وأنـا خايفـة فى بعـدك يگـون الضـاع ضعـف المگـتسـب

وأنـا خايفـة فى بعـدك يگـون الضـاع ضعـف المگـتسـب


05-21-2004, 04:33 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=8&msg=1085110383&rn=0


Post: #1
Title: وأنـا خايفـة فى بعـدك يگـون الضـاع ضعـف المگـتسـب
Author: ياسر هاشم خليل
Date: 05-21-2004, 04:33 AM

عثمان ميرغني:/ جريدة الرأي العام

في زحمة السوق السياسي، والساسة يتصايحون كل ينادي لبضاعته والضجيج يلف الوطن من أقصى كارثة الحرب في جنوبه الى أقصى كارثة الجدب البشري في شماله، ومن أقصى كارثة العصيان المسلح في غربه الى أقصى كارثة المرض والعطش في شرقه .. في كل هذه الزحمة يندب الشعب السوداني حظه العاثر الذي جعله في ذيل الأمم وهو الذي يملك كل شيء الخضرة والماء والوطن الحسن.. تهاجر كوادره الى كل أركان الدنيا فتنجح وتسمق بين الآخرين من البشر مهما ابيضت ألوانهم و عجمت أسنتهم .. لكنهم يفشلون داخل وطنهم ويتمزقون بين حياة الضنك وشح التوقير الوطني.
كم عدد السودانيين في الخارج ؟.. من استراليا الى ألسكا .. متى خرجوا ومتى سيعودون ؟.. أي أجيال جديدة تلك التي سيخلفها هؤلاء المغتربون طالما أنها أجيال وُلدت في غربة وتعلمت وترعرت وعاشت في غربةٍ؟ .. أجيال لا تعرف بعانخي ولا ترهاقا ولا المك نمر ولا الإمام المهدي ولا عبد الله التعايشى ولا عثمان دقنة ولا الخليل ولا كرومة ولا محمد وردي ولا الهلال ولا المقرن!!.. قائمة طويلة من وجداننا السوداني والتي بدونها يصبح السوداني أجنبياً ولو تلونت بشرته بالسواد ورسمت تضاريس وجهه تكوينه السوداني الجيني.
هؤلاء السودانيون يتحولون يوماً بعد يوم الى (فاقد) وطنى.. هم والأجيال التي تخرج من أصلابهم، يزورون الوطن كما يزورون (سنغافورة) ..سياح ولو تنكروا في زي أولاد البلد .. ويزداد احساسهم بغربتهم كلما جاءوا الى وطنهم في عطلاتهم القصيرة العجلى.. يعيشونها تحت صفة (مغترب).
كم عدد هؤلاء ؟.. وكم عدد الأجيال التي يخلفونها في غربتهم ؟؟.. وما تأثير ذلك على المجموع السوداني ..؟؟ لا أحد يعلم .. والأدق لا أحد (يرغب) في أن يعلم.. لسبب بسيط سهل.. المغتربون في السجلات الرسمية ليسوا إلاَّ تلك الفئة التي ضُربت عليها الجزية أينما ولت تدفع بالدولار في كل خطوة داخل أو خارج الوطن .. ولا يهم من هم أو الى أين سيذهبون بعد ذلك هم وأولادهم؟.. وفي الوجدان الشعبي هم أؤلئك المنعمون الذين عليهم ان يدفعوا مرتين .. من مالهم ومن حالهم.
وكثير منهم ممزقون بين وجودهم البدني في الغربة ووجودهم المعنوي في السودان ، من الذين ضُربت عليهم الذلة والمسكنة فاضطروا الى شطر الأسرة الى نصفين :نصف في السودان غالبا الزوجة وأولادها.. ونصف في الغربة غالبا الزوج وحده.. كما صورت ذلك الأغنية الشايقية الشفيفة التي عكست أحاسيس النصف (التعيس) في السودان في خطاب عاطفي موجه الى النصف (الأتعس) في الغربة:
معذرة لو معاك منى الكلام حرة
معليش الخطاب كاتباه مضطرة
حرام مننا انت تتبرى
وخمسة سنين تفوت تجى فيها فد مرة
وراك أنا كم شقيت وعشت فى مُرّة
وتعبت مع الصغار الهم للعيون غرة
بيخاف الغرق الغاص ورا درة
قالوا أدب الصغار والعقدة من خضرا
حليلى أنا زمن ضى فاطرى ما انفرة
وخمسة سنين غياب ما بتحملن حرة
أنا الحاضنة العذاب وآمالى محتضرة
وأنت الفى النعيم ما خاتى حساب بكرة
مسكينة التقول فى الاغتراب سُترة
وتتناسى القروش فى يوم تكون ضرة
حليل زمنك يوم كنت عايشنا بالاجرة
يا ريت يا ريت لا اغتربت لا مرقت برة
الشايقية المعذبة في (نعيم الاغتراب) لخصت الأمر كله في سطر واحد (يا ريت .. يا ريت لا اغتربت ولا مرقت برة) شطب كامل لكل حيثيات الاغتراب من أول درهم فيها الى آخر تأشيرة خروج نهائي ..
وتمضي الرثائية الباكية الى عمق الوجدان الأسرى لترسم لوحة فيها عاطفة مكبوتة بكثير من الدبلوماسية والرقة ..
الكاتماه فى جواى كتير متملك الجوف والعصب
ما كت دايرة اقولو ليك لكن لسان الحال غلب
ما بنسى يوم ودعتنا وسافرت فى غرة رجب
خليت وراك الدار حزين يتباكى والدمع انسكب
اعذرنى والله العظيم لو لا الضرورة انا ما كتب
وانا خايفة فى بعدك يكون الضاع ضعف المكتسب
اليوم داك ناس البلد هنونى شايقية وعرب
قالوا لى مبروك خيراً جاك يكتب سلامته الاغترب
قالوا لى دوب نجم السعد ظلاك من بعد احتجب
يا دوب بالك يستريح وتنسى العذابات والتعب
فضلت أحسب فى الشهور قاعدا لى فوق نيران حطب
صابرة وحريصة على الولاد لا يبقوا للريح فى المهب
سديت خانتك من مشيت قايمابو واجبى كأم وأب
والاسرة يضنيها المسير تتهاوى لو ما فيها رب
والله ما بنكر جميلك لينا برضو ثناك وجب
موكب هداياك ما انقطع كان سترة فى الزمن الصعب
لابسين وماكلين والنعيم كيلنا فى يوم ما نضب
وعايشين معيشة المترفين طولنا والطبع انخرب
حامدنو كان قلت الاكل والله للتين والعنب
اما الجناين شيلة كان وافر الفواكه والرطب
البيت مفرش بالحرير مليانى إيدى بالدهب
لكن خسارة على محل عاش سيدو خمسه سنين عزب
الشى المهم ما قلتو ليك ليه انت ما ظنيت حسب
كبروا الصغيرونين خلاص خايفالن الطبع الكعب
وصلوها مرحلة الخطر..والامن ما زال مستتب
وانا كنت قادراهم زمان لكن بعد كبرو اتغلب
حصلنى قبل الجد يفوت ودوبنهم فوق العتب
قبال نحصد الخير ندم ما بيجدى كان لمت العتب
خايفالن الطيش فى الدروس ما برضى لو واحد رسب
خوفى المتعبنى الكبير بعدين يمرقوا بلا ادب
وريتك الحاصل علىّ لا فيهو ثورة ولا غضب
عشان الحديث ما يبقى نى والواحة يكتنفا الجدب
انا قلبى ما زال لسة حى ونجمو الملهلب ما غرب
وآخر كلامى تردو لى لا ابقى بكرة انا السبب
ما كت دايرة اقولو ليك لكن لسان الحال غلب
الكاتماه جواى كتير متملك الجوف والعصب
ليس في الامكان أروع من هذا التصوير الذي يرسم لوحة الأسرة المشتتة بين الخارج والداخل، ففي أفضل الظروف لو تحققت السترة المادية فإن (لسان الحال) يفضح انفراط امنها الأخلاقي ..(الأمن الأخلاقي) اما في هذه الصورة الاستباقية الحذرة التي تتوجس من المستقبل اذا استمر الحال كما هو عليه ، فيشب الأبناء وهم فاقدو الاتزان الاخلاقي والنفسي .. طابور خامس من المشردين اخلاقيا الذين كسبوا المال وفقدوا الأب.. أو في وجهها الآخر الأكثر قتامة في انفراط حصونها وعورتها الأخلاقية الباطنية.. عندما تصبح كلمة (مغترب) أقرب الى (مستباح).
في كل الأحوال المغترب يدفع من ضميره ونفسه .. والحكمة الذهبية تقول: (ماذا يفيد الانسان لو كسب العالم وخسر نفسه ؟؟) فيكسب مالاً ويخسر نفسه أو فروعه .. إذا ظلت الأسرة كلها في الخارج يخسر الوجدان السوداني في أجياله .. واذا انشطرت بين الخارج والداخل تاهت على نسق اللوحة التي رسمتها تلك الاغنية الشايقية .. وفي كل الاتجاهات: (انا خايفة فى بعدك يكون الضاع ضعف المكتسب).
أشقى ما يقهر (المغترب) انه في حالة انتظار .. يقف على محطة (أوتبيس) قد لا يأتي .. أو قد يأتي بعد فوات الأوان.. كل حياته محبوسة بين قوسي الانتظار .. انتظار اليوم الموعود الذي يعود فيه نهائيا الى بلده ليصبح مثله مثل أي مواطن آخر ينظر الى (المغتربين) بعين نصفها مملوء بالسخرية والآخر بالحسد.. لكن هذا اليوم الموعود مجهول في ظلمة مجاهيل أخرى .. ليس له أية مواصفات أو أرقام أو درجات تحدد مياقته ..هو يوم والسلام .. يوم يقرر فيه المغترب أن (اغترابه) فقد صلاحيته وحيثاته .. أو حتى جدواه الاقتصادية فيعود الى بلده عودة قائد منتصر أو أسير منكسر .. بخفي حنين أو (فردة) واحدة منهما . او حتى حافياً حتى من خُفى حنين ..
والجميع في وطني السودان في حالة انتظار.. المغترب في حالة انتظار الأمل البعيد أن تتحق غاياته من الهجرة فيرجع الى وطنه .. فيظل بهذا الاحساس كالطعام المجمد في ثلاجة في انتظار ميقات أكله .. يجمد المغترب كل عواطفه وأفراحه وآماله في انتظار يوم قد لا يأتي قريباً ليعود الى وطنه ليمارس حياة عادية غير مطموسة بهموم الاغتراب .. والشعب السوداني بالداخل يعيش في انتظار طويل ليوم يخرج فيه من محنه وآلامه ليتمتع بالنعيم الذي يحف وطنه من كل الاتجاهات أخصب أرض وأطول الأنهار وأغزر الأمطار وأوفر الثروات الحيوانية والثروات الطبيعية التي تحت الأرض وفوقها ومع ذلك لا أحد لا يتألم في وطن كل ما فيه كارثة او مشروع كارثة في المستقبل.
لكن ليس أشر من انتظار ساستنا ..الساسة - الذين يتحملون تاريخياً أوزار السودان - هم أيضا ينتظرون..الذين في المعارضة ينتظرون الحكومة ان تترك لهم كراسي الحكم ..والذين في الحكم ينتظرون يوماً لا تطالبهم فيه المعارضة بالحكم .. حالة انتظار كبيرة تمسك بتلابيب السودان تجعله وطنا في الضمير ينتظره الجميع ولا يأتي ..
والذي يكتمه شعب السودان في (الجوف والعصب) كثير .. لكن لسان الحال غلب..!!