ويمضي د. عصام أحمد البشير في تتبع بعض القضايا الفقهية منحازاً إلى المدرسة الوسطية وداحضاً منطق الفقه المتطرف، ونورد اليوم بقية حديثه حول آفاق الخطاب الإسلامي المعاصر.. والحضارة الغربية. مدخل: بجانب تضلع الخطاب الإسلامي بفتح الآفاق وجمع القلوب وشحذ العقول حول مشروع النهضة الشاملة لهذه الأمة المباركة، فإن الخطاب الإسلامي المعاصر مطالب أيضاً بل واجب عليه أن يقدم نداء ويدير حواراً ويزيل جداراً ويقيم وشائج ويحيي علاقات بين الغرب وقواه الفاعلة وفلسفاته القائمة وبين العالم الإسلامي ومحموله الثقافي والعقدي والحضاري، بحيث يزيل الفهم المغلوط ويصحح الرؤى الخاطئة ويزيل الغشاوة عن المخدوع بدعاوى الاختلاف بين العالمين اختلافاً لا تشابه مع ولا اشتراك معه في أصل الإنسانية وصلة السماء والنسب الإبراهيمي، يقول سبحانه وتعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً" (سورة النساء، الآية 1)، وقوله: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (سورة الحجرات، الآية 13)، وقوله: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ" (سورة الإسراء، الآية 70). وينطلق الخطاب الإسلامي من قواعد راسخة في التصور والاعتقاد ونعيد هنا التذكير ببعضها حتى لا تختلط بيضاء الشريعة بوعثاء الظنون، إذ لا شك ولا ظن في أن الإسلام هو الرسالة الخاتمة، دين أنزل للبشرية جمعاء، تبدت عالميته في قدرته على التعايش مع كل الجماعات البشرية غير المحاربة.. من نصارى ويهود، أغنياء وفقراء، سود وبيض.. الخ، وأن الاختلاف بين بني البشر في الدين واقع بمشيئة الله تعالى، فقد منح الله البشر الحرية والاختيار في أن يفعلوا ويبدعوا، أن يؤمنوا أو يكفروا، وأن الاختلاف في الاختيار وإن ترتبت عليها نتائج مختلفة في الآخرة (فريق في الجنة وفريق في السعير) فإنه لا يمنع التعايش ولا يحول بين العالم الإسلامي وبين الغرب والتعاون الصادق على قاعدة تبادل المنافع وقد حدد الله سبحانه وتعالى أساس هذا التعايش بقوله: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين" (سورة الممتحنة)، الآية 8). موقف الخطاب الإسلامي من الحضارة الغربية: تنوعت مواقف حملة الخطاب الإسلامي في العصر الحديث من الحضارة الغربية، بحسب بعض الاختلاف في تفاصيل الرؤية الفكرية، واختلاف الأزمنة والأمكنة.. وهذه أبرز الاتجاهات العامة في هذه المسألة. كما عبر عنها شيخنا العلامة القرضاوي. الاتجاه الانبهاري التوفيقي: هذا الاتجاه يرى أن الغرب وإن كانت النصرانية هي ديانة غالب أهله إلا أنه يطبق مبادئ الإسلام أكثر من الدول الإسلامية، لذلك تجد بعضهم يقول إن الدول الإسلامية بها مسلمون بلا إسلام، بينما الغرب به إسلام بلا مسلمين، ويرى – هذا الاتجاه – كذلك ضرورة إعادة تفسير الإسلام تفسيراً يوائم احتياجات العصر الحديث والمجتمع المتغير، ويقف موقف المدافع المعتذر عن كل مخالفة – من علماء الشريعة – لممارسات الحضارة الغربية.. لذلك تجدهم ينفون أن تكون فائدة البنوك من الربا المحرم، وينفون أن يكون الإسلام قد انتقص من حقوق المرأة، وحد من دورها الاجتماعي، ويصرون على أن الشورى الإسلامية هي بعينها ديمقراطية الغرب السياسية، ولا يكتفون ببيان اتفاق الإسلام مع بعض جوانب الحضارة الغربية بل يلهثون لتأكيد أن مقومات الحضارة الغربية لا تتعارض مع الإسلام في شيء. هذا الاتجاه في رؤية الحضارة الغربية حال دون تقديم منظريه لتفسير شمولي، ومال بهم الى الاقتصار في فكرهم على التصدي لقضية هنا وقضية هناك من القضايا التي تشغل الأذهان في الغرب، مثل الديمقراطية ووضع المرأة، وحقوق الإنسان وذلك من قبيل الرغبة في الرد على خصوم الإسلام في الغرب، أو الأخذ بمشورة الأصدقاء الناصحين في الغرب ايضاً. كما أورث اصحابه شعورًا بالدونية ليس في الموارد المالية والاقتصادية وحسب، بل.. وفي مناهج التفكير وأصول الدين.. فبادر بعضهم مطالباً بهجر الفقه التقليدي، ونبذ أصول الفقه والحديث والتفسير!. الاتجاه الانكفائي العدائي: على النقيض من سابقه يرى هذا الاتجاه أن الحضارة الغربية شر محض وأنها مجردة من العدل، غارقة في التحيز ضد الاسلام، وأنها في اصولها وفروعها لا تخالف الإسلام فحسب.. بل تحاده أيضاً وتناقضه، الأمر الذي حدا بمنظريه للانكفاء على الذات والفرار للتاريخ والارتحال الى التراث من أجل إثبات تميز الإسلام واختلافه عن المفاهيم والقيم الغربية من خلال انتقاء قضايا محدودة ويسعى هذا التيار إلى إقامة الخنادق بين الاسلام والحضارة الغربية، وتصوير العلاقة بين الحضارتين على أنها حالة عداء مطلق صراع دائم لا ينتهي ولا يني، حتى يفنى طرف أو ينسحب من ساحة المعركة يجرجر أذيال الهزيمة ويلعق جراح الانكسار، مستبعداً – هذا التيار – قوة الكلمة وجلاء الحق ونور الهدى، التي هي أقوى من كل سلاح فرسالة الإسلام رسالة هداية وإصلاح وليست رسالة قهر واكتساح للبلدان وتحطيم للممالك.. المؤسف أن هناك تياراً غربياً يرى ذات الرؤية بدافع توراتي أو تحت مسمى (صراع الحضارات)، مما يمنح هذا التيار الناشئ في ديار الإسلام شرعية ومشروعية، وهذه إحدى عوائق الخطاب الإسلامي المعاصر تجاه الحضارة الغربية المعاصرة الذي يؤيد القول بأن الاتجاه الانكفائي العدائي ليس أقل بالغرب من الاتجاه الانبهاري!.