مغامرة في قصيدة سيرة لمحمد المهدي المجذوب بقلم د. قاسم نسيم حماد

مغامرة في قصيدة سيرة لمحمد المهدي المجذوب بقلم د. قاسم نسيم حماد


07-30-2020, 08:50 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1596138626&rn=0


Post: #1
Title: مغامرة في قصيدة سيرة لمحمد المهدي المجذوب بقلم د. قاسم نسيم حماد
Author: قاسم نسيم حماد حربة
Date: 07-30-2020, 08:50 PM

08:50 PM July, 30 2020

سودانيز اون لاين
قاسم نسيم حماد حربة-السودان
مكتبتى
رابط مختصر




لعل هذه القصيدة أوغل شعره في بحر ما عرف بتيار السودانوية، لكثرة ما حشده فيها من تقاليد أهل السودان وعاداتهم، وكثرة حشد المفردات العامية المعبرة عنها، هي قصيدة ترسم أهمَّ لوحات الحياة الشعبية في السودان، ألا وهي لوحة الزواج السوداني المتخم بالتفاصيل، المتضمن لعادات قديمة متوارثة ذات مضامين عدة، تحكيها وتحكي تفاصيلها، وما يعتور المناسبة من حكايات ومزح وإيناس ومواعدة، يَفْتَنُّ في إبراز تلكم التفاصيل المتضوعة بالعبق السوداني، حتى تفتأ تمثل أمام عينيك، فتكاد تتقرَّأ تعاريجها بلمس، وتتعبقها بشم، يقول:
البُنَيَّاتُ في ضرامِ الدَّلاليكِ تَسَتَّرْنَ فتنةً وانبهارا


من عيونٍ تلفتَ الكحلُ فيهنَّ وأصغى هُنيهةً ثم طارا



يرسم لنا المجذوب صورة المسرح حين رفع الستار، فالمشهد مشتعلٌ بصوت الدلاليك، ورقص البنات، فالعرف أنْ يستحيل بيت العروس إلى مهرجان عدة أيام قبل يوم العرس، والبنات استترن يرقصْنَّ في مكان خاص بهن، أو يمكن أن نفهم أيضاً أنهنَّ تَزَيئنَّ بأزياء تستر بعضاً من مفاتنهن وتبدي بعضاً، إيغالاً في فتنة الرائي وإبهاراً له حين يرى ما يَسْترنَّ من مفاتنهن، وعيونهنَّ المثقلات بالكحل قلقات لا يسكنَّ على موضع واحد إلَّا لِيَجُلنَّ إلى موضع آخر، كناية عن القلق الذي يجلبه توجس المستقبل، أو عن حياءهن المذبوح بين طلاقة مفاتن النفس وقيد قمع التقاليد، والدلاليك جمع دلوكة، ولعلها عربية من الفعل دلَّك، والمقصود هنا نوع من أنواع الطبول، ولعلنا نلمح ثمة ربطاً بين معنى الفعل وعمل الدلوكة.
نحنُ جِئنا إليكِ يا أمَّها الليلةَ بالزينِ والعَديلِ المُنقَّى


نحنُ جِئْناكِ حَامِلِينَ جَرِيْدَ النخْلِ فألاً على اخضرارٍ ورِزْقا



هذه هي صورة مقدم السيرة، والغنوة التراثية التي ذكرها (أم العريس جينا ليكي) لم يغيِّر في كلماتها شيء، سوى التقديم والتأخير، لتطويع الوزن، ثم صوَّر مشهد مقدم السيرة والرجال يحملون جريد النخل يباشرون به فألاً ورزقا.
العَذارى ألوانُهن الرقيقاتُ نباتُ الظِّلالِ شَفَّ وحارا




رَأمتْه الخدورُ ينتظرُ الموسمَ حتى يشعَ نوراً ونارا





يَنْبري الطبلُ يَنْفُضُ الهَزَجَ الفَيْنانَ طيراً تَفَرُّقاً واشْتِجارا


موكبٌ من مواكبِ الفرحِ المُخْتالِ عصراً في شاطئِ النيل سارا


الجمالُ الغريرُ يسفرُ غَفْلانَ فلم نَنْسَ في الزِّحامِ الجَوارا






لقد أكسب التزام العذارى الخدور انتظاراً لموسم العُرس الذي دأب الناس على إقامته في أوقات معلومة-أكسب ألوانهن يَنْعَةً فعادت تشع، ثم يصف عمل الطبل منطلقاً إيذاناً ببدء المسير إلى النيل بالكلمة (ينفض) فالفاء حرف انفتاح والضاد حرف استطالة واستعلاء وتفشي، فيعطي لفظ الكلمة معنى الانتشار وامتلاء المكان بالهزج، وهذا الموكب عادة سودانية قديمة تقترن بالأفراح والأتراح، ولعل خلفها سببٌ ديني في أديان السودان القديمة، ورغم هذا الجمال المتدلي السافر، ورغم الزحام والتلاصق، فإن قيمة الجوار تحرسه، فلا تُضار نساؤه.


ومشى بالبخورِ مَنْ جَعَلَ الخدمةَ في الحيِّ نخوةً وابْتِدَارا


حافياً مُسْرعَ الخُطى باسمَ النجدةِ حيَّا حفاوةً وابتشارا


وعجوزٍ تحمَّستْ حَشَدتْ شعْراً تعالى حماسةً وافتخارا


قلَّبتْ صوتها تأمَّلَ أمجاداً قُدامى فَرَقَّ حيناً وثارا




هنا يدير فرشاته ليرسم لوحة أخرى من لوحات العرس السوداني الشعبية العديدة، ويبدأ برسم لوحة لشخصية لا يخلو منه المجتمع السوداني، فهي موجودة في كل مكان وزمان سوداني، هي شخصية الرجل الهميم في المجتمع، "ضو القبيلة"، يبادر إلى تصدر كل المواقف، وتوكل إليه صعيب المهام، وقد التقط صورته هنا وهو يجول بالمبخرة يشتت البخور على الجميع، كفاً لعيون الحاسدين، وجلباً للبركة، يمشي وهو حافي القدمين تواضعاً وجاهزية للخدمة، كما يُعرِّف ذلك العرف السوداني، مسرع الخطوات، عنواناً للجد، مبتسماً عنواناً للسماحة، حَفِيَّاً بالناس مستبشراً بهم كرماً وبشرا، وصورة أخرى لحكامةٍ تَشْعر تقطعه ارتجالاً، تُحَمِّس الناس وتفتخر بالبطولة والأمجاد، تُرَقِّق صوتها حيناً وتفخمه حيناً آخر، إنها صورة كربونية لتفاصيل العرس السوداني رائعة.
رَفَعَتْ فوق مَنكبٍ طبلَها الصّيْدحَ تحت الأكفِ يخفق خَفْقا


يَتَغنى لأنفسٍ إنْ تشهَّين طلبنَ الحلال قَسْماً وحقَّا


وتَشِيل البناتُ صَفْقَاً مع الطبلِ ورمْقاً من العيون ورَشْقا


وغزالٍ مُشاغبٍ أصْلحَ الهِدْمَ أراني في غفلةِ الناسِ طَوْقا





هنا صورة أخرى من صور العرس، تخالطها ممارسات غزلية لطيفة في ساحات العرس موطنها الدائم، فالصورة هي صورة مغنية قد رفعت طبلها (دلوكتها) على كتفها وهي تضربها وتغني لأنفس عفيفات لا يُشْبِعْنَ رغباتهن إلا حلالاً، والبنات يقمن بترديد مقاطع معلومة مع المغنية، ويصفقن ليملأن الإيقاع قوةً وحلاوة، ومع عملهن هذا وغنائهن يرسلن أعينهن إلى الرجال رشقا، ثم يصف بعض الممارسات الغزلية وهي أنَّ إحداهن قد قامت وكأنها تصلح هدمها فأرته في غفلة من الناس بعض مفاتنها تودداً.
تتصدى حمامةٌ كشفتْ رأساً وزافت بصدرها مستطارا


شَلَّخوها حتى تُضِئ فأضمرْتُ حناناً لأمها واعتذارا




حَجَبُوها وليَّنوا العيشَ ما كان حجابُ الكَنِينِ قيداً ورِقا




يصف المجذوب رقصة الحمامة بلقطة خاطفة-وهي أشهر رقصات نساء السودان- وكان أفرد لها قصيدة كاملة في غير هذا الموضع- لكنَّه أراد ذكرها هنا لمحاً لأنه لا يخلو عرس منها، فما أراد إفاتة لوحة من لوحات العرس وصوره التي تأتي تباعاً، والراقصة هنا تكشف عن رأسها، وربما تقوم بعض النساء بستره في غير ما رسمته اللوحة، ستراً يسهل انكشافه لِتُري الرائين شيئاً من فتنتها، لكن في الصورة المرسومة لنا كانت الفتاة كاشفة عن رأسها، وتُبرز صدرها وما حوى من نهد بازخ بتقويس ظهرها إلى الخلف، فتتجسم فيها صورة الحمامة، فيشخص الصدر عالياً، ولم ينس الشاعر أن يحيل أعيننا إلى وجهها لنرى الشلوخ التي حفرت أخاديداً تُضيئ وجهها وتُكسبه جمال التعاريج، والشلوخ عادة سودانية عتيدة، تنبي عن ثقافة جمال ذاك العهد وضروراته الاجتماعية.
وفي البيت الأخير من المقطع يتحدث عن عادة شعبية سودانية وهي (حبس العروس)، إذ تحبس العروس قبل الزواج بفترة فيتشوق لها زوجها، وتوضع في الدخان، فينضُر لونها، وتزكو رائحتها، ويلين جسمها فلا تخدم، ويوفر لحمها ويكتنز بالإطعام الخاص، فأكرم بقيد الحبس من قيد.
وهوَي عاشقٌ وطارَ وأهوى السوطُ رعْداً بمنكبيه وبَرقا


يتحدى عقوبةَ الصبرِ فالحرمان أمسى من السياط أشَقَّا


مُهرةٌ حرةٌ وتنتظرُ الفارسَ يحمي حَريمَها والذمارا


وأتاهُ العبيرُ من خَمَلِ الشبالِ حَيَّاهُ جَهْرةً لا سرَارا




هنا ينتقل ليرسم لوحة البطان المعروف في السودان، فهي عادة إصهار البطولة والفخار، فهذا العاشق قد ثبت لضرب الصوت غير آبه بأَلَمِه، عسى أن يجد رضاً من فتاته، تلك المهرة الجموح التي لا تُنِيل قلبها إلا لفارس قمينٍ بحماية حرْمتها، فإذا بها قد منحته شبَّالها المضمخ بالعطر، جهرة أمام الناس، فالعرف جرى على استحسان ذلك الفعل، الذي يتم بلا مواعدة أو حوار. والشَّبَّال أن يميل الرجل نحو الفتاة عند رقصها فتميل إليه وتلفحه بشعرها، وهي كلمة غير عربية، ومعناها لا تسعه كلمة واحدة كما نرى، إنما هو وصف لعملية كاملة هي التي ذكرناها، فلا سبيل إلى ترجمتها، فدخلت المعجم العربي السوداني، وهذا حال اللغة العربية تستوعب من أخريات تسد بها حاجتها بعد أن تقعدها بتصريفها، ولعل قول أرنست فيتشر الزاعم بأن لكل شاعر شوقاً إلى لغة أصيلة يصلح في هذا المقام شاهدا