مساحاتُ الغياب/محمد رفعت الدومي

مساحاتُ الغياب/محمد رفعت الدومي


01-10-2014, 06:19 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1389331149&rn=1


Post: #1
Title: مساحاتُ الغياب/محمد رفعت الدومي
Author: محمد رفعت الدومي
Date: 01-10-2014, 06:19 AM
Parent: #0

مساحاتُ الغياب*

كانت أكثر من مجرد صدي للألم ، ضحكاتُ "عصام" في ليلنا ، عقب عودته من رحلته العلاجية الأولي إلي القاهرة ، حكي لنا الكثير ، بروح ما زالت تحتفظ بلياقتها السطحية ، عن الذين يشبهونه في العجز من المرضي ، لقد كان الكثيرون منهم ، بحماية ادعاءاته هو ، يواجهون المرض باللامبالاة ، ويتزاحم الكثيرون أيضاً حول تبرعات الأنقياء غير المشروطة لـ "معهد الأورام" إلي درجة الشجار معاً ، ومعاً ومع الموظفين ، ومعاً ومع الموظفين والأطباء ، وقد يصل الشجار أحياناً إلي حدِّ التماسك بالأيدي والأسنان !!

وتترهل الحكايا ، لا تخشي ضغط الزمن ، وكأنها بلا قيمة ..

وكان لابدَّ ، لأنه "عصام" الذي لا أرتاب في أنه يفعلها ، أن تنزلق الحكايات في شرخ المبالغة ،،

حكي لنا عن شريك ٍ له في الورم من "الشرقية" ، أجري له الأطباء ثلاثين عملية جراحية ، ليس هذا موطن الطرافة في ترجمته لذلك المريض المسكين ، إنما ادعاؤه بأنه يعيش بغير كليتين ، وكان لابد أن يواجه التعبير عنه سؤال من هنا أو هناك : كيف يا "عصام" يعيش إنسانٌ بغير كليتين ؟ ، وأجاب "عصام" جاداً :

- بالبركة !!

إنه اليقين يقوم مقام الرغبة لا أكثر ..

طالت الحكايا الممرضات أيضاً ، حكي لنا عنهن الكثير ، هنّ ، بحماية ادعائاته أيضاً ، يعاملن مريض السرطان معاملة أيِّ ممرضة لأيِّ مريض بالأنفلونزا ، ولا أعتقد أن هذا الأمر ينطوي علي شئ من الغرابة ، فإنه من غير المعقول أن تتفاعل الممرضة مع مرض كلِّ مريض ، أو تشعر نحوه حتي بالقليل من التعاطف ، وإلا تحولت إلي أطلال ، إنها تؤدي عملاً ، ثم إنها بالإسراف في اختبارات الموت اليوميِّ ، لمست العمق الأليف للموت في إطاره ، وأصبح بالنسبة لها ، علي الأقل ، مجرد طقس مسرف في التكرار ،،

أجد هذا تعبيراً حقيقياً عن حكاية قرأتها ، عن رجل ٍ استوطن بيتاً بالقرب من مدبغةٍ للجلود ، وظلت الرائحة الكريهة ، كعالمنا ، لسلةٍ من الأيام الأولي ، تثير غثيانه ، وخاصم صاحب المدبغة إلي السلطات ، وتلكأ دهاء صاحب المدبغة عن الذهاب أسبوعاً ، ومضي الأسبوع ، وماتت الشكوي !!

لقد اكتسب الساكن الجديد بمعايشة الرائحة وعياً جديداً بإحساس الألفة ..

قال لنا أنه اشتبك ذات صباح مع ممرضة في فاصل من السخرية ، فقالت له من بين ضحكاتها :

- يبتليك بـ" محسن " !!

وهذا الـ "محسن" بحماية ادعاءه هو "حلاق" المعهد ، وذهاب مريض السرطان إلي الحلاق ، يعني أحد البروتوكولات الطليعية لإعداده لجراحة نتيجتها المؤجلة ، والفريدة ، حتي أنها الوحيدة هي الموت ، هي تعني ببساطة :

- يا رب تموت !!

نضحك حتي تدمع أعيننا ، يظلُّ الألم باقياً ، لكنه يصبح خافتاً ، أو هو في الحقيقة لم يكن ضحكاً بقدر ما كان محاولة للفرار من مجرد استشراف الغيب بطريقة ركيكة ..

الطبيب أيضاً ، ليس من المعقول أن يكون صديقاً ، أو رقيقاً إلي هذا الحد ،،

عقب سلة من الرحلات بين الدومة والقاهرة ، صدمه الطبيب صدمة فاحشة ، طالت بتصرفات منخفضة صهره "أبوالوفا" أيضاً ، - لقد انخفض سريعاً حماسُ المتحمسين لمرافقة ورمه إلي القاهرة ، وواظب فقط أصهاره علي حراسة حماسهم حتي النهاية - ، لقد أعلنه الطبيبُ بتبني الأطباء المعالجين قراراً باللجوء إلي الكيماوي كممرٍّ وحيد نحو شفائه ، أدركت من الشوك في كلامه لحظتها ، أن الورم كان قد ترهل إلي حد أصبحت معه السيطرة عليه مستحيلة ، وأن الجراحة تتحد تماماً بالقتل المُيسَّر ، وربما استوعب "عصام" أيضاً أطراف الكلمات الحادة ، فلقد أخبرني صهرُه وهو يزيف ابتسامته ، أنه قال للطبيب ، وعيناه توقِّعان دمعهما :

- استحْمده اللِّي جات فـ الطوَّاطة !!

عبارة ليس من السهل تفسيرها ، أو حتي إلقائها علي أطراف جملة تستدعي عمل الذهن في مقاربة مرضية لتفسيرها ، هي لابدَّ بعض التكلسات المكدسة في جيوب ذاكرته المشتتة حالاً ، طفت ، فجأة ، بعشوائية ، والتحمت بعشوائية ، فجأة أيضاً ، فشكلت تلك الأخلاط اللغوية ..

من الآن ، وحتي ابتلعه المنحني الحاسم ، ظلَّ "عصام" محتفظاً بروحه المتهكمة ، هذا أضفي عليه مظهر المستهين بالموت بشجاعةٍ صلبة ، غير أنَّ شجاعته الزائفة لم تنطلي عليَّ أبداً ، ولم يكن بالطبع من اللياقة اختبارها ، كنت أصغي لما لا يقوله ، لا ما يقوله ، هكذا تعوَّدت ، ثمَّ تحت السطح ، كأنني كنت أصغي إلي داخله المكتظ بالأصوات تماماً ..

قبل انهياره ، بلا مبالاة ، بأسبوع وبعض الأسبوع ، كنا نجلس منفردين في بيتنا ، نشاهد فيلماً من الأفلام التي استعارت عالم الأستاذ نجيب محفوظ بإسراف ، حتي انزلقت في الجرح الذي لابدَّ لها منه ، التكرار ، وعدم معرفة المشاهد بالحقيقيِّ ، وبالمطليِّ بظلٍّ شاحبٍ من اللاشئ ، وانساب مشهدٌ لست أدري ماذا لمس بالضبط في جيوب ذاكرته ، كان المشهد يجمع بين الأستاذين "صلاح قابيل" و"محمود ياسين" وآخرين ، أتذكر الحوار علي نحو واضح ، لقد تساءل الفنان "محمود ياسين" من ردهة شلله الواضح ، بصوت يلائم العاجزين :

- من إمتا كلابها عوت علي ديابها يا نوح يا غراب ؟!

خفض "عصام" رأسه ، وقوَّس كتفيه أماماً ، وأطلق صوتاً هائماً وفريداً ، كأنه يفتش عن إدانة غامضة لشئ ما ، ثم انخرط في بكاء حاد ، مذعور ، حتي أنه نبَّه علي بعد غابة من الخطوات "أُمِّي" ، تنبه ذهني مبكراً إلي سخافة أيِّ محاولة مني لتهدئة قلبه ، بل لأحرضه علي استئناف البكاء ، شاركتُه بنصيب وافر من الدموع الحقيقية ، لقد دَرَجْتُ عليه يضحكنا فيريحنا ، فلماذا ، ليرتاح ، لا أتركه يدين الوجود بإيماءته الوحيدة المتاحة ، عينيه ؟!!

إنَّ ساخراً أصبح ، فجأة ، مركز دائرة السخرية ، خليقٌ بأن يقوم مقام الدليل الذي لا مراء فيه علي عبثية الحياة ، وبساطتها أيضاً ، هل فوق حياة ؟!..

استعاد هدوئه بعد دقائق من البكاء المتدرج صعوداً وانحداراً ، ثم اشتعل عزمُهُ ، فجأة ، علي الفرار ، لقد لمست بوضوح أكثر مما ينبغي ، خجله الشديد من عراء انزعاجاته الداخلية أمامي ،،

لماذا ؟ ، إنني أخوك في العجز ، وخوابي الألم المشتركة ..

طالبتني "أمِّي" ، بعد أن ابتلعه الشارع الخالي من العصافير ، بتفسير لجنازتنا القليلة الماضية ، يا "أمِّي" الطيبة ، إنَّ هكذا سؤالاً ، سؤالٌ يجري في يقين السخافة ، إنَّ شاباً تترنح الحياة في قامته ، وتتماسك عيناه هو السؤال المتطلب ، وتمسكتُ بالصمت الجارح ، لقد ردَّني الخجلُ أن أُحدِّثَ "أمي" عن .. "نوح الغراب" ..

كانت هذه هي آخر مرة أري فيها "عصام" ، ولقد انخفضت بفضلها زرقة قلبي كثيراً ، حتي أنني وضعت مأساته عن عمدٍ في جيب مهملٍ من جيوب اهتماماتي ، كنتُ فقط لا أتسع لها ، وكان قلبي ليس به موطأٌ لخسارة إضافية ، وباهظة..

علمتُ فيما بعد ، أنه ، وهو في طريقه الأخير إلي "القاهرة" ، هاجمه ، علي مشارف "الدومة" وقلبي ، نزيفٌ حاد ، أعاق رحلته الأخيرة من رحلات الدوران في الفشل ، وعاد ، عاد مستنداً علي ظلال الآخرين ، بملامح وجهه القادم ..

استيقظتُ مذعوراً ، ذات صباح لا مراء في غربانه ، علي ضجةٍ أكيدة ، نظرت من النافذة القريبة ، فرأيت الخالة "جليلة" تندفع مهرولة من باب بيتها إلي الشارع السائل ، والخالي إلا من الغربان ، يتبعها عصبة من النساء المتشحات بسواد الحداد ، تتزاحمن علي تهدئة قلبها ، غرسَت عينيها في لحم السماء ، وصاحت في تحفز حقيقيٍّ ، ومروع :

- يا ظُلْمكْ ، يا ظُلْمكْ !!

كانت بحماية أكبر خسائرها علي الإطلاق معذورة ، لقد دخل "عصامُ" ، وحيدُها ، موتَهُ الذي اكتمل عند غروب ذلك اليوم تحديداً ، وتحوَّل "عصامُ" إلي حزمةٍ من مكعبات الثلج ، ثم .. ذاب في مساحات السفر الواسعة ،،

الغروب ..

جزيرة ٌ حقيقية ٌ من الجمال الخاطف ،،

لكن ذاك الوجه المتغضن .. علي الرماد !! ..


محمد رفعت الدومي


* من " اسهار بعد اسهار"