سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج

سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج


02-16-2004, 10:26 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=8&msg=1076923614&rn=1


Post: #1
Title: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: adil amin
Date: 02-16-2004, 10:26 AM
Parent: #0

الوالد العزيز وهيب جورج
سلام على من اتبع الهدى
كل ما استيقظ صباحا على صوت ثلاث عصافير تغرد فى نافذة الفصل الذي اتخذه مسكننا فى مدرسة على تخوم قرية فى سهول تهامة فى اليمن ، قرية مظلمةحسبها من الحضارة ان تظهر على الخارطة ولكنهاتضى ء بقلوب اهلها الطيبين ..اسال نفسى(لماذا انا هنا؟؟
واتداعى ويطوف بى الخيال وحات..اسمع صافرة السكة حديد.. واظنك لاتسمعهامثلى وانت فى ضجيج لندن والمدن التى بلا نخيل
كنت اكثر من صديق لوالدى وكنت مربى جليل..لا زلنا نذكرك وانت تقف فى شارع السلك تحمل حقيبة الموجهين فى انتظار الحافلة التى تقلك الى مكتب تعليم الدامر..هل تذكر هدير القطار وضجيج الدراجات الذى ينساب امام منزلكم
انى اراك وانت فى هذا العمر تسير متعثرا فى طرقات لندن تحمل مظلتك هاربا من الثلوج والامطار يصتدم بك بعضهم وينظرون الى بشرتك البيضاء ويعتقدون انك منهم وهيهات
يا ريتنى لو اقدر اعيد
لحظات من الماضى البعيد
اهدى الزمان باقات حنان
واكتب لعمرى ربيع جديد
لكنى ارجع اقول ما يفيدنى
احلم ام يفيد
تلقانى بين الناس هناك
وانا فى الحقيقة انسان وحيد
*******
هلى ضاقت المليون ميل بمارحبت...ام انها الطموحات المريضة واوهام القوة والنصر....لماذا يمضى الجميع ولا يعودون..لماذا يفخخ لكم السودان حتى تهاجرو..كنا اخوان فى الانسانية يضمنا موزاييك المدن السودانية(علب الماكنتوش)..المقابر ذات الصلبان حيث يخييم الموت الجليل وحفيف اوراق شجر النيم وصرير الطاحونة الهوائية التىتوقفت منذ زمن...كانت هنا النهاية لثلث سكان المدينة..
والبد اية فى مكان آخر في الجانب الاخر من المدينة فى مواسم الفرح واجراس الكنسية واعياد شم النسيم وانتشاركم فى الحدائق واطفالكم الذين يشبهون الملائكة واسماءهم الغربية والجميلة نيرمين نيفين وناهدفليب ونادر وفرانسيس وفهمى ميخائيل وفلبس
****
الوالد العزيز
نحن ايضا تركنا المدينة التى هاجرت عصافيرها بعد توفت المرحومة السكة حديد..واضحينا من النازحين النزوح العشوائى الفاخر فى جنوب الخرطوم..الدروشاب..وابى الذى تعرفه جيدا دخل فى عزلة المعرى ورفع شعار
مضى كل الذين احبهم واصبحت مثل السيف فردا
*******
انى ارسل لك هذه ارسالة قبل ان ياتى الطلاب وتضج المدرسةبالحياة وانسى نفسى وينقطع هذا السيال من التداعيات...عن سيرة مدينة كان مسيحيا هواها
******
انت تجلس وحيدا على مقعد فى الهايد بارك..تنظر امامك ولاترى الا القطار الذى لا ياتى ابدا..وتسمع صافرة السكة حديد..وضجيج العجلات..وتنحدر دمعة لاتسطيع اخفاءها من تحت نظارتك الطبية..انهم يعتقدون انك منهم ولكنك منا...فقط لم نعرفك..انت المربى الجليل الذى خرجت اجيال واسهمت فى ارث حضاري فى مدينة اضحت مرتعا لطيور الظلام...انتهت مسحة الانجليز فى الانسان والمكان...والمجتمع المدنى..بعد ان جاء فدياس الاعمش ليعمل بازميله المعوج فى صخرة الجرانيت الجميلة والتى صقلتها الطبيعة عبر ملايين السنين فاعادها صخرة صماء كما كانت
*********
والدى العزيز وهيب جورج
ختاما(.." من يجد وطنه جميلاً فانه في عداد المبتدئين ذوي المشاعر الرقيقة ومن يجد وطنه في كل الأرض يقيم بها فهو في عداد اهل القوة ولكن من يجد الأرض بأسرها مقام غريب ابداً فهو وحده صاحب الكمال .. وذو النفس الرقيقة حصر عشقه في بقعة محددة من العالم . وذو النفس القوية وسع عشقه ليشمل كل أرض تطأها قدمه ذو النفس التامة اطفأ كل العشق لان الإنسان غريب اينما حل وارتحل "

*******
المجد لله فى الاعالى
وعلى الناس المسرة
وعلى الارض السلام
**************


كل ما استيقظ صباحا على صوت ثلاث عصافير تغرد فى نافذة الفصل الذي اتخذه مسكننا فى مدرسة على تخوم قرية فى سهول تهامة فى اليمن ، قرية مظلمة حسبها من الحضارة ان تظهر على الخارطة ولكنهاتضى ء بقلوب اهلها الطيبين ..اسال نفسى(لماذا انا هنا؟؟
واتداعى..........

Post: #2
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: nada ali
Date: 02-16-2004, 03:32 PM

الاخ العزيز عادل
تحايا و سلام،

Quote: من يجد وطنه جميلاً فانه في عداد المبتدئين ذوي المشاعر الرقيقة ومن يجد وطنه في كل الأرض يقيم بها فهو في عداد اهل القوة ولكن من يجد الأرض بأسرها مقام غريب ابداً فهو وحده صاحب الكمال .. وذو النفس الرقيقة حصر عشقه في بقعة محددة من العالم . وذو النفس القوية وسع عشقه ليشمل كل أرض تطأها قدمه ذو النفس التامة اطفأ كل العشق لان الإنسان غريب اينما حل وارتحل


شكراً لاشراكنا فى قراءة هذا النص الجميل

و شكرا للكتابة عن عطبرة و عن جمال أناسها

و الشكر كله لاهداء النص لعمّ وهيب

هو فى شموخه وطن و أكثر

ندى

Post: #3
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: ahmed haneen
Date: 02-16-2004, 08:48 PM

الأخ عادل التحايا للمعلم وهيب جورج
اثرت الشجون
حول مدينه الحديد والنار
قلعة النضال
لكن اليوم صار الحال غير الحال
اما الأخوة المسيحيون (الأقباط)
فقد هجروا المدينة قهرا وظلما
بل قد هجروا الوطن الي اين لا ندري
منافي وغربة وضياع هوية
وهنا اتذكر اغنية المخضرم العطبراوي
مسيحيـــة
ارجو لو كنت تحتفظ بها تسجيلا او نصا
ان تدعنا نستمتع بها،،قد يكون هنالك كثيرون
لم يسمعوا بها

Post: #4
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: adil amin
Date: 02-17-2004, 10:13 AM

صرخة ميتا
(( عا آآوووه ………)) صرخة طويلة ممطوطة تشبه صرخة حيوان جريح تصحبها ضحكة مجلجلة تنم عن قلب مفعم بالطيبة ، تردد صداها جنبات مدينتنا عطبرة * ، تأتي دائماً عند الغروب ، تقشعر لها جلود الناس ثم تلين بعد ذلك ويعم السلام المدينة ، يضحك الجميع في طهر طفولي ، يشفى الأطفال المصابين بأمراض المناطق الحارة ، يتوقف العراك بين الأفراد والجماعات ، تنتهي المشاكل الأسرية داخل البيوت ، أنها صرخة صديقي ميتا ، وجدوه يوماً ملقي كعصا أبنوس سوداء سيئة التكوين ، عند ملتقى النهرين في منطقة الحلفا * .
حمله المواطنون من سكان الحلفا إلى أكواخهم البائسة . اسجوه هناك عند مريوم التي نظرت إليه فيه آسى ورددت بلكنتها العربية المكسرة (( إنها ميتا .. إنها ميتا )) فأسموه ميتا ، ومنذ ذلك الوقت لا يعرف أحد سر ظهوره الغامض على الشاطئ هل أتت به مياه النهر المتمرد نهر عطبرة الذي يندفع من الهضبة الأثيوبية حاملاً في طريقة الدمار والشرور ، جثث نافقة لمختلف الحيوانات ، جثث ناس ، وأخشاب وكائنات أخرى غريبة تحكي عنها الجدة الحرم * عندما نجلس معها في الليالي المقمرة ، لقد رأيت بنفسي وأنا صغير اندفاع هذا النهر المجنون و هديرة الصاخب الذي يبعث الرعب في القلوب ، وأنا جالس على نخلة أحدق في الأفق الشرقي .. تصتدم مياه النهر بشراسة بمياه النيل التي تبدو هادئة بعد رحلتها الطويلة من جهة الجنوب ويكون هناك فوران شديد في منطقة اللقاء أشبه بمرجل يغلي ، تطفوا أسماك نافقة تدور حولها طيور بحرية في وليمة احتفالية . هناك وجدوا ميتا تحت الجسر الحديدي الذي بناه الإنجليز لمرور قطار الشمال ، هل أتت به مياه النيل ؟؟ … لا أحد يدري فقط إنه أعلن عن قدومه السعيد عندما أفاق عند الغروب في بيت مريوم وأطلق صرخته الدواية التي تشبه صرخة حيوان جريح و انتهت بضحكة مجلجلة رددت صداها المدينة …..
* * *
كان صوت طلقات الرصاص يتداعى إلى أذني من بعيد ممزوج بهدير الأشجار في تلك الغابات المتشابكة التي تحيط بمدرسة القرية ، إني أعمل الآن معلماً بمدارس الجنوب . لم يكن اختياري للعمل في جنوب السودان بمحض الصدفة ، بل جئت بإرادتي ، والدي كان تاجراً بالأقاليم الجنوبية ومنذ أن غادر مدينتنا الوادعة في الشمال في ذلك الزمن البعيد لم يعد مرة أخرى ، انطلقت الإشاعات التي تردد بأنه تزوج من إحدى بنات سلاطين الجنوب وطاب له المقام هناك . أن ذكرياتي عن أبي الذي رحل وتركني صغير تبدو غامضة ومبهمة ، لا أدري هل أحتقره أم أحترمه ؟! . عانت أمي الأمرين لتربيني وتعلمني . عملت معلماً في مدينة كريمة * في أقصى الشمال لفترة ثم بعد تجربة حب فاشلة قررت العودة والسفر إلى الجنوب كانت أمي تخشى مثل هذا اليوم الذي قررت فيه السفر إلى حيث ذهب أبي ولم يعد ، لازلت أذكرها وهي تعدو جوار شريط القطار المبتعد حتى سقطت على الأرض وتعفر وجهها بالتراب كنت أبناً عاقاً عندما ضربت بتوسلات أمي عرض الحائط واندفعت في هذه المغامرة غير للما مونه العواقب في ذلك الجزء الذي يتصاعد منه الدخان . طافت هذه الذكريات بخيالي ولا زال صوت طلقات الرصاص يتداعى إلى أذني ، وعيون الأطفال اللامعة تحدق في توجس وحب عميق لي . كنت أحب تلاميذي من أبناء الجنوب ، بحثت عن شقيق يمكن خلف هذه العيون اللامعة والملامح السمراء ، أرتفع دوي هائل جوار المدرسة والطلقات تزداد قرباً وعنفاً وأصوات أقدام مذعورة على الشعب اليابس تقترب من المدرسة ، أوجست خيفة ولم أتمالك نفسي من الصراخ وأنا أرى حجرة المخزن تطير في الهواء متناثرة ، أصابتها قذيفة هاون ، دب الذعر بين الطلاب خرج الجميع إلى الفناء يتراكضون ثم انطرحوا أرضاً عندما صاح فيهم أحد المتمردين الذين قفزوا إلى داخل سور المدرسة القصير وهم يحاولون في يأس الرد على قوات الحكومة التي كانت تطاردهم ، دارت معركة شرسة وأنهمر الرصاص كالمطر وعلا صراخ الأطفال ، بدأت النار تشتعل المدرسة المصنوعة من الأعشاب والبوص وأنا مسجى على الأرض وقد التصق بي الأطفال كنت أحس بدقات قلوبهم المذعورة على جسدي ..تساقط المتمردين قتلى واحد تلو الأخر وعم الهدوء مرة أخرى ، مضت لحظات وحضرت الأقدام الثقيلة إلى داخل فناء المدرسة المحترقة فصيل كامل مدجج بالسلاح ، ظلوا يتجولون في حطام المدرسة ويقلبون الجثث في حذر شاهرين أسلحتهم الخفيفة وتنبه لي قائدهم ، أقترب مني وأنا دافن نفسي بين تلاميذي اللذين كانوا ينتفضون رعباً ، سحبني جندي من رجلي بقسوة من وسط كومة الأطفال وجذبني من شعري وتفرس في ملامحي جيداً ردد في غضب .
- أنت …………. مدرس !!
- نعم …….
- من أتي بك إلى هنا ؟
- الحكومة .
صفعني بغلظة وردد في استهزاء
- نحن أيضاُ أرسلتنا الحكومة !
أمرني أن أخفض رأسي ودوت الطلقات النارية من جديد ممزوجة بعويل الأطفال وعم السكون مرة أخرى ، كست رهبة الموت المكان ، لازلت أذكر دقات قلوبهم الصغيرة على جسدي ، رحلت العصافير الصغيرة وانسحب الفصيل وعم الهدوء المؤسف المكان ، نهضت أترنح دون النظر إلى الوراء أريد الهرب من هذا الكابوس الحقيقي ، أجتاح كياني شعور بالألم المرير ((هل كان أخي بينهم؟!)) … كنت أسيراً مترنحاً بين الأشجار أبحث عند حدود آمنة أعبرها كنت أريد الهروب من جسدي الذي تلتصق به قلوبهم الصغيرة ، أريد العودة إلى حضن أمي الطيبة في الشمال ، أريد أن أتحول إلى طائر يحلق بعيداً حيث لا أمنيات والكائنات تمر، أريد أن أدلي بأقوالي في محكمة عادلة عن الحرب ومجرمين الحرب ، قد أتحول إلى لاجئ تمضي به رحلة العمر الكئيبة في ضيافة شعب كريم ، ظلت أسير أياماً بلياليها على غير هدى في الغابة، كنت أتفادي دائماً طرفي الصراع ، بعد مسيرة ثلاثة أيام مضنية عند الغروب خيل لي أنني سمعتها !! .. نعم سمعتها هي نفسها !! … لكن ذلك مستحيل وشعرت بقشعريرة تجتاح جسدي ، أنها صرخة ميتا !! هل فقدت عقلي وأصبحت أهذي ؟؟ .. لقد أضناني الجوع والتعب من طعام الغابة الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، عن كثب حيث خيل لي مصدر الصرخة العجيبة كان يجلس هناك كعصا أبنوس مشوهة التكوين ، جلسة جليلة أشبه بأوثان الأديان البدائية ولهب النار يتراقص على وجهه الهادئ ، ما هذا الهذيان ؟!… إنه أبدا لن أبدا لن يكون صديقي ميتا تداعت إلى مخيلتي الذكريات المشحونة بالشجن وأنا أتقدم بخطى متعثرة نحو الرجل الذي يقبع على بعد أمام النار (( عرفت ذلك في يوم أغبر ، رحيل ميتا ، عندما عدت إلى مدينتنا من كريمة حيث كنت أعمل أولاً ، كانت نهايته أشبه بفواجع شكسبير ، كذلك أخبرتني مريوم الحزينة ، في ذلك اليوم المشهود كان هناك نفر من أفراد الجيش يحتسسون الخمور البلدية في بيت مريوم في الحلفاء كعادتهم دائماً بعد صرف المرتبات وميتا جالس بينهم يغني على قيثارته التي صنعها بنفسه أغاني بوب ماري التي يحفظها ظهر قلب ، كان الجميع سعداء لكن السعادة من هذا النوع لا تدوم طويلاً في مدينتنا ، داهمت الشرطة المكان ودارت المعارك بالأيدي والعصي بين أفراد الشرطة والجيش ، ثم تطورت الأحداث بعد أن حصل كل من الطرفين على تعزيزات مسلحة من المعسكرات في الجوار ، دارت معركة رهيبة بالذخيرة الحية ، أحزن ذلك ميتا ، فحاول التوفيق بين الأطراف المتحاربة ، للأسف اغتالته رصاصة ، أطلق صرخة ألم حقيقية لا تشبه صرخته المعتادة وسقط على الأرض مضرجاً بالدماء ، توقف القتال ألقى الجميع السلاح ، تحلقوا حول الجثة يبكون وينتفون شعورهم ، الجميع يحبون ميتا ، صانع الفرح في مدينتنا ، لا أحد يريد أن يتحمل أوزار موته أقبل الجنود من الطرفين إلى بعضهم يتلاومون وظل النزاع قائم بين سكان الحلفاء بعد هدأت الأحوال مرة أخرى (( هل يدفن ميتا في مقابر المسلمين أم في مقابر المسيحيين ؟! )) ، كان الراحل صديق الجميع ، في الماضي عندما غرق على ود فرحين في النيل جلس ميتا على الشاطئ مع المواطنين ، بعد ثلاثة أيام طفت الجثة ، قفز إلى النيل وأنتشلها وذهب مع المعزيين إلى المقابر للدفن ، وقبل أعوام ماتت تريزا بالذبحة الصدرية في ليلة الميلاد ، كانت تجهز بالونات العيد مع أسرتها وصديقهم ميتا الذي حزن عليها كثيراً وبكى بحرقة في الكنيسة ذلك اليوم .. استمر النزاع حتى ساعة الغروب عندما دخلوا إلى مكان الجثمان داخل غرفته الطينية الصغيرة في بيت مريوم لم يجدوه ن اختفى ميتا ! ومن جهة النهر حيث وجدوه أولاً سمعوا صرخته المعتادة وضحكته المجلجلة للمرة الأخيرة ، ومنذ ذلك اليوم عادت المدينة تمارس كآبتها القديمة ، كثرت الحميات والأمراض التي تقتل الأطفال ، ارتفعت المشاجرات وحاولت الطلاق ، عادت النساء إلى الانتحار باحتساء صبغة الشعر السامة والرجال بالاستلقاء على شريط القطار ، اكتسى كل شيء باللون الرمادي ، رحل ميتا الذي كانت ضحكته تطهر المدينة ، رمز الحرية في مدينتنا ، المتجرد من كل قيود الأديان والأعراق ، أنطوي حضوره الدائم أفراحنا وأحزاننا ، نحن سكان مدينة عطبرة ، مدينة النهر المتمرد … )) .
* * *
التفت الرجل الذي يسكن وحيداً في الغابة عندما سمع وقع الخطوات المتعثرة على الحشائش وأبتسم ابتسامة عريضة .
- السلام عليكم .
- عليكم السلام
- اسمي حمزة ، هل تسمح لي بالجلوس .
- تفضل على الرحب والسعة .. اسمي لوكا
هكذا تم التعارف كأننا التقينا في فليت أسريت في لندن ، كانت لغته العربية سليمة ، جلست وأنا أتأمل لوكا في فضول ، نهض إلى داخل الكوخ ثم عاد يحمل إناء به حليب ممزوج بعسل النحل ومده لي ، شربت حتى كدت أختنق واستلقيت من فرط الإعياء على العشب ورحت في سبات عميق واستيقظت في اليوم التالي فجراً لأجد نفسي نائماً على فراش وثير ، استجمعت ذاكرتي بقوة إلى أخر لحظة وصلتها أمس ، تذكرت الآن كوخ الأب لوكا ، أصبحت الصداقة بيننا عميقة في وقت وجيز لاحقاً فالرجل مثقف ثقافة عالية ، يعتنق جميع الأديان حسب ما تقتضيه الأحوال حتى يعيش في هذا الواقع المضطرب ، إذ يمر على كوخه جنود الحكومة والمتمردين أحياناً ، ظلت الحوارات بيننا سجال ، أحاديثه الغريبة تذكرني دائماً صديقي ميتا ، يتحدث كثيراً وكلامه ليس ثرثرة بل حديث عميق ذو دلالات وإيحاءات عميقة ، ذات صباح مشرق ونحن نجلس سوياً أمام الكوخ نشرب الحليب الممزوج بالعسل التفت إلي مردداً في مرارة شديدة .
- هل تعرف سبب هذه الحرب القذرة الدائرة الآن .
نظرت إليه في دهشة وبعد تفكير أجبته قائلاً
- أعتقد أنها مخلفات الاستعمار وقانون المناطق المقفولة .. *
ابتسم لوكا ابتسامة ناصعة البياض أضاءت وجهه الأسمر .
- نعم ذلك أحد الأسباب ولكن هناك سبب جديد الآن أنه الحليب الأسود ! اليانكي يحبون الحليب الأسود الذي في ثدي أمنا أفريقيا ، أينما وجد الحليب يأتون بالموت والدمار للمنطقة .
- إنها مأساتنا عبر العصور .
- منذ أن داس القرد الأبيض بقدمه بطن ماما أفريكا ، أصبحت تجهض أبنائها أو تلدهم مشوهين .
- نظرت إليه في دهشة ، خاصة للتعبير الغريب "القرد الأبيض " فأردف مسترسلاً .
- مات العم توم * وراء البحر وهو يحلم بالحرية المستحيلة التي لا تأتي أبداً أما ما تبقى من أبناء أفريقيا فقد حولوهم إلى مسوخ مشوهة ، قرود ترتدي الأزياء الغربية ويتحدثون لغة الفرنجة ، يعودون إلى أبناء جلدتهم بالويلات والدمار …
نظرت إلى الأب لوكا متسائلاً
- هذا يعني أنك غير مقتنع بالحرب الدائرة الآن .
- ضحك لوكا ضحكة مجلجلة تقطر بالأسى ونظر إلي ملياً
- كنت من جنود التمرد الأول في الماضي ، وإني اليوم نادم أشد الندم على ذلك كنّا نسعى لطموحات مريضة ، الانفصال !!. إن الحرب تسبب لنا التعاسة جميعاً نحن وحيوانات الغابة !! .
- حيوانات الغابة ؟ !!
- نعم .. قبل قدومك جاء إلى كوخي أسد حزين ، فقد زوجته وولديه بعد أن أنفجر فيهم لغم أرضي ، كثير من الحيوانات تحتمي بكوخي ، أرى التعاسة في عيونها .
- ألا تخشى حيوانات الغابة ؟؟
- لا …. أنا أخشى الإنسان فقط لأنه أكثر حيوانات الغابة انحطاطاً !
هكذا كانت أحاديث الأب لوكا الطيب حتى جاء ذلك اليوم المشئوم ، عدت من إحدى جولاتي في الجوار وجدت الكوخ يحاصره فصيل من المتمردين ، ينتزعون اعتراف من لوكا عن هوية من يقم معه ، كان المنظر بشع ، لوكا رجل شجاع صمد حتى فاضت روحه ، تركوه و انسحبوا ، اندفعت نحو الجسد الدامي والدمع يظفر من عيني مدراراً ولا زلت عالقة في ذهن عباراته الأخيرة "الإنسان أكثر حيوانات الغابة انحطاطاً" .….
* * *
دفنت صديقي جوار كوخه الصغير ، وتراجعت متجهاً جنوباً وبعد مسيرة أيام شاهدت فيها الأهوال ما لم يشهده أحد وبعد رحلة مضنية لمحت علم غريب يرفرف على البعد ، علم يوغندا ، إذا فقد عبرت حدود بلادي المصابة بالخبال، هناك خيل لي أني سمعتها مرة أخرى قادمة مع خيوط أشعة الشمس الغاربة ، إنها صرخة ميتا !! .
سرت في جسدي المنهك القشعريرة ، أطلقت زفرة حارة وانطلقت نحو العلم الذي كان يرفرف من بعيد .



الاهداء الىوهيب جورج وعائلته فى منفاه فى مدن بلا نخيل

Post: #5
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: haleem
Date: 02-18-2004, 01:32 PM

فوق ...يا عادل أمين

Post: #6
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: Hussein Mallasi
Date: 02-19-2004, 00:10 AM
Parent: #5

لان الموضوع كتبه الاخ الاخضر عادل امين

و لان الموضوع عن عطبرة

و لان الموضوع عن المعلمين

و لان الموضوع عن الاستاذ وهيب جورج

و لان الموضوع عن الاقباط

و لان المتداخلون حتى الان الاخت ندى على و الاخ احمد حنين و "ولدنا" حليم

و جب علينا المرور و تحية الجميع اعلاه

Post: #7
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: adil amin
Date: 02-19-2004, 10:09 AM
Parent: #6

الاخ حسين ميلازوفتش
نتلاقى فى بروكسل..ولن يجدى هذا التقرب. مالم تعلن انسحابك من اي انتخابات قادمة ولازم يوثق هذا الامر عند خالتى الدومة التى نرجوا ان تكون تجاوزت احزانها..قال انتخابات قال..نحن ناقصين سفاحين عشان يحكموا السودان.ويظهر فى بوست الخيار والفقوس اني ركبت باص الثورة بالشنقيطى وان قصدى الثورة بالنص..والعتب على النظر
*************
لا زال البحث عن المربى الجليل وهيب جورج واسرته مستمرا..لو تعاون معنا بورداب لندن..كما اننا نشعر بالاسف العميق لعدم وجود اقباط معنا فى هذا المنتدى حتى يصبح فعلا السودان الاكترونى..قرات بعض مقالات الاقباط السودانيين فى صحيفة القدس العربي ومن اشهرهم رؤوف مسعد ودا مسؤلية بورداب هولندا ان يدعوه لانضمام لهذا المنتدى كمحور جديد للثقافة السودانية القبطية....كما ترى يا حسين الحديث ذو شجون

Post: #8
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: Adil Ali
Date: 02-19-2004, 02:17 PM
Parent: #7

عزيزي عادل،
شكراً على هذا النص الرائع الثري الجميل... جمال ميتا ولوكا اللذين راحا ضحية انحطاط ووحشية "حيوانات الغابة"... وجمال المربي الجليل الاستاذ وهيب جورج، الذي ضيّقت عليه رحابة المليون ميل مربع أكثر هذه الحيوانات انحطاطاً وخسة. على الرغم من انه ربما يكون افضل منهما حظاً، لأنه على الأقل لا يزال على قيد الحياة، فإنه اضطر، قسراً بالطبع، الى ترك البقعة التي عشقها ونشأ وتربى فيها وربى وعلّم أجيالها وعاش بها معظم سنوات عمره وسط موزاييك رائع ونادر الوجود.
ولكن، عندما يضيق مليون ميل مربع بأهله، ويهجر الناس البقاع التي عشقوها وتهجرها حتى عصافيرها لتصبح خراباً وأطلالاً تجوبها طيور الظلام وينعق فيها البوم... فلا بد أن يكون السبب وباءاً فتّاكاً لا قبل لهؤلاء الناس به.... إنه طاعون المشروع الحضاري بلا شك!!
أتمنى ألا يطول غياب المربي الجليل الأستاذ وهيب جورج وكل من اضطر قسراً للبحث عن مأوى أكثر أمناً. لا شك في أن هذا الطاعون الى زوال، ولكن لا بد من القضاء على بقاياه ومسبباته حتى لا يعود مجدداً للفتك بموزاييك مدننا ومجتمعنا وقيم الانسجام والتعايش المتجذرة فيه.
نعم....
المجد لله في الأعالي
وعلى الأرض السلام
وبالناس المسرة
أكرر الشكر مرة اخرى عزيزي عادل على هذا النص الجميل.
مع الود،

ع ع

Post: #9
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: adil amin
Date: 02-20-2004, 03:31 PM

الاخ عادل
نشكرك على المقاربة الجميلة
فى رواية الطاعون للبير كامو قرات لها دراسة نقدية تقول يجب قراتها على مستويين..المباشر واحداثها التى جرت فى وهران ولكن الناقد قال فىمستواها الرمزىالثانى غير المباشر كانت تشير بالطاعون للغزو الالمانى لفرنسا والطاعون هو النازية على وجه الخصوص
اما ما اصاب مدبنتنا فهو وباء العصر سارسs.a.r.s
sudan agressive regime syndrom

Post: #10
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: adil amin
Date: 03-13-2004, 02:18 PM
Parent: #9

عندما ناديتك عمى وهيب وجاوبنى الصدى قررت اهديك قصيدة الشتات السودانى،التى كتبها شاعر مدينتنا هيثم تاج السر و واهديهالك ولاهل الشتات فى زمن اضحي فيه الشعب والمعارضة يقيمان فى الخارج فى ظل غياب الدولة المدنية

من اين لك؟

والليل لا قمر يضىء ولا فلك

من اين ينبعث الضياءعلى طريقك كلما

اوغلت نحو الساحل الغربى

تلتمس الوصول فاوصلك

والشعر بحر لا ارى شطآنه

ان شئت ابحرت القوافى

او هلكت كمن هلك

والماء ارهقه الخرير

فراح يدنو قرب راحتك المديدة كالندى

ودنا النسيم وقبلك

الورد يسخر من فصول لا يحين ربيعها

ينمو على جنبات دربك..كلما اورقت كالريحان

زنت فجملك

من اين تنبت زقزقات الطير

والاوكار ترفل فى نعيم سباتها

لا زالت الافاق موصدة بوجه طيورها..تتاملك

الملك ملكك يا مليك الصولجان وما ملك

وحدى انا وبنات افكارى

نسجنا هيلمان الشعر..سندسك الندى ومخملك

وطفقت بالافاق منتشيا..على قرع الطبول

ترفرف الرايات..ارقب منزلك

من ها هنا سيمر موكبك البهى..محملا بالنور

يستبق الضياء..فيسأل النجم المسافر

اى درب قد سلك؟

لهفى على نجم سلبت بريقه

اراه يدنو كى يراك ويسالك

يا ليل اين ينام فى الهزع الاخير مسافر

مل الرحيل وراء حلم عابر..مااطولك

فهجعت اروى للطريق مسافتى

رث الاماتى طبن لى..فرجوتهن ثوانيا

ياحلم كى اتخيلك

لكننى ابصرت طيفك عابرا

عجلان غير مزاور..فسالته ما اعجلك

او غادر الشعراء سوق عكاظهم؟

ومنازل كانت لهم قد اقفرت

فرحلت تنعى منزلك

وسنابل تشكو جفاف بصيرتى

واراك خبزا فوق راسى

يا رفيق تغر بى الاشواق..ترجو مقتلك

والسجن بئر فاغر

يا ايها الطلل الذى درست معالمه..بكيتك واقفا

ما خطب صاحبك الذى قد كان عند اهملك

يا حلم حبك من رثائك دمعة

قد غلقت ابواب قلبك..فى ظلام السجن

قالت:هيت لك

العمر ولى راحلا ..مثل الطير

فى قمم الجبال

دعوتهن وما اتين

وثم نار اوقدت..والريح تشعل اسفلك

قم لا مقام لنا هنا

والتيه حاصرنا..وطوق ناظرى

انى ارى شجر يسير

وتلك صحراء تجفف منهلك

انى خرقت سفينتى والبر بعد مسافر

هلكت نجاتك..اى ذنب قد جنيت

لكى اراك واحملك

ياحلم انك لم تطق صبرا

وحائطك الذى شيدته ينهار

بعثر كنزنا..والسر اثقل كاهلك

هذا فراق بيننا..والشمس

قد مدت خيوط شعاعها

ياحلم تنقض غزلها

واراك تنسج اولك





*هيثم تاج السر الشيخ

شاعر من السودان مقيم باليمن


Post: #11
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: Sudany Agouz
Date: 03-14-2004, 02:41 AM
Parent: #10

الأستاذ عادل الأمين ...
قرأت كلماتك النابعة من قلب سودانى قديم وأصيل .. فقفزت دمعتان ساخنتان تحييان شعوركم الفياض .. حقيقية كانت الدنيا بخير .. لا فرق ولا تفرقة .. الا أن التعاليم الدخيلة هى التى غيرت مفاهيم العقول اللبنة .. وهنا نشأ جيل التفرقة .. وأكبر دليل على هذا ما نقرأه كل يوم فى هذا المنبر العامر .. الا أننى أطمئنك يا أستاذ عادل .. فقد لاحظت الوعى الثقافى والدينى اللذين بدت معالمهما واضحة جلية فى الكتابات الأخيرة والتى تشجب كل تطرف عقيم .. و لا أكتمكم سرا هذه الظاهرة الصحية هى التى أرجعتنى وبالدقة فقط منذ ألأمس القريب .. عدت .. مرة أخرى الى مكانى المتواضع القديم لأحاور و لأتحاور مع كل المحبين المخلصين لبناء سوادان جديد .. وفقكم الله لما فيه خير الجماعة .. ومن هنا أكرر شكرى وتقديرى للأستاذ بكرى الذى فتح هذا المنتدى لجمع شمل كل سودانى متواجد فى جميع أركان المسكونة .. ودمتم أخى ..
أخوكم وعمكم العجوز ..
أرنست أرجانوس جبران ..

Post: #12
Title: Re: سيرة مدينة:رسالة الى الوالد العزيز/وهيب جورج
Author: adil amin
Date: 03-14-2004, 01:00 PM
Parent: #11

الوالد العزيز ارنست
الاقباط جزء اصيل فى موزاييك المدن السودانية..وقرات كثير لاقباط المهجر السودانيين فى صحيفة القدس العربى مثل رؤوف مسعد..التحية لك مجددا ونحن نكتب من اجلك
واعرف ان الرعودستمضى
وان الزوابع ستمضى
وان الخفافيش ستمضى
واعرف انهم زائلون
وانى انا الباقية
د.سعاد الصباح