ستصل اسرائيل قريبا في اليوم الخامس من حزيران / يونيو القادم الى َمعلَم مروّع من تاريخها، ألا وهو مرور خمسين عاما على احتلالها الضفة الغربية. لقد أصبح العديد من الإسرائيليين راضين بالواقع واستسلموا لحجة الحكومة بأن استمرار الإحتلال ضروري لحماية الأمن القومي الإسرائيلي. آخرون يندبون على هذا اليوم لأنهم ينظرون إلى الإحتلال ليس فقط باعتباره انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان الفلسطينيي، بل يشكل تهديدا حقيقيا للطابع الديمقراطي الإسرائيلي والطابع القومي اليهودي. وبينما حافظت الحكومات الإسرائيلية اليمينية على الإحتلال بأية وسيلة متاحة، بما في ذلك استخدام القوة، فشلت أحزاب المعارضة الإسرائيلية من اليسار والوسط بشكل فادح على مدى سنوات عديدة للنهوض ببرنامج سياسي موحد لإنهاء الإحتلال وحل الصراع على أساس حلّ الدولتين.
ومع مرور كل يوم يصبح من الصعب على نحو متزايد إقامة دولة فلسطينية بتواصل جغرافي وذلك نتيجة إضفاء الشرعية على المستوطنات الغير شرعيّة وبناء مستوطنات جديدة وتوسيعها. وقد غيّر هذا النشاط الإستيطاني التشكيلة الديمغرافية لليهود الإسرائيليين والفلسطينيين داخل الضفة الغربية. وإذا استمر هذا الإتجاه لمدة عشر سنوات أخرى، فمن المقدر أن ينمو عدد اليهود الذين يعيشون في الضفة الغربية والقدس الشرقية من 650.000 حاليّا ًإلى مليون ، الأمر الذي سيخلق معه حقائق لا رجعة فيها على أرض الواقع، وهذا سيجعل حل الدولتين مستحيلا ً .
لم تلتزم أبدا ً الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتعاقبة، ولا سيما الحكومة الحالية بقيادة نتنياهو، بحل الدولتين. وبدلاً من ذلك، هي عازمة على إدارة الإحتلال باستخدام القوة والتخويف في حين أجبرت الفلسطينيين على العيش في كانتونات بحكم ذاتي والسماح لهم بإدارة شؤونهم الداخلية ما داموا لا يشكلون تهديداً أمنياً لإسرائيل.
لقد مكّن تحقيق هذا التطور الخطير إلى حد كبير عاملان: الأول هو النظام السياسي الإسرائيلي الذي يشجع على انتشار الأحزاب ذات التوجهات السياسية المختلفة. ففى المتوسط هناك 12-15 حزبا سياسيا تحصل على الحد الادنى البالغ 3.25 فى المائة من أصوات المنتخبين، وهي عتبة الحسم لتمثيلهم في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست). ونتيجة لذلك، فإن كل حكومة إسرائيلية منذ تأسيس الدولة هي حكومة ائتلافية تتألف من عدة أحزاب تتمتع معا بدعم الأغلبية في الكنيست. والعامل الثاني هو أن أحزاب المعارضة السابقة والحالية من الوسط واليسار لم تكن مستعدة لتشكيل حكومة ائتلافية مع برنامج موحد لإنهاء الإحتلال.
إن أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا الخلاف بين الأحزاب هو ليس الإختلاف الأيديولوجي، بل هو الطموح الشخصي الأعمى لقادة الأحزاب – بما في ذلك يائير لابيد من حزب يش عتيد (“هناك مستقبل”) وإسحاق هرتسوغ من الإتحاد الصهيوني (جنبا إلى جنب مع تسيبي ليفني) – لتولي منصب رئاسة الوزراء لأنهم يعتبرون أنفسهم الأكثر تأهيلا لقيادة البلاد.
وهكذا ُترك المجال السياسي مفتوحا أمام نتنياهو وزمرته لتوسيع المستوطنات مدّعين بقوة أن لليهود حق تاريخي وتوراتي في كامل “أرض إسرائيل” التي منحها الله لهم، وأن لإسرائيل كلّ الحق في البناء في أي مكان في يهودا والسامرة. وعلى الرغم من أن نتنياهو يواصل التأكيد على أنه يؤيد حل الدولتين، إلا أنه لم يقدم حجة مقنعة حول كيفية قبوله بإنشاء دولة فلسطينية مع ادعاءات و مطالبات إسرائيل بنفس الأرض واستمرار بناء المستوطنات التي يفترض أن يقوم الفلسطينيون بإقامة دولتهم عليها.
ولتفسير “الأساس المنطقي” وراء هذا التناقض، يجادل نتنياهو بأن مخاوف إسرائيل حول أمنها القومي والهدف الفلسطيني الطويل الأجل لتدمير الدولة يجبر إسرائيل على الحفاظ على سيطرتها على كامل الإقاليم من خلال أية تدابير أمنية تدخلية ضرورية. وعلاوة على ذلك، يدعو عدد من أعضاء حكومة نتنياهو علنا إلى ضم معظم أجزاء الضفة الغربية، حيث أنه من وجهة نظرهم يجب ألا تكون هناك دولة فلسطينية قطعا ً.
إن العواقب الوخيمة لاستمرار الإحتلال تضر بشدة بصورة إسرائيل وأمنها القومي. وعدا عن المعارضة الشديدة والمتنامية من طرف المجتمع الدولي، فإن خسارة إسرائيل لبوصلتها الأخلاقيّة ومقاومتها المستمرة لإقامة دولة فلسطينية ستكون لمضرتها. إسرائيل تصبح على نحو متزايد دولة منبوذة، محرومة من السلام مع العالم العربي، وتفقد تدريجيا مبرّر وجودها كدولة يهودية بالرغم من أنّ نتنياهو واليمين المتطرف يصرّون على وصفها على هذا النحو. وأخيراً، فإن استمرار الإحتلال سيؤدي حتما إلى تصعيد وتكثيف حدة الصراع الذي سيصبح أكثر شراسة من أي وقت مضى إذا ما رأى الفلسطينيّون بأن أملهم في إقامة دولتهم المستقلّة يتلاشى كليّا ً.
مستقبل إسرائيل كدولة ديمقراطية ويهودية يقع على عاتق أحزاب المعارضة. يجب أن يفكروا فيما سيحدث إذا استمرت الحكومات الحالية أو المستقبلية من أحزاب يمين الوسط بالسياسة الحالية وأبقت على الإحتلال للأعوام العشرة القادمة أو أطول.
يجب أن يتذكر هؤلاء بأن مصير البلد هو بين أياديهم. ويجب عليهم أن يضعوا طموحاتهم الشخصيّة جانبا ً وأمن المستقبل ورخاء وخير الدولة في المقام الأول. عليهم الخروج ببرنامج سياسي موحّد لإنهاء الإحتلال وأن يشرحوا للشعب النتائج الكارثية التي ستواجه إسرائيل ما لم يتمّ إنهاء الإحتلال.
وكأحزاب متكاتفة يوحّدها الهدف، بإمكانهم القيام بنجاح بتحدّي حكومة نتنياهو في الإنتخابات القادمة. ينبغي عليهم أن يتعلموا الدرس من (70) عاما ً خبرة بأنه ليس بمقدور أي حزب سياسي في إسرائيل أن يحصل على أغلبية الأصوات لتشكيل حكومة بنفسه، ولكنهم يستطيعون سويّا ً تجنيد الشعب خلف سبب نبيل، ألا وهو تحرير إسرائيل من أصفاد الإحتلال المهين والمدمّر ذاتيّا ً.
وإذا هم فشلوا، سُيلامون أيضا ً لكونهم خانوا الوطن وضحّوا بحلم ٍ قديم للشعب اليهودي عمره آلاف السنين لإقامة دولة يهوديّة، دولة معترف بها ليس فقط بسبب إنجازاتها الغير مسبوقة، ولكن أيضا ً لمكانتها الأخلاقيّة العالية وإدراكها بأن مستقبلها كدولة مستقلّة وحرّة وآمنة يعتمد على السّماح للفلسطينيين بالتمتّع بنفس الحقوق.