الغرق في كوز مويه بقلم سيد أحمد حسن بتيك

الغرق في كوز مويه بقلم سيد أحمد حسن بتيك


05-23-2020, 04:58 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1590206324&rn=0


Post: #1
Title: الغرق في كوز مويه بقلم سيد أحمد حسن بتيك
Author: سيد أحمد حسن بتيك
Date: 05-23-2020, 04:58 AM

04:58 AM May, 22 2020

سودانيز اون لاين
سيد أحمد حسن بتيك-sudan
مكتبتى
رابط مختصر




كان ذكياً يشع منه نبوغ عندما التحق بجامعة الخرطوم في سبعينيات القرن الماضي، وما أدراك ما جامعة الخرطوم في تلك الحقبة؟ وحسبها من رفعةٍ وسموٍ أن عامة الناس كانوا يطلقون عليها جميلة ومستحيلة. فكيف لا تكون جميلة وصيتها الأكاديمي زاع في أقطار الأرض الأربعة، وكيف لا تكون مستحيلة والالتحاق بها لا يتم إلا بشق الأنفس (يا ترى هل يعود ذا الزمن؟). ثم ما أدراك ما نبوغ صاحبنا؟ وحسبه من نبوغ أنه كان أول دفعته في عام من الأعوام ودخل الجميلة والمستحيلة مرفوع الرأس والدرجة.
قدم صاحبنا للجامعة بقليل متاع وقليل تدين - تماما كما الحال في الريف السوداني- وفوق هذا وذاك حمل بين جوانحه نفساً سودانية أصيلة مشحونة بكريم خصالٍ ومسكنةٍ لا تخطئها العين رغم أن تلك المسكنة كانت تخفي بين طياتها روحاً تواقةً لمستقبلٍ واعدٍ ومشرقٍ. فلا عجب أن ظل صاحبنا مجتهداً في دراسته قبل وأثناء الجامعة ومواظباً لفروض دينه على قلتها.
ولأن طلاب الريف بصورة عامة والمبرزون منهم بصورة خاصة كانوا في تلك الأيام صيداً سميناً يترقبه دعاة اليمين واليسارعلى حدٍ سواء، نشر أصحاب الاسلام السياسي شباك التجنيد بأسرع من ذوي الرايات الحمر تجاه صاحبنا، مستفيدين من تعدد مواقع صيدهم مقارنة بمواقع اليسار. ولعل عزوف كوادر اليسار - إلا من قلة من عضويتهم - عن المساجد خشية أن تلتصق بهم صفة الرجعية - وهي صفة لا تليق بأدعياء التقدم- جعلتهم يرجحون من حيث لا يدرون كفة الاسلام السياسي بعد أن كانوا هم الأكثر باعاً في عالم السياسة.
وللحقيقة والتاريخ فقد باءت كل محاولات تجنيد صاحبنا عبر المسجد بالفشل مما فتح الباب لخطة صيد بديلة، وما أكثر البدائل عند جماعة الاسلام السياسي صاحبة أساليب التجنيد المتنوعة والامكانيات المهولة فضلاً عن المقدرة الفائقة لاستغلال الصداقة والحمية الدينية عند أهل الريف. ويبدو أن تلك الخطط سرية لا يعلمها كثير من الناس وقد جربوا بعضها معي شخصيا لكنهم عادوا بخفي حنين.
في نهاية المطاف استطاعت حركة الاسلام السياسي أن تحكم الخناق حول صاحبنا حتى أحالت بطاقته التعريفية لأخيكم في الله واستبدلت عبارات الشكر والثناء عنده في كل صغيرة وكبيرة بجزاكم الله خيرا. أما كيف صار صاحبنا عضوا في الحركة - أو كوزاً كما كان يحلو لنا تسميتهم- فذاك علمه عند الله وعند من نجحوا في تجنيده، لكن المعلوم عندنا أن مشاركته في أنشطة الحركة الاسلامية وانشغاله عن هدفه الأول والمتمثل في غدٍ مشرق لأسرةٍ فقيرة بذلت ما في وسعها - وربما فوق ما في وسعها- لتعليم ابنها ربما نجم عن احلال وابدال في علاقة القربي عند صاحبنا (إنه الاسلام أمي وأبي). ولو توقف الأمر عند هذا التبني الخاطئ في دين سمح يرفض التبني بوضوح (أدعوهم لأبائهم) لهان الأمر شيئا ما لكنهم أحكموا سياجهم حول صاحبنا حتى مضى حثيثا في محراب الاسلام السياسي وخلع جلباب الدنيا جملة واحدة (لا لدنيا قد عملنا).
وهكذا أقبل صاحبنا على ساحات الوغي دون علمنا وعلم الكثيرين وفعل ذلك مراراً وتكراراً رغم حاجة العشيرة الماسة لدعمه من ناحية وحاجة الوطن لتخصصه من ناحية ثانية، وتلك لعمري واحدة من خطايا الاسلاميين التي أوردتهم المهالك وخلفت وراءهم وطناً ينزف دماً وفقراً وبؤساً رغم ثراء موارده وكريم خصال أهله.
ومرت السنوات ونحن غارقون في دوامة العمل بعد أن ودعنا أيام الدراسة الحلوة وانقطعت بنا السبل في مناكب الأرض. ورغم أن الزمن دوار - كما يقولون- لم تتقاطع طرقنا في هذه البسيطة... ربما لاختلاف تخصصاتنا أو لاختلاف مشاربنا السياسية أو الاثنين معاً، من يدري؟ وظل التباعد حالنا لسنوات عدة حتى طرق مسامعنا ذات يومٍ حزين دوي المدافع وصيحات الجهاد في جنوب السودان عبر تلفزيون السودان وكنا وقتها في زمرة المغتربين. وكم كانت دهشتي حائرة وممزوجة بغضب عندما شاهدت صاحبنا الوديع وهو يجول في أحراش الجنوب وبندقية كلاشنكوف تتدلى من رقبته. مرت تلك للحظات وأنا أمعن النظر في مالات السياسة وما جرته من خراب على الوطن وفي البال عشرات الأسئلة التي لم أجد لها جواباً. وكيف لا أمعن النظروقد تملكني حزن عميق لواقعنا المرير والبائس مقارنة بأيامنا الحبلي عندما كنا طلاباً نرنو لغدٍ مشرقٍ. وتأملت في الكيفية التي صار بها الاغتراب عن الوطن أو الاقتتال في أحراش الجنوب وجهة كوادرعالية التأهيل من جراء سياسات خاطئة.
ورغم الحزن الدفين في دواخلي إلا أنني والحق يقال أكبرت في صاحبنا اخلاصه لما آمن به وإن ضل الطريق في تقديرنا... هو مخلص لا شك في ذلك عندي وتلك سجية لازمته وعرفتها عنه منذ أن كنا طلاباً في المرحلة الثانوية، وإلا فأخبرني بربك كيف ظل هذا الشخص المتميز في أخلاقه وعلمه ضيفا دائما على ساحات الوغي مخلفاً وراءه ذرية ضعافاً ووظيفةً مرموقةً ومركزاً اجتماعياً رفيعاً؟ ذاك أمر لا يتأتي إلا لمن اتصف بدرجة عالية من الصدق، ولقد صدق مع نفسه كل الصدق ولو كان ضحيةً لمن استغلوا تواضع تدينه لتحقيق مكاسب سياسية أورثت البلاد فيما بعد خراباً قل نظيره.
وبقية القصة حزينة ونهاياتها معروفة. وهل كنت – يا حفظك الله ورعاك- تتوقع نصراً مبيناً وعوداً حميداً لشبابٍ مثل صاحبنا لا دراية لهم بشئون الحرب وأهوالها؟ لقد رحل صاحبنا بمعية جيش جرار من شباب الوطن في وقت كان السودان في أمس الحاجة لعلمهم وخبرتهم ورحل معهم جزء عزيز من الوطن. ومن يدري لعل حكمة الله اقتضت أن يوارى جثمان الصادقين في الجنوب حتى لا يكونوا شهوداً على عظم الفساد الذي ضرب البلاد بعد رحيلهم.
وهكذا ذهب صاحبنا للقاء ربه قبل سنوات مضت وترحمنا عليه وتأسفنا لرحيله المبكر رغم علمنا وإيماننا بأن لكل أجل كتاب، ولعل مبعث الأسف ومرده نابع من فقدنا لعالمٍ جليلٍ كنا في أمس الحاجة لخدماته. ترى لماذا أغرق أصحاب نظرية الدين بحر صاحبنا في كوز؟ ، ومن يا ترى من أصحاب الكرامات الحقيقة -لا كرامات الزيف والضلال والأشجار والقرود- يخبر روح صاحبنا التواقة لعدالة الاسلام وسماحته بأن ثورة شبابية قد اجتاحت البلاد كلها وهي تهتف كل كوز ندوسو دوس؟
رحمة الله تغشي قبرك – الذي لا نعرف له موقعا- والخزي والعار لكل من تاجر بدمك ودينك وصار بين عشية وضحاها من أكابر الأثرياء... وكيف لا يكون الخزي والهوان عاقبة أمرهم وديننا الحنيف يعلنها داوية: كل لحمٍ نبت من حرام فالنار أولى به.