملحقاتها في بوست فخرالدين عوض حسن..
حملة تضامن مع المعاقين السودانيين .. مادة خاصة بحقوقهم في مشروع الدستور


وَلَدُ الأَعرَج..

(الصَّبانَةُ) أُمُّ (البَشير) لَمْ تُنجِبْ غَيرَهُ. تَزوَّجَتْ في العِشرينَ، ووَضَعَتهُ في الخَمسينَ. لَمَّا كانَتْ حُبلى، لَمْ تَسَعْها الدُّنيا، فَتَهادَتْ في مَشيَتِها، وتَرَفَّعَتْ في كَلامِها مَعَ النِّساءِ، حَتى أَنَّ الجَميعَ كانوا يَتَبادَلونَ نَظَراتِ الدَّهشَةِ والعَجَبِ مِنْ حالِها.

ساعَةَ وِلادَةِ البَشيرِ، نَظَرَتْ إليهِ القابِلَةُ بِعَينِ خَبيرَةٍ، وقالَتْ لأُمهِ:

يَنبَغي أَنْ تَحمَدي اللهَ على ما أَعطاكِ، وتَتَحَلى بالصَّبرِ، فَهذا الوَلَدُ 'سَيَنقُصُهُ شَيءٌ في عَقلِهِ، ولا أَظنُّ أَنهُ سَيَمشي على رِجلَيهِ! بَكَتِ النفساءُ سَبعَةَ أَيامٍ وسَبعَ لَيالٍ، وسَمَّتِ المَولودَ باسمِ جَدِّهِ الذي عُمِّرَ مائَةَ عامٍ.


بَعدَهُ بِعامَينِ، وَضَعَتْ جارَتُها (السَّعديَّةُ)، بائِعَةُ البَيضِ، وَلَداً سَمَّتهُ (مُصطفى). وكَبُرَ مُصطفى ونَطَقَ ولمْ يَنطقِ البَشيرُ، ومَشى مُصطفى وجَرى ولَمْ يِمشِ البَشيرُ. تَعبَتِ الأُمُّ مِنْ زيارَةِ الأَضرِحَةِ والفُقهاءِ، وسَلَّمَتْ أَمرَها للهِ.


في الزَّريبَةِ، لا يَكُفُّ البَشيرُ عَنِ الصُّراخِ. لا يَهدأُ إلاَّ عَندَما تأخُذُهُ أُمهُ إلى عَتَبَةِ البابِ، وتَضَعهُ في العُلبةِ الكَرتونيَّةِ. إذ ذاكَ تَصيرُ لَهُ عَينانِ ضاحِكَتانِ طافِحَتانِ بالفَرَحِ وهوَ يُشاهِدُ المارَّةَ والجيرانَ، ويُشرِقُ وَجهُهُ ، ويَبدو سَعيداً بالرَّغمِ مِنْ فَمِهِ الواسِعِ المَفتوحِ عَلى الدَّوامِ، وشَعرِهِ المَنفوشِ كَزَغَبِ طائِرٍ مَريضٍ، والمَخاطِ اللزِجِ واليابِسِ الذي يَلتَمِعُ عَلى بَشَرَتِهِ الدَّاكِنَةِ.


يَقضي النهارَ أَمامَ الزَّريبَةِ، في الحَرِّ والغُبارِ، والبَردِ والمَطَرِ، يَدفَعُ رأسَهُ وصَدرَهُ إلى الأمامِ، ثمَّ يَردُّهُما في حَرَكَةٍ دائِبةٍ سَريعَةٍ كأَنما يَرقُصُ عَلى دَقاتِ قَلبِهِ المُتلاحِقَةِ رَقصَةَ الحَياةِ. حَتى مُصطفى تأخُذُهُ هذِهِ الحَرَكَةُ أَحياناً عِندَما يَكونُ مَعَ البَشيرِ. هوَ الوَحيدُ بَينَ أَولادِ الدَّربِ الذي يَجلِسُ مَعَهُ، يَنبِشانِ الأرضَ، ويَلعَبانِ بالترابِ والأَعوادِ والأَسلاكِ وعُلَبِ القَصديرِ، ويَتَحَدَّثانِ بالنظَراتِ والإشاراتِ، وبأَصواتٍ مُقتَضَبَةٍ لا يَفهَمُها غَيرُهُما، حَتى أَصبَحَتْ هذهِ حالُهُ مَعَ الآخَرينَ. يُكَلِّمُ البَقالَ والخَضَّارَ وبائِعَ الفَحمِ ومُعَلمَ الفُرنِ بِعَينَيهِ وحاجِبَيهِ ويَدَيهِ، ولا يَنطِقُ بِكَلامٍ إلاَّ إذا تَعَذَّرَ الفَهمُ عَلى مُخاطِبتِهِ.


وتَنظُرُ السَّعديَّةُ بعَينِ الرِّضى إلى ابنِها الذي لا يُرافِقُ الأَولادَ إلى المَزابِلِ، بَلْ يَظلُّ طولَ النهارِ أَمامَ الزَّريبَةِ مَعَ البَشيرِ، المُقعَدِ الظريفِ، الذي لا يُشَكِّلُ أَيَّ خَطَرٍ عَلَيهِ.


وَلّى الصَّيفُ والحَرُّ والحَرائِقُ، وحَلَّ الوَقتُ الذي تَفتَحُ فيهُ مَدارِسُ المَدينَةِ أَبوابَها. مَدرَسَةُ الحيِّ أَيضاً فَتَحَتْ حُجرَتَيها اللتينِ بُنِيَتا قَبلَ عامَينِ عَلى عَجَلٍ في الخَلاءِ الذي يَفصِلُ المَساكِنَ عَنْ غابةِ البَلوطِ. أََخَذَتِ السَّعديَّةُ مُصطفى إلَيها، وأَعطَتْ لِلمُعَلمِ دَزينَةً مِنَ البَيضِ، ووَعَدتهُ بِمِثلِها في كُلِّ شَهرٍ أَو شَهرَينِ، ودَعَتِ اللهَ أَنْ يُهديَ صَغيرَها، ويَفتَحَ صَدرَهُ وعَقلَهُ لِلدِّراسَةِ حَتى يُصبِحَ مِنَ المُديرينَ أَو الأَطبَّاءِ أَو المُهندِسينَ الناجحينَ. فَأَولادُ الضُّعفاءِ الحاذِقونَ يَصِلونَ الآنَ إلى هذِهِ المَراتِبِ. اللهُ يَحفِظهُ مِنْ شَرِّ العَينِ ويُبعِدُ عَنهُ أَولادَ الحَرامِ!


لكِنَّ ولَدَ الفَقيرَةِ القَليلَ الكَلامِ، وَجَدَ بِالمَدرَسَةِ أَولاداً كَثيري المَكرِ والكَلامِ. كُلما ضاعَ قَلَمٌ أَو أصبَعُ طَباشيرَ قالوا "فَتشوا وَلَدَ الأعرَجِ!". وكُلما تَمَزَّقَتْ إحدى صُورِ القِسمِ، أَو تَحَطمَ زُجاجُ نَوافِذِهِ الضيقَةِ العاليَةِ صاحوا بِصَوتٍ واحِدٍ: "إنهُ وَلَدُ الأَعرَجِ، لا أَحَدَ غَيرُهُ!"


والمُعَلمُ يَرتاحُ لِلعُثورِ عَلى المُذنِبِ بِهذهِ السُّهولَةِ، والمُذنِبُ دائِماً مُصطَفى. وتَنهالُ العُقوباتُ عَلَيهِ دونَ أَنْ يَقولَ شَيئاً يُدافِعُ بِهِ عَنْ نَفسِهِ. لَمَّا حاوَلَ ذلكَ مَرَّةً، ازدادَ غَضَبُ المُعلمِ عَليهِ، وكالَ لَهُ العِقابَ مُضاعَفاً، فَتَعَلمَ مُصطَفى أَنْ يَغلِقَ فَمَهُ مَعَ الكِبارِ.


فَترَةُ الاستِراحَةِ يَقضيها مُصطفى في الجَري، فالسَّاحَةُ الترابيَّةُ واسِعَةٌ، وهوَ يُحِبُّ أَنْ يَقفِزَ بِجَزمَتِهِ المَطاطيَّةِ السَّوداءِ التي تَرتَفِعُ إلى رُكبَتَيهِ، في الترَعِ المُنتَشِرَةِ بِها. هذِهِ واحِدَةٌ. أَمَّا الثانيَةُ، فهيَ أَنهُ يُريدُ الابتِعادَ ما أَمكَنَهُ ذلِكَ عَنِ الأولادِ لِئلاَّ يُسَبِّبوا لَهُ مَتاعِبَ. لكنَّ المَتاعِبَ لا تُفارِقُهُ وتُلازِمُهُ مُلازَمَةَ الظلِ.


هذا اليَومَ، تَبِعَتهُ جَماعَةٌ مِنْ كِبارِ القِسمِ الثاني، وأَوقَفوهُ. صاحَ فيهِ كَبيرُهُم ذو الشعرِ الكَثيفِ:

- أَنتَ يا وَلدَ الأَعرَجِ! اقرأْ!'

قالَ بِحَيرَةٍ:

- ماذا أَقرأُ؟'

فَقالَ الوَلَدُ:

- اقرأْ القُرآنَ يا حِمارُ!'

وقالَ آخَرُ بِسُخريَةٍ:

- مَتى رأيتُم أَبكَمَ يَقرأُ؟!

فضَحِكَتِ الجَماعَةُ، والتَحَقَ بِها بَقيَّةُ التلاميذِ.

عادَ كَثيفُ الشعرِ يَسأَلُهُ بِعَينَينِ شَرِسَتَينِ:

- أَلا تَحفِظُ القُرآنَ يا رأسَ التَنَكِ؟!'

أَجابَ مُصطفى:

- كَلاَّ.'


صاحَ الأحدَبُ القَصيرُ:

ولِماذا تَقولُ إنَّ أَباكَ فَقيهٌ؟'

رَدَّ مُصطفى:

- هذهِ هيَ الحَقيقَةُ. أَبي فَقيهٌ، يَحفَظُ القُرآنَ كُلهُ!'

قالَ النفنافُ:

- الفَقيهُ لَيسَ والِدَكَ!'

ضَحِكَ مَجدوعُ الأُذنِ، وقالَ:

- هوَ زَوجُ أُمكَ، أَبوكَ كانَ أَعرَجَ، هكَذا!'

قَهقَهَ الأَولادُ عالياً لَمَّا قَلدَ الوَلَدُ مَشيَةَ الأَعرَجِ، فَقالَ مُصطَفى:

أَعرِفُ. لكنَّ الفقيهَ هوَ أَبي الآنَ!

'قالَ الوَلَدُ الطويلُ المُلَقبُ بالعَلاَّمَةِ:

- هوَ ليسَ فَقيهاً.'

وقالَ الأَعمَشُ:

- هوَ فَقيهٌ، لأَنَّ لَهُ لِحيَةً وجُلباباً أَبيضَ.تَدَخَّلَ (الفامپير) ذو النابينِ البارِزَينِ:

أُسكُت أَنتَ أَيُّها الأعمى! أَبي يَقولُ إنهُ فَقيهٌ كَذَّابٌ.'

رَدَّ مُصطفى بِغَضَبٍ: هوَ لَيسَ كَذَّاباً.'


قَرَّبَ ذو النابينِ رأسَهُ بِتَحَدٍّ حَتى لامَسَ جَبهَةَ مُصطفى، وصَرَخَ في وَجهِهِ:

- أَبي هوَ الكَذَّابُ إذَنْ؟ أَسَمِعتُم؟'


فَصاحَ الجَميعُ وصَفَّروا مُستَنكِرينَ مُحتَجِّينَ. فأَمسَكَ ذو النابينِ بِمُصطفى، وأَسقَطَهُ بِحَرَكَةٍ سَريعَةٍ مِنْ رِجلِهِ عَلى الأَرضِ، وارتَمى عَليهِ.


وارتَفَعَتْ أَصواتُ التشجيعِ:

- أعطِهِ ما يَستَحِقُّ!'

- عَلمْهُ عاقِبَةَ التجاسُرِ عَلى الأَولادِ!'

- املأ فَمَهُ بالترابِ!'

- ابصِقْ على مُؤَخرَتِهِ الجَرباءِ!'

- صاحَ أَحَدُ الأَولادِ: اَلمُعَلمُ قادِمٌ. ابكِ يا (فامپير)!'


عِندَما وَصَلَ المُعَلمُ، وَجَدَ عَشَراتِ الأَصابِعِ تُشيرُ إلى مُصطفى، وأَطلَقَتِ الحَناجِرُ زَعيقَها تَشهَدُ بأنهُ هوَ الظالِمُ السَّباقُ لِلعُدوانِ. اختارَ المُعَلمُ ثَلاثَةً مِنَ الأَقوياءِ، وأَشارَ إلَيهِم فأَسقَطوا مُصطفى عَلى ظَهرِهِ، وخَلَعوا جَزمَتَهُ. وبَصَقوا لِقَذارَتِها، ورَفَعوا قَدَميهِ، ورَفَعَ المُعَلمُ عَصاهُ، وأَمَرَهُم أَنْ يَعدُّوا الضَّرَباتِ مَعَهُ، فَصاحوا:


واحِد ... اثنان ... ثَلاثَةٌّ ...'حَتى بَلَغوا عِشرينَ.


قَعَدَ مُصطفى في الزَّريبَةِ يَومَينِ، لا يَستَطيعُ المَشيَ عَلى قَدَميهِ، ولَمْ يَعُدْ إلى المَدرَسَةِ بَعدَ ذلكَ.


تَمَنعَتُ الشمسُ كالخَجلى وَراءَ الغَمامِ في هذا اليَومِ الخَريفيِّ. ولمْ تَلبَثْ السَّماءُ أَنْ أَرعَدَتْ مُنذِرَةً بوابِلٍ مِنَ المَطَرِ. لكنَّ هذا لَمْ يَمنَعِ الصَّبانَةَ مِنْ وَضعِ البَشيرِ أَمامَ الزَريبَةِ. أَمَّا مُصطَفى، فَقَد أَخَذتهُ السَّعديَّةُ إلى المُعلمِ (حَمَّان)، صانِعِ البَراريكِ. سَلَّمَتْ فَرَدَّ التحيَّةَ، ثُمَّ قالَتْ:


- هذا وَلَدي الوَحيدُ، اجعَلْهُ بَينَ يَديكَ يا سيِّدي حَمَّان! اقبَلْهُ عِندَكَ 'باسمِ قَرابَتِكَ لِلمَرحومِ والِدِهِ، وعَلمهُ الحِرفَةَ. أَللهُ يُجازيكَ ويُكثِرُ خَيرَكَ!ومَدَّتْ إلَيهِ بِرُزمَةٍ فيها بَيضٌ كَثيرٌ. فَنَظَرَ إلى الوَلَدِ وفَكرَ:

- "هَل صارَ دُكَّاني مَلجأً لِلأَيتامِ؟""

ثُمَّ أَشعَلَ سيجارَتَهُ المَلفوفَةَ الوَسِخَةَ، وقالَ:

- أَهلاً بِكَ يا وَلَدي! اعتَبِرني كَعَمكَ تَماماً! كَمْ عُمرُكَ؟'

- فَتُجيبُ السَّعديَّةُ:

- ثَماني سَنواتٍ يا سَيِّدي حَمَّان، لكنهُ صَبورٌ وقَنوعٌ مِثلُ والِدِهِ، وحاذِقٌ' في كُلِّ شيءٍ، ولَنْ يُزعِجَكَ بالكلامِ أَبَداً، فهوَ حَشوميٌّ، لا يَفتَحُ فَمَهُ إذا لَمْ تَسألهُ.


وتُضيفُ عِباراتِ شكرٍ أُخرى، وتَمضي وقَلبُها يَخفُقُ مِنَ الفَرَحِ، ويَداها مَفتوحَتانِ إلى السَّماءِ، تَطلُبُ الهِدايَةَ لِوَلَدِها والتوفيقَ.أَعطى المُعلمُ حمَّان لمُصطفى مِطرَقَةً وصَندوقاً خَشَبيَّاً مَملوءً بالمَساميرِ المُستَعمَلَةِ المِعوَجَّةِ وقالَ لَهُ:

- سَرِّحْها!'


مَضى حمَّان لِقَضاءِ غَرَضٍ مِنْ أَغراضِهِ. ولمَّا عادَ قُبيلَ الظهرِ، ونَظَرَ إلى نَتيجَةِ العَمَلِ، رَفَسَ مُصطفى بِحِذائِهِ الغَليظِ وصَرَخَ في وجهِهِ:

- ما شاءَ اللهُ! أَربَعَةُ مَساميرَ في أَربَعِ ساعاتٍ! إنكَ جِئتَ لِتُفلِسَني يا 'وَلَدَ الأعرَجِ!


وعِندَما حَلَّ وَقتُ الغَداءِ، عادَ مُصطفى إلى زَريبَتِهِ بِيَدٍ يُمنى مُنهَكَةٍ، وبِيُسرى مُتَوَرِّمَةٍ حاميَةٍ مِنْ كثرَةِ ما هَوى عَليها بالمِطرَقَةِ الحَديديَّةِ الثقيلَةِ طيلَةَ أَربَعِ ساعاتٍ.


اغرَورَقَتْ عَينا البَشيرِ بالدُّموعِ لَمَّا رأى أَصابِعَ مُصطفى المُتوَرِّمَةَ. ودَخَلَ هذا، وجَلَسَ إلى المائِدَةِ يأكُلُ بِيَدٍ واحِدَةٍ. هَمَّ أَنْ يَقولَ لأُمهِ إنَّ المُعَلمَ حَمَّان يُناديهِ هوَ الآخَرُ "وَلَدُ الأعرَجِ"، إلاَّ أَنهُ لَمْ يَفعَلْ، وجَلَسَ يُكَلمُ نَفسَهُ:

هوَ ابنُ أَبيهِ، وأَبوهُ كانَ أَعرَجَ حَقاً. لا بأسَ! فاللقَبُ أَفضَلُ مِنْ غَيرِهِ:

"حَلوف، القُنفُذُ، عَينُ البومَةِ، الزَّوارُ، الفامپير، العَلامَةُ ..."


إنهُ لا يَذكُرُ شَيئاً عَنْ والِدِهِ، ولَيسَ لَهُ تَصَوُّرٌ لِما كانَتْ عَلَيهِ هَيئَتهُ وقامَتُهُ ومَلامِحُ وَجهِهِ. فَقَدْ توفيَ قَبلَ سِتِّ سَنَواتٍ، وتَرَكَ مُصطَفى في عامِهِ الثاني. كُلَّ ما يَعلَمُهُ الوَلَدُ عَنْ والِدِهِ أَنهُ كانَ حارِساً بِمَخزَنٍ قُربَ الميناءِ، وأَنَّ إحدى ساقَيهِ كانَتْ مِنْ خَشَبٍ. ساقُهُ اليُمنى أَمِ اليُسرى؟ لا يَدري. كَما لا يَدري أَينَ هيَ السَّاقُ الآنَ. هَلْ دُفِنَتْ مَعَ والِدِهِ؟ هَل باعَتها أُمهُ؟ هَلْ خَبَّأتها؟ ولِماذا تُخَبِّئُها؟ ولا يَدري أَيضاً هَلْ كانَ أَعرَجَ عِندَما تَزَوَّجَ أُمهُ، أَم كانَ بِساقَينِ صَحيحَتينِ. أَشياءُ كَثيرَةٌ يَجهَلُها، ويَتَحَرَّقُ شَوقاً لِمَعرِفَتِها، لكنَّ أُمَّهُ لا تُحَدِّثهُ أَبَداً عَنْ أَبيهِ، وهوَ لا يَجرؤُ عَلى طَرحِ أَسئِلَةٍ عَلَيها بِشأنِهِ.


قالَت السَّعديَّةُ بِصَوتٍ جافٍّ أَرفَقْتهُ بِنَظرَةٍ صارِمَةٍ:

- مالَكَ تُحَدِّقُ في الطعامِ؟ إذا شَبِعتَ فاحمِدِ اللهَ، واخرُجْ إلى عَمَلِكَ! هَيَّا!'


طأطأَ مُصطفى رأسَهُ، ولَعِقَ أَصابِعَهُ بِلِسانِهِ، وحَمَدَ اللهَ وخَرَجَ. وجَلَسَ يَحكي لِلبَشيرِ عَنِ المُعَلمِ والمَساميرِ ثُمَّ تَوَجهَ إلى العَمَلِ.


سعيد الكفراوي، مجلة جسور، 1993

Post: #2
Title: Re: وَلَدُ الأَعرَج..
Author: عدلان أحمد عبدالعزيز
Date: 06-24-2005, 02:44 PM
Parent: #1

.

الدســتور لم تتم إجــازته بعــد.. أبرزوا قضــاياكم للســـطح، أقلاه ســيكون لـنا حق إلــقاء اللــوم إذا ما تم تجاهلها، ولن يكــون لهم إعــاء عدم المعرفة!
.