(الهادي آدم) ،الأديب و الشاعر و المربي

(الهادي آدم) ،الأديب و الشاعر و المربي


03-09-2004, 10:39 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1078868393&rn=1


Post: #1
Title: (الهادي آدم) ،الأديب و الشاعر و المربي
Author: عبداللهة الشقليني
Date: 03-09-2004, 10:39 PM
Parent: #0

( الهادي آدم ) ، الأديب
و الشاعر الفنان و المربي

نار متأججة فوق علم فاره ، يرفرف ، يغطي الفضاء أعلى سمائك و أنت تنظر ، إنه ( الهادي آدم ) .
اضرب كفّك على الخّد ، إنك لا تحلم !.
عرفناه مُعلِّماً و مربِّياً وقفنا جميعاً إجلالاً لمقدمه . للعلم و للعلماء روائح فوّاحة ، تسبقهم .
نحن في الصف الرابع الثانوي ، الأخير قبل الجامعة. الصف نيّف و أربعون طالباً. الوقت قبل العاشرة من ذات صباح . من شُعبة اللغة العربية ، قدم ( الهادي ) لتدريس النقد الأدبي في مادة اللغة العربية . المقرر ، كتيب من سلسلة اقرأ المصرية المشهورة ، التي تيسر لك أن تطالع الثمار اليانعة من شجرة الأدب الباســــقة ، و أنت تدفع الثمن الزهيد .
( خاتمة المطاف ) لمحمود عباس العقاد ، هو مقرر ذلك العام . أشــار( المعلم ) بيده يُمنة ، و جلسنا . تبسم هو ، و حيّانا، و عَرّفنا بنفسه ، بالقليل الموجز ، ثم تمنى علينا عاما طيبا مُخضّرا و وعدنا بالنجاح المتميّز.
بدأنا نُعرِّف أنفسنا :ــ
إبراهيم الباقر من ( بانت ) ، بُرعي إبراهيم من ( الفتيحاب ) ، عمر عثمان من ( حي العرب ) ، ابن عمر من ( بانت ) ، هاشم كثيري مــــــن ( الهاشماب ) ، حيدر عُليش من ( ود البصير) ، عبد الرافع سليمان ، أحمد شامي................... جميعنا ، بمن فيهم رفاق العمر الجميل . المدرسة : ( المؤتمر الثانوية ) بأمدرمان . اسم فوّاح بالوطنية الأولى .
قِف ! ، و خُذ حذرك , أنك في مطلع حُكم عسكري جديد على السودان ، إذ نحن في خريف العام 1969.
كتب الزمان علينا أن يكون الأديب الفنان ، ( الهادي آدم ) هو من يلقي علينا الدرس . إنك تدخل ملكوت اللغة العربية ، في محرابها . أنت لا تقف أمام راهب في كنيسة على أطراف القُرى ، بل تجلس في محفـــل ( الكرادلة ) . يقف أمامك من خطّ اسمه في سجِل اللغة الأديبة شاعراً في ديوانها البهي .كُنّا نعبث باللؤلؤ و المرجان ، و نحسبهما حِجارة . نتسلق كُثيباً يمتد و نلعب ، و لم نكنُ نحسب أننا نتسلق ( عرفات ) المؤمنة ، بالصاعدين عليها . يا للنعيم !
يقف أمامنا و نحنُ الجلوس !
يقرأ لنا بيت الشِعر ، يسقيك سلسبيل الفصاحة النَضِر . ينثر درره من النفيس . يُخرج الحرف العربي من الكلام ، يرقُص أمامنا ، عِزة و كرامة و خُيلاء . كِتاب العقاد يحكي سيرة العِشق و العشاق . ندخل معه الدروب الشائكة . هذا النهر الملائكي الجارف ، يتلألأ حيوية وزُخرُفاً . أنت على الشط ، ترقب النجائب المخضّبة بالحناء ، عليها الطنافس و الديباج .........تنطلق بلا فرسانها ، تسبح في الهواء الطلق .
كان ( المعلم ) يخاف علينا الانزلاق في لُجّة العشق ، فنحن في مُقتبل العُمر ، في سن النضج ، أو نُقبل عليها . سنوات الإزهار و الجموح . لا يتسع صدرك ، يُسبقك الانفعال . تُنزل سيفك على الطازج و المتحجِر . تكسر سيفك ، و كُنت تحسب أنك تمرّنه . قرّب ( المعلم ) إلينا المحبة الإنسانية الناضجة . يعُب لنا من رحــــــــــيق( العقاد ) و يُخمِّر لنا عنابا لنسكر من خمر اللغة ، لذة الشاربين .
تعلمنا ماذا يعني الهجر، و الحرمان ، و الغَيرة . تعلمنا ماذا يعني الشوق و الوله. حتى الجُنون ، نعرف كيف نُوقد سراجاً ، نُضيء ليله الحالِك . عَلمنا كيف نعشق الدّابة وهي تقود شاعرنا إلى بقايا أوتاد الخيام ، و الأطلال التي هجرتها الرواحل .
افتتح ( المُعلم ) مغلف الكتاب ، الطبعة ، الناشر، ثم ( العقاد) . توقف عند المؤلِف ، و تحدث عن عصاميته ، و أوجز عن بعض كتبه : عبقرية محمد ، عبقرية الصديق ، عبقرية عثمان ، فاطمة الزهراء والفاطميون ، إبليس ، مطلع النور ، شاعر الغزل ..... ، و عرّج على مدرسة الديوان و المعارك الأدبية الطاحنة ، قبل أن يستفتح بالدرس . ضجّت الأنفُس بالحيرة ، و رويداً فُتحت أمامنا بوابات المعرفــــــة و تساقطت مغاليقــها . ( العقاد) ينثُر درره ، و ( المعلم ) يفرّقها علينا . تعلقنا بالنّص و اللغة و صاحب الكتاب و المعلم ، و بطل الحكاية .
عند الدرس ، تطوي الماضي و الحاضر ، فأنت برفقة (المعلم ) . أنت في صومعة العابد ، تتداخل الصور المرئية مع سجع الكُهّان . صدى الصوت يرتد عن البناء العتيق . يفوح من البلاغة و تراكيبها : الجِناس ، و الطِباق . تفوح المحسنات البديعية جمعاء . طرائق اللغة و الإغراء الذي تُمتعك به :
الجهر و الهمس . الشّدة و الرخاوة . إنها كائن حي ، تزرف الدمع معك ، و تخفف عليك أحزانك . تلتقط خيوط أفراحك . عند لقاء الأحبة ، تولي هي الأدبار ، و تتركك تتلعثم . من يسلس قيادها غير الشعراء ؟ ، فالشِعر ، أعذبه و أروعه ، أكذبه .
تعبر الرُدهة عند منتصف الطريق ، تَسمع صرير الأبواب العتيقة . النار تضرم على عيدان البُخور"الحَضرمي" . الروائح المعتقة ، تملأ رئتيك ، تُنقي عقلك مما يشغل . عندما تَطرف العين ، تحسبها انتقصت من زمانك و أنت أمام المشهد الفخم . ( المعلم ) بلغته السلسة ، و تصويره البديع . مفاتيح الصعود و الهبوط . القمم و الوديان . يده تسبح في الهواء : طائر النورس يرِّف بأجنحته فوقك ، تشتم ريح البحر ، و لا بحر . اختلطت المتون بالهوامش ، اختلطت لُغة (العقاد ) بلغة ( المعلم ) و شِعر المحتفى به . لك أن تعيش اللحظة المتصوِفة بكل تداعياتها ، فلا مكان للهرب .
ترك ( المعلم ) الدرس فجأة ، و أغراه سؤال أحدنا عن طرائق العقاد في الكتابة و التناول . قرأ مقطعاً كتبه العقاد في دراسة أخرى عن شاعر الغزل ، عمرو بن أبي ربيعه :ــ
{ قيل إن ابن أبي ربيعة ولد يوم مات ابن الخطاب " رضي الله عنه " فكان الناس يقولون بعد ذلك : أي حق رفع و أي باطــل وضع ! و يعجبون لمجيء هذا إلى الدنيا يوم ذهاب ذاك .
فأما أن حقاً عظيماً رفع من الدنيا يوم فارقها عمر بن الخطاب ، فذلك ما لا ريب فيه و لا خلاف . و أما أن باطلاً وضع يوم جاءها عمر بن أبي ربيعة ففيه ريب و فيه خلاف . و نحن لا يعنينا أن يتفق المختلفون على نصيب ابن أبي ربيعة من الحق و الباطل ، فليكُن له منهما ما يشاء و يشاء المختلفون . و إنما يعنينا أن يستحق الدراسة الأدبية أو لا يستحقها . و هو موضوع لا يختلف عليه الدارسون ، لأن ابن أبي ربيعة و لا ريب ظاهرة أدبية ، و ظاهرة نفسية قليلة النظير في الآداب العربية ، و حقه في الدراسة كحق جميع الشعراء المعروفين بهبة الفن و صدق التعبير . و انه لفي الطليعة الملحوظة من هؤلاء . و تاريخ شاعرنا وجيز في حساب الحوادث و السنين ، فافرض ما شئت من سنتين بينهما ديوان شعر ، فذلك أهم تاريخ له بين سنة الميلاد و سنة الوفاة ! } .
انتهى ما خطه ( العقاد ) .
( المعلم ) يُفصّل ، دخل البُحيرة الساكنة ، فتكسرت أمواج اللغة : المنطق عند العقاد ، أوجه المعارك التي تصطرع أفكارها ، و أسهب. كيف يصوغ الأديب البينة ، و يمسك يدك عبر الخطوات بثبات الواثق . لا يبعدك عن الحقائق بالالتفاف عليها ، و لا يأخذك بالخديعة البلاغية الماكرة . اختار الرجل وضوح الرأي ، وتسلسل القرائن ، و الإضاءة الجهيرة في مواضع الضباب ، و حري بنا جميعاً أن نتّبع نهجه .
أغفل (المعلم ) الدرس مرة ثانية ، و انتقل إلى حالنا و رأى أن يمس مواضع الألم الخفي لدينا ، ونحن نسبح في لُجّة سحره النبيل . أفقنا على صوته :ــ
ـــ هذه هي سنوات الإطلاق ، و الحيوات الخلاّقة ، لا الحصار الذي أنتم فيه . هذا العام تحددون مستقبلكم ! ، انه لا شك مُجحف في حق نشأتكم ، و ظلم بيِّن .
أحسسنا بالتقدير لرأيه المتفرد ، فقد مس الوجع . غريب علينا المدخل النفسي التربوي ، فقد تجاوز المألوف . أزاح الحواجز السميكة بيننا، فالمعتاد هو هبوط السلطة الأبوية ، علينا من كل حدبٍ و صوب ، تحثنا ببذل الجُهد ، و سياط على القفا إن لم نلتزم . جفاء المعاملة ، من علامات البداوة ، وتلك اعتدنا عليها . الجفاء يُخفي وراءه محبة أن نكون أفضل بسلاح العلم ، و تلك مكرمة توجب الشكر لمن يسّرها لنا ، إلا أن أمر ( المعلم ) جديد و غريب علينا . أقام جسراً من المودة ، إذ لمس مواضع الشكوى ، وتعقيد مرحلة المراهقة ، بضجيجها و حيويتها و إسرافها المُخِّل أحياناً .
المعرفة مع التدقيق ، والود ، والاحترام ، ثم المحبة ، هي وسائله الأقرب للتعليم و للتربية . يشركنا النقاش ، و يعشق الرأي الجسور . يفلح معنا " دونم" الأرض البِكر . يبذر جرعات المعرفة ، كأنه يتعلم مّنا زراعتها ، رُغم علمنا أنه ينزل لمرتبتنا ، على أمل أن نصعد برفقته العتبات تباعاً .
ـــ تعلموا من الحياة ومن الكتب فإنها المداخل الأقرب ، تهون الصِعاب . لا تتهيبوا الجديد . الدرس هُنا مفتاح لإعمال الذهن . التجويد و القراءة النقدية تفتح لكم أبواب المعرفة . نحن نبدأ معكم المشوار ، ندلكم على الطريق ، و أنتم أصحاب الشأن في مُقبل أيامكم . بيدكم أن تبنوا قصوراً و متاحف للغة ، يؤمها العامة و الخاصة .
* يا من علمتنا ، لك العُمر المديد . غرزت بيدك نبتة طيبة ، كنت تحسبها صغيرة بالأمس ، ولكنها اليوم فيحاء يانعة . بساط أخضر على مّد البصر ، و أنت فوقه قبة سماء زرقاء .
عبد الله الشقليني