شرق السودان.. سيناريو دارفور بقلم:د. ياسر محجوب الحسين

شرق السودان.. سيناريو دارفور بقلم:د. ياسر محجوب الحسين


10-17-2020, 00:22 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1602890551&rn=0


Post: #1
Title: شرق السودان.. سيناريو دارفور بقلم:د. ياسر محجوب الحسين
Author: د. ياسر محجوب الحسين
Date: 10-17-2020, 00:22 AM

00:22 AM October, 16 2020

سودانيز اون لاين
د. ياسر محجوب الحسين-UK
مكتبتى
رابط مختصر




أمواج ناعمة




في تصاعد جديد وخطير للتوترات القبلية في شرق السودان قتل 8 أشخاص بينهم عنصر أمني، بينما جرح العشرات في اشتباكات بين محتجين قبليين وقوات الأمن في مدينة كسلا، مما دعا الحكومة السودانية لفرض حالة الطوارئ في المدينة لمدة 3 أيام. وجاء ذلك إثر إقالة والي ولاية كسلا الذي لم يستطع تسلم مهام عمله منذ تعيينه في يوليو الماضي ضمن 18 واليا مدنيا خلفا للولاة العسكريين الذين ظلوا يديرون أمر الولايات عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019.
وواجه تعيين والي كسلا الجديد احتجاجات عنيفة من مكون قبلي (الهدندوة) رأى أحقيته بالمنصب وأن الوالي المعين يمثل قبيلة منافسة (البني عامر) التي لها تداخل مع دولة مجاورة. هذه الاحتجاجات منعت الوالي الجديد من ممارسة عمله في عاصمة الولاية وظل يمارس مهامه من الخرطوم، وانصاعت الحكومة المركزية في نهاية الأمر وأقالت الوالي، بيد أن مناصريه (البني عامر) ثاروا غاضبين مما أسفر عن صدامات نهاية الأسبوع المنصرم. لكن القلق وسط الكثيرين يتصاعد من تكرار الأحداث الدامية التي شهدها في السابق إقليم دارفور.

المحير أنه حسب اتفاق السلام الأخير الموقع في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان يفترض إقالة جميع الولاة الذين لم يمض ِ على تعيينهم بضعة أشهر، فما هي دواعي استعجال إقالة والي كسلا طالما لم تستجب الحكومة لإقالته في حينه مع بداية الاحتجاجات عليه؟!. فالإقالة في هذا السياق قد لا تثير غضب المؤيدين وتشفي صدور المعارضين.

ولعل نقص الدربة السياسية للحاكمين اليوم في التعاطي مع فسيفساء التكوينات القبلية أسهم في إشعال الحريق؛ فلو أن الوالي المـُقال كان قد تحلى بالمسؤولية السياسية والوطنية واستقال طائعا مختارا ربما خفف من غضبة عشيرته، فالإقالة في هذه الأجواء المشحونة تبدو استفزازا لقبيلة الوالي وانتصارا للمكون القبلي الآخر، ولطالما لم يتحل بذلك، فلماذا لم ينصحه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ويطلب منه ذلك طوعا؟!.. لكن الرجل نفسه بدا غاضبا وأقرب لتحريض مناصريه عقب إقالته من خلال ما ينشره عبر حسابه على الفيس بوك، فقد اتهم الشرطة بإطلاق الرصاص على المتظاهرين.

ولأن المحتجين لهم امتداد قبلي داخل دولة مجاورة، فيخشى من تأثير خارجي يستغل الظرف الأمني الحساس وقد يكون التأثير عسكريا أو على الأقل استخباراتيا وعليه لابد للدولة من الانتباه والتيقظ ومعالجة الأمر بحكمة، فليس هناك اليوم أولى من استتباب الأمن والاستقرار في تلك الربوع.

إن اشتعال الشرق ينذر بكارثة أمنية وسياسية واقتصادية في آن واحد؛ فقد أدت الاحتجاجات إلى غلق الطرق الرئيسية المؤدية إلى موانئ التصدير على البحر الأحمر، وقد تفوق آثار ذلك تداعيات أزمة دارفور، إذ يمثل الشرق مجالا لوجستيا وإستراتيجيا مهما، فضلا عن أنه قريب جدا من المركز إذا ما قورن بدارفور.

ويبدو بالإضافة إلى ضعف خبرة السلطة الحاكمة وضعف قبضتها أن ثمة اختراقات وأيادٍ مخابراتية متعددة تشعل الأوضاع في شرق البلاد خدمة لأجندات خارجية، مما يستدعي من الحكومة المركزية إغلاق الحدود مع الدول المجاورة ذات الصلة بالأزمة وبسط الهيمنة والسيادة على الإقليم بحسم.

تاريخيا بنت التنظيمات الجهوية والقبلية لاسيما في الشرق خطابها السياسي على المطالب التنموية ذات العلاقة بنطاقها الجغرافي؛ فقد ركز مؤتمر البجا في ميثاقه في نهاية خمسينيات القرن الماضي على ضرورة استغلال ثروات شرق السودان المعدنية بالتصنيع، وتطبيق الحكم اللامركزي، وإقامة المستشفيات وإقامة السدود والآبار الجوفية، وأن كل مهن شرق السودان حق مكتسب لقبائل البجا. والمطالبة ببقاء معلمي البجا في شرق السودان، فضلا عن مطالب المشاركة في السلطة المركزية. وكان ذلك بعد ما عرف بثورة أكتوبر 1964.

بيد أن العبث السياسي في الشأن القبلي ألبس أبناء القبائل الوادعة شيعا يذيق بعضهم بأس بعض، ومن عجائب تطورات صراع قبيلتين في العهد السابق بغرب البلاد أن أصدرت مجموعة من أبناء إحداهما منشورا تم توزيعه في إحدى مدن دارفور، يعلن تهجير جميع أبناء القبيلة الأخرى المقيمين بالمدينة على أساس انتقائي عنصري وعرقي وهدد المنشور بقتل كل أبناء القبيلة الأخرى الذين لا يغادرون المدينة الضعين (24) ساعة كمهلة.

إن مصطلح "القبِيلة" يشير إلى كيان اجتماعي حامل للقيم ورابط بين الجماعة يوفر لها الحماية والمصالح؛ أما مصطلح "القبَلية" فينطوي على عصبية، بحيث يصبح مدلول هُـوية، ليعطي عضو القبيلة إحساساً وإدراكاً بأنها تشكل له هُوية تطغى على الهُويات الأخرى بما فيها الهُوية الوطنية. وعملت التدخلات السياسية على تسييس القبيلة، مما أحدث استقطابا سياسيا وتوظيفا للصراع القبلي في اتجاهات عديدة. ولسوء الحظ فقد أخذ الصراع القبلي يتحول من نزاع اجتماعي إلى صراع مسلح يتجاوز طبيعة النزاع القبلي التقليدي، الذي يتم احتواؤه عادة بالأعراف القبلية أو ما يعرف في السودان بنظام الإدارة الأهلية.

لقد غدت القبيلة لا هي منظمة حديثة بقواعدها الحديثة، ولا هي بتقليدية بتقاليدها التليدة، فغابت عنها مميزات الطرفين. والنتيجة المركبة فوضى في النشاط السياسي المليء بالأحزاب السياسية القبلية وبالقبائل الحزبية. فالتدخل السياسي أدى إلى إضعاف ميكانيزمات المجتمع فانهارت عناصر الضبط الاجتماعي. وكل ذلك يحدث في ظل مناخ سياسي مضطرب بدأ ينتشر فيه السلاح بشكل فوضوي. وفي حالة الجيش فإن الأمر يكون كارثيا. وإن لم يبد حتى الآن شيء للعيان من تمكن فيروس القبلية في هذه المؤسسة الخطيرة، إلا أن ما يعرف بقوات الدعم السريع على سبيل المثال قد نشأت على أساس قبلي.

النتيجة العاصفة أن السودان أصبح دولة تفتقر إلى سلطة وطنية تحقق التوافق الوطني وتبسط هيبة الدولة وبالضرورة توفر حقوق وأمن مكوناته القبلية المختلفة. ولن تتحقق أركان السلام الاجتماعي ما لم تحسن الدولة إدارة التعدد الاثني والعرقي والديني بما يزيل البغض والعداء بين أفراد المجتمع. ولا يتحقق السلام والأمن بعقد اتفاقات يعود ريعها لأمراء الحرب.