الحوَّاتة و لهيب الثورة بين جين شارب و محمود عبد العزيز بقلم محمد كمال الدين

الحوَّاتة و لهيب الثورة بين جين شارب و محمود عبد العزيز بقلم محمد كمال الدين


01-17-2019, 01:19 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1547684349&rn=0


Post: #1
Title: الحوَّاتة و لهيب الثورة بين جين شارب و محمود عبد العزيز بقلم محمد كمال الدين
Author: محمد كمال الدين
Date: 01-17-2019, 01:19 AM

00:19 AM January, 16 2019

سودانيز اون لاين
محمد كمال الدين-UK-لندن
مكتبتى
رابط مختصر




لا نطيق الإنتظار أكثر من هذا! لما هذه الشحتفة يا حوتا؟
في نادي التنس أطال علينا الحوت لحظات الإنتظار. قتلنا الشوق لرؤياه و سماع صوته. و بُغية تسكين آلام لحظات الترقب القاتلة قررت و صديقي أمجد أن نستعرض قائمة التمنيات. أمجد يمني نفسه بأن يغني الحوت " عمري، منو القاليك و أكتبي لي" و أنا أريده مُحتقباً و منشداً لأغاني الغير التي أداها بأفضل مما فعل "خشم سيدها". و آه لو بدأتها ب "حنيني إليك" يا حوتا!
تململ الجمع و إرتفع الضجيج. ما عاد الجمهور يحتمل نار الشوق. و بدأت سيناريوهات التعبير عن الضيق تأخذ أشكالاً مختلفة: من المقاعد الخلفية يندفع حولنا سحاب من دخان البنقو؛ من الأمام تصدرأصوات زجاج "يتطاقش" فيخطف النعاس الذي يصارعنا، على اليسار شباب يصلون العشاء في حصير قديم -لعل الصلاة فاتتهم و هم وقوف لدى شباك التذاكر-؛ و في كل الأرجاء تنتشر مجموعات مختلطة من بنات محجبات و غير محجبات و شبان ملتحين و غير ملتحين. محمود جمع كل الأضداد و المرادفات.
و حين طلع علينا الحوت، تُهنا جميعاً في سيلٍ من التصفيق و التصفير ما أوقفه إلا صوته الهادئ: شكراً شكراً. أعلن الحوت بداية السهرة ب"عمري" فبكى أمجد و بكت المجموعة النسائية أمامي. و ساقنا الحوت في رحلة من الغياب عن واقعنا المرير خارج أسوار هذا النادي. كانت ليلة من ليالي كليلة و دمنة. إنطلقت فيها كل الأحاسيس إلى أقاصيها. و أعاد فيها محمود شحن بطاريات الأمل الفارغة لدينا و إنتهت السهرة و نحن عازمون على أن " نبقى الصمود ما نبقى زيف".
في طريقنا إلى خارج النادي رأينا مجموعات من دوريات الشرطة. منهم الراجلون و منهم الراكبون على السيارات المبقرقعة تلك. أدهشتني بعض المظاهر: تبسُمُ الشرطة في أوجه الحواتة و "تطاقش" الأيادي في سلامات حبية بين شباب السهرة و شرطة الحراسة. ما هذا؟ هل هذه شرطة الدكتاتور (بتاع تطبيق الشريعة دا)؟ لقد كانت شرطة القمع أكثر لطفاً من مضيفات الخطوط الإثيوبية. الآن فقط فهمت لماذا يلقب محمود بال"جان".
*****
شاءت الأقدار أن أرحل بعيداً عن السودان و أن يرحل الحوت من بعدي إلى جوار ربه. بعد الرحيل، أرشفت سهرة نادي التنس هذه في ملف الذكريات الجميلة و لم أنبشها كثيراً. فإن نكأ هكذا ذكريات يعيد للخاطر ليلاً مظلماً و ثقيلاُ (كما يقول أبو السيد). و لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. شاءت سفينة الدراسة أن ترسى بي في ميناء الحوت الدولي مرة أخرى. ففي مرحلة الماجستير، طلبت منا البروفيسير لويز سميث (الاسم مستعار) أن نكتب بحثاً علمياً عن علاقة الثقافة الشعبية بالسياسة. و البروف هي نفسها من كبار الزاعمين بأن هذين العالمين (السياسة و الثقاقة الشعبية) يلتقيان و يتآثران بشكل دائم. هنا تذكرت الإبتسامة الرقيقة التي أفردها رجال الشرطة في وجه الحواتة .و جال بخاطري أنه إن كانت الشرطة هي أحد أدوات حماية الدكتاتور، فمن المؤكد أن الحواتة قد أحدثوا -و بطريقة سلمية- تغييراً سياسياً في موقف هذا العنصر الحمائي المهم للدكتاتور. حتى إن حدث ذلك عن دون قصد.
كان السبيل الوحيد لطرح هذا الزعم و المحاججة بشكل علمي هو الغوص في نظريات المقاومة السلمية ضد الأنظمة الشمولية. و هكذا إلتقيت بجين شارب و ياله من لقاء!
مكتب شارب مبعثر جداً. أوراقٌ هنا، ملفات هناك، كتبٌ في الأعلى و مجلاتٌ على الأرض. أفنى جين شارب عمره في الكتابة و البحث عن وسائل المقاومة السلمية ضد الدكتاتوريات. و ألهم كتابه "من الدكتاتورية إلى الديموقراطية" العديد من نشطاء الربيع العربي. إنه عمل عظيم جداً. حتى أن جريدة السانداي تايمز ترفعه إلى مقام بيان ماركس و إنقلز الشيوعي.
يقول شارب "إن أردت لوردة أن تذبُل فإمنع عنها الماء". و يشرح لنا أن الدكتاتور كآدمي ليس لديه ما يميزه بيولوجياً عن بقية الآدميين. فلا هو ذو مخالب أو أنياب و لاهو يطير في السماء أو يعيش في الماء. بل إنه يستمد قوته من الشبكة الحمائية و الإستبدادية التي يبنيها حول نفسه. و هذه الشبكة مكونة من أشخاص يُشغِّلون مؤسسات الحماية/الإستبداد. و يرى أن السبيل لإسقاط الدكتاتوريات هو تعطيل هذه المؤسسات من خلال آليات سلمية كالمقاطعة الإقتصادية و العصيان المدني على سبيل المثال لا الحصر.
"فرِّق تسُد". يقول شارب أن شرذمة الشعب هي أنجع أساليب الدكتاتور في التحكم. فتوحد الصف الشعبي يرهق الدكتاتور كثيراً و يخل بتوازنه؛ أما الشتات فهو يجعل من التحكم في أنفاس الناس أمراً هيناً. و لذلك يسهر الدكتاتور على أن لا تقوم للوحدة الوطنية قائمة و على إضعاف مؤسسات المجتمع المدني و النقابات.
***********
إن نموذج الحواتة مدهشٌ في تحديه لدكتاتورية البشير من زوايا متعددة:
أولا: إذا كان إنقطاع الماء يُذبل الوردة فإن تحييد الحواتة لأجهزة الشرطة يمثل خطوة أولى في طريق تعرية الدكتاتور من آليات الإستبداد. في نادي التنس، كانت دخاخين البنقو و رائحة العرقي تكتم الأنفاس. فأين كان جنود الشريعة يومها من تطبيق حدود الله. إن غض الطرف عن تنفيذ أجندات الدكتاتور هو كما يؤكد شارب إشارة لتفكك صف الدكتاتور. وهنا تتجلى خواص الطرب المحمودي. فهذا الفن لديه أثر توحيدي في نفوس المستمعين. ويوم سهرة التنس كان الساوند سيستم مدوياً بقدر يمنع جيران الحي من النوم. فسمعناه نحن بالداخل و سمعته الشرطة بالخارج. و هكذا تشكلت هوية حوتاوية لحظية جعلتنا و الشرطة الباسمة جسداً واحداً يأبى تمزيق نفسه بنفسه.
ثانيا: رأينا كيف جمع نادي التنس بين المحافظ و التقدمي ويين السكران و الواعي. كيف أن الحواتة يتنادون بينهم بلقب"ود أبوي" و يقبلون إختلافاتهم الدينية و العرقية والسلوكية. إن تجاوز الحواتة لحملات الأدلجة الإنقاذية و التعصيب الهوياتي إثبات لوجود شرائح مجتمعية محصنة من ذي السياسات التفريقية. و هكذا مثَّل التماسك الداخلي للحواتة صفعة في وجة الدكتاتور الساعي لتفريق الأمة لإدامة السيادة.
موسيقى محمود ترفض أحادية النمط على مستوى اللحن و المفردة. فمحمود تغنى بلهجات شتى و على إيقاعات شتى. محمود جعل الشمالي يتغنى بلهجة الجنوبي و العكس و جعل السودان كله يتراقص على إيقاع غرب السودان. إن التعرف على ثقافة الآخر و إستحسانها هو صميم العمل على هدم الصفوية و العنصرية. و هذا هو العمل الجبار الذي قدمه لنا الراحل محمود عبد العزيز. إن هذا المقال لا يزعم بأن الحواتة يستطيعون وحدهم إقصاء الديكتاتورية. هذه يوتوبيا. و إنما يقول بأن الحواتة يستطيعون سحب بضع قطرات من شلال المياه التي يغذي زهرة الإنقاذ. لهذا، فالحواتة هم شرارة المقاومة السلمية. شرارة يمكنها أن تنتشر ناراً في هشيم الدكتاتورية. شرارة قد تنتقل عدواها إلى جبهات نضالية جديدة ترفض سقاية الدكتاتور حتى يموت عطشاً.
****
نال هذا البحث استحسان البروف و ساهم في تخرجي بأعلى الدرجات ومن ثم ترشيحي للتعيين بالكلية. أنا مدين للحوت بعمرِ ماضٍ أبدع في تجميله و عمرِ آتٍ أسهم في تعبيده.
دفعني لكتابة هذا المقال أنني بالأمس دخلت مكتب البروف. كانت تختبئ خلف لابتوبها الأنيق. تنقر بأناملها على الكيبورد و تهز رأسها طرباً لموسيقاً في الخلفية : "حنيني إليك و ليل الغربة أضناني و طيف ذكراك بدمع القلب بكاني". حين إنتبهت البروف لوجودي في المكتب و قرأت في وجهي قسمات الذهول، إبتسمت ببراءة و قالت: "لا أفهم مما يقول (الهوت) شيئا و لكنه يبعث في روحي الكثير من الأمل"
الآن فقط فهمت لماذا يسمون محمود عبد العزيز بالجان.


اللهم إرحم محمود عبد العزيز و أعز الثوار و الثورة المجيدة.

محمد كمال الدين


راسلني عبر الابميل للحصول على البحث كاملا باللغة الإنجلزية
[email protected]