مليونيرات في دولة السودان الفقيرة بقلم:د.أمل الكردفاني

مليونيرات في دولة السودان الفقيرة بقلم:د.أمل الكردفاني


09-15-2020, 06:38 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1600191486&rn=0


Post: #1
Title: مليونيرات في دولة السودان الفقيرة بقلم:د.أمل الكردفاني
Author: أمل الكردفاني
Date: 09-15-2020, 06:38 PM

06:38 PM September, 15 2020

سودانيز اون لاين
أمل الكردفاني-القاهرة-مصر
مكتبتى
رابط مختصر




ما أكثر الشعراء في السودان، لو ركلتَ حجراً لرأيت قصيدة منقوشة عليه، والشعر في ثقافات الفقر، هشاشة لا تجدر، ولذا امتنع صديقي الجعلي عن ارسال قصيدته لي رغم أنني حين قرأت مطلعها قبل حذفه لها وجدتها رائعة جداً، حذفها ورفض إرسالها مرة أخرى، رغم أنني قرأت معها لحنها، وقررت تلحينها وإرسالها لصديق موسيقار ليؤديها عزفاً وغناءً.
يبدو أن جرح الصديق من الشاكوش الذي مضت عليه قرابة عشرة أعوام كان أكبر من أن يُسمى شاكوشاً؛ بل تسونامي. فرحم الله أمثالي، ممن (يتاوقون) للمشوشوين من على البعد. والعاقل من إتعظ بمأساة غيره.
إن الشعوب التي يكثر فيها الشعر، يكثر فيها الأسى، والأسى يورث تلك الشعوب هشاشة في الإرادة وضعفاً في الهمة. ولذلك يجب أن يتوقف هذا الشعب عن كتابة الشعر. فالشعر أماني، والأماني لا تطعم خبزاً.
وهذا الفقر الذي تعاني منه هذه الرقعة الجغرافية المستقطعة من شتات زوايا خارطة القارة الإفريقية المجعدة، ببؤسها، وعجفها، وشعرها، وكيل إنسانها بعشرات المكاييل، بالحق حيناً وبالباطل أحياناً ما أكثرها، هذه الرقعة تجمع شتات قوم لا يجمعهم إلا طيف ثقافة مضطربة السباحة في سماوات العقول والألسنة، تحمل في أحشائها تناقضات لا سبيل إلى تفكيكها بأدوات المناهج المعتمدة سوسيولوجياً، فنرى في قلب الفقر، أغنياء غنىً فاحشاً، لا يخشون الفقر، وهذا ليس بمستجد، فقد قرأت أن ضابطاً بريطانياً قد اعتور الإفلاس يده، فطلب من السيد عبد الرحمن سلفة يردها له بعد حين، قال الضابط أن السيد عبد الرحمن، بعث له بعطية تكفيه هو وأبناءه وأحفاده. فأصبح مواطناً من إحدى مستعمرات بريطانيا، يمنح هدية بالملايين لضابط من مواطني دولة الاستعمار، وفي هذا تناقض لا يمكن فهمه إلا عندما نغوص في هذه الشعوب التي تتوزع في قلب الإفتقار، ومع ذلك تعيش وتنفق قلة منهم إنفاق من لا يخشى الفقر.
(اقترب دوري في صف العيش وأنا اكتب، لذلك سأتوقف وأعود مرة أخرى)
نعود..
فليس من الغريب، أن يكون سعر المنزل في السودان بملايين الدولارات، وسعر منزل مماثل له في فرنسا بمائة وخمسين ألف دولار. فهذا بلد التناقضات، وليس من المستغرب أن يكون هناك مليونيرات (بالدولار) في دولة تعد من أقل الدول انتاجاً. فولاية بافاريا الألمانية التي تنتج قرابة ستمائة مليار دولار سنويا، ليس بها الكثير من المليونيرات كما هو الحال هنا في بلد لا ينتج إلا القضض.
وضعف إنتاج الدولة، في مقابل وجود مليونيرات، يفوض القول بأن هذه الملايين الدولارية، لم تأتِ عن كسب مشروع، وإنما عبر السلفقة، والسلفقة (الفهلوة) ليست دخول السوق (المعروف)، فالسوق نفسه ليس بكل ذلك الحجم الذي يمكن أن يقارن بسوق في دولة واحدة من دول شمال أفريقيا مثل المغرب مثلاً.
ليس من الصعب أن تسمع عن أحدهم وقد اشترى منزلا بتسع مليون دولار، والدولة (كلها) تسعى لذات هذا المبلغ لتوفير الأدوية الأساسية والمنقذة للحياة. ففي هذا البلد ترى العجب العجاب. لا علاقة لذلك بالكيزان ولا بالجن الأحمر، فالجن الأحمر نفسه حفرة حفرة وجلس فيها منذهلاً من البشر السوداني وقرر أن يتبوخ بوخة مرقة فقط.
هناك دائماً رابط أساسي بين المال والحكومة. فالحكم هو أحد أهم اسباب الغنى، ومعه (عدم الحكم) أيضاً اي المعارضة ورفع السلاح. إن من حملوا السلاح أيضاً أصبحوا مليونيرات. وأهلهم تنكسر ارواحهم تحت مطارق المرض والفقر والموت بسبب الحرب.
إن السودان باختصار دولة لها سوقها الخاص، فهناك سوق السُّلطة، وهناك سوق الحرب، وهناك سوق التهريب، وسوق المخدرات وسوق الدين وسوق اللا دين وسوق استغلال كل كارثة،...
الشعب الذي يبحث عن الغنى السريع بلا انتاج حقيقي، ليس عليه أن ينتظر سوى غنى الأفراد لا غنى الدولة.
إن هذه النزعة الفردية، متعملقة منذ أقرب تاريخ يمكننا ملاحظة كثافته الدرامية. وهذه النزعة، هي التي تجعل نظر الفرد، محصور في ذاته، مهما تغزل في دولة لا يرى منها موطناً إلا حيث يمكنه أن يثبت لقبيله تفوقه عليهم بالمال والولد. لذلك، فهو وطن شعر الغزل، ليس غزلا في النساء، وإنما لفراغ روحي، في ذاته، فهو شعر فقر الذات لا امتلائها، بكائيات، لا على امرأة، ولكن على إحساس بفقد ما، نقص خفي. وهو ما لا تجده إلا عند الشعوب المفككة، التي تتنازعها روابط واهنة، تتعملق فيها جماعية زائفة، لذلك لا ترى تلك الجماعية إلا في أحداث الموت، إذ يهرعون لدفن الميت كما لو كان ملكاً، ويشكرونه ولو كان طاغية، وهم في الحياة شحيحون عن شكر بعضهم البعض، ويرون في ذلك مسبة، وتشجيعاً لشخص على الدخول في سوق التنافس، وحتى عندما يمدحون يقولون "ما يجي يوم شكرك" اي الموت. فعند الموت فقط (حيث لا مجال لمنافسة الموتى) يأتي الشكر، ولو قيض للموتى أن يعودوا من موتهم، لامتنع أحياؤهم حتى عن شكر موتاهم. فكم هذه الثقافة بائسة رمادية، وشحيحة كشح مناخ هذه الأرض. وهذه الفردانية تدفع بالتنافس إلى حدوده القصوى، إذ يتبادلون القتل فيما بينهم كلما تبدلت السلطة وانتُزعت من يد ليد. فالسلطة هي مصدر الثروة الأوَّل، إذ يفتقرون للإنتاج الحقيقي، الذي يؤهل لبلوغ كل ذلك الغنى، ثم أن السلطة نفسها تعين على قضاء حوائج المتزلفين والمتملقين، وصغار المهرباتية وبائعي المخدرات، وتجار الدين وتجار اللا دين حيث يتعاضدون جميعهم ، فيسهل كل واحد منهم للآخر ما يسهل، ويتبادلون كرة المصالح فيما بينهم، لا يأبهون لمن يقفون على مبعدة وهم يرتعشون من الجوع والفاقة والمرض. فإن اغتنى منهم من اغتنى، لم يسعَ بماله لملء فراغه الذاتي، بل عمق ذلك الفراغ فعمد للإستعراض، بتعدد الزيجات، وتعدد القصور، وإطالة العمامة ما استطاع سبيلا. فتنتفخ الأوداج وتحمر الخدود وتستدير الكروش، ويتهيطون على سياراتهم الفارهة كما لو كانوا بناة حضارة، أو صانعي تاريخ، أو على الأقل منتجين إنتاجاً يرفع فيه الناس أليهم أبصارهم. ولكنك لا تجد من ريح ذلك شيئاً، فلا حضارة بنوا، ولا إنتاجاً انتجوا، ولا حتى تعاليم أخلاقية وضعوا. بل استغرقتهم روح رعاة الماشية، الذين ترى الواحد منهم يملك آلاف الرؤوس منها، ولا يملك مسكة من علم أو حكمة أو بصيرة. فحياته في ماشيته، وحياة ماشيته فيه. يزيد عددها فتزيده غبطة امتلاء زائف.
وفي هذا المجتمع الفردي، يتعمق الشعور بالنقص، فتنتشر أمرأضه في الذهن والجسد، كالعنصرية، والبطش، وكلاهما مرضين نابعين من الشعور بسيادة مفقودة، واحتقار للذات، تنعكس سلوكاً عدوانياً، بغيضاً تجاه الآخر المختلف. فيرتبك الذهن، وسنرى في وسائل التواصل أثراً كثيراً من ذلك، فهناك مقالات ضد جميع السحنات والألوان، والجهات، والتوجهات. فالحرب حرب الكل ضد الكل، وإن تغطت على أرض الواقع بالإبتسامات الصفراء المخاتلة، والتحايا الكؤود. واما ما يتبقى مما يعتمل في الاذهان من ظُلل النحس، كالتحاسد المتفشي وغيره، فقد تحدثوا فيه هم أكثر مما تحدثوا عن أبنائهم.
وهذه النزعة إلى الإتجار بالبؤس والإغتناء السريع على حساب الآخرين، رسخت الكسل عن اتباع سنة البشر، وهي الصبر، إذا لا يصبر فرد على حرفة من الحرف، فلا تجد فيهم من يجيد تحسين عمله، وتجويد إنتاجه إن أنتج، فهم في حضيض الخبرات والمعارف مقارنة بباقي شعوب الأرض. فاللهاث وراء الغنى السريع، ومقارنة الذات بالآخرين، تثبط عزيمة الاجتهاد، وتضعف روح المثابرة، ولذلك يندر أن تجد أصحاب مشاريع عظيمة. ولو تتبعنا تاريخ هذه الشعوب، لما وجدنا منهم فرداً يملك مشروع حياة. بل وحتى الأثرياء، لا يملكون عقلية الرأسماليين حول العالم. فالرأسمالية التي رفعت العلوم والمعارف في أمريكا، لا وجود لها هنا. فمبلغ الثري هنا، أن يشتري قصيدة ويشتري لحنها، ثم ينشرها باسمه ليحصل على سمعة ليست فيه. ومبلغه أن يترأس نادي كرة قدم، فتزداد كرة القدم فشلاً على فشلها المزمن. لا نجد رأسماليين يدعمون البحث العلمي، ولا رأسماليين يوفرون منحاً دراسية، ولا رأسماليين، يخلقون مناخاً صحياً للآداب والفنون. إن أوروبا لم تبلغ عصر النهضة إلا عندما نهضت أسر برجوازية على أمر العلوم والفنون والآداب، كأسرة مديتشي،، وغونزاغا، وفسكونتي.. فدعمت جاليليو ودافنشي وغيرهما من العلماء والفنانين والأدباء..
أما الأثرياء هنا، فلا يدعمون إلا تجار الأقمشة، الذين يوفرون لهم أفضل أنواع أقمشة الجلاليب، وتدخل عمائمهم موسوعة جنيز في الطول.
ها نحن نشاهد الفقراء وقد جرف الطوفان منازلهم الهشة، ولو كان الأثرياء أغنياء العقل مثل الأسر الأوروبية، لبنوا مدناً جديدة ببنايات صغيرة رخيصة ومتينة أو دعموا أبحاث هندسة البناء بأدوات رخيصة ومتينة. وكان ذلك منهم دعماً للشعب. ولكنهم لا يتلاومون، فلا الفقير يلوم الغني ولا الغني يلوم نفسه، لأن ثقافتهم واحدة، وروحهم الشحيحة واحدة، ونزعتهم الفردية واحدة، وآمالهم في الثراء السريع واحدة، وحلمهم بالغنى بلا إنتاج حقيقي واحد عند الجميع فأنى يتلاومون، وأنى ينهون بعضهم عن قول الإفك وأكل السحت. وهم منهم سواء بسواء.
ولذلك فتاريخ هذه الشعوب الضالة ليس أكثر من تكرار للوقائع والأحداث، وإن تنوعت ظلال الألوان؛ إلا أن اللوحة الكئيبة (هي هي)، لا تتبدل ولا تتغير. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وله الأمر من قبل ومن بعد وعنده أم الكتاب.