مجانين امدرمان

مجانين امدرمان


05-20-2004, 04:48 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1085024926&rn=0


Post: #1
Title: مجانين امدرمان
Author: هلال زاهر الساداتى _ مصر
Date: 05-20-2004, 04:48 AM


مجانين امدرمان

هلال زاهر الساداتى _ مصر

لامدرمان ميزة علي باقي المدن فهي تلم شمل أقوام و شعوب و قبائل السودان في تناغم ووئام و سلام وهي كما يقال عنها (كرش الفيل) , و بقعة الإمام المهدي , ولا ابغي الحديث عن احتوائها الفنون و الأدب و الرياضة و السياسة فهذا معلوم و مشهود , و لكن احكي اليوم عن جانب آخر منها و هو عن أفراد فارقوا دنيا العقلاء و انخرطوا في عالم المجانين و ليس بطوعهم و لكن بغلبة أسباب الدنيا عليهم , و هناك مقولات عن الجنون منها قولهم (( الجنون فنون )) و ( الجن بداوى و كعبة الاندراوة ) و لست اعلم إلى الآن ما هي الاندراوة . هل تعلمها أنت ؟ و نحن في السودان نخلط بين الأمراض النفسية و العصبية و الجنون فكل مصاب بها مجنون (( و كله عند العرب صابون )) , و المجانين على أشكال و ألوان و كانوا يجولون و يصولون في امدرمان و بخاصة في شارع الموردة الرئيسي الذي يخترق المدينة من جنوبها إلى شمالها و تقع أسواقها الرئيسية على جانبيه .

أول هؤلاء المجانين هو الدخرى و هذا منطقة نشاطه كانت محصورة في المنطقة المسماة سوق الموية و تضم محلات جورج مشرقي و يوسف الفكي و السينما الوطنية و تراه نصف عار يلبس سروالا قصيرا و تخصصه الجنوني في تكسير الأحجار و تفتيتها على شارع الزلط و تراه منهمكا في هذا الأمر بهمه عاليه و بغل شديد و كأن بينه ثأرا و بين هذه الأحجار وهو بين الحين و الآخر يبرطم بكلام غير مفهوم وهو في عمله ذاك لا يحفل ولا يلقى بالا للسيارات و الناس , و إذا سرنا جنوبا بمحاذاة الشارع و جدنا رجلا جالسا بجانب البوابة الغربية لجامع الخليفة مرتديا قميصا و رداء باليين متسخين , مادا ذراعيه و ماسكا بيديه غطاء علبة معدنية يحدق فيه و على شفتيه ابتسامة دائمة , انه كرضم و كنت عندما أمر به أناديه كرضم _ فيرفع بصره لحظة مبتسما و يعود إلى تحديقه في غطاء العلبة وهو لا يتحدث إلى أحد و يظل مقعيا في جلسته تلك إلى المغرب فيقوم و يذهب إلى منزل العم العقيد سليمان إبراهيم حيث ينام هناك ثم يعود في الصباح ليزاول حملقته في الغطاء المعدني الفارغ و هكذا دواليك في هذا النشاط .

و نستمر في السير جنوبا فنجد رجلا جالسا في ظل الضحى أو واقفا وهو نظيف الملابس البيضاء و العمامة و يحمل في يده كراسة و قلم و تسمعه يتكلم بكلمات و جمل إنجليزية و يسجل في كراسته أرقام السيارات المارة , و إذا انقضى ظل الضحى ذهب إلى السوق الكبير و دخل الدكاكين و اخذ ينظر إلى الأرفف و يسجل الأصناف في كراسته , وكنت مرة في محل ابو ستولو الإغريقي المجاور لمحل جورج مشرقي و دخل صاحبنا و بدون التحدث إلى أي أحد اخذ فى جرد الأرفف و تسجليها فى دفتره , و قال الخواجه ابو ستولو وهو يضحك : المفتش وصل , فهو معتاد أن يزوره كل يوم , و قيل عن هذا الرجل انه كان طالبا بالكلية الحربية و فجأة ذهب عقله ..

و نتابع المسيرة جنوبا فنجد عطا وهو نصف عار ككرضم و لكنه نظيف السروال و يحمل فى يده عصا أو ماسورة ينظم بها مرور السيارات مثله مثل عسكري المرور و يصيح و ينهر فى سائقي العربات و ميدان نشاطه يمتد من امدرمان إلى الخرطوم فقد وجدته ينظم المرور فى شارع الحرية بعد الكوبري . و عطا هذا ابن عائلة فى الموردة و له أوقات يكون فيها عاديا ككل الناس و قابلته مرة فى دكان أنور الفكي الخدرجى فى سوق الموردة وكان نظيفا حليق الذقن هادئا و كدت أن لا اعرفه , و حرفته هي البناء و قيل انه كان يعرش في سقف بيت في الثورة و فجأة قفز إلى الأرض و قام جاريا و منها و طار عقله , وغادرت السودان قبل عدة سنوات و تركته يزاول نشاطه في تنظيم حركة المرور .. و حكاية عطا تذكرني برجل آخر كان موظفا بالتلغراف حينما كان التلغراف بدائيا و تشغيله بالمفتاح في حركة رتيبة مزعجة (تك _تك_ترك_ترك) وفي انغماس ذلك الموظف في التشغيل توقف فجأة _ أيضا _ واعتلي تربيزة المكتب و صاح في زملائه : اسمعوا ! أنا نبي الله عيسي و من يومها (فكت منه) ..

و موظف آخر سابق تراه بجانب حديقة الموردة يذرع الشارع من الجانبين منتفخ الجيوب و في كل جيب يحشر أي ورقة يلقاها علي الأرض و كأنه سلة مهملات متحركة و في بعض الاحيان تراه جالسا يكتب في كراسة و يكلم نفسه , و هو في الغالب نظيف الملابس و هو أيضا من عائلة محترمة في الموردة .

و نرجع إلى السوق الكبير حيث تركنا الدخري و انهماكه في تكسير الأحجار فقد كان هناك شاب يعمل عربجي و دخل في دورة تصوف و دروشة و كان صديقا للحلاق علوب , رحمه الله, و دكانه في السينما الوطنية بأمدرمان و قابلت العربجي هناك و هو يفتي في الدين , ثم رأيته بعد ذلك و أظنه زاد جرعة الدروشة وهو يحمل راية بيضاء كتب عليها الشهادتين و هو يهرول تارة و يمشي تارة أخرى و هو يصيح (لا اله إلا الله) ..

و يأبي الجنس اللطيف أن يترك ساحة الجنون لجنس الرجال و حدهم , فكانت هناك في الستينات من القرن الماضي امرأة اتخذت لها مسكنا من الخيش و الدلاقين تحت شجرة بالقرب من محطة الترام المقابلة لبلدية امدرمان , و كانت تتبادل الأحاديث مع العابرين و المنتظرين للترام , و بالطبع كانت كلها أحاديث (خارم بارم) , و للأسف استغل أحد أولاد الحرام غيبوبتها العقلية و حملت منه سفاحا , و اختفت بعد ذلك و أظن أن أحدا من ذوي القلوب الرحيمة ستر عليها و آواها ..

هذه عينات من مجانين امدرمان , و الشئ المشترك بينهم انهم كانوا غير مؤذيين للغير وكل واحد منهم عائش في دنياه الخاصة , و نسأل الله أن يلطف بأمثال هؤلاء الذين انفصموا من عالم الوعي و الفكر و هم كثيرون في عهد الإنقاذ فمنهم من فقد عقله و منهم من ركبه مرض نفسي أو عصبي , و قال لي صديق أن واحدا من الجن صرح قائلا ( والله شكيت في أنى جن لانه ناس الإنقاذ عايزين يجننوني أنا ذاتي ) .

هلال زاهر الساداتى

[email protected]