الشعور القومي الجريح (2/1) بقلم د. الوليد آدم مادبو

الشعور القومي الجريح (2/1) بقلم د. الوليد آدم مادبو


05-13-2018, 04:19 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1526224762&rn=0


Post: #1
Title: الشعور القومي الجريح (2/1) بقلم د. الوليد آدم مادبو
Author: الوليد ادم مادبو
Date: 05-13-2018, 04:19 PM

04:19 PM May, 13 2018

سودانيز اون لاين
الوليد ادم مادبو-
مكتبتى
رابط مختصر



"اجمل ما حدث لهذه البلاد هو السلطة العقائدية، التي قامت تحت عقيدة ما، وكل تجربة عقائدية عندما تزول فإنها تنسف معها معتقدها"
(كلثوم فضل الله، رواية الصدي الأخر للأماكن، ص:117)
إن تعثر التنمية في بلادنا العربية والأفريقية وفي السودان خاصة لا يعزي فقط إلي غياب سياسة تنموية، إنما أيضاً في اتكاء هذه السياسات التنموية علي أطر مفاهيمية خاطئة وفلسفة أخلاقية بائسة، تكاد تكون هي الحالقة والماحقة لمفهوم القومية، إذ لم نقل الإنسانونية. بمعني أن الأشكال هو إشكال أخلاقي قبل أن يكون إشكالي فكري، وهذا ما ظللت أكرره ويكرره زملائي الكتاب الذين يوقنون أن الإنسان ليس مجرد وسيلة لتحقيق غايه يعلمها أحد "العباقرة" سلفاً، إنما قناعة "هؤلاء العباقرة" أن مجرد الاتصال بالجمهور هو كفيل بإلهامنا العبقرية اللازمة لتطوير المجتمعات، صون كرامتها، والحرص علي تحقيق السؤدد، الرفاة والازدهار لها ولغيرها من الأجيال القادمة.
إن التعرض للإشكالات المفاهيمية والتطبيقية التي تعتور عملية الإعداد للسياسات سيسهل لنا فرصة التثبت من هذه المبادئ ويوفر لنا إمكانية التحقيق من هذه الإجراءات التي لم تكن يوماً مجرد قناعات إنما حيثيات تعرفت عليها البشرية من خلال مسيرتها الطويلة والمضنية والتي افضت إلي الاتي: علمية المجتمع، تكاملية أدواره، التمفصل الوظيفي لهذه الاداء، الدينامية المؤسسية، الأبستمولوجيا، توفر شرط الحرية، الدستور.
علمية المجتمع: لا أمل في إنجاز تنمية أو إحداث تطور لائق لنمط الحياة دون وجود المجتمع العلمي والديمقراطي بركائزه الثلاثة: العلم والقيم والسياسة، فبالتفكير العلمي يصبح المجتمع أكثر عقلانية وبالعقلانية يستطيع المجتمع أن يوجه الأسئلة السياسية الناضجة (أحمد زويل، عصر العلم، ص 212). فليست العلم ما يدخر، كما يقول أفاية في كتابه "الوعي بالاعتراف" وإنما ما يكتسب استنادا إلي النشاط الإبداعي المقترن بالممارسة السياسية وشروط تحققه اجتماعيا. لا غرابة إذن أن العرب الذين يبلغ عددهم 280 مليون نسمة ينتجون فقط 2.01% ممَّا تنتجه إسرائيل التي يكاد يبلغ عدد سكانها 6 مليون.
تكاملية أدوار المجتمع: إن التكامل العضوي بين هذه الأضلاع الثلاثة كفيل بتحقيق الانتقال من المعلومة الي المعرفة، فخلق المجتمع المعرفي يتطلب التعرض بالنقد للقيم الاجتماعية والثقافية، خاصة تلك التي تقف حائلاً دون إمكانية التحديث التاريخي والاجتماعي (أفاية، الوعي بالاعتراف، 2017). مثلاً، إن إعادة صياغة الهوية النسوية بطريقة إيجابية، وليست فقط احتجاجية تستهدف عدم المساواة الماثل، أو استلهاميه تتطلب الاعتراف بحقوقهن، أمر يستوجب "بناء نظرية جديدة" تعمد إلي خلخلة الألية النظرية التي أعاقت إمكانية تأسس علاقة إيجابية بين الرجال والنساء أو كما تزعم (Amarta Sen).
التمفصل الوظيفي: يقول برهان غليون في معرض حديثه عن التمفصل الوظيفي " إن مشكلة توزيع الصلاحيات والمسئوليات مرتبطة بتطور أفكار ومنظومات وتقنيات التنظيم الجماعي العالمي والمحلي واكتشاف المجتمعات بالتجربة أن التميز بين الصلاحيات وعدم الخلط بين المهام يعني بالضرورة المراهنة المتزايدة علي الشعور بالمسئولية لدي الأفراد ونمو هذه الفردية داخل المجتمعات وحاجتها للتعبير عن نفسها." يتسق هذا الفهم الإجرائي مع الفهم المنطقي والاستقرائي لدي الدكتور طه عبد الرحمن الذي يقول أن " الفاعلية العقلية للإصلاح" تستلزم إيجاد نموذج بصير بشؤون المراقبة العقل المؤيد، محقق بالفهم المجرد متمرس بالتجديد الميسر.
الدينامية المؤسسية: تكتسب دورة تصميم وتنفيذ السياسات حيويتها من التفعيل المستثمر والمتجدد (ليس المتكرر) لأعمدتها أو ركائزها الثلاثة المتمثلة في السياسة، العلم والقيم أو الأخلاق. عليه، يجب أن يشكل العلم أو رأسمال المعرفي رافعة لإنتاج الثروات المادية المطلوبة لتقويم الخدمات اللازمة للمواطنين، وغير المادية المنوط بها توفير المقومات الإبداعية والثقافية التي تستهدف الارتقاء بالإنسان (حتماً ليس العمل علي انحطاطه)، والعمل بكفاءة لإنتاج شروط العيش المشترك بين المواطنين (حتماً ليس التعويل علي فرقتهم وإحترابهم).
إن الكفاءة في السياسة كما يقول آفاية في كتابه "الوعي بالاعتراف"، هي القدرة علي الحكم، أي حيازة ما يلزم من الجاهزية للترجيح بناءً علي معطيات موضوعية، علمية ومنطقية كفيلة بتحقق شروط الحوكمة وتوفر فرص الإحكام لدورة اتخاذ القرار. والعكس صحيح، فتوفر قنوات للتواصل الحيوي والفاعل يجنب الإدارة التحجر، خاصة تلك التي تتوخي بحكم مسؤوليتها الوطنية المراعاة المناسبة والمتساوية لكل المتأثرين. هنا يجب أن نسال أنفسنا سؤالين: واحد مبدئي والاخر أجرائي. من يقرر ما هو سليم أخلاقياً، مقبول علمياً ومجدي سياسياً؟ ووفق اي آلية (ديمقراطية، وراثية، دينية، استبدادية، شمولية، إلي آخره)؟ والأهم، اعتمادا علي أي أبستمولوجيا؟
أبستمولوجيا المعرفة: كتب إدوارد ويلسون كتاب مؤخرا (The Origins of Creativity) شرح فيه نظرية مغايرة أو تفسير مغاير لنظرية دارون أوضح فيه أن الكائنات اعتمدت في فترات النشوء والتطور -- والتي امتدت الي ملايين السنيين -- علي التكافل فيما بينها ولم تعتمد فقط "استراتيجية انتخاب الأقوى" كوسيلة للبقاء. واذا انشغل علماء البيولوجي بالسؤال عن كيفية حدوث التطور المادي للإنسان وانشغل أساتذة العلوم الإنسانية بماهية تطوره المعنوي والفكري والروحي، فقد وجب علي الفلاسفة الدمج بين الأمرين في محاولاتهم لأسكتناه السبب الذي حتم وجود طبيعة بشرية: ما مدي تأثر حواس الكائن البشري جميعها بخلفيته الجينية وإمكانية تخلقه ثقافيا وتأثير كل ذلك علي وجهته الأخلاقية مستقبلا؟ بيد أن اغترار العلماء بالأمور التجريبية (Discovery)، وقناعة رجال الدين بامتلاكهم الحقيقة المطلقة عن قصة خلق الأنسان (Archetype)، قد أعاق إمكانية إقامة حوار عقلاني يفسح المجال لأبستمولوجيا معرفية لا تجعل علمية المعرفة في تضادية مع روحانية الاعتقاد. فكل حقيقة يجب أن تضع في إطار ثقافي، تاريخي اجتماعي، بالإضافة الي ذاك العلمي المادي، قبل أن نمتلك الجرأة للإقرار بأخلاقيتها أو تحديد كيفية إدارتها. وإذ إننا ما زلنا في بداية الطريق، الأمر الذي أظهر مدي عجزنا كبشر بعد الاكتشافات في القرنين الأخيرين خاصة، فإنه يلزمنا توجيه الكثير من الأسئلة وعدم الاكتفاء بالأجوبة التي يهرع رجل الدين لبذلها أو يجزم رجل العلم بصحتها. فثمة طريق تتطلبه العلمية والموضوعية ولا تشترطه الثيوقراطية أو العلمانية.
توفر شروط الحرية: وإذ إن إجرائية اتخاذ القرار عملية تثاقفية فإن فاعليتها تعتمد علي الحرية، التي هي نتاج المبادرة الإبداعية للفرد وتتويج لإرادته في التحرك وتسجيل الهوية المختلفة علي الدوام. فتوفر الحرية إذن ضروري لتطوير البحث العلمي وتشجيع الحوار بين الافراد والجماعات وحثهم في الانفتاح علي بعضهم البعض. وإذ أن للحرية دور تكويني فإن لها دور أداتي. فنجاح أمريكا مثلاً، كقوة اقتصادية عالمية لا يعزي الي توفر الموارد الطبيعية، بل إلي المادة الرمادية التي استخدمها مواطنوها للاختراع والابتكار. هل كان يمكن لبيل غيتس مثلاً أن يبتكر في مجتمع لا يحترم منطق العصر ولا يقدر قيمة المعرفة الإنتاجية؟ أم هل كان يمكن لصناعة مارك زغن بيرغ أن تزدهر في دولة لا تلتزم بتعهداتها وتعاقداتها؟.
الدستور: التثاقف كثيراً ما يخضع لعلاقات القوي ويندرج تحت مزاعم "الحق الإلهي في التشريع" ولذا فقد استحدثت المجتمعات المتحضرة الدستور كوسيلة لإعادة التفكير فيما هو إنساني خارج كل إرادة سياسية متعجرفة او نزعة إنسانية ساذجة. كما أعلت من قيمته الجمالية والأخلاقية والزمت نفسها الإحكام إليه، لأنه الألية التي بموجبها يتم التوفيق بين الحقوق والواجبات. إذا كان الدستور الأمريكي يكفل لمارك زغن بيرغ الحرية التي بها استطاع الابتكار، فإنه لم يسمح له الأخلال بالعلاقة التعاقدية التي حققت واجب التوازن الاجتماعي لدي الأمريكان. وإذا كفل له الدستور حق المسألة في الكونجرس. ولم يعجل بإدانته، فقد حذره من مغبة سوء الاستخدام لسبل التواصل الاجتماعي، وألزمه بضرورة تأمين شبكاته الإلكترونية كي لا يكون هنالك ثمة تهاون بقيم المجتمع أو استهتار بأمنه.
لقد استخدمت هذا المنطق العلائقي الذي يشرح بنية الحقوق والواجبات، والتي هي أكثر استبانة في "ثلاثية المجتمع المدني" للأستاذ المغربي أبو بلال عبدالله حامد. بيد أننا في مجتمعات استمرأ قادتها استخدام الدستور وسيلة للتحكم وهم بعد لم يستوعبوا أنه أداة للأحكام الاقتصادي والسياسي وأداة لتسهيل مهمة الانتقال من كوننا جماعة مؤمنين إلي كوننا دولة مواطنين. هذا الانتقال الأنطولوجي، كما أوضح الاستاذ برهان غليون في كتابات عديدة، يتطلب التيقن بأن هناك إنسان سياسي لا يتحقق اجتماعيا إلا من خلال انتمائه لدولة مواطنة، وإنسان مدني هو عضو في جماعة إنسانية تتجاوز مفهوم الدولة.
إن جل ما يفهمه هؤلاء الطغاة أن خضوع الاقتصاد الوطني لمنطق المبادرة المنتجة للقيمة يتطلب الإيفاء بالحقوق الجماعية والفردية المتمثلة في الحرية والعدل والامن والمفضية إلي الابتكار والتوازن الاجتماعي والتواصل. ولذا فهم يفضلون أن يبقي الاقتصاد الوطني رهيناً للتوازنات السياسية، الخارجية منها خاصة، علي الالتزام بالتعهدات والتعاقدات الداخلية واحترام منطق العصر والتأكيد علي خصائص حكمية بعينها، منها ما يلي:
أ. يجب أن يكون التعاقد سياسي/ روحي يؤسس لشرعية الاختلاف ويؤمن علي مشروعية الحوار وحتمية تداول السلطة سلمياً.
ب. يجب أن تعتمد الممارسة السياسية صفة التجريبية واستنباط الحلول، والنأي قدر الإمكان عن الأوهام الأيدولوجية التي ترفض الإقرار بأن "كل ما توصل إليه المسلمون في المستوي السياسي لم يكن الباعث عليه اسلامياً بقدر ما كان عملياً."
ج. ما أنتهي شكل النظام في السودان ليس بخيار شخصی بقدر ما هو تراكمات تاريخية يلزم مراجعتها، بل تجاوزها لما هو أفضل. خاصة فيما يتعلق بضرورة الاعتراف بالحقوق الجماعية لأهل الهامش، فلا معني لوصاية لا تتوفر الشروط المادية لفرضها.
ه. اعتماد قوة الدفع القاعدي للشباب كرافد اساسي للشرعية الشعبية الديمقراطية، الرافضة احتكارية الدولة الغالبة والنابذه لوصاية الاحزاب المطلقة فيما يتعلق بتنظيم المجتمع، والعازمة علي نزع القدسية عن كليهما وتوزيع صلاحيتها علي المجتمع وإشاعة التفكير المنطقي فيه كي يستطيع طرح القضايا من منطلق فكري وليست من منطلق عقدي.
و. لا محيص عن الاستثمار في المعرفة وبذل جهوداً جبارة في ميادين التربية والتكوين يكون التعويل فيها علي الفردية الذاتية، فالقضايا جميعاً يمكن أن تطرح علي مستويات عدة، ولكنها لا يمكن أن تحل إلا علي الصعيد الشخصي للفعل التداولي بين الفرد وذاته.