هل الخدمة المدنية في شرع الاستعمار: بين شجر التاريخ وسلعلعه بقلم عبد الله علي إبراهيم

هل الخدمة المدنية في شرع الاستعمار: بين شجر التاريخ وسلعلعه بقلم عبد الله علي إبراهيم


09-11-2019, 04:48 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1568173721&rn=0


Post: #1
Title: هل الخدمة المدنية في شرع الاستعمار: بين شجر التاريخ وسلعلعه بقلم عبد الله علي إبراهيم
Author: عبدالله علي إبراهيم
Date: 09-11-2019, 04:48 AM

04:48 AM September, 10 2019

سودانيز اون لاين
عبدالله علي إبراهيم-Missouri-USA
مكتبتى
رابط مختصر





(عشنا خلال الإنقاذ، وربما قبلها، تاريخين لبلدنا. تاريخ حدث ككل تاريخ وتاريخ لم يحدث اصطنعناه مكاء (صفير) وتصدية (تصفيق) نعزي الذات عن خيبتنا في تسخير الإرادة الوطنية، التي استرددناها بالاستقلال، لبناء الوطن السعيد المتآخ. فلو كان تاريخناً شجراً كان تاريخنا المصطنع سلعلعاً وهو النبات السام الباطل الذي يتعرش على الأشجار.
وما خشيت من هذا التاريخ السلعلع مثل خشيتي يوم سمعت السيد عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء، يذيع كبيرتين منه في أول لقاء بعد قسم الوزارة. قال في واحدة إن الإنجليز تركوا فينا خدمة مدنية مضرب المثل وكانوا فخورين بها. أما الكبيرة فهي أن ثورة أكتوبر 1964 اقتصرت على الخرطوم دون باقي القطر. ومصدر خشيتي أن بوسع حمدوك الآن، كرئيس للوزراء، أن يختط، على بينة من الكبيرتين، سياسات قوائمها في رخو السلعلع لا ثبات الشجر.
ولا أزيد هنا عن إعادة نشر مقال قديم تناولت فيه بالنقد كبيرة توريث الإنجليز لنا خدمة مدنية غراء أوسعناها تخريباً. فليس في شرع الاستعمار بناء خدمة مدنية لأنها قرينة بالمواطنة بينما دولة الاستعمار دولة رعايا وعنوانها أن تدين لها من اليد دي لليدي ولا صوت لك من يمثلك في سدة السلطة. وما تقول بغم. ولم نغادر في هيكلة دولتنا بعد إرث الدولة الاستعمارية. فقضينا نصف قرن من سنوات استقلالنا الثلاث وستين رعايا دولة مستبدة لا صوت لنا في تصريف أمرنا. ولا نقول بغم. واشتططنا في ذلك حتى قال عبد الله الطيب إن دولة الحكم الوطني هي دولة الإنجليز ذاتها وصفاتها قامت "بعاتي" له خنخنة.
وأعود في مرة أخرى لتكبير صورة ثورة أكتوبر فوق قصرها على العاصمة بالباب . . . القدامي.

الاستعمار براء من الخدمة المدنية. فالدولة الاستعمارية ليست حكومة في المعنى المصطلح عليه لتكون لديها خدمة مدنية. فالأصل في الحكومات أنها نشأت لإدارة جماعات من السكان بينما حكومة المستعمرين قد نشأت لإدارة رقعة جغرافية تستأثر بخير ظاهرها وباطنها. أما سكان هذه الرقعة فهم عبء. ولهذا لم يسلموا من الإبادة في الأمريكيتين واستراليا ونيو زيلنده والجنوب الأفريقي وغيرها لكي تخلو الأرض للغازي الذي جاء ليتملكها بآخرة. وعَبَّر سيسل رودس، الحاكم الإنجليزي لمستعمرة كيب تاون في جنوب أفريقيا، عن شبق المستعمرين للأرض دون الناس بقوله: "إنني أفضل أرض الأهالي عليهم".
وترتب على غربة دولة المستعمرين عن رعاياها أنها ترفعت عن أن تتوطن بينهم كما تريد ذلك أي حكومة حاقة الاسم لنفسها بالغاً ما بلغت من الاستبداد. فالمستعمر الأوربي يعتزل الأهالي عنوة ليغرق في عوالمه الخاص. ووجدت أفضل تعبير عن نفور المستعمر عن الأهالي في ما كتبه السيد بيلي (1920) من المفتشين الإنجليز في السودان. فقال إنه وصحبه من الإنجليز كانوا ينفقون الليل في حفلات عشاء متلاحقة لا تكاد تنتهي، ورقصها يسر قلوب صديقات وحسان. وأضاف أن الطبقة الحاكمة كانت تصحو صباحاً والسكرة بايتة معها وتتجه إلى مكاتبها لتدير شأن الرعية. وأضاف أن صلتنا بمرؤوسينا (الأجانب وشدد عليها في الأصل، وهم الأهالي السودانيون) ستنتهي حين يحل وقت الغداء ولن نعاود كرة التعامل معهم إلا في صباح اليوم التالي. فيذهب البريطانيون إلى دورهم الهانئة على النيل بحدائقها المترعة بالسقيا وأشجارها الباسقات بينما يذهب مرؤوسينا الذين "انزَقَلت" بيوتهم عنا وقد تراصت بكآبة في ظهر المدينة الترابي. وزاد بيلي أنه قد يحدث أن نرتب لنجتمع بهم في مناسبات اجتماعية ولكن غالباً ما جاءت ماسخة أملاها الواجب وافتقرت إلى الخيال.
ومن أبلغ ما قرأته في وصف غربة حكومة الاستعمار قول أحدهم إنها دولة مٌفَكَسة (من fax) أي أنها صورة من أصل. والأصل هو الحكومة في حواضر الإمبريالية مثل لندن وإنجلترا ولشبون. فمرجع الحكومة في البلد المستعمر مثل السودان هو الحكومة الإنجليزية. فالإدارة الإنجليزية عندنا مكلفة من قبل حكومة الحاضرة الإمبريالية باستنزاف موارد البلد المستعمر ومحرج عليها ألا تضيع مال دافع الضرائب البريطاني فيما لا عائد منه رفعاً لعناء الأهالي أو شفقة بهم. ولهذا كان الجنوب السوداني خارج خارطة الاستثمار الإنجليزي جملة واحدة. فحتى التعليم فيه سندوه للإرساليات التي تريد التنصير قبل كل شيء. وتدير حكومة الحاضرة الإمبريالية مثل لندن مستعمراتها عن طريق وزارة المستعمرات وإن كان للسودان وضعاً مختلفاً لشراكة مصر في استعماره. ولكنه اختلاف أحمد وحاج أحمد. وعليه يصبح من الركاكة بمكان قول صرعى النوستالجيا بأنه كان للإنجليز خدمة مدنية مرموقة يذرفون عليها دموع التهافت.
ومن نتائج اعتزال دولة الإنجليز الاستعمارية المجتمع الذي تديره أنها اصبحت دولة بلا رابط وثيق خاص مع فئة دون فئة مما طبعها بقدر من الحيدة في تدافع السودانيين وظلم واحدهم للآخر. وربما أٌعجب الناس بالعدل الذي يتأتى من مثل هذه العزلة. ولكنه عدل ناشئ من تعالي الدولة على المجتمع وتساميها لا انشغالها به وتورطها فيه والسهر على خدمته. ومع ذلك كان للإنجليز تحالفات سياسية أملت عليهم التحيز لمن ارتبط من السودانيين بهم. وهي تحالفات عابرة يعقدها الإنجليز وسرعان ما يملونها لأنها غير قائمة على ميثاق ثقافي متين. فأقصى هم الدولة المستعمرة هو تأمين الرقعة الجغرافية التي استولت عليها من شغب الأهالي وحسدهم وهي مستعدة للتحالف مع الشيطان لهذه الغاية.
ورأينا قصر حبل هذه التحالفات الإنجليزية مع قطاعات سياسية وثقافية سودانية. فقد تحالف الإنجليز مع علماء المشيخة الدينية في أول عهدهم ثم زقلتهم واستبدلتهم بزعماء الطوائف الدينية. وتحالفت مع الأفندية أولاً ثم ألقت بهم على قارعة الطريق حين تمردوا عليها في ثورة 1924 لتصطنع الإدارة الأهلية التي مكنت بها لزعماء القبائل. ثم انقلبت على السيد عبد الرحمن المهدي حين ألح على الحكم الذاتي من داخل الجمعية التشريعية في أوائل الخمسينات وأنشأت الحزب الجمهوري الاشتراكي بزعامة إبراهيم بدري وطائفة من زعماء القبائل المحسوبين على الأنصار. فالحكومة الاستعمارية لا توقر حلفاً. فما عقدت عهداً مع جماعة من الأهالي حتى نكثت عنه. فشاغل الأمن ووساوسه يجعلها تبدل الأحلاف كما يبدل المرء أحذيته. ومن رأي مؤرخ ضليع أن هذا الملل الاستعماري بالأحلاف هو بالضبط ما ذهب بريح المستعمرين. فقد جربت معظم الدوائر السودانية التعامل معهم ثقة منها بعهدهم لها ولم تجد منهم سوى الخذلان. وقنعت منهم ظاهراً وباطناً ففقد الاستعمار الظهير وسقط من عل في مزبلة التاريخ الشيوعية المعلومة.