سلام على مستر قريفيث في العالمين؛ د. ابوذر الغفاري بشير عبدالحبيب بقلم عبدالله عثمان

سلام على مستر قريفيث في العالمين؛ د. ابوذر الغفاري بشير عبدالحبيب بقلم عبدالله عثمان


08-01-2020, 05:18 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1596255521&rn=0


Post: #1
Title: سلام على مستر قريفيث في العالمين؛ د. ابوذر الغفاري بشير عبدالحبيب بقلم عبدالله عثمان
Author: عبدالله عثمان
Date: 08-01-2020, 05:18 AM

05:18 AM July, 31 2020

سودانيز اون لاين
عبدالله عثمان -
مكتبتى
رابط مختصر




في ذكرى رحيله الرابعة والثلاثين
سلام على مستر قريفيث، مؤسس بخت الرضا وأحد أعمدة التعليم الحديث في السودان

د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

يصادف هذه الأيام مرور الذكرى الرابعة والثلاثين على رحيل السيد ف. ل. قريفيث، الذي انتقل عن دنيانا في 31 يوليو 1986. وهو أحد من وضعوا أسس التعليم الحديث في السودان، وبرحيله انطوت صفحة بها كثير من انسانية زينت بعضاً من القبح الذي غطى وجه الحكم الثنائي في السودان، ووسمت أيامه بجوانب شديدة الاشراق، رغم الإنكار الذي يبديه الكثيرون لهذه الجوانب، وتصوير كل أعمال الاستعمار على أنها رجس من عمل الشيطان، أو أن بخت الرضا اكتسبت هالة مقدسة غير مستحقة. ويحوم في مخيلتي طيف السيد قريفيث كلما قرأت أبيات الشاعر الملهم إدريس جماع وهي تنثر الغزل حول بخت الرضا:
يا معهداً علم الجهاد بكفه اليمنى
و باليسرى مصابيح الهدى
كنز البلاد هنا، هنا أبناؤها،
و العاملون غداً إذا حق الفدا
أبناؤك الغر الكرام شهرتهم
فى وجه عادية الزمان مهندا
خفّت إليك وفوضت لك أمرهم،
لما رأت فيك الحكيم المرشدا
ما كنت موقوفاً علينا وحدنا،
فالنيل أنت و كلنا يشكو الصدى
يعود الفضل للسيد قريفيث في إرساء الأسس الأولى لمعهد التربية بخت الرضا، صاحب القدح المعلى في تدريب معلمي المدارس الابتدائية والثانوية العامة، وفق نظم التدريب الرفيعة، ووضع لبنات إعداد المناهج التعليمية وتجريبها والتأكد من صلاحيتها ثم تعميمها على المدارس في كافة أنحاء السودان. فقد عمل في اللجنة التي خططت لإنشاء بخت الرضا، كما شغل منصب أول عميد للمعهد منذ افتتاحه عام 1934 واستمر في هذا المنصب حتى تاريخ مغادرته السودان عام 1950. وقد امتازت تجربة معهد بخت الرضا بأنها قامت على قواعد مدروسة وعلى نظام بذل فيه الفكر والعرق، والاقتباس من التجارب التعليمية المميزة والممارسات العالمية ذات الجودة العالية، فاكتسب المعهد نضجه وفعاليته وتأثيره ليس فقط على الحياة السودانية وإنما امتد إلى خارج الحدود المحلية. وهذا الاسهام المميز الذي قدمه السيد قريفيث، يجعل له يد سالفة على كل النظام التعليمي في السودان، ودين على جمهور المتعلمين الذين تأثروا به.
لا شك أن معهد التربية بخت الرضا صناعة استعمارية، فقد أسسته الإدارة البريطانية في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وهدفت من ورائه إلى تحقيق أهداف ترتبط بمصالح الاستعمار في المقام الأول، شأنه في ذلك شأن كل مؤسسات الاستعمار التي أقامها الحكم الثنائي في السودان، مثل شبكة السكة حديد التي ربطت بين أجزاء البلاد المترامية ووحدتها منذ بداية الغزو، ومشروع الجزيرة الذي ظلت تعتمد عليه البلاد طوال سنين في اقتصادها، والخطوط الجوية السودانية التي تعد من أوائل الخطوط على المستوى الافريقي والعربي، إلا أن هذه النشأة الاستعمارية لبخت الرضا لا تسقط عنها أثرها المميز في النهوض بحركة التعليم الأولي في السودان، وانتقاله من إلى تعليم نظامي حديث عوضاً عن التعليم الأهلي الذي كان يقوم في غالبه على الخلاوي وما تقدمه من تعليم ديني يدور حول الحفظ وتعلم مبادئ العقيدة والفقه وبعضاً من أساسيات الرياضيات واللغة العربية، إضافة لبعض المدارس التي تنحصر في مناطق حضرية قليلة. وقد وقفت البلاد بموجب الطاقات المتدفقة التي قدمتها بخت الرضا على أعتاب عهد جديد، وانتقلت في نظامها التعليمي إلى طور مختلف.
جاء السيد قريفيث إلى السودان بعد سنوات أربع قضاها في رحاب كلية سانت أندروز بالهند، اطلع خلالها على ممارسات المدارس الريفية في عدد من المناطق الهندية من بينها شانكنتيكان مسقط رأس شاعر الهند العظيم طاغور، وكانت هذه السنوات كافية أن تلقى في روعه بعض مفاهيم الفلسفة الهندية التي أسهم فيها كل من غاندي وطاغور، وأفكارها عن التعليم الأولي ذي الطابع الريفي، وأن تغذي مفاهيمه بأطروحاتها حول مدارس القرية والاهتمام بالحرف والتقنيات المحلية. وقد كتب السيد قريفيث نفسه في الرواية التي دونها حول عمله في التعليم في السودان، وتفضلت بروفسير فدوى عبد الرحمن على طه بنقلها إلى اللغة العربية تحت عنوان (تجربة في التعليم) أقر فيها بأن هذه الممارسات التي اطلع عليها في الهند كانت ملهمة ودافعة للاستفادة منها في عمله في بخت الرضا. ويمثل السيد قريفيث بهذا المعنى رابطاً بين الفكرة الغاندوية التي طبقتها الهند في المدارس الريفية والحرفية ونظام التعليم في السودان. ويتعين أن يحمل هذا القول على جانبه الايجابي، فالتجربة الغاندوية اتسمت بروح مسالمة وتركت هذه الروح أثرها على كل المتعلمين في السودان، وساهمت في إبعادهم إلى حد كبير عن الجنوح للعنف في الحياة العامة.
أثبت الواقع العملي بمرور الزمن أن التجارب التي عمل عليها السيد قريفيث، والفكرة التي قامت عليها فلسفة بخت الرضا كانت الأصوب، وكان يمكن أن تكون مساهمة فاعلة من الخروج من الأزمات التي لازمت العهد الوطني، فقد هدفت إلى أن ينشأ التعليم بناء على التدريب الريفي وتطوير الأدوات المحلية ودمج الوسائل الحديثة بالمتطلبات المحلية، وكان يمكن أن يفتح هذا النوع من التعليم مستويات من الأعمال المحلية المتطورة على نسق التجربة الهندية، إلا أن الفكرة لم تأخذ حيزاً مناسباً من التجربة، كما أنها وجدت معارضة من جمهور المتعلمين في تلك الفترة، فقد حملها كثيرون منهم على محمل الخوف من أفكار الاستعمار الجديدة ، ونعاها السيد قريفيث مبكراً إذ ذكر أنهم فشلوا في إلهام مدرس المرحلة الأولية المرتقب بحب الحياة الريفية وتحسينها وأرجع ذلك أن المناخ النفسي لدى السودانيين لم يكن مبالياً إن لم يكن ضد الفكرة. وارتد وضع التعليم بعد فترة ليست طويلة من تأسيس بخت الرضا إلى تعليم أكاديمي صرف يهدف إلى تخريج (أفندية) يتطلعون إلى الوظيفة الحكومية والعمل في القطاع العام أكثر من تمليكهم القدرات على تطوير الامكانات المحلية.
يحمد للسيد قريفث أنه لم يسع إلى أن يجعل من تجربة بخت الرضا مهمة استعمارية صرفة، وإنما هجينا تمازجت فيه الخبرة الآتية من وراء الحدود مع الاسهام الوطني المحلي، ويلاحظ أن طيفاً واسعاً من المعلمين الذين لعبوا دوراً مؤثراً في إقامة دعائم بخت الرضا، أدلوا أيضاً بسهم وافر في العهد الوطني بعد رحيل الاستعمار، مما يدل على قوة المشاركة الوطنية ورجالها الذين ساهموا في إنشاء معهد التربية بخت الرضا، ومتانة الخبرة التي اكتسبوها من العمل مع السيد قريفيث، ومن بينهم عبد الرحمن على طه الذي تولى حقيبة لوزارة المعارف بعد الاستقلال، ونصر الحاج علي الذي عمل أول مدير لجامعة الخرطوم، ومكي عباس الذي عمل مديراً لمشروع الجزيرة، وجمال محمد أحمد الذي تولى وزارة الخارجية وغيرهم من الأعلام السودانيين الذي دفعت بهم بخت الرضا لساحات العمل العام.
كانت أهداف المناهج واضحة في ذهن السيد قريفيث وهي النظر إليه من حيث النشاط والتجربة التي يقوم بها الطالب أكثر من الكم المعرفي الذي سيتحصل عليه والمعلومات التي سيختزنها. وتبنى السيد قريفيث ما توصلت إليه اللجنة الاستشارية عن المدرسة الأولية في انجلترا وويلز، والتي أوصت بالتفكير في المنهج من حيث النشاط والتجربة أكثر من مقدار المعلومات التي سيختزنها الطالب. وقد اوضح السيد قريفيث هذه الرؤية في معرض انتقاده لتقرير أعده كبار المدرسين عن مناهج المدرسة الأولية بعد أربعة أعوام من افتتاح بخت الرضا، ونعى عليه أنه نحى إلى التركيز على الحصول على المعرفة أكثر من تطوير الأشخاص وتدريبهم على كيفية اكتساب المعرفة.
عاش السيد قريفيث تنازعاً نفسياً داخلياً ما بين أهداف التعليم الذي كانت تتوخاه الحكومة الاستعمارية خلال حقبة عمله في بخت الرضا، والدور الذي يؤمن أن على التعليم المساهمة به في خلق روح وطنية لدى المدرسين والطلاب. فعلى التحقيق كان على علم بدوره كممثل لحكومة استعمارية لها أهدافها الخاصة، لكنه في ذات الوقت أدرك بوضوح أن الروح المتقدة لدى المدرسين والطلاب تتطلب، كما ذكر في كتابه بعنوان تجربة في التعليم، أن يساهم التعليم في (تأمين معرفة كافية لتحرير القطر من الأجنبي والحصول على ما يخلق مساواة مع بقية دول العالم). وذهب في كتابه المذكور إلى مناصرة هذه الرغبة ورأي أن من الواجب تمكين المدرسين والطلاب من معرفة أن تعليمهم يهدف عن قصد في المساهمة في الأماني القومية. ويمكن تلمس إسهامه في هذه الروح الوطنية في عدد من الأعمال من أبرزها ما تضمنه مقرر الجغرافيا في السنة الثالثة الأولية، عن سبل كسب العيش في السودان والذي هدف إلى خلق شعور مشترك بين السودانيين بالتفاهم والوحدة والتنوع الثقافي والإثني. كما أدخل تجربة الجمعيات في المدارس وهي تجربة مميزة بحق، شهدت طرفاً منها عندما كنت طالباً بمدرسة الدويم الريفية. فقد كانت تقوم على توزيع الطلاب في عدد من الجمعيات يقومون على إدارتها وانتخاب رؤسائها ووضع ميزانياتها ومراجعتها باستمرار ومراجعة أداء القائمين عليها ومحاسبتهم بصورة نهائية في نهاية العام،وكل ذلك دون تدخل مباشر من الأساتذة إلا بما يضمن المسار الديمقراطي لعمل الجمعيات. وفي هذا السياق يقوم الطلاب بتعلم أرقى الممارسات الديمقراطية بما فيها المناقشة السلمية واستدعاء المسؤولين للنقاش، وإثارة نقاط النظام وسحب الثقة، وغيرها من الوسائل الديمقراطية.
ربما مد للسيد قريفيث السير في هذا الاتجاه شعوره الداخلي أن نهاية الاستعمار بعد منتصف الثلاثينات قد أصبحت مسألة وقت، فقد كان واعياً للتطورات التي كانت تحدث على الصعيد الحكم، وأن الشرعية السياسية للاستعمار آخذة في الأفول، بما في ذلك متابعته لنشأة الأحزاب التي تطورت وتبلورت أفكارها حول الاستقلال أو الاتحاد مع مصر، وقد عبر عن ذلك كثيراً في كتاباته.
خلال أقل من عقدين من الزمان من تاريخ انشائها احتلت بخت الرضا موقعاً مميزاً في مجال الخدمة التعليمية، ليس فقط على مستوى تأهيل وتدريب المعلمين ، وإنما تطور ذلك ليشمل مناشط أخرى اهتمت بها مثل تعليم الكبار وبرامج ازالة محو الامية للرجال والنساء على السواء، وامتدت جهود بخت الرضا لمجالات ثقافة الطفل فأنشأت مكتب النشر والذي هدف الى مد الأطفال بالمواد الثقافية المساعدة للعملية التعليمية وأصدر مجلة الصبيان وهي من أولى مجلات الاطفال على المستوى الاقليمي.
انتهت فترة عمل السيد قريفيث في بخت الرضا عام 1950 وغادر بعدها السودان إلى مصر مديراً لكلية فيكتوريا بالقاهرة، ثم تنقل بين عدد من المناطق حول العالم، ناقلاً خبرته في مجال التعليم، ومن بينها دول البحر الكاريبي وشرق أفريقيا ونيجريا وجنوب شرق آسيا. واستقر به المقام في نهاية المطاف محاضراً أولاً في شعبة التربية بكلية كيبل في المملكة المتحدة، وهي ذات الكلية التي تخرج منها عام 1923. وقد أنفق السيد قريفيث جهداً مقدراً في كتابة عدد من الكتب والأبحاث التعليمية، خلال فترته في بخت الرضا أو بعدها، وثق في بعضها تجربته في بخت الرضا، منها كتاب (تجربة في التعليم) ، وقد فصل فيه على نحو دقيق نشأة معهد التربية بخت الرضا والعمل الذي قام به خلال تلك الفترة، ومحطات النجاح والفشل في إرساء أساس المعهد. كما كتب أيضاً ابحاثاً حول مشكلات التعليم الريفي، والتخطيط التربوي، وغيرها من اتجاهات العلوم التربوية الحديثة.
حز في نفسي كثيراً وشق عليها حين زرت معهد التربية بخت الرضا العام الماضي، ولم أجد كوخ القش الصغير الذي كانت تحتفظ به بخت الرضا منذ ثلاثينات القرن الماضي رمزاً لبدايتها، وهو كوخ يعتقد أن السيد قريفيث كان يستخدمه أيام التأسيس الأولى لبخت الرضا، ويضم بعض متعلقاته، وعلمت أن الكوخ قد تمت إزالته. وأخال أن إزالة ذلك الكوخ هي بسبيل من فك الارتباط بين بخت الرضا وتاريخها الممتد، وطمس بصمات المؤسسين من الآباء الأوائل، وهو عمل يدل على طريقة تفكير لا تخلو من طفولية في التعامل مع موروثات التاريخ وتوثيق أحداثه.
--
عبدالله عثمان
وذو الشوق القديم وان تعزى مشوق حين يلقى العاشقينا