· أعلم يقيناً أنك تعلم أن الوطن لا يسعنا جميعاً رغم سعته و امكاناته المتاحة.. أنت تدرك ذلك.. و مع ذلك تدّعي و يدَّعي رهطك صباحَ مساءَ أن الوطن متاح للجميع.. و تتمنون أن نصدقكم.. و تتمنون أن نتناسى أحاديثكم عن قوة حزبكم.. و عن كثرة عضويته.. و ربما تطرقتم، بزلة لسان، إلى أشياء أخرى هي الأكثر خطورة على الوطن كله.. كما جرى على لسانك و أنت تتحدث عن الشرف الذي يضفيه الجنجويد المغتصبون على المغتصَبَات غير العربيات في دارفور..
· أنت تعلم، يا البشير، أن الوطن لا يسع إلا حزب المؤتمر الوطني وحده دون مكونات السودان السياسية الأخرى.. دعك عن المكونات البشرية التائهة.. و من بينها ناس ( قريعتي راحت) المهمشين جغرافياً و إثنياً..
· إن ( ناس قريعتي راحت) هؤلاء يعيشون في ضيق دائم.. ضيق يزداد ضيقاً كلما توسعتم أنتم و مددتم أرجلكم إلى أراضي غيركم.. و قيدتم الحريات و توسعت مساحات سفاهتكم.. و تظهرون ما في جعبتكم من ازدراء الآخر السوداني عندما يغضب أحدكم فيكشف عن حقيقة شعوره تجاه ذاك الآخر كما حدث يوم أبِحتَ للجنجويد أن يشرفوا نساء دارفور غير العربيات باغتصابهن..
· الوطن لا يسع الجميع، يا البشير.. إنه يسعكم أنتم فقط و يلفظ غيركم.. و المؤكد أن الأحراش سوف تستقبل مجدداً بعض الذين هرولوا إليكم.. و أولئك الذين سوف يهرولون إليكم حين يصطدمون أو تصطدم أجيالهم القادمة بالواقع و لو بعد حين..
· أنتم، يا البشير، تريدون حل أزمات البلد، دون أن تخسروا ما اغتصبتموه.. لذلك تغضون الطرف عن أسباب الأزمات و هي بادية لكل ذي عينين سليمتين و ضمير حي.. و رغم الاعتراف العام بالتهميش الجغرافي الواضح في معظم الريف السوداني، إلا أن التهميش الاثني المرافق للتهميش الجغرافي هما الأكثر وضوحاً.. و هما( معاً) أصل الأزمات!
· لا تحاولوا مداراة الشمس بالغربال.. و الأزمات تتناسل.. و تتمخض عن أزمات متلاحقة.. و يظل السكوت عن أصل الأزمة هو المتفق عليه بينكم جميعكم.. بل و ربما تنبرون للهجوم على من يشير إلى الحقيقة التي تكرهون الاعتراف بوجودها.. و تصرون على المناداة بالعودة إلى وطن تدَّعون أنه يسع الجميع !
· الوطن لا يسع الجميع حالياً يا البشير..! فكِّر في الحقيقة التي تتجاهلون.. فكر بهدوء بينك و بين نفسك و لن أقول بينك و بين ضميرك لأن ضميرك في سبات عميق إن لم يكن قد مات ضمن ضمائر السياسيين التي شبعت موتاً و تركت السودان نهباً للدسائس و المؤامرات.. يجوع سكانه و يتشردون في أركان الدنيا الأربعة، و " النيل و خيرات الأرض هنا لك.. و مع ذلك.. مع ذلك!"
· كم يحزننا أنكم تصرون على التعايش مع المسكوت عنه داخل القمقم.. و يحتشد الغضب في الأعماق أحياناً ضد من يتذاكون على أشياء هي مكون أصيل من مكونات الأزمات التي تحاصر السودان منذ زمن.. و يتقافز بعضكم فوق نتائج شائهة بعد مقدمات مبتورة.. و الحياة تمضي في مسارها المعوج بالسودان باتجاه الجحيم!..
· كنت أستمع يوم الجمعة 14/4/2017 إلى إحدى الاذاعات التي تحشد ( فكِهين) كُثر.. فكِهين لا يدرون أنهم لا يدرون.. و ربما يدرون و لا يريدون التحديق في الأشياء المسكوت عنها.. و كان اسم ذاك الضيف ( الفكِه) د. ياسر أبو عمار.. و زعم ياسر هذا أن منطقته الواقعة جنوب شندي منطقة مهمشة مثلها مثل المناطق المهمشة في دارفور و غيرها.. و أن السودان كله مهمش..
· يبدو أن هذا الياسر كان يخاطب من لا يعنيهم الأمر البتة.. بينما المعنيون من المهمشين الحقيقيين يعيشون في وادٍ لا يصله صوت ياسر..
· و قبلها قرأت مقالاً لصحفي من ( الفِكِهين) يزعم أن أهاليه بمنطقة الباوقة مهمشون أيضاً مثلهم مثل من يقطنون جبال النوبة تماماً.. و قفز الصحفي إلى نتيجة فحواها أن قرى السودان جميعها مهمشة..
· إن ذاك الصحفي الفكه يعرف الفرق بين مدى تهميش منطقته و سكانها و بين مدى تهميش منطقة جبال النوبة و سكانها.. و يعرف تماماً أن منطقته مهمشة جغرافياً لكنه، كمواطن سوداني، يتم تمييزه، منذ الولادة و حتى الممات، عن رصيفه المولود في جبال النوبة من أب و أم من أصل نوباوي..
· تلك حقيقة متفق عليها.. و متفق أيضاً على السكوت عنها!
· إن الصحفيين الفكهين يتهربون من الواقع و ربما شارك بعضهم في ( تمكين) الواقع المزري بمثل هذه الترهات التي تفتقر إلى الدقة في إطلاقها.. و لا يهمهم أمر الذين يعانون من التهميش الجغرافي في المناطق المهمشة، و فوق ذلك يعيشون التهميش الاثني أينما حلوا في السودان الوطن الذي لا يسع و لن يسع الجميع إلا إذا غير البشير و قومه الكثير و الكثير جداً من المسكوت عنه..
· و أود أن أقول لك شيئاً من التجارب الشخصية يا البشير.. و أقسم لك بالله العظيم و كتابه الكريم أني لا أحقد على أي سوداني من أي عنصر أو لون.. فحبي للسودان أكبر من أن ينحدر إلى مستوى الأحقاد الشخصية أو العنصرية..
· كانت الكشات الشهيرة في عهد الرئيس/ نميري على أشدها.. حيث كان يتم ( التهجم) على العناصر غير العربية في الأسواق و يتم التقاطها و جمعها في دار الرياضة بالخرطوم.. إعداداً لتسفيرها إلى جنوب و غرب السودان.. و كنت مع أخي، من حيث الأب، نمتطي بصاً في طريقنا إلى أركويت، أوقفت الشرطة البص بالقرب من سينما كوليزيوم.. و اقتحمت المكان.. و تخطى أحد رجال الشرطة أخي ليطلب مني بفظاظة إبراز بطاقتي الشخصية.. هِجت فيه.. و تحدثت معه بفظاظة و سألته عن السبب في تخطيه لأخي ذي ( اللون الفاتح) والذي كان ورائي مباشرة.. تركني الشرطي و غادر!
· و قصة إثنية أخرى:- كنا اثنين، أنا و سائق السيارة يلفنا الصمت في طريقنا إلى أم درمان بعد الدوام، قبل أعوام.... عبرنا كبري أم درمان.. و فجأة صرخ السائق:- " قلق سايق ليهو عربية فيليب غبوش عمرو ما حِلم بي زيها!".. و قلق هذا هو بدرالدين قلق، لاعب فريق المريخ وقتها، و كان لاعباً مميزاً انهالت عليها من الفريق ثروة محترمة،.. أما فيليب عباس غبوش فهو الزعيم التاريخي المعروف و رمز كفاح ( شعب) جبال النوبة..
· كان السائق يفكر بصوت عالٍ.... أما العبارة التي أطلقها السائق، فلم تكن سوى ( مخرجات) عقله الباطن انطلقت لا إرادياً لتكشف عن دواخله..
· و قصة ثالثة:- ذهب ثلاثة منا للاستشفاء بالمستشفى الوحيد بمدينة واو، و نحن تلاميذ بالمدرسة الأولية، و كانت أسماؤنا مقيدة في كراسة مخصصة للتلاميذ المرضى سلمني إياها أستاذنا المسئول.. و في المستشفى قدمت الكراسة للطبيب الذي رفض استلامها بزعم أن زمن استلام اسمائنا قد ولَّى.. إلا أنه أدخل زميلي ( المميز إثنياً).. و أجرى عليه الفحص و أعطاه العلاج اللازم .. و عدنا إلى المدرسة..
· كنت نسيت هذه الواقعة، و أيم الله، و ذكرني إياها أخي الأصغر لأنه كان ثالثنا يومذاك..
· مثل هذه الأحداث تحدث في السودان يومياً حتى حين لا تكون هناك ( كشات) و غيرها من الممارسات العنصرية التي لا تحتاج إلى ( درس عصر) لفهم مكنوناتها! إنها موجودة في الحافلات و الشوارع و الأسواق و المكاتب.. و في كل مكان
· حكِّم ضميرك، يا البشير، إن كان لا يزال حياً، و اسأل نفسك عما إذا كان هذا الوطن ( يسع) امرأة غير عربية من دارفور مع امرأة عربية من هناك.. إن العنصرية هي التي تصنع الأزمات في السودان.. و لن تنتهي الأزمات إلا بإنهاء العنصرية التي في دواخلكم.. إنهائها بعزيمة و إصرار حباً في وطن يسع الجميع.. و هي لن تنتهي من تلقاء نفسها..