ولوجاً من باب ( فكِّر في الأمر ملياً ربما إستوعبت شيئاً ) ، أتفكَّر و أتدبَّر و أستغرب في ذات الوقت أن لا نعرف نحن أهل السودان بصفاته الحالية أسباباً موضوعية تبرِّر حالة إستشراء الفساد العام الذي يقوده مسئولين و سياسيين على مستويات عُليا و وسطى و دُنيا ، لينداح عبر نظرية التأثير و التأثر ليعُم قاعدة المعاملات العامة في شتى إتجاهات و تفاعلات المجتمع ، حتى تشابه علينا البقر و إختلط الحابل بالنابل ، و ضاع الحق في ظل (شعارات ) فضفاضة و خدَّاعة ليتمشدق الباطل بلسان يكسوه الحق الزائف فإنطبقت عليه القاعدة ( كلمة حق أُريد بها باطل ) ، و الممارسات اليومية لكثير من مؤسسات الدولة لا تخرج من دائرة إنعدام العدالة في القراءة الصحيحة و المُنصفه لمجمل القضايا التي يقف المواطن البسيط ( خصماً ) لها فيها ، فعندما ترغمك شركة الكهرباء على دفع رسوم عدّاد لأول مرة عبر مستند مالي يفنِّد أسباب الدفع على أنها ( قيمة ) عدّاد ، ثم تفاجأ عند توقيع العقد بأنها مُفسَّرة في بنوده الفنية على أنها إيجار ، ثم حين تشتري الكهرباء عبر منافذ البيع المختلفة و تطالع الفاتورة تجد مبلغاً شهرياً ثابتاً لا ينقطع مبيناً تحت بند ( إيجار عداد ) للمرة الثانية ، عندما يحدث كل هذا متزامناً مع دفع الناس قيمة الكهرباء ( مقدماً ) ثم يفاجئون بأن توريد ( البضاعة ) خاصتهم أو الكهرباء سيظل رهيناً بالبائع أي شركة الكهرباء و التي قد لا توفرها لأسباب فنية أو إدارية و أحياناً ( مبهمة ) ، لا بد أن نقُر بأن في ذلك إتجاه مباشر لعدم العدالة في ضمان حق الطرفين و هو وجه من أوجه ( التطفيف ) في البيع بائن و واضح ولا يحتاج إلى كثير تمحيص و هو لا محالة بابٌ من أبواب ( الفساد ) في الأرض ، وحين يُعمل التاجر أو المستورد حساباته على هامش تكلفة حقيقية مبنية على توقعاته ( الذكية و التخمينية ) لما يمكن أن يطرأ من إرتفاع في سعر الدولار و ما تم تحديده عبر ( القائمة الجمركية ) المتعلقة بما سيستورده من بضاعة ، ثم يُفاجأ و بضاعته في الميناء بأن قيمة الجمارك تضاعفت ، فلا يستطيع أن يخلص بضاعته إلا بالإستدانة أو بالإستسلام و تركها (صيداً سميناً ) للجان التخلص من الفائض و ( تماسيح ) الدلالات الرسمية المتسترين خلف عباءات المسئولين و أصحاب الحظوة و النفوذ ، فإن إستسلم ( فقد كفى الله المؤمنين شر القتال ) و ليهنأ ( المتربصون ) بالغنائم ، و إن نجح في تدبير كُلفة ما طرأ من زيادات ضريبية و جمركية قام بمضاعفة سعرها ليغطي تكاليفه الواقعية مضافاً إليها هامش أرباحه ، ليقع ذلك كلهُ على كاهل المستهلك السوداني الذي دُحِر فقراً و عوزاً و عجزاً و حاجة ، و في ذلك أيضاً إشارةً لا تخطئها عين فيما يتعلّق بمبدأ الإلتزام بالشروط بين طرفي المصلحة ( الحكومة و دافع الضرائب ) .. و ما يتعلق بإقرار المبدأ الأخلاقي و الشرعي ( لا ضرر و لا ضِرار ) و هو لا محالة أيضاً بابٌ من أبواب ( الفساد ) في الأرض .. هيبة الدولة و إضطلاعها بمهامها عبر أدوات النفوذ و القوة و العلو الإداري و الفني لا يستقيم و لا يُغذي المصلحة الوطنية العليا ما لم يخلو كُلياً من أوجه الفساد في الأرض و التي يأتي في مقدمتها مبدأ ( العدالة في الحكم بين الطرفين ) .. حتى و لو كانت الحكومة في ذلك طرفاً .