في ذكرى 18 يناير لا تقاعس بعد إلغاء المادة 126 بقلم :محمد محمود

في ذكرى 18 يناير لا تقاعس بعد إلغاء المادة 126 بقلم :محمد محمود


01-17-2021, 06:20 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1610904024&rn=0


Post: #1
Title: في ذكرى 18 يناير لا تقاعس بعد إلغاء المادة 126 بقلم :محمد محمود
Author: محمد محمود
Date: 01-17-2021, 06:20 PM

05:20 PM January, 17 2021

سودانيز اون لاين
محمد محمود-UK
مكتبتى
رابط مختصر




1

كنا قد كتبنا في يوليو 2020 بمناسبة إلغاء المادة 126: "إن قرار الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بإلغاء المادة 126 واستبدالها بمادة تجرّم الوَلْغ التكفيري وإهدار دماء الآخرين قرار شجاع وتاريخي يعكس أعمق تجاوب مع أعمق شعار للثورة. إلا أن ما تحقّق ما هو إلا الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح. إن المسيرة لم تكتمل لأن مظاهر انتهاك حقوق الإنسان في القانون الجنائي وفي قوانين تمييزية أخرى وخاصة تلك المتعلّقة بالمرأة لم يتمّ إلغاؤها بالكامل. إن مسيرة الإصلاح القانوني الذي يعكس إرادة وطموحات الثورة السودانية لن تكتمل إلا عندما تتماشى كل قوانيننا وتنسجم مع المعايير العالمية لحقوق الإنسان بإلغاء كل العقوبات القاسية أو اللاإنسانية أو المُهِينة والمُحِطّة بكرامة الإنسان وبإلغاء كل أشكال التمييز."

ورغم إلغاء مادة الرِّدّة والتي جسّدت قانونيا أعلى مظهر للقهر الديني والفكري في تاريخنا المعاصر منذ الاستقلال، إلا أنه من السذاجة أن نعتقد أن هذا الإجراء، وعلى أهميته، قد حرّر السودان وبضربة واحدة من سطوة الهيمنة الدينية ودورها المعيق للتحوّل الديمقراطي وتكريس حقوق الإنسان. إن التقييم الموضوعي لثورة ديسمبر ينبئنا أنها ثورة لم تكتمل لأن قيادتها رضخت لمشاركة العسكريين وميليشيا الجنجويد وأن ميزان القوى الذي ولّده هذا الوضع المخيِّب للآمال بدأ ينقلب لصالح القوى المعادية للثورة منذ الصبيحة المأساوية لمجزرة الاعتصام لتزداد من يومها جرأةُ هجمتها ازديادا مطّردا (كما رأينا أخيرا في حادثة تعذيب وقتل الشاب الناشط بهاء الدين نوري والتي هي امتداد وانبعاث لجريمة المجزرة).

إن المغزى الكبير لمادة الرِّدّة أنها مثّلت الانتصار الأكبر للمشروع الإسلامي عندما فُرضت في عام 1991 وكانت رمزا لتلك الخِرْقة البالية التي حاول النظام العسكري الإسلامي أن يستر بها عُرْيه وهو يلهث باحثا عن الشرعية طيلة سنوات إمساكه بالسلطة. وبالمقابل فإن إلغاءها مثّل انتصارَ الشوق الأكبر للثورة: شوق الحرية — الحرية بان يؤمن السودانيون على كل المستويات بما يشاءون ويختارون وبأن يعبّروا عما يؤمنون به في بيئة لا ينتصب فيها سيفُ القهر.

ولقد كان من الواضح لكل الذين ثاروا أن ما يجسّد مطلب الحرية ويجعلها جزءا لا يتجزأ من واقعهم هو الديمقراطية. إلا أن هذا الإجماع على الديمقراطية لا زال يصطدم بما اصطدم به عقب ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة مارس / أبريل 1985 وهو ضرورة الإجماع أيضا على أن الديمقراطية لا تنفصل عن العلمانية أو فصل الدين عن الدولة والسياسة. فبينما أنه من الممكن أن توجد دولة علمانية من غير أن تكون ديمقراطية فإنه من غير الممكن أن توجد دولة ديمقراطية غير علمانية، وبالمقابل لا يمكن أن تكون هناك دولة دينية وديمقراطية في نفس الوقت.

2

هل من الممكن أن تقوم في السودان (والعالم الإسلامي) "ديمقراطية إسلامية" كما يدعو أتباع محمود محمد طه مثلا الذي ادّعى أن الإسلام يحمل في أحشائه رسالة ثانية أرجأها الله وادّخرها لمستقبل البشرية، وهي رسالة ديمقراطية (واشتراكية، بل وشيوعية)؟ لقد مات طه وهو يدافع عن مفهومه للرسالة الثانية ونظريته عن الصلاة ولابد من إدانه إعدامه كأكبر جريمة في تاريخ السودان المعاصر حتى الآن ضد حرية الفكر والتعبير، وهو ما يُكسب ذكرى الثامن عشر من يناير أهميتها الخاصة ليس لكل السودانيين فحسب وإنما أيضا لكل المدافعين عن حرية الفكر والتعبير، خاصة في العالم العربي والإسلامي. إلا أن إدانة إعدام طه والدفاع عن حقّه في حرية الفكر والتعبير لا يعني الاتفاق مع ما يقول ويدعو له، وفي الواقع أن الإيمان بحرية الفكر والتعبير يقتضي الاختلاف معه لأنه لم يكن من المفكرين المتّسقين فيما يتّصل بالحرية. كان طه من الداعين لدستور إسلامي، وإقامة دولة دينية، ومن المدافعين عن بعث عقوبات الحدود، وكان معاديا للعلمانية.

إن الديمقراطية التي ينشدها السودانيون وسيبنونها ويتمسّكون بها لن تكون مختلفة عن ديمقراطيات باقي العالم — إنها ستكون ديمقراطية علمانية لا يجتمع فيها الدين بالدولة والسياسة. والتحدّي المطروح أمام المسلمين اليوم هو نفس التحدي الذي واجهه المسيحيون بإزاء الديمقراطية — هل يقبلون بهذا الفصل ويتصالحون معه أم يعارضونه ويصرّون على فكرة ومؤسسة الدولة الدينية كما جسّدتها دولة المدينة؟ كان المسيحيون من الحكمة والنضج بحيث قبلوا بالخيار العلماني وانسحب الدين ليصبح أمر اعتقاد شخصي بين المؤمن وموضوع إيمانه. وفي واقع الأمر فإن التحدي العلماني اليوم يكاد يقتصر على المسلمين إذ أن باقي الأديان الكبرى والصغرى قد تصالحت مع العلمانية وقبلت بمبدأ الانسحاب لدائرة الخصوصية الإيمانية، باستثناء بعض الأصوات النشاز التي عادة ما ترتبط بفكر وحركات جماعات اليمين الديني المتطرّف أو اتجاهات الرجعية الاجتماعية.

3

عندما ارتكب جعفر نميري جريمته بإعدام طه لم تكن هناك مادة عن الرِّدّة في قانون العقوبات، وهذا هو ما حرص الإسلاميون على تلافيه بعد انقلابهم. وهكذا كانت مادة الرِّدّة (علاوة على بعث الإعدام رجما للزاني المتزوّج) هي إضافتهم التاريخية لعقوبات الحدود التي ورثوها من نظام نميري. وبقدرما تميّزت الحركة الإسلامية السودانية بحركية سياسية ذات نشاط وقدرة تنظيمية عالية إلا أنها افتقدت القدرة على خلق حركة فكرية موازية، وظلّ حسن الترابي هو منظّرها ووجهها الفكري رغم أن ما يلهبه لم يكن همُّ البحث عن الحقيقة وإنما شهوة اللهاث خلف السلطة وأن قدراته الحقيقية هي قدرات الحيلة والمكر والخديعة السياسية وما يرتبط بذلك من ميكافيلية لا تعبأ بالأخلاق.

وكنموذج على تَرِكة الترابي والإفلاس الفكري والأخلاقي للحركة الإسلامية وهي تحاول تبرير الرِّدّة دعنا نأخذ ما ورد في ورقة مجمع الفقه الإسلامي التي قُدِّمت في ورشة الحريات الدينية التي انعقدت في الخرطوم في يناير 2019 والتي نظّمتها اللجنة الوطنية للحريات الدينية بالتعاون مع مجلس الكنائس السوداني. ماذا كانت حجّة ورقة المجمع أمام جمهور يجمع سودانيين مسلمين ومسيحيين (كما هو الحال في مثل هذه التجمعات فإن الأديان السودانية المحلية عادة ما تكون غائبة، وهو أمر ينسجم مع أهواء المسيحيين والمسلمين الذين لا يعترفون أصلا بهذه الأديان)؟ كانت حجّة الورقة: "بعد أن أعطى الإسلام الإنسان كامل حريته في أن يختار دينه ويتعبّد به علانية كفرد أو في جماعة وحماه بموجب القانون، كذلك منعه من تغيير دينه لفلسفة وأسباب قررها الإسلام بعد أن نصّ على منع الرِّدّة والرجوع عن الإسلام والخروج عنه نظر للرِّدّة لا على مفهوم ديني تعبّدي إنما على أنها خيانة وجريمة ضد الوطن ونظام الوطن تخلّ بأمنه وسلامته وتشيع فيه الفوضى ... " وهكذا وبعد أن تأخذ الورقة باليمين ما أعطته باليسار فيما يتعلّق بالحرية الدينية فإن قصارى ما تفعله لتبرير الرِّدّة أن تركل الحجّة الدينية التي تضع الدين في المركز لتستبدلها بحجّة "علمانية" تضع "الوطن" في المركز. ولكن وعندما نضع في اعتبارنا أن هذا الوطن متعدِّد الأديان فإن الحجّة تنهار وتتهشّم في الحال لأنها تقول لمواطني السودان: إن ترك المواطن المسلم دينه وأصبح مسيحيا مثلا فإن هذا يمثّل "خيانة وجريمة ضد الوطن"، أما إن خرج المواطن المسيحي من دينه وأصبح مسلما فإن هذا فعلٌ مشروع وقانوني.

4

ربما يقول قائل: ولكن ألم ينته كل هذا بإلغاء المادة 126؟ ونقول: إن أخطر شيء على التحوّل الديمقراطي هو أن نركن للاطمئنان أن أعداء الديمقراطية قد تنازلوا عن خطابهم وأن الحركة الإسلامية قد تخلّت عن إيمانها بضرورة تجريم الرِّدّة وأنها قد أسقطت سلاحها التكفيري الذي يشكّل خطرا حقيقيا على سلامة المواطنين وحياتهم، بل وسلامة الوطن. صحيح أن المادة 126 قد أُلغيت إلا أن الحركة الإسلامية التي بعثتها من أحشاء التاريخ لا زالت حيّة ومنظّمة ونشطة وعازمة على العودة للسلطة، وأنها لن تكف وهي خارج السلطة عن نشر الرعب والترهيب التكفيري، وهو ما نشهده الآن في حملتها الشرسة والمتشنّجة ضد الثورة التعليمية الهادئة والعميقة التي يقودها العالِم والتربوي الجليل البروفيسر محمد الأمين التوم.

إن الحركة الإسلامية ستظل دوما معادية للديمقراطية والعلمانية وستظلّ دوما مناوئة لحرية الفكر والتعبير لأنها تدرك أن الوعي الذي من الممكن أن تنشره هذه الحرية يعني نهايتها. وليس أمام المكافحين من أجل التغيير إلا الإمساك بنار قضيتهم لأنها قضية المستقبل الذي ظلّ سواد السودانيين يحلمون به ويهتفون له في كل ثوراتهم.



محمد محمود أستاذ سابق في كلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأيان.

[email protected]