عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير

عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير


09-28-2019, 06:09 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=500&msg=1569647378&rn=0


Post: #1
Title: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 09-28-2019, 06:09 AM

06:09 AM September, 28 2019

سودانيز اون لاين
osama elkhawad-Monterey,california,USA
مكتبتى
رابط مختصر





Quote: القاهرة – "الحياة" | منذ 3 سبتمبر 2019 / 03:50

عن سلسلة "الإبداع العربي" التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويترأس تحريرها الشاعر سمير درويش، صدرت الرواية الثانية للقاص والروائي السوداني عبدالحميد البرنس بعنوان "غرفة التقدميّ الأخير".


الرواية (كما يوحي اسمها) تتعرض لمآل "القوى التقدميّة واليساريّة في المنطقة"، من تمزقات وتشوهات فرديّة وجماعيّة، بعد أن كانت هذه القوى، منذ نشأة وتبلور ما كان يعرف بالمد الثوريّ لحركات التحرر الاجتماعي والسياسي، وحتى قبيل نكسة العام 1967، تتصدر المشهد بوعود "راديكاليّة للتغيير".

يرصد البرنس، عبر بطل الرواية حامد عثمان، كيف انتهى ذلك التيار العارم إلى محض بِرك صغيرة متقطّعة، ربما ترتعش حتى من ظلالها إزاء واقع حيّ لا يني يتشكل خارج تصوراتها تلك للعالم.

يضع البرنس في السياق أبطاله مثل الحسناء "مها الخاتم" والكادر الخطابي "جمال جعفر"، وأعمى يصر دوماً على القيام بدور قيادي داخل التنظيم الذي يحافظ على سريته في القاهرة كمنفى أمام ما يمكن تسميته "مصهر الأفكار والمواقف"، مثل الجنس والدين والمنفى ربما، حيث تبرز محاولات البقاء المستميتة في عالم "تحكمه الحاجة لا القيم"، كذلك يبدو الجوع بارزاً في السياق، كما القسوة والغدر والخيانة واغتيال الشخصيّة، وحتى نصاعة ذلك التضامن الرفاقيّ بالغ الندرة.


وتبدو فرادة اللغة في سياق الرواية عبر تفاوت مستوياتها وتراوحها، ما بين الجد والهزل والشعريّ واليوميّ والفكريّ المجرد والعيانيّ الملموس، فضلاً عن تداخل الأزمنة ودور الذاكرة في إعادة تركيب المشاهد والمسارات.

تطرح الرواية الكثير من القضايا، في محاولة لعقل ما حدث على الصعيدين الخاص والعام، فمثلاً كيف انتهى المطاف بمها الخاتم من محاولة إنقاذ العالم إلى محاولة إنقاذ نفسها، وقد فقدت غشاء البكارة، تحت تأثير فخ حجبته جاذبية كلمات كالحرية والتمرد والثورة.

وصدر من قبل لعبدالحميد البرنس الذي يعمل ويقيم في أستراليا ثلاث مجموعات قصصية هي : "ملف داخل كومبيوتر محمول"، "مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة" و"تداعيات في بلاد بعيدة"، وأصدر رواية واحدة عنوانها "السادة الرئيس القرد".

Post: #2
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: Osman Musa
Date: 09-28-2019, 06:53 AM
Parent: #1

حياك الله اخينا الشاعر والناقد الكبير الخواض
والتحية والمباركات عبرك موصولة للكاتب التقدمي الكبير مستر برنس .
وارجو ان تحدثنا عن الرواية .

Post: #3
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 09-29-2019, 06:54 PM
Parent: #2

أهلاً يا عثمان ياصديق

غرفة التقدمي الاخير ،هي إعادة كتابة لما نشره البرنس هنا في عام 2005 ، ويمكنك قراءة مقتطفات منها في هذا المنبر عبر البحث في الارشيف.

لم أقرأ الكتابة الأخيرة للرواية، لكنني علّقت على بعض ما نُشر هنا في بوست كتبه البرنس بعنوان "الأمنجي السابق وصاحبه الخليفة بدري ما بدري" :
Quote: حقيقة كان عنوان البوست بالنسبة لي مرتبطا ببعض المعارك الاسفيرية هنا,ابتداء من الامنجي وانتهاء ب"
Quote: ما بدري يا خليفة"
التي تعرض لها البرنس في احد البوستات المعروفة,
لكن المسالة مختلفة تماما .بل ان البرنس نجح في شد القراء الى البوست بشكل درامي محكم ومدروس وخلاق.
وكانت البداية قوية جدا في ما هي تمهد للحديث عن سيرة الامنجي.
هنالك تناص ما يكشف عن عمق البداية.فمشهد ولادة البصاص الكبير ,يحيلنا الى مشهد ولادة الزين في عرس الزين:
Quote: "يولد الاطفال فيستقبلون الحياة بالصريخ,هذا هو المعروف ولكن يروى ان الزين والعهدة على امه والنساء اللائي حضرن ولادتها,اول ما مس الارض ,انفجر ضاحكا.وظل هكذا طول حياته.

اما البصاص الكبير ,فكان عكس الزين:
Quote: آنذاك، أي فور خروجه من بطن أمه، لم يسمع له ضحك أوبكاء، وتيقن الجميع أنه ولد ميتا، لو لا أنه أخذ يقلب عينيه الواسعتين في الناس والأشياء من حوله،


فهو قد ولد بصاصا,وهذا يحيلنا الى بصاصي الغيطاني في الزيني بركات.لكن البصاص هنا يلعب دورين مزدوجين :
دور الطفل البصاص ,ذي الشهوة التي خرقت ما قال به فرويد عن الشهوة الجنسية عند الطفل.
و الدور الثاني هو انه سيطور ذلك البص في اتجاه "امنجي",
او يبدو لي ان هذا ما سيكون
*الزين كان رسولا للمحبة,
والبصاص الكبير سيكون ,كما نتوقع رسولا للانظمة القمعية

شكرا برنس على هذه البداية القوية حقا
وفي انتظار بقية السرد,
ارقد عافية
المشاء

Post: #4
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 09-30-2019, 01:35 AM
Parent: #3

Quote: “غرفة التقدمي الأخيرة” جديد الروائي السوداني عبدالحميد البرنس

طرحت الهيئة المصرية العامة للكتاب عن سلسلة الإبداع العربي الرواية الثانية للقاص والروائي السوداني عبد الحميد البرنس بعنوان “غرفة التقدميّ الأخير”. وتعرض الرواية لما صار إليه مآل “القوى التقدميّة واليساريّة في المنطقة”، من تمزقات وتشوهات فرديّة وجماعيّة، بعد أن كانت، منذ بداية ما كان يعرف بالمد الثوري لحركات التحرر الاجتماعي والسياسي، وحتى قبيل نكسة العام 1967، تتصدر المشهد بوعود التغيير.

ويسرد المؤلف من خلال رحلة بطل روايته “حامد عثمان” مسيرة انتهاء ذلك التيار، واضعا، في السياق، أبطاله مثل الحسناء مها الخاتم والكادر الخطابي جمال جعفر وأعمى يصر دوما على القيام بدور قيادي داخل التنظيم الذي يحافظ على سريته في القاهرة كمنفى أمام ما يمكن تسميته “مصهر الأفكار والمواقف”.

ويبرز الكاتب محاولات البقاء المستميتة في عالم “تحكمه الحاجة لا القيم”، كذلك يبدو الجوع بارزا في السياق، كما القسوة والغدر والخيانة واغتيال الشخصيّة، وحتى نصاعة ذلك التضامن الرفاقيّ بالغ الندرة.

وتتفاوت اللغة في الرواية متراوحة بين مستوياتها: الحياتية اليومية أو الشعرية المفعمة بالتشبيهات إلى الفكر المجرد الذي يشرح طبيعة أفكار نظريو، فضلا عن تداخل الأزمنة ودور الذاكرة في إعادة تركيب المشاهد والمسارات.

والرواية تطرح العديد من القضايا، عبر لوحات درامية، فمثلا كيف انتهى المطاف بمها الخاتم من محاولة إنقاذ العالم إلى محاولة إنقاذ نفسها.


https://al-seyassah.com/%D8%BA%D8%B1%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%A7%D9%84/https://al-seyassah.com/%D8%BA%D8%B1%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A...%D9%8A-%D8%A7%D9%84/

Post: #5
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: النذير حجازي
Date: 10-01-2019, 03:49 AM
Parent: #4

شكرا يا حبيبنا الخواض، والله بعد العمر دا بقى ما عندنا قدرة نقرأ كتاب، لكن لو عملت لينا ساندويشات صغرة من هذه الرواية ما بناباها.

وبرضو طلب تاني يا الخواض ليك إنت وحبيبنا مصطفى مدثر، ياخي ما تتناولوا لينا فيلم ستموت في العشرين في پوست تكونوا ما قصرتوا معانا، وممكن تسمحوا لسيدي المستنير يشارك معاكم كمساعد حلة.

Post: #6
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: نعمات عماد
Date: 10-01-2019, 12:32 PM
Parent: #5


سلام عليكم استاذ الخواض و ضيوفك

التحية لكم و للروائي الأستاذ عبد الحميد البرنس و نتطلع لوصول روايته

لمكتبات السودان.

Post: #7
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: Osman Musa
Date: 10-01-2019, 01:31 PM
Parent: #6

الاخ استاذ الخواض سلامات الاستاذ البرنس مثقف عجيب وانسان حنين لي درجة عجيبة . عرفتو اكتر من قريب ايام كان في كندا .
ايام كان متابع مرض استاذنا الراحل سامي سالم . في ديك المواقف النبيلة عرفتو . انسانية لا توصف . عبدالحميد يا اخ اسامة بحر لو كلمك عن بطن المسرح المصري والكتاب والمكتبات في القاهرة . وانا والله كنت متمني يشعل المنبر بي العارفو عن مقدرة النجم سعيد صالح في التمثيل في السبعينات . يا اخ اسامة بلاي حاول جرجر الزول ده تاني للمنبر . حاول رجع الكتاب الموهوبين والكاتبات الموهوبات للديرة . ناس الشاعر الفذ عادل عبدالرحمن و الكاتبات الفنجريات الزمان .
وحياك الله يا برنس .

Post: #8
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: جمال ود القوز
Date: 10-01-2019, 07:24 PM
Parent: #7

عبد الحميد البرنس كاتب وروائي جميل ..
قرأت له كذا مرة وأعجبني جدا ..
التحية لأخونا البرنس ...

Post: #9
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 10-01-2019, 09:52 PM
Parent: #8

الأخ اسامة الخواض مساء الورد
شكرا على الاطلالة الأدبية الندية
ببشارة كتاب البرنس الذي للأسف لم
اتشرف بقراءة شيء له.
و لعل ذلك يكون حافزا..
تحياتي

Post: #10
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-02-2019, 04:32 AM
Parent: #9

Quote: شكرا يا حبيبنا الخواض، والله بعد العمر دا بقى ما عندنا قدرة نقرأ كتاب، لكن لو عملت لينا ساندويشات صغرة من هذه الرواية ما بناباها.

وبرضو طلب تاني يا الخواض ليك إنت وحبيبنا مصطفى مدثر، ياخي ما تتناولوا لينا فيلم ستموت في العشرين في پوست تكونوا ما قصرتوا معانا، وممكن تسمحوا لسيدي المستنير يشارك معاكم كمساعد حلة.

اهلا بالصديق النذير

شكرا على جرعة الفكاهة.

ساحاول نشر مقاطع من الرواية.

"ستموت في العشرين" هل متوفر في الانترنت؟

تحياتنا لمصطفى مدثر ، وارجو أن يكون معنا في هذا البوست.

سأعود لبقية الاصدقاء بعد شكري الجزيل لمداخلاتهم.

Post: #11
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-02-2019, 07:28 PM
Parent: #10

شكرا للاستاذة نعمات والاستاذ جمال والاستاذ محمد على الترحيب بصدور الرواية..

يا عثمان إضافة لما قلت من مناقب البرنس فهو صبور والدليل على صبره أنه صبر على روايته ١٤ سنة ثم بعد ذلك قام بنشرها، اكيد ان الرواية اختلفت عما كتبه هنا..

كما أنه يملك مفاتيح كثيرة من مفاتيح الحكمة والتسامع..

Post: #12
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-03-2019, 00:03 AM
Parent: #11

الصديق المبدع صاحب الموهبة العالية/ أسامة الخواض، تحية وتقدير. اسعدني كل هذا الاحتفاء بصدور الجزء الأول من ثلاثية التقدمي: غرفة التقدمي الأخير. وبداية، أحمد لك أن اعدتني ثانية إلى هذا المنبر العزيز (حوش بكري المثابر). فهنا الكثير عن حق من ثراء إنساني وكذلك كما أشرت أنت تربة خصبة لحفظ ونماء البذور. ولي عودة

Post: #13
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: elsharief
Date: 10-03-2019, 02:12 AM
Parent: #12

على سبيل التحية

Post: #14
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-03-2019, 03:04 AM
Parent: #13

مليار مرحب بعودة البرنس .

وسنجري معه "حوارا" حول روايته وتجربة كتابته للرواية، خاصة أن بذور الرواية نمت هنا في "حوش بكري"،

كما نمت بذور كثيرة ، تحوّلت إلى كتب مطبوعة، وقد نشرت شخصيا ديوانين "قبر الخواض"،و"لاهوت الوردة" ، نُشرت نصوصهما الشعرية في هذا الحوش.

وندعو القرّاء والقارئات إلى تجهيز أسئلتهم\نّ،

أرجو ألا تهابوا الاسئلة.

فكل سؤال مشروع، حتى وإنْ كان خاطئا.

فالبرنس بصبره وحكمته يستطيع تحويله إلى إجابة مفيدة ومقنعة.


في انتظار البرنس.

ومرحباً بالشريف..

Post: #15
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-03-2019, 04:44 AM
Parent: #14

Quote: غرفة التقدمي الاخير ،هي إعادة كتابة لما نشره البرنس هنا في عام 2005 ، ويمكنك قراءة مقتطفات منها في هذا المنبر عبر البحث في الارشيف.

لم أقرأ الكتابة الأخيرة للرواية، لكنني علّقت على بعض ما نُشر هنا في بوست كتبه البرنس بعنوان "الأمنجي السابق وصاحبه الخليفة بدري ما بدري"


يطيب لي بداية هنا التأكيد على حديث عزيزنا الخواض أعلاه. إذ يوجد بالفعل في حوش بكري بعض (تيراب) رواية غرفة التقدمي الأخير. سوى أن ما أشار إليه الخواض هنا هو بذور أخرى عملت بواسطتها على الوصول إلى الصيغة النهائية لرواية السادة الرئيس القرد:




كما قد يبدو من الصورة، صدرت الرواية عن دار ميريت عام 2017، بعد أن تمت مصادرتها من المطبعة في اللحظة الأخيرة، بواسطة جهات أمنية في مصر، فلم يتم ما هو قد تقرر لها من نشر ضمن سلسلة روايات مؤسسة دار الهلال:



على أي حال، قمت وقتها في حوار مع صحيفة اليوم التالي بتوضيح ما حدث من ملابسات أحاطت بتلك الرواية التي تناولت سيرة الأمنجي السابق:


Quote: القاهرة ـ سيدني ـ صباح موسى
** (السادة الرئيس القرد) عنوان رواية نالت من الشهرة الكثير بالقاهرة، وذلك رغم مصادرتها من الطباعة، وهو عمل لم ير النور، ودار عليه جدل كبير داخل المحروسة، فالرواية كان مقررا طباعتها في مؤسسة دار الهلال المصرية في الخامس عشر من مايو الماضي، وتم الإعلان عن ذلك أكثر من مرة على بوابة المؤسسة الإلكترونية، غير أن دار الهلال نفت علمها بوجود رواية بهذا العنوان ضمن مطبوعاتها، وأثار ذلك عددًا من التساؤلات في الوسط الثقافي المصري، خصوصًا بعد حذف الخبر الذي نُشر عنها على بوابة الهلال، مما دفع لتكهنات بمنع الرواية من الطباعة والنشر، وأكد الكاتب سعد القرش رئيس تحرير سلسلة روايات الهلال، أن الرواية لم تدخل للمطبعة، وأنه لا يعرف سببًا لهذا التأخر، رغم جاهزيتها للطباعة، إلا أن رئيس مجلس إدارة مؤسسة (دار الهلال)، غالي محمد أكد أنه لا يعلم شيئًا عن رواية (السادة الرئيس القرد)، وأنه لم يسمع اسمها من قبل، وأنه لا يتدخل في أعمال رؤساء تحرير السلاسل الصادرة عن الدار، ولا يمارس دورا رقابيا عليهم. وفسر البعض عدم طباعة الرواية لعنوانها المثير للجدل…. السادة الرئيس القرد للكاتب السوداني عبد الحميد البرنس الذي ربما لا يعرفه الكثيرون في السودان، رغم إنتاجه الأدبي المتميز ومعرفة الوسط الثقافي المصري به جيدا.
(اليوم التالي) تواصلت مع صاحب رواية (السادة الرئيس القرد) عبد الحميد البرنس في مقر إقامته بسيدني بأستراليا وكان لنا معه هذا اللقاء.
* بداية نريد أن نتعرف عليك؟
أنا عبد الحميد البرنس من مواليد 1967 بـ (كوستي) من أب سوداني وأم سودانية، تركت السودان منذ عام 1991 تقريبا، ثم عدت لفترة وجيزة عام 2010، حيث درست وعشت وعملت في مصر حتى عام 2003، ثم هاجرت إلى كندا وظللت هناك حتى عام 2010 تقريبا ومنذ عام 2011 أعيش وأعمل في سيدني أستراليا صحبة أسرتي الصغيرة، لي ولدان وبنت، تخرجت في جامعة الزقازيق كلية الآداب قسم إعلام 1994، لدي بما في ذلك البنات من أبي تسع أخوات وشقيقان رحل أحدهما في عمر مبكر.
* رواية (السادة الرئيس القرد) التي تمت مصادرتها قبل طباعتها بمؤسسة دار الهلال أول عمل أدبي لك؟ أم لديك إنتاج أدبي؟
نشرت أول مجموعة بعنوان (تداعيات في بلاد بعيدة) على النفقة الخاصة القاهرة 2001، وملف داخل كومبيوتر محمول عن دار شرقيات في القاهرة 2010، ثم متوالية قصصية بعنوان (مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة) عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة 2016.
* كلها إصدارات في القاهرة؟
(ممكن تقولي) تكونت معرفيا في مصر.
* هل أنت على إتصال بالوسط الثقافي السوداني؟
بالنسبة للسودان بدا لي من متابعات متفرقة للصحف أن هنالك من يعلم بوجودي المتواضع على ظهر هذه البسيطة، فمثلا المجموعة الأولى كتب عنها أستاذنا عيسى الحلو والمبدع الصادق الرضي.
* هل وزعت أي من أعمالك في السودان؟
لا أدري. إلا أن أعدادا حسب علمي وصلت هناك.
* هل لديك أي انتماء سياسي في السودان
ليس لدي أي انتماء عقائدي سياسي.
* هل تتابع الأحوال السياسية في السودان؟
أكيد.. أنا سوداني كامل السودانوية.
* في تقديرك ما السبب الحقيقي وراء مصادرة (السادة الرئيس القرد)؟
العنوان. وربما كذلك المحتوى إلا إنني لا أجد مبررا، إذ أحاول أن أكتب وفق أطر الرواية الفنية أو الجمالية، أي أنني لا أكتب على نحو دعائي أو هتافي وما إلى ذلك.
* هل يمكن أن تعيد نشرها في مكان آخر أم أن المصادرة في مصر كلها؟
دار ميريت في القاهرة أعلنت عن استعدادها لنشرها فكان لهم ما أرادوا وتشرفت بذلك، أعتقد أن مصر أنسب مكان لنشرها الآن.
وهل تتوقع مصادرتها مرة أخرى؟
على أية حال إذا لم يتم نشرها اليوم فغدا، فقط عليّ ككاتب أن أواصل ما خُلقت لأجله.
* لماذا تصمم على نشرها في مصر؟
لا. يمكن أن تنشر في أي مكان آخر، لكن فقط أين؟
* ما مضمون (السادة الرئيس القرد) باختصار؟
قال عنها الروائي اليمني أحمد زين بعد أن قرأ مسودتها “إنها فكرة الطفل الشيطان. رواية متماسكة، حدث واحد لكن بتنويعات تعكسها الشخصيات، بحسب قربها أو ابتعادها من الطفل. فانتازيا شعبية، يمكن القول على هذه الرواية التي لا تخلو من تهكم على السياسي، بل إن التهكم يأتي في صلب الرواية. رواية تجمع بين الفانتازي والصوفي، لكن في صورة أخرى، والسياسي، كل ذلك تصوغه لغة مشدودة، لا مجال معها للثرثرة. بناء الجملة اللغوية أحد مميزات الرواية، كما أن جمال اللغة نفسها وانتقاء المفردات البعيدة عن الركاكة، يجعل من اللغة شخصية أخرى، لا تقل حيوية عن بقية الشخصيات التي يتفرد كل منها بحياة مختلفة وبرؤية للعالم تزيد الرواية تعقيدا وكثافة. ويأتي التلاعب بالأزمنة ليجعل الرواية تغادر منطقة ضيقة إلى فضاء واسع ومتشابك، ويدفع القارئ إلى التنقل من مستوى إلى آخر، دون شعور بالملل. رواية جميلة بحق”.
* في السودان، بمن من الكاتب أو الأدباء تأثرت، ولمن قرأت أكثر؟
بالتأكيد كل أساتذتي هناك شعرا ونثرا، هناك مصطفى سند مثلا ومحمد عبد الحي وجمال محمد أحمد وعلي المك وصديق وعيسى الحلو وصديقي الناقد الراحل أحمد عبد المكرم وقريب الله الشيخ والتوم بخيت وأحمد ضحية وغيرهم.
* متى بدأت موهبتك الأدبية؟
بدأت في كوستي، أنا من المؤسسين لرابطة الأصدقاء الأدبية بكوستي في الثمانينيات.
* وفي القاهرة؟
القاهرة غنية، وقد سبقتها فترة الزقازيق حيث النادي الأدبي بقصر الثقافة هناك، كما تكونت على يد الكثير من توجيهات الأصدقاء والصديقات، مصر في الحقيقة فضاء ثقافي واجتماعي وجغرافي بالغ الثراء، وكنت محظوظا مثلا في التعرف شخصيا على الراحل إبراهيم أصلان، وكان وقتها مسؤولا عن القسم الثقافي في مكتب الحياة اللندنية عام 94 تقريبا، وقد أخبرني وقتها أن ما يحكمهم في المكتب هو جودة المادة وذلك كان مما يروقني ولا يزال، مصر متعددة ومتنوعة الأنشطة الثقافية والفنية والأدبية وبها مؤسسات في المجال لها تقاليد راسخة.
* هل لديك عمل آخر بجانب عملك كأديب؟
عملت في الصحافة ومجال منظمات حقوق الإنسان ومساعد باحث في الجامعة الأمريكية، وعملت حارس ليلي في كندا عوضا عن مجال تنسيق الحدائق وغيرها.. العمل قيمة كبرى.
* هل لديك نية لزيارة السودان قريبا؟
أرجو ذلك.
* في تقديرك كيف يمكن للأديب أن يعكس صورة جيدة عن بلاده بالمهجر؟ وماذا قدمت للسودان بالخارج؟
عيشي في الخارج لسنوات عديدة وإحتكاكي اليومي تقريبا مع مختلف جنسيات العالم كافة أتاح لي التحرر من أشياء مثل العصبية والنظرة الولائية الضيقة للأشياء، فقد بدأت أعي أكثر فأكثر وحدة المصير الإنساني وأننا عابرون في هذه الحياة وأن علينا أن نجعل رحلتنا فيها أكثر سعادة وأقلّ مشقة ما أمكن.
………..؟
لنجعل الأمر بصيغة أخرى: علينا أن نجيد ما نفعله كل في مجاله الخاص حتى نعمل على تغيير وجه الحياة نحو الأفضل، أعني تغييرها معا من دون إقصاء أو استبعاد لأحد أو فرض رأي ما قسريا.
* هل حصلت على الجنسية الأسترالية؟
زوجتي وأولادي لديهم الجنسية الأسترالية، محمد وأنيس من مواليد كندا 2007 2008 وأمنية مواليد أستراليا 2013، أما أنا فلدي الجنسية الكندية.
* هل زوجتك سودانية؟
نعم. سيدة قلبي سودانية هي اسم على مسمّى: إلهام.
* هل شعرت أنك ممن ظلموا في السودان فهاجروا؟
هذا سؤال بالغ الذكاء، إلا أنني أرفض دوما أن أكون في موقع الضحية.. لنأخذ صيغة أخرى ذلك أن الحياة ليست طريقا معبدة أو مرصوفة أو ممهدة دوما فأي إنسان مننا يواجه صعوبات وتحديات، أما طريقة الاستجابة لمثل تلك التحديات فهي التي ستحدد مدى جدارتنا بإنسانيتنا.
* تمنياتك للحركة الثقافية بالسودان؟
جميل أن نضع الأمر هنا في شكل تمنيات لا وصايا، أما الأمنيات لأي كاتب، فأكتب عما هو محلي أو ما أنت على تجربة ما أو علم به أو معايشة ولكن عبر منظور إنساني عام أو مشترك، فهناك كما قال أحد الفلاسفة نظرة النملة إلى العالم أو نظرة الطائر، أما المنافس الذي لا يرحم في أثناء بلورة نظرتنا هذه أو تلك للعالم فهو الزمن."


الآن نعود إلى موضوع البوست: غرفة التقدمي الأخير

Post: #16
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: Osman Musa
Date: 10-03-2019, 07:33 AM
Parent: #15

مليون اهلا وسهلا بي عودتك يا برنس .
مرحب بعودة الكاتب المبدع المحلق بين المحطات الكبار . المحطات البعيدة . الخرطوم القاهرة
نيويورك . تورينتو
سدني ميلبورن . اكيد المنبر موعود بي دفق جديد من الابداع .. ليك التحية يا برنس
ومشكور يا خواض يا ملك في الدردحة والحرفنة في القبض علي الملوك المتمردين .

Post: #17
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: Osman Musa
Date: 10-03-2019, 07:33 AM
Parent: #15

مليون اهلا وسهلا بي عودتك يا برنس .
مرحب بعودة الكاتب المبدع المحلق بين المحطات الكبار . المحطات البعيدة . الخرطوم القاهرة
نيويورك . تورينتو
سدني ميلبورن . اكيد المنبر موعود بي دفق جديد من الابداع .. ليك التحية يا برنس
ومشكور يا خواض يا ملك في الدردحة والحرفنة في القبض علي الملوك المتمردين .

Post: #18
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-03-2019, 11:12 AM
Parent: #17

تحية لعزيزنا عثمان موسى كصاحب عطاء إنساني لا يوصف. لا أجد من مفر هنا سوى تلبية دعوته بنشر فصل من رواية غرفة التقدمي الأخير تاليا. وهو الفصل الذي تم نشره في مجلة ميريت الثقافية قبيل صدور الرواية. على أنني يطيب لي التنبيه هنا أنني أعتمد في بناء شخصايتي على الكثير من أجزاء متفرقة من الواقع مضافا إليها الخيال حتى أقترب من رسم ما يسمى النموذج. هكذا لا تحيل أي شخصية هنا إلى شخصية واقعية من لحم ودم حتى لو تشابهت الملامح والأسماء والأقدار والأمكنة. فإلى الفصل المعني:



كانت الخيبة رفيقتي، لما تسللتُ خارجا، أواخر ذلك الصباح، عبر بوابةِ ما درج حامد وأمثاله، من رهط أولئك الثوريين "الأماجد"، على أن يطلقوا عليه بكثيرٍ من السّخط عبارة:

"سفارة النظام الرجعي الوغد العميل أبدا سرّيّا وجهريّا"!!

كما ترون، لم يكن الصبر أبدا ينقصهم، كذلك المخيلة أو الفصاحة، حين يتعلق الأمر، بإطلاق مثل تلك الأسماء، أو الحال، أو الصفات السلبية حصرا، ولا أقول تلطفا "الشتائم المقذعة"، على خصومهم "السياسيين"، أو أولئك المخالفين لنهجهم في مختلف جوانب الحياة عامة، حتى إن بوسع أحدُهم نسجَ اسمٍ قد تتكون قماشته دون أي مبالغة من مائة كلمة.. أما إذا أعجبهم "شيء"، وهذا أمر نادر الحدوث، وغالبا ما قد يتعلق بمن يطابقهم تماما في الحياة صورة ومعنى، فلا يزيدون، عادة، على قول "جميل"، أو حتى "حلو"، كما لو أن الأشياء الحسنة في العالم رفيقة اليتم أو التوافق. لقد تعودوا الأرجح على "الهدم"، دون أن يمتلكوا مثل تلك القدرة الخلّاقة على إعادة بناء ما قد سبق أن قاموا بهدمه بقسوة. لو علموا بما قد فعلتُ للتو داخل السفارة، من شروع أكيد في محاولة لبيعِ أسرارهم لأطلقوا عليَّ دونما أي تردد عبارة أشبه في طولها واتساخ كلماتها المتعاقبة بقطار نيالا، قائلين: "الخائن الهلامي الأقرع بائع ضميره عبد بطنه مّن باع الثورة"! حقّا، من حظّ المرء أن يكون "فيلسوفا"، أو متقلّدا لوظيفةِ "شاتم"، لا جهد، لا عرق هناك، والشرط الوحيد للقيام بمتطلبات الوظيفة: أن يتقدّمك بنحو المترين لسانٌ جارحٌ.

كذلك كنت أبدو، في أثناء خروجي ذاك، عبر بوابة السفارة الجانبية، تلك المطلة على شارع رستم. لا كفأر مذعور أوقع نفسه داخل فخ. لا بل كأعرابي نقلتْ سيرتَه كتبُ الأولين، والذي رجع، وقتها، إلى أهله، وقد فقد دابته وما حملتْ من خير، بخفيّ حنين. "صغارُ في الذهابِ والإيّابِ، أهذا كلُّ شأنّك يا عرابي". لا شرفا رفيعا أبقيتَ ولا مالا في مقابل ضياع ذلك الشرف "الرفيع" جنيت. لا شيء من هذا أو ذاك. وهذا ما يُحزن. أو فلنسمّي أمر ما أحدثتُه من غدر على طريقة أمثال حامد تلك بعبارة أخرى شاعرية تقريبا مفادها:
"خيانة لم يتذوق مرتكبها ولو شربات الضيافة في السفارة"!

على أنني أتفهم أمر ما قد حدث لي هناك بروح رياضيّة. فإذا أنت، "مثلا يعني"، كنت في مكان أولئك الرجال الثلاثة الذي حققوا وقتها معي داخل السفارة شَبِعَا، لا تني تتجشأ، فالأغلب أنّك لا تفكر أن الرجل الذي يجلس الآن قبالتك، إلى مائدة المفاوضات نفسها، في حاجة ماسة إلى أشياء ثانوية ليست بذي بال كالطعام، ولا أقول "التفاح اللعين". وهذا الأرجح ليس عدلا. وضعتُ إذن مبنى السفارة اللعين خلفي، وبدأت أغذي السير، في اتجاه مبنى "وزارة التربية والتعليم"، حيث تقع قريبا من هناك، محطة مترو أنفاق سعد زغلول، أو الزعيم السياسي المصري الراحل، الذي ظلّ يضع على رأسه وفق معايير الرفعة السائدة في عصره طربوشا تركيا أحمر مقرونا بلقب "باشا"، والذي طلب، هو أسير فراش الموت، من رفيقة درب حياته السيدة صفيّة، أن تشد "اللحاف" عليه ثم تغطيه، بنبرةِ صوتِ المحتضر المفارق تلك نفسها، قائلا:

"مفيش فايدة".

كانت صفية في حاجة، كما أتخيل، إلى ما يُعضّد لها فكرة وجود أمل ما، في العالم، بعد رحيله خاصّة. وكان عليَّ أنا كرجلٍ يدس أنفه أحيانا في شؤون الآخرين هكذا دون أي مناسبة أن أعبر شارع قصر العيني، على أمل أن حظوظي لا تزال تلك الساعة كبيرة، في ألا يضبطني أحد المعارضين إيّاهم، من أمثال حامد اللعين، لأنّهم عادة ما ينفقون معظم الليل، في حلّ مشكلات العالم المستعصيّة، وما قد تبقى من مزق الليل يبددونه غالبا، في تجديد نار تلك المعارك الصغيرة الطاحنة، التي لا تنتهي، من شاكلة "أنت بعت القضيّة"، أو "تمّ ضبطهما معا"، وقد أسكرهم العرقي لا جدال، فيواصلون النوم السعيد، إلى وقت متأخر، من نهار اليوم التالي، ليجدوها هي نفسها في انتظارهم، قابعة هناك كقدرٍ لا فكاك عند أقدام السرير. أعني جملة تلك المسائل اليومية المتعلقة بتدبير شؤون الأكل والشرب وإيجار المسكن. ليدركوا أن العالم مثقل، بأحزان لا مبرر لها، حتى لا يسمح "للنبلاء الثوريين" بإمكانية تغييره نحو الأفضل، وهذا الأرجح ما يدفع المرء للقول أحيانا:

"مفيش فايدة، يا صفية".

كانت لا تزال عالقة هناك، على جدار روحي، بقايا شعور ذكرِ نملٍ يرغب، بطموح كبير، في الأذى، وهو يخاف، وقد وعي تماما مدى صغر حجمه البائس الضئيل ذاك، من الدعس. أن يتمّ اكتشاف أمر شروعي متلبسا بالخيانة العظمى لا بد، في اللحظة نفسها، التي أغادر فيها مبنى السفارة، كان أكثر ما ظلّ يقلقني. إذا حدث ذلك، كان من الممكن أن يكون أمرا بمثابة الكارثة المحققة. لقد كنت أبدو، في أثناء تسللي، خارجا عبر باب السفارة، أشبه بالضبط (والعياذ بالله) بواحدة، من بيت حسب ونسب، تدعى مها، تعشق الجنس في الكتمان، وتخاف في آن أن تحمل. "استغفر الله التوّاب الرحيم من كل ذنب عظيم"، فأنا أبدو هنا وللمرة الثانية، مثل الفاجرة مها الخاتم نفسها، أحب القطيعة والنميمة، حد أن أبتلع ريقي وترتجف أصابعي لحظة سماع إحدى تلك الفضائح "الفاتنة"، وأخاف في آن "والله غفور" من شدة الحساب يوم القيامة إلى درجة أنني أقول أحيانا:

"ما هذا الإنسان اللعين الذي هو أنا"؟!

مع كل خطوة أبتعد بها، عن حرم مبنى السفارة، كان يقوى عميقا في داخلي، ضوءُ الأمل البهيّ، في ألا يراني أحد "الثوريين".

ذلك لم يدم طويلا.

قديما قال أحدهم:

"الشقيُّ مَن يتعثر في أثناء المشي بخصيتيه".

أجل، انشقت الأرض، بأسرع مما كنت أتوقع، عند محطة بنزين قريبة (نحو أربعين مترا عن السفارة)، عن ذلك الأعمى اللعين. قلت حالا في نفسي: "هذا ما يدعونه سوء الخاتمة، يا عزيزي المبجل سلامة موسى". لا أدري الآن لماذا أقحمتم وقتها تحديدا اسم المرحوم، سلامة موسى، في قضية مثل تلك، ليس له فيها ناقة ولا جمل. الأرجح أنني قد سئمتُ لحظتها من مخاطبة نفسي، طوال الوقت.

كان يقود الأعمى (لحسن حظي غير المتوقع تماما) رجل غريب، وقد بدا بالفعل كما لو أنّه حديث عهد، بجملةِ ألاعيب الريبة القاهريّة، لأنّه كان معنيا أولا وأخيرا وحتى النهاية بقيادة كتلة العماء القميئة الجائعة للمؤامرة تلك، بأكثر من أي شيء آخر، حتى إنّه لم يلتفت إلى وجودي المذعور ذاك، وأنا أمر مواصلا السير في الاتجاه المضاد، على بعد أقلّ من متر واحد منهما، وقد تصاعدت نسبة إفرازات الخوف في دمي، عندما صمت الأعمى المشهور بالثرثرة فجأة، وتوجه بأنفه نحوي. لقد خشيت أن يتعرّف عليَّ (ابن الزانية) بالرائحة فقط من كل ذلك القرب. فأنت حقا لا تعرف على وجه التحديد إذا ما تعطلت بعض الحواس بالذات لدى أمثال أولئك الأوغاد ما قد يمكن أن يكون عليه عمل الحواس الأخرى من قوة إضافية مكتسبة. كما يمكن يقينا لمثل هذا الأعمى اللعين بالذات أن يتأكد من حسن سير قدرته تلك على صناعة المشكلات من العدم. كأن يسأل مثلا الرجلَ الغريب الذي يقوده كما لو أن الأمر يحدث لخبث الأعمى عفوا عمّا إذا كان يرى "سودانيا" وهو يمر الآن بالجوار. وسيلتفت الغريب اللعين لحظتها ويراني أنا الميت في رعبي ذاك على وجه الخصوص. فيقول همسا لا بد: "نعم هناك سوداني واحد وقد مر بنا للتو". والأعمى الخبيث سليل الخسيس، سيسأله:

"وهل يمكنك أن تصف لي ما ملامحه"؟

هنا، ولا شك أبدا لدي، ستقع "الكارثة". إنني، ببساطة، أبدو كرجل بملامح متميزة. لا يُوجد مني اثنان. إذا رآني أي إنسان مرة واحدة، أقول "واحدة فقط"، ومهما كان هذا الإنسان غبيا، إلا إنّه سرعان ما يمكنه التعرّف على شخصيتي "البارزة"، حالما يراني للمرة الثانية، حتى لو فصل بين اللقاءين الأول والأخير نحو العشرين سنة. إنني أبدو بالفعل ألصق شبها بأي أرنب لعين آخر يمكن أن يخطر على بالك. يقينا أنّك حتى كنت ستفكر أن ترميني بأقرب حجر إذا ما برز لك وجهي وحده من داخل غابة مرتفعة مقدار نحو المتر من الأعشاب الكثيفة المتشابكة. لا أزال أستغرب لماذا لا يبادرني النّاس بعدُ بالتحيّة قائلين:

"كيف حالك اليوم يا شكر الأرنب"؟!

توقف إذن كل شيء هناك، في داخلي، أو مات تقريبا. لم أعد أسمع حتى صوت شيطان حامد ذاك المسمّى ماغ: "هذا الأعمى، سيفضحك، في الأرض"!!

ريقي نفسه، لم يعد هناك، كي أبتلعه، ثم بدأت أستسلم لقدري، حتى تراءت لي خطفا مزق لحم سمعتي، وهي تُطحن بتلذذ داخل أفواه تتحلق، في مجلس ما من مجالس النميمة: "اليوم تمّ الكشف صدفة عن خائن آخر يعمل لحساب السفارة يُدعى شكر الأقرع". هكذا، تركت نفسي نهبا للهواجس، إلى أن عبرت أخيرا شارع قصر العيني، لنقل "بسلام"، حيث بدأ عقلي يعمل بعد مرور نحو دقائق مجددا، وهو يوضح لي أنني "في الواقع" كنت خائفا بأكثر مما ينبغي، وأنّهما (الغريب والأعمى)، كانا في الطريق إلى مبنى السفارة الكنديّة القريب لاستكمال إجراءات لجوء الأعمى، كما يشاع، منذ مدة، إلى كندا. ثم بدأت أشكر لله لوجود تلك اللفائف التي يقال إنها تتغذي، على السكريات، داخل جماجمنا البشريّة، والتي يشير إليها البعض خاصّة في المجامع العلمية أو الجزارة باسم "المخ"، ذلك أن الأعمى اللعين لم يتواجد لحظتها هناك، بصحبة ما قد بدا لي في ذروة رعبي شاهدا، وفقط لرصد "الخونة"، من "عملاء السفارة الأحدث"، من أمثالي. وقد قلت هذه المرة مخاطبا الخالق بالضبط كما لو أنني سيدة مصرية غلبانة وعلى وشك أن تنخرط في البكاء من فرح قد أعقب نجاة:

"يا منت كريم يا رب"!!

وصل الأعمى إلى القاهرة مبصرا، هاربا بجلده من الكويت، رفقة أسرته الصغيرة، في أعاقب الغزو العراقي. كان في جعبته (والعهدة للراوي) مبلغا كبيرا من الدولارات الأمريكية، قيل إنه كان يملأ "حقيبة سفر"، من شاكلة تلك الحقائب التي كانت خالتي الشَفّة تقوم بتهريب اللحمة المحمرة فيها لأطفالها وضمنهم أنا من بيوت الأعراس، حيث ظلّ الأعمى يؤمّن معيشته، من أرباحها المنتظمة في البنك، مثله في ذلك مثل أي "واحد رأسمالي آخر حقير"، لا "بل قذر"، قد تمّ رصده والتعرف عليه، بمثل ذلك الغلّ الثوريّ الماحق كصاعقة، بواسطة رفاق ورفيقات، تلك الأيام. بعد مرور أسابيع، على استقراره في القاهرة، وقد نفد لديه خمر "الأسواق الحرة"، تناول جرعات كبيرة متتابعة، من زجاج خمر مصرية مغشوشة، ففقدوا تماما نعمة البصر، هو والاثنان الآخران، اللذان كانا في صحبته، ولم تمضِ سوى سويعات، على تناولها. الاثنان الآخران لم يكونا في صلابة "عِنْدِه"، ففضلا العودة طوعيا، على الرغم من مخاطر الزج بهما في أقرب معتقل، إلى وطن قد بدا من أحواله السيئة آنذاك كما لو أن إضافة أعميين آخرين إلى نسيج سكانه، بمثابة الأمر الوحيد الغائب وقتها عن جملة كوارثه، التي لا تحصى. كان العالم الأليف الغارق وراء نافذة الزجاج في الرطوبة الغامرة لليل آخر ما رآه ثالثهما هذا بواسطة بصره ذاك المعتل المنسحب بعيدا مرة وإلى الأبد. كما لو أنّهم كانوا في انتظار وقوع تلك الكارثة، أخذ النّاس، (وقد بدأ المنفى يعوَّدهم منذ سنوات على النظر إلى مصائب الغير بوصفها نجاتهم)، يتداولون سرا فيما بينهم شيئا، عن "عدالة السماء المحققة"، التي عاقبت الأعمى، على سرقة "شنطة أحد شيوخ الكويت الفارين وقتها بما خفّ، أو بثيابهم، والأمر سيّان، حين يتعلق كل شيء، في الأخير، بمسألة البقاء، على ظهر هذه الأرض، سواء أكنت غنيّا أو مفلسا"، جبانا أو شجاعا، فالمهم أن تظلّ حيّا تُرزق. ليس هناك ما يستحقّ التضحيّة حقّا بالحياة. ولم تكن تنقص مطلقي الشائعة صناعة الحجج: "كيف يتحصَّل مّن أقام في الكويت نحو الثلاث سنوات سائقا لعربة أجرة على شنطة مكتظة بالدولارات لقاء حتى عمل متقطّع"؟ أغلب أولئك المنفيين في القاهرة، أخذ يتفاعل مع الحجج المتعلقة بتقييم وضع الأعمى المالي، بما بدا قابلية طبيعية للتصديق، ربما لأن سوادهم لم يكن رأى في حياته ورقة مالية من فئة المائة دولار، ناهيك عن لمسها، اللهم إلا عبر الصور، أو مشاهدة أفلام المافيا. لما وصل الأعمى، معية أسرته، إلى مطار تورنتو، وكان يجيد التحدث بالإنجليزية كوغد، أعلن لموظف الهجرة عارضا أمانته أن بحوزته مبلغ الخمسين ألف دولار أمريكي. أصابني ذلك النبأ بإسهال. كان من باب التضحية الثورية البحتة إنفاق ذلك المبلغ على أيتام الحزب في القاهرة والمؤلفة قلوبهم أمثالي. طلب منه الموظف أن ينفق "المبلغ" على نفسه وأسرته أولا، ثم لتصرف له إعانة اللاجئ تاليا، أي بعد زوال آخر مليم كويتيّ جناه.

Post: #19
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: Osman Musa
Date: 10-03-2019, 09:05 PM
Parent: #18

متابعين يا برنس
ليك شديد الاحترام .

Post: #20
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-03-2019, 11:40 PM
Parent: #19

شكرا للاخ العزيز النذير على المرور والمشاركة. وفي المناسبة، أنا كذلك أخذت أواجه مشقة في القراءة زي زمان. فأخذت منذ نحو نصف العام أتابع القراءة بأذني من اليوتيوب أثناء القيادة. أرجو أن تواصل غرفة التقدمي الأخير تحريك ما هو ساكن على صعيد الأفكار. امبارح، أجرى المصري خالد ابو الروس تحقيقا لمجلة المجلة بعنوان هل شاخت الأفكار اليسارية في المنطقة العربية؟ وذلك انطلاقاً من الرواية.:



القاهرة: ترصد رواية للقاص والروائي السوداني عبد الحميد البرنس، بعنوان «غرفة التقدمي الأخير» ما طرأ على القوى التقدميّة واليساريّة في المنطقة، من تمزق وتشظٍ وتشوهات فرديّة وجماعيّة، بعد أن كانت تتصدر المشهد بوعود التغيير، حيث يسرد المؤلف من خلال رحلة بطل روايته «حامد عثمان» مسيرة انتهاء ذلك التيار، واضعا، في السياق، أبطاله مثل الحسناء مها الخاتم والكادر الخطابي جمال جعفر وأعمى يصر دوما على القيام بدور قيادي داخل التنظيم الذي يحافظ على سريته في القاهرة كمنفى أمام ما يمكن تسميته «مصهر الأفكار والمواقف ويبرز الكاتب محاولات البقاء المستميتة في عالم «تحكمه الحاجة لا القيم»، كذلك يبدو الجوع بارزا في السياق، كما القسوة والغدر والخيانة واغتيال الشخصيّة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه عقب طي صفحات الرواية لماذا كل هذا الكم من جلد الذات للقوى اليسارية وهل مثل هذه الكتابة نوع من التبرؤ أو التطهر وهل شاخت الأفكار اليسارية في المنطقة العربية ومثل هذه الكتابات والإرهاصات الأخيرة لوضع نهاية مأساوية للفكر.

مراجعة كاملة وعميقة
كشف المهندس أحمد بهاء شعبان الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري عن أن اليساري العربي بالفعل يحتاج إلى مراجعة كاملة وعميقة يتناول بالبحث والتحليل واقعة وأخطاه وآليات معالجة هذه الأخطاء والسبب في ذلك وعلى مدار العقود الأخيرة تراجعت قدرة اليسار العربي على التأثير في الواقع وضعفت قدرته على جذب انتباه الأجيال الجديدة بسبب عجزة عن صياغة برامج واقعية تعالج مشاكل السكان وتطرح حلولا تجذب إليها أنصارا جددا، وأن التجاهل أو الهروب من كشف واقع اليسار العربي لا يفيد في تحسين وضعه الحالي. لذلك المطلوب الآن وبالفعل نظرة موضعية لحالة اليسار العربي من دون إغفال المتغيرات المعادية سواء في التحولات الاجتماعية، أو عن طريق سيطرة طبقة بعينها.
وعلل شعبان أسباب تراجع اليسار العربي بعد أن كان في فترة يقود المجتمعات ضد الاستعمار ومواجهة الهجمة الشرسة على الأراضي العربية إلى وصول نخبة سياسية تابعة إلى الفكر الرأسمالي الغربي ولفلسفة السوق، عبر عنها بصورة واضحة نظام الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات للانتقال من نظام اشتراكي إلى نظام رأسمالي، والانقلاب على كل الإنجازات التي تحققت للمواطن المصري الذي كان ينحاز إلى الطبقات الفقيرة. وبالتالي غير منهجه وتحول بالمجتمع إلى سياسات الانفتاح، وكان الغرض من هذه السياسات تكوين نخبة جديدة سياسية واقتصادية تابعة للغرب وللولايات المتحدة الأميركية التي تمثل الرأسمالية الجديدة، بالإضافة إلى أن النظام قام بتدمير الحامل الموضوعي لفكرة اليسار وهي الطبقة العاملة، عن طريق تصفية وبيع المصانع وتشريد الآلاف من العمال، ومن ثم تحول المجتمع إلى مجتمع استهلاكي للبضائع الغربية وغير منتج بخلاف التغيير الثقافي الذي نجحت فيها النظم في إحلال الطبقة العاملة بطبقة استهلاكية متناقضة مع الثقافة السابقة، مع وجود بعض النظم القمعية التي واجهت اليسار بكل عنف خوفا من تأثيره على الشارع بعد أن أطلقت عليه بعض تيارات الإسلام السياسي، مما أدي إلى نشر بعض الشائعات غير الموضوعية ضد اليسار، كل هذه الأسباب أدت في النهاية إلى تراجع قوى اليسار العربي وساعد أيضا في ذلك سقوط الاتحاد السوفياتي الأمر الذي ساعد بشكل واضح في عزل اليسار.






المهندس أحمد بهاء شعبان




مواجهة التيارات اليسارية
وأجاب شعبان عن سؤال حول دور اليمين الديني في إضعاف اليسار قائلا: «لقد وجهنا ذلك حينما كنا طلابا في السبعينات من القرن الماضي بعد أن أطلق السادات التيارات الدينية في الجامعات المصرية وخصوصا جماعة الإخوان بعد أن أطلق سراحهم من السجون وأعاد لهم أموالهم وسمح لهم بالعمل وسط الطلاب لمواجهة التيارات اليسارية أدى ذلك إلى استخدام الجماعات المتطرفة لأساليب العنف ضد عناصر اليسار التي كانت في ذلك الحين تسيطر على الجامعات.
وعن تحالف بعض فصائل اليسار العربي وخصوصا المصري مع جماعات الإسلام السياسي أكد شعبان أن هذه التحالفات خطيئة تاريخية لا تغتفر، ستدفع هذه الفصائل ثمنا لها أغلي مما تتوقع، والسبب في ذلك أن هناك تناقضا موضوعيا، فأنْ تكون يساريا عليك أن تكون منفتحا على كافة التيارات، تؤمن بحرية الآخرين في الرأي تؤمن بالتعددية السياسية وفكرة المواطنة، فلا يمكن أن يكون هناك أرضية مشتركة بين جماعات الإرهاب والتيار اليساري، فهم يقتلون على الهوية، كارهين الآخر، بينما اليسار يرفض كل ذلك، لذلك نطرح سؤالا: كيف للأبيض والأسود أن يلتقيا؟ معتبرا أن هذا التحالف تحالف مصالح لا يقوم على مبدأ، وهو تربطه مصالح الوصول إلى السلطة، ولن ينسي الشعب المصري تحالف قوي ناصرية مع جماعة الإخوان بعد ثورة يناير ممهدة الطريق لوصول الجماعة إلى الحكم.

ومن جانبه، قال مدحت الزاهد رئيس حزب التحالف الشعبي (وهو حزب اشتراكي) أن المصالح الشخصية والذاتية في الجوهر لا تكون سببا في ضعف اليسار العربي، ولكن عند وجود ظاهرة كبرى على الباحثين البحث عن الأسباب الكبرى والبحث عن السياقات الأوسع، لأن البحث عن الأسباب الشخصية في ظاهره غالبا ما ظهر في الأزمات أو الانحسار، وبالتالي لا يمكن لعناصر الضعف الشخصية تفسير ظاهرة عامة. والنقطة الأخرى المرتبطة بالأولى هي مواجهة التغيرات التي واكبت العالم وهذا التغير كان مرتبطا بعلاقة قوى تصعد في ذلك حين تمثل الرأسمالية والتي ارتبطت بأنظمة استبدادية، وبالتالي تم التعامل مع اليسار بكل عنف، وفي نفس الوقت كان اليسار خلال السنوات الأخيرة له مواقفه الوطنية. وعلى سبيل المثال، وقف اليساري المصري في وجه التعديلات الدستورية وفي قضايا اجتماعية أخرى كان اليسار حاضرا فيها وأيضا في مواجهة التبعية والهيمنة كان اليسار حاضر فيها، وهذا لا ينفي تشتت اليسار أو بعض اليسار.






رئيس حزب التحالف الشعبي مدحت الزاهد




مقدمة صفوف القوى السياسية
وكشف الزاهد أن هناك أقساما من اليسار وقفت في صف المعارضة ولم تبحث عن كراسي أو مناصب سياسية وعندما تشاهد قائمة السجون في العصور السابقة ستجد اليسار في مقدمة صفوف القوى السياسية، لكن هذا لا ينفي أيضا أن هناك قسما من اليسار لديه أسباب شخصية وهناك تيار انتهازي ارتبط بالسلطة كما ذكرنا لتحقيق منافع، لكن ومع تقدم الرأسمالية تراجع اليسار في العالم أيضا ولو نظرنا خارج الوطن العربي ستجد اليسار تراجع في اليونان، في نفس الوقت هذا اليسار الانتهازي لا يوجد في الدول العربية فقط، ولكنه موجود في يسار العالم كله... في حين أن هناك فصائل من اليسار تنظر إلى المناصب السياسية والكراسي على أنها لا تحقق أحلام الجماهير وهؤلاء دائما ما يكونون أقرب إلى السجون لا القصور ومن ثم لا يرون هذه المناصب للحفاظ على مبادئهم.
وأكد الزاهد على أن نموذج ثورة السودان خير دليل على عدم وجود أسباب شخصية أو أمراض الذات في تراجع اليسار، فهناك ثورة شعبية يقودها إن جاز القول أو بعض من قيادتها تمثل اليسار وهذا لا ينفي وجود فصيل انتهازي أيضا لكن الوجه الرئيسي لليسار السوداني هو المقاوم فتاريخ اليسار في السودان عامر بالتضحيات لأجل المصالح العامة للشعب السوداني والمصالح العامة للوطن لا من أجل مصالح شخصية.. وإن صعود التيار اليساري في الخمسينات والستينات من القرن الماضي كان مرتبطا بصعود قوى التحرر في العالم كله ضد الاستعمار، وتكوين دول عدم الانحياز، لذلك هذا الزمن يختلف عن عالمنا الآن، في نفس الوقت هذا الصعود كان مرتبطا بوجود قطبين للقوى. والمناخ العام كان مهيأً لصعود اليسار. في ظل انهيار الإمبريالية القديمة ولم تكن الإمبريالية الجديدة استعدت لمواجهة ذلك، أيضا وجود الاتحاد السوفياتي مع وجود بعض الدول الاشتراكية ساهم بشكل كبير في صعود اليسار في ذلك الوقت حيث كان هناك عالم جديد يتشكل، لكن بعد أن استعادت الإمبريالية العالمية قواها عادت للاستبداد وشكلت عالماً جديداً مع وجود دول تابعة لها.
وكشف محمد سعيد، الأمين العام لحزب التجمع الوطني، (حزب يساري) عن أن اليسار العربي في فترات كثيرة يقوم بجلد ذاته والسبب في ذلك أن هناك فرصا كثيرة أتت إليه ولم يقم باستغلالها، وضاعت عليه في توحيد نفسه، ليكون قوى حقيقية على أرض الواقع، سواء أكان في السودان أو في مصر أو العراق وغيرها من الدول العربية، اليسار أيضا يجلد نفسه أحيانا بسبب أن هناك فترة طويلة من بدايات الأربعينات من القرن الماضي حتى منتصف السبعينات وهي فترة المد الاشتراكي في المنطقة العربية وكان قوياً جداً حيث شارك في حكم هذه الفترة في سوريا، ولكن لم يستثمر اليسار هذه الفترة ليحصل على موقعة الذي يستحق.


أهم أسباب التشرذم
حدد سعيد أسباب تراجع اليسار في الفترة الأخيرة ومن أهم هذه الأسباب التشرذم، لكن في فترة من الفترات توحد فيها عام 1958 ولم تستمر هذه الفترة طويلا، بعده عاد إلى التفكك والانقسامات، حيث التحقوا بتنظيمات الدولة في ذلك الوقت، لكن دائما ما تكون الأنظمة طرفا ضد تواجد اليسار في السلطة أو تنظيمات مستقلة، فاليسار المصري والسودان عانى كثيرا ووصلت إلى الإعدامات في عهد جعفر النميري مثل عبد الخالق محجوب وآخرين في السودان وخميس والبقري في مصر، وأدى رفض هذه الأنظمة لتواجد اليسار إلى ضعفه أيضا.
وحدد سعيد أسباب عدم توحد اليسار في الأوطان العربية في كل بلد على حدة، إلى أسباب شخصية تكمن في استقلال بعض الشخصيات بالزعامات، أو الاستقلالية، وكل مجموعة تمثل حزبا منفردا أو تحالفا على طبيعة هويتها، هناك أسباب أخرى مثل الخلاف حول برنامج أو توجهات سياسية أو تحالف ما، أو حزب يتبنى نظرية الاتحاد السوفياتي حينما كان موجودا في نفس الوقت فريق يتبع الاشتراكية الماوية، لكن السبب الأساسي كما ذكرنا هو الاستقلالية والزعامة، وستجد هذه الأمراض في كافة الفصائل اليسارية في الأقطار العربية في لبنان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين والمثل على ذلك وجود الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وكلتاهما يسارية وهذا النموذج لا بد أن يتوحد لمواجهة العدو وتحرير الأراض، لكن إرث اليسار هو نفس الإرث ونفس الأمراض التي كانت في الماضي تجدها الآن في هذا العصر.
وذكر سعيد أن كل ما سبق ذكره من أسباب تراجع اليسار العربي كان السبب الرئيسي في الابتعاد عن الجماهير ومن ثم غاب عن الشارع العربي رغم أنه ينحاز دائما للطبقات الفقيرة وأفكاره تنتشر بشكل سريع في الأوساط الجماهيرية جعلت الأنظمة دائما ما توجه إليه ضربات، في حين أن بعض فصائل اليسار تتحالف بشكل رسمي ومعلن مع بعض الجماعات الدينية وهذا رغم أنه لا يمثل ظاهرة غير منتشرة في اليسار العربي ولم تكن موجودة في اليسار في الماضي إلا أنه شكل سببا في فقدان هذه الفصائل لمصداقيتها في الشارع، لكن هناك تجارب سابقة في الماضي كان هناك تنسيق داخل الجامعات مع التيارات المتطرفة ولدينا تجربة حزب العمل الاشتراكي في الثمانينات الذي تحالف مع الإخوان، أيضا حديثا تحالف حزب الكرامة (حزب ناصري) مع الإخوان في عام 2013 ونجح على قائمة في هذا التحالف 7 نواب في البرلمان. وهنا نقول إن بعض فصائل اليسار للأسف تفقد البوصلة وتتعجل للحصول على أي مكاسب وتعتبر أن الإخوان المسلمين فصيلا وطنيا، وهو ما يعني أنهم سيفقدون هويتهم وسوف يذوبون داخل الجماعة.

Post: #21
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-04-2019, 01:11 AM
Parent: #20

أهلاً بالبرنس

العنوان يذكّرني بسعدي يوسف "الشيوعي الأخير"، وهو ينطلق شعرياً من منظور يبدو أنه يتناقض مع "تقدّمي البرنس".

وهذا حدس لست متأكّداً من صحّته، وإنما استقيته من أجواء الفصل المنشور من الرواية.

وكما يذكّرني بعناوين مثل "الساموراي الأخير" الفيلم المعروف..

طبعاً صفة "الأخير" ليست براءة اختراع لأديبٍ ما أو كاتبٍ

قلت يا برنس:
Quote: اسعدني كل هذا الاحتفاء بصدور الجزء الأول من ثلاثية التقدمي: غرفة التقدمي الأخير

هل الجزءان الاخيران جاهزان؟؟

أم أنّ هذا مجرّد "مخطّط روائي" أوحى به الجزء الأول؟؟

لدي ملاحظات أخرى، سأدلي بها لاحقاً.

Post: #22
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-04-2019, 06:26 AM
Parent: #21

Quote:
سلام عليكم استاذ الخواض و ضيوفك

التحية لكم و للروائي الأستاذ عبد الحميد البرنس و نتطلع لوصول روايته

لمكتبات السودان



أشكر الأستاذة العزيزة نعمات على بهاء التحية والمداخلة هنا. كم تمنيت أن تجد كتبي طريقا عريضا إلى الوطن. وفي أجواء ثورتنا القائمة، أتقدم في هذه اللحظة لأي ناشر سوداني بمسودة رواية السادة الرئيس القرد من أجل طابعة ثانية لها. والرواية المذكورة على فكرة توجد في نحو عشرين مكتبة جامعية في أمريكا من بينها هارفارد وستانفورد وبرنستون. هنا الفصل الأول من رواية السادة الرئيس القرد:


ثمة عتمة..

على أرض الحوش الترابية القاحلة الجرداء تماما من خضرة،

لا قاتمة،

لا خفيفة،

بين بين.

أما بعيدا،

أعلى من ذرى جبال العاديات،

وخلف مزق تلك السحب البيض القليلة المتفرقة،

فالسماء زرقاء، صافية.. حانية حتى.. ومضيئة.

مع ذلك،

لا قمر هناك،

ولا شمس.

هكذا، بدا الوقت نهارا أو ليلا، أو نحو ذلك، عندما أقبل يسعى، من أقصى "اللا مكان"، وعلى غير توقع، رجل طويل القامة، على محيّاه تلوح آثار النعمة واضحة جليّة. تماما، كما لو أن طعامه الضياء. أما شرابه فالمطر. لم يُلامسَ قطُّ أرضا. أبيض البشرة. شديد سواد الشعر. عيناه زرقاوان. باختصار، لم تكن ملامحه تشبه ملامح أهل "هذه المدينةِ"، في شيء.

أخيرا توقف.

شمّر عن ساعده الأيسر.. وقد فعل ذلك، "لعجبي"، ببطء، بهدوء تامّ، أو من دون أي تعجل، كما لو أنّه يمتلك الأبدية في خزانة محكمة الإغلاق، أو.. وهذا الأرجح.. كمن يُعطي نفسه مهلة التفكير بالطريقة المُثلى لقولِ أشياء لم يعد تأجيلها منذ مدة أمرا واردا، البتة.
ما لبث (وأنفاسه لا تزال تهدأ تباعا) أن عدّل من ياقته. وقال "بسم الله الرحمن الرحيم"، طارقا هكذا بحذر لكن بقوة تكفي كي تُسمع بابَ حوش بيت الداية القانونية أم سدير ثلاثا. ثم انتظر (وصوت أقدام يتناهى من الداخل المحجوب) صامتا متأهبا بكلياته. كانت تفاصيل ما يحمل من رسالة تضج في داخله مثل طرقٍ متقارب على سطح من حديد.

لم يكن ثمة من عرق ينزّ عبر مسام جلده. كما لو أنّه قطع رحلته بأقدام رجلٍ آخر. كان يرتدي جلبابا نظيفا أحمر رفيع الياقة. عمامته زرقاء متقنة اللف صاعدة على نحو مخروطي. أما نعله ذو السير العريض المخلوف فمن جلد بعير أشهب. مصقول ولامع. كما لو أنّه بدأ به المشي للتو. حول عنقه تلتف مسبحة حجازية طويلة خضراء تتدلى مثل ثعبان ميت إلى أسفل صدره. لم يمضِ وقت طويل على وقفته المشحونة بالترقب تلك عندما فُتِحَ وعلى غير العادة من دون أدنى ضجة تذكر باب خشب السنط العتيق على مصراعيه. وأطل من خلاله وجه الداية القانونية أم سدير، وقد بدا (ليس بشوشا كما قد يليق حقا بصاحبة دار تستقبل ضيفا)، بل قاتما، صنميّا، جهما، باردا، وخالٍ باختصار من أي علامة حيّة.

كما لو أن الزمن تجمد عليه!!

ما عقد لسان الداية القانونية أم سدير، هكذا، في الحال، أن الطارق لحظة أن أطلت عليه لم يتقدم نحوها (على غير عادة المتبع السائد) مصافحا. لم يبتسم على سبيل الصدقة. كما لم يبن على وجهه، قلقُ الذين تركوا على كره زوجاتهم، وهنّ يُصارعن أشباح الموت، في قلب ألم متصاعد لمخاضٍ شاق دون حتى معونة ما أو مساعدة من أحد.

فقط، واصل التحديق بأسى إلى أرض الصيف الجافة الغبراء الصلدة من تردد آلاف الأقدام، وقد اكتفى قبلها بتحية الداية القانونية، وهو يهمهم بصوته الراجف الأجشّ ذاك، قائلا:

"السلام عليكم، يا أم سدير"!

قالت:

"وعليكم السلام ورحمة الله"!!

ثم أخذت تتطلع إلى وجهه..

كان من الواضح جدا (كما ستخبر الداية القانونية أم سدير الناس في المجالس والمناسبات لاحقا على مدى عقود تالية) أنّ الرجل قد أقبل ساعٍ إلى بيتها في تلك الساعة المتأخرة أو المبكرة جدا من الوقت كحامل رسالة "لا تقبل تأجيلا، يا ناس". وقالت الداية على سبيل تأكيد جملة مزاعمها تلك: "قطع شك"، أو.. "يقينا ومؤكدا، يا ناس".

فهم أغلب الناس بمثل ذلك الوضوح الذاهل المتجدد في دهشته طوال ما سيلي من سنوات أنّ الرجل الغريب لم يكن على أية حال مجرد عابر سبيل حار دليله فأخذ يبحث مشمولا بريبة الغرباء عن مكان آمن يمضي فيه ليلته. بل جاء وفي يده بذرة ما، قابلة للزرع أو النماء. والله وحده يعلم أي نوع من الأشجار الكريمة، أو الخبيثة ستنبت، في الأخير، إذا ما حدث وغُرِسَت، على أرض "هذه المدينة". قالت الداية القانونية أم سدير وهي تعكس مدى حيرتها المتسع وقتها كمتاهة: "رسائل مثل تلك تعجز يقينا ومؤكدا عن حملها جبال العاديات نفسها. ناهيك عني أنا. فقيرة الله أمته المسكينة. وما لا أفهمه ونعمة ماء نهر صالحين المتدفق هذا منذ بدء خلق الكون والزمن لماذا اختارني أنا بالذات، الداية القانونية (المتواضعة) أم سدير، من دون خلق الله قاطبة، لتوصيل رسالته تلك، في حين أن شيخ بابكر إمام ومؤذن جامع الديك "أبو حبل" أولى لصلاحه المشهود به من قبل الناس جميعا بالعناية أو التوجيه مني لحمل أمثال تلك الرسالة"؟ أو.. "لا بد أن لي (يا ناس) حتى من دون أن أعلم قلب طفلة نظيف يقبع بوداعة هناك في الداخل"!

كانت علامات الحيرة لا تزال ترتسم على وجه الداية، ذي القسمات الغليظة البارزة، كمعالم قاتمة على طريقٍ ليليّ، وهي تحاول في الأثناء جاهدة وعلى الأرجح دونما جدوى التعرف على ملامح الرجل الواقف قبالتها، مثل باب مغلق. إلا أن وجه الداية الشاحب من توجس سرعان ما تكسر ولانَ، لحظة أن فطنت إلى تلك الدموع، تسيل على ما بدا منذ برهة في تتابع صامت مبللة لحيته المستديرة البيضاء، فتحركت عواطفها دفعة واحدة، حتى كادت أن تقترب منه، تربت عليه بحنانٍ "أموميّ"، وتسأله في جيشان انفعالها ذاك إن كان جائعا أم في حاجة ماسة إلى مساعدة، لولا أن الرجل قاطعها بتودد قد فاتها أن تدرك أبعاده الحقيقية في حينه، قائلا "لا هذا ولا ذاك، يا أم سدير. لست جائعا. ولا بي حاجة، صغرت أم كبرت، إلى عون من بشرٍ مثلي، هالك، في الأخير، وفان".

أخذ الخوف يحلّ محل الحيرة والعطف في قلب الداية القانونية أم سدير، وهي تواجه لأول مرة قدرة الزائر الخارقة تلك، على معرفة الخواطر الصامتة، وما تخفي الصدور. على أن مشاعرها سرعان ما أخذت في التبدل، ثانية، حين رفع الطارق الغريب يده المشعرة البيضاء، وربت هونا على كتفها مثلما تمنّت هي أن تفعل معه منذ لحظات، قائلا: "لا تراعي يا أمة الله أم سدير. فما لأجل أن أملأ جوانحك هكذا بالرعب قد جئت". وابتسم.

لما تبين للداية أنّ الرجل ينطق مرددا اسمها بكل ذلك الحنوّ، اطمأن قلبها إلى حد ما، وقد بدأت دون تقصد تترك ذاتها سابحة في موج العبق الرقيق المُخترق برائحة المسك المتصاعد في تهاديه من بين أنفاس الرجل الرطبة المتقاربة، إلى أن مالت، ولم تعد تحتمل أكثر، بثقلها كله، إلى جانب إطار الباب الخشب المشرع، كمن سيتداعى في أي لحظة.

سألته:

"بحق الله وجاه الرسول..

فقاطعها الغريب، بانتباه:

"ماذا"

قالت:

"هل أنت سيدي الشيخ الطيب راجل أم مرح"؟

لم يبتسم، هذه المرة.

بل أطرق مثل صنم.

بدا لثانية في ذهنها المستثار كما لو أن بقاء الكون أو زواله مجتمعا رهن إجابته. لما طال أمد ترقبها، انتشل الرجل رأسه، بصعوبة، من وعر ذلك الإطراق، وهو يمسح، في آن، على لحيته البيضاء المستديرة السابغة. قال: "لا، يا أم سدير. أنا لست هو. فهو هو. الولي الواصل. غوث الزمان. قطب الأقطاب. ما أنا سوى عبد فقير، إلى رحمة خالقه. لا حول لي.. لا شأن. وقد أتيتُ إليكِ اليوم وفقط لأخبرك أنها (إرادة الله)، يا أم سدير".

كما أقبل، تلاشى. لم يخلف وراءه من أثر، سوى رائحة المسك، على أنفها الآخذ في التعرق.

لم يعد قبالة الداية القانونية أم سدير من شيء آخر لتبصره، سوى مجرى الشارع الصغير المترب المتحول منذ برهة إلى نهير بمياه حمراء راكدة. قالت في محاولة للتغلب هذه المرة على تلك السرعة الجنونية المباغتة وغير المحتملة تماما لخفقان قلبها المتصاعد:
"اللهم لا نسألك رد القضاء لكن نسألك اللطف فيه".

ثم خيل إليها كما لو أن طائرا فضيّا مرق كعلامة لا تخطئها عين أعلى رأسها، قائلا: "آمين".

وكمن شرع يعاني من تقلب آخر لطقس نزق، ولما يفق بعد من أحواله الأولى، هزّت رأسها بالنفي، في وقفتها تلك، طاردة فكرة أنها قابلت الشيطان الرجيم نفسه، في الواقع والتو.

قالت:

"استغفر الله وأتوب".

لما أخذ العالم الفسيح المترامي (مثل سحب الدخان هبت عليها ريح) في التبدد والتلاشي، على حين غرة، صحت الداية القانونية أم سدير من نومها، قائلة بصوت جافّ:

"اللهم اجعله خيرا".

لنحو ثلاثة أشهر، أخذ نفس الحلم يتكرر، كل ليلة تقريبا، في منام الداية القانونية، بأدق تفاصيله.

ما ظلّ يثير روع الداية القانونية أم سدير، في كل مرة، لم يكن قطعا رائحة ذلك المسك، التي تظل عالقة بأنفها لوقت طويل، حتى (يا للغرابة) من بعد أن تستيقظ من نومها، بل كان مشهد تحول الشارع إلى نهير، بمياه حمراء راكدة، وعلى سطحه تلوح مثل تلك الأيدي، التي توشك على الغرق، مجردة عن أي حماية أو أمل في النجاة. كما لو أنها تستجير بها، "هي أم سدير المسكينة التي لا تملك من أمر نفسها مثقال ذرة"، من شيء كالقدر، كليّ السيطرة، حالك العماء، مطبق وشامل، وفوق هذا وذاك، لا يني يضغط طوال الوقت على أرواحها بثقل وقسوة جاذبا إياها نحو أعماق سحيقة مظلمة باردة لا قرار لها. بيد أن الداية القانونية أم سدير لم تفهم أبدا ما الذي كانت تحاول جاهدة أن تخرجه من جحر عميق وهي جاثية هكذا على ركبتيها لحظة أن طرق ذلك الرجل باب بيتها.

"اللهم اجعله خيرا"!

البعض أخبر الداية "على أمل المشاركة" أنها ستحصل "حتما" على "كنز ثمين". كنز "لن تفتقرين من بعد العثور عليه طوال هذه الحياة الزائلة". آخرون نظروا إليها بجزع مؤكدين أن عليها بوصفها الداية القانونية من الآن فصاعدا أن تصلي وأن تصوم وأن تتصدق كثيرا لأن يديها هاتين ستجلبان إلى العالم مَن قد لا يخاف الله في عباده والحرمات.

Post: #23
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: adil amin
Date: 10-04-2019, 07:12 AM
Parent: #1

يا سلام ابداع سوداني خارج المشهد الثقافي السوداني المعطل
اذا كانت الثقافة جزء من هوية السودان
اليس كان من الاجدي ان يجد الشباب هذه الرويات وان يترك للكاتب مساحة في الاعلام السوداني المريي والمسموع
الغريبة اعلام فيصل ده يكرر في ناس مكروروين لحدي هسة
ما في جديد ولا مفيد
ولا في حتي ببلوقرافيا للرويات السودانية والروائيين السودانين
والشباب في السودان كله ما بعرف حتي الطيب صالح والبعض يعرف عبدالعزيز ساكن

Post: #24
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: Osman Musa
Date: 10-04-2019, 08:57 AM
Parent: #23

سلام برنس
احسن زاتو رواياتك تكون موجودة ومعروفة في هارفارد وديوك و nyu في الاول حتي بعد داك
تبين في الوطن . اظن حتي موسم الهجرة الي الشمال في الاول انتشرت وزاعت في الغرب قبل
تظهر في السودان .
علي كل حال نحن منتظرين والله نشوف الكتب . وربنا يوفق .

Post: #25
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-04-2019, 11:03 AM
Parent: #24

Quote: هل الجزءان الاخيران جاهزان؟؟

أم أنّ هذا مجرّد "مخطّط روائي" أوحى به الجزء الأول؟؟


عزيزي المشاء:

نعم سمعت بشيوعي سعدي يوسف الأخير. ومع أن مفهوم التقدمي أكثر شموليّة, إلا أن الأمر برمته يتعلق هنا كما تعلم بالسياق ككل، سواء على مستوى النصّ، أو على مستوى الظرف التاريخي والاجتماعي العام الذي من شأنه حاليا مثلا قفل تلك الدائرة، التي بدأت مع صعود تيارات التغيير الجذري في العالم، دافعة إلى السطح بأسماء مثل جوركي وميخائيل شولوخوف وغيرهما ممن حملت أعمالهم مثل (مولد إنسان) علامات ذلك الصعود الثوري القوي! من ناحية أخرى، أو مواصلة للرد على مداخلتك الأخيرة، يطيب لي القول أن الجزء الثاني من سيرة التقدمي تم إنجازه منذ سنوات، حتى إنك شخصيا تداخلت هنا معلقا على بعض أجزائيه متحدثا عن المكان. كذلك تم نشر أخر فصل منه في الحياة اللندنية بعنوان وداعا عام 2010 إن لم تخن الذاكرة. بالنسبة للجزء الثالث فلا يزال بالفعل في طور المخطط الروائي. إذ يشغلني تاليا الجزء الثاني من سيرة الأمنجي أو الامتداد اللاحق لرواية السادة الرئيس القرد. هنا الفصل الأخير من الجزء الثاني من ثلاثية التقدمي علما أن اسم وليم الوارد في السياق أدناه هو حامد عثمان بطل الجزء الأول نفسه وقد قام بتغيير اسمه في كندا لسبب ما:





استيقظتُ في وقت متأخر.

كانت الشمس تضع قدمها بالكاد على عتبة النافذتين. أماندا لا تزال نائمة. على ملامحها تعبير ميت. لعلها عادت على مشارف الصباح. أتذكر طرفا مما حدث يوم أمس. بدأت أرتشف البيرة وحيدا داخل غرفة المكتب. لم أكن أفكر في أمر محدد. كنت أقرأ بلا مبالاة بعضا من تلك الرسائل الكثيرة التي ظلّت ترد إلى بريدي الإلكتروني من منفيين لا يزالون يكابدون قسوة العيش في مناف وسيطة، مثل شكر الأقرع، الذي بدأ يشكي أن الناس لم تعد تسأل وتتفقده، من بعد أن استقر بهم الحال في دول الغرب "المتقدمة". مرة طلب مني أن أرسل له مبلغا كي يعينه على شظف العيش في القاهرة".

وقتها، قمتُ بتحويل الأمر، برمته، إلى مزحة. كنت وغدا حقيقيا، وأنا أقول له: "لا تحزن، يا صديقي الأقرع. سأسأل عنك وأتفقدك، من حين لآخر، من دون أن يعني ذلك في كل الأحوال أنني سأبعث إليك في أحد الأيام بحزمة من المال"!

كانتا، أماندا ومليسا، كبرى شقيقاتها، تستعدان بضجة أنثوية حميمة للذهاب وحدهما إلى أحد تلك الملاهي الليلية. مليسا، لا تصلح أبدا أن تكون بمثابة حجر الزاوية في بناء بيت. تركتْ قبل أسابيع قليلة في معية زوجها أربعة توائم. ثم تفرغت تماما لمغامراتها. لا أتذكر لها الآن لحظة حنين واحدة. كانت مثل الضيف، ألقى برحله خطفا بين قوم مجهولين ورحل صوب المجهول وحيدا بلا ذكرى، بلا شوق، بلا حتى قلب يهفو لنداء طفل يتلمس طريقه آن الليل بحثا عن أمومة غائبة. لعل مليسا في هذا تسلك مثلما أسلك مع وجوه ذلك الماضي البعيد. كان لدي منذ البداية شعور غامض أن طريق أماندا لن تفضي في نهاية المطاف إلى شيء. أذكر أنني اعتذرت من مرافقتهما. كنت مُتعبا. وقد حولتني البيرة في نحو التاسعة إلى خرقة ملقاة على قارعة الطريق. واصلت الشرب بعد ذهابهما هائما في مداراتِ وعدٍ همست به أماندا في أذني "بعد عودتي أريدك أن تأكلني حيّة، يا وليم". كانت رأسي لا تزال مثقلة من أثر البيرة. وكان مرأى أماندا وهي نائمة إلى جواري يخبرني أنني لا أزال أسيرا لتلك الهواجس. طبعت على جبينها قُبلة. وسرت صوب الحمام. تعودت على عادة ترك باب الحمام مفتوحا. بدأت أتفهم إلى جانبها أن التوحد بستان ينطوي على الاختلاف والعزل بين أنواعه يُميتها. شيء ما جعلني أوصد الباب هذه المرة. كما لو أن روحا غير مرئية تتربص بي الدوائر في مكمن ما داخل الشقة. أفرغت أمعائي بتمهل. أخيرا، أنهيت تنظيف أسناني بينما أدندن بموشح أندلسي قديم "أيها الناس فؤادي شَغِف.. وهو في بَغيِ الهوى لا يُنصِف". في اللحظة الأخيرة، عدلت عن حلاقة ذقني النابتة، وهذا يوم سبت آخر. كان لا يزال في الوقت متسع إلى أن تستيقظ أماندا. كنت أسير نحو المطبخ المفتوح على الصالة، محكوما بتلك الرغبة لمدمنٍ عريق في صنع كوب من القهوة، ولا شيء هناك يعكِّر صفو الهدوء داخل الشقة، سوى أزيز الثلاجة الرتيب. فجأة وقعت عيناي على رجل غريب. لم أره من قبل. كان ينام على ذات الكنبة التي ظللنا نمارس عليها الحبّ أحيانا. بنظرة واحدة، أدركت فجيعة ما حدث أثناء نومي. كنت أواجه في تلك الثانية تحديات وجودي كرجل لأول مرة في حياتي. كان أسود البشرة، طويل القامة، في نحافته شيء من تواريخ الفقر المدقعة وراء البحار. وقد لاح داخل ضوء الصباح المتأخر الكثيف واثقا غير هيّاب. الوغد، لا بد أن لديه وقتا كافيا الليلة الماضية لخلع ملابسه وارتدائها على نحو لم يفقده أناقته بعد. فتح إحدى عينيه ببطء. لم ينسني هول الصدمة أن أرد على تحيته الصامتة المتهادية بإيماءة من رأسي. يا للسخرية، قمتا الوقاحة والتهذيب في موقف لا يحتمل قطُّ الجمع بين النقائض. تركتُه في هدوء يواصل نومه هناك. لكأن شيئا لم يحدث. في الآونة الأخيرة، بدأتْ أماندا تحدثني بشيء من الحنين عن مغامراتها السابقة كتاجرة مخدرات صغيرة. أخذتُ أفكر تحت وطأة الديون المتراكمة على كاهلي مع مرور الوقت في حاجة المنفيين الغرباء في المدينة إلى ما سيُذهب الحنين عن صدورهم، كما لو أنهم لم يغادروا الوطن لحظة، وقد بدت لي سوق المخدرات سوقا رائجة ولا مراء، مقارنة بتجارة الصيني. كنت أغرق في بحر تأثيرها شيئا بعد شيء. كانت تراقبني أثناء ذلك عن كثب وبحياد تام. لم يكن في عزمها مواصلة الدراسة، أو العمل. كانت فكرة العودة إلى أفخاذ المومسات وعودتي وحيدا مرة أخرى تشلّ إرادتي. ولا أدري كيف وصلت عائدا إلى غرفة النوم. بركتُ قبالة وجهها. كانت لا تزال نائمة. تفوح منها رائحة خمر وعفونة جسد غريب. كما لو أنني أراها لأول مرة. هززتها. قالت متشاكية بين يقظة ومنام "وليم، توقف"؟ هززتها بعنف أشد. أفاقت قليلا مواصلة الشكوى "وليم، دعني أنام"؟ هززتها هذه المرة مزلزلا كيانها كله. أفاقت تماما. ثمة رعب هائل أخذ يطل من داخل عينيها الشاخصتين. سألتها ضاغطا على حروفي بشدة وألم وحزن لا نهائي:

"هل ضاجعتِ الرجل الذي ينام على الكنبة الآن، يا أماندا"؟

العاهر! دفعة واحدة، استوت قاعدة على السرير، وقد بدا وجهها خاليا من أي أثر لحياة. قالت بينما تتأمّل الأرض تحت قدميها "نعم، ضاجعته، يا وليم". كل ما فعلته وقلته ساعتها ظلّ يؤكد لي على وجود تلك الحقيقة الوحيدة القابعة في داخلي كمشاعر بطل معتزل: أنني مِتُّ منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها الوطن. ما حدث تاليا لم يكن سوى تقلبات الكائن المختلفة على مدارات الحنين، أو الذكريات. لم تجتاحني ثورة الأعماق، لم تغلي الدماء في عروقي، لم أطلب ثأرا فوريا من غريمي الماثل بين يديَّ، لم أقم بتقديم دم العاهر على مذبح الغيرة، لم ألتهب حتى بقصائد الشرف الرفيع. وجدتني ولا أدري كيف أقف على رأسه. أتذكر أنه اعتدل من نومه جالسا كما لو أنه كان ينتظرني مغمض العينين. قلت له بموات:

"اخرج الآن من بيتي"؟!

بدا مترددا وهو يتقدمني بخطوة. يا للوقاحة، أخذ يصلح ما فسد قليلا من ردائه. ثم توقف داخل الطرقة. لكأنه يهم بوداعها وراء باب الغرفة الموارب. "من هنا"، كنت أشير له إلى باب الشقة. وجدتها مرتدية ثيابها تنتظر. لا تزال تحدق إلى الأرض. دعوتها للحضور إلى غرفة المكتب كما لو أنني بصدد اجتماع رسمي. هناك، حاولت الحديث عن أشياء يدعونها "الشرف". لم أفلح. رفعت رأسي بصعوبة شديدة. كما لو أنني أراها للمرة الأولى في حياتي. بكتْ، انتحبتْ، وتوالت دموعها قطرة فقطرة، حتى خلت أنها أبدا لن تتوقف.

كان جسدها الذي أعرفه جيدا ينتفض بشدة. كنت أجلس وراء المكتب الخشبي مواجها نافذته الزجاجية العارية من ستارة. كانت قابعة في وجوم تام إلى يسار المكتب. على بعد لمسة مني. من أشد حلكة ذلك القاع السحيق للضياع، أو العدم، سألتها "ألم أكن جيدا في الفراش، يا أماندا". قالت "بلى، يا وليم". قلت "إذن"؟ قالت "كنت ثملة، وحتى بعد أن خرجنا من الملهى. السافل! قام بمصاحبتنا إلى بيت إحدى صديقاتنا لقضاء ما تبقى من السهرة هناك. ظلّ لصيقا بي في وقاحة. واصلنا الشرب أكثر فأكثر. كان ثمة قوة غامضة أخذت تشدني إليه. لم أستطع فعل شيء حيالها. وا أسفاي، يا وليم". وصمتت. بعينين محترقتين، قلت "وتمارسين الخيانة في شقتي نفسها، يا أماندا"؟ قالت "ليس لدي ما أدافع به عن نفسي الآن. أتمنى فقط لو تنشق الأرض الآن وأغوص داخلها. لكن ما حدث حدث. ليس بوسعي تغييره، الآن". قلت:

"كم من الوقت يلزمك لحزم حقائبك والرحيل من هنا، يا أماندا"؟

قالت:

"قليل".

بعد لحظات مشحونة بالصمت المعدني نفسه، واصلتْ قائلة "أريدك فقط أن تعلم أنني لم أحبب من قبل رجلا آخر مثلما أحببتك أنت يا وليم ولا أزال. قد لا تصدقني بعد كل ما حدث أمس. لكنها الحقيقة. ما حدث كان مجرد غباء، لا أدري! يا وليم". من جوف تلك الإطراقة الأسيانة، قالت "سأحضر للملمة أغراضي ريثما تهدأ قليلا، يا وليم". في جلستي تلك، وصوت باب الشقة يفتح ويغلق، اجتاحني شعور لا نهائي بالوحشة. "لكأن شيئا زحف في داخلي ومات". ظللت أكرع الويسكي بعدها لثلاث ليال. لا أكلم أحدا. لا أحد يكلمني. ظهر اليوم الرابع، بدا كما لو أنني قمت بتصفية أحزاني، عندما مكثت طويلا داخل الحمام، وقد أمكنني بصعوبة تامة التعرف على ملامحي المطلة من داخل المرآة، قبل أن أحلق ذقني وأخرج إنسانا آخر مجردا من الأحاسيس أو المشاعر. ليس ثمة سطور من كراهية. لا غلّ. لا حقد. لا فرح. لا فقرة من بهجة. لا عنوان حبّ لأنثى. كنت مجرد صفحة بيضاء. وكان العصر يقترب من نهايته، عندما أخذ يتناهى بوق بالحاح غريب من أرض خلاء تقع غرب البناية مباشرة. خيل إليَّ كما لو أنني أسمع صوتها. حين نظرت أستطلع الأمر عبر احدى نوافذ الصالة رأيتها بالفعل. أشارت لي بمقابلتها في الأسفل على عجل. هناك، تبينت وجود ثلاث فتيات كن بصحبتها. قالت إنها حضرتْ كيما تسلمني النسخة الإضافية من مفتاح الشقة. وقالت بغموض إنني لم أستيقظ لحظة أن جاءت هي ليلا لأخذ ما تبقى من متعلقاتها الشخصية وإنها لم تؤذني لأنها لا تزال مفعمة بالحبّ تجاهي.

كنت أنصت إليها في شرود.

لم يثرني مرأى السيارة الألمانية الجديدة التي تقودها بقدر ما أثارتني طريقتها العملية تلك في الكلام. لكن صوتها لان فجأة وتكسرت قساوته على ضوء الغروب الذي حلّ وقتها، وهي تقول ممسكة بباب العربة وقدم على الأرض وأخرى بالداخل:

"وليم؟ أهذه هي النهاية، حبيبي"؟

أومأت برأسي مؤكدا في صمت.

قالت:

"أكل شيء انتهى بيننا، حقّا، وليم"؟

وقد أشحتُ بوجهي نحو اللا شيء:

"لم تتركين لي خيارا آخر، يا أماندا".

قالت "يا إلهي، وليم! ما زلت أحبك".

قلت:

"مع السلامة، يا أماندا بون".

كان ذلك آخر عهدي بأماندا.

لم تتوقف عن مهاتفتي تاليا لنحو الشهرين. قالت وقتها إنها حامل. لكأن الأمر لا يعنيني. في تلك الفسحة من الأرض الخلاء، وقفت أرقب العربة، وهي تندفع بقوة محدثة صريرا عاليا، تابعتها تنحرف صوب شارع سيرجنت القريب، وحين اختفت وتوارى هديرها في عمق الهدوء الحزين للغروب، أدركتُ بشيء من حياد أنه لم يعد لي "بعد اليوم" بقاء "في هذه المدينة".


Post: #26
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-04-2019, 04:17 PM
Parent: #25

"الشيوعي الأخير":
كلمتان وأوجه كثيرة

ضمن بحثي عن نص سعدي يوسف الشعري "الشيوعي" الأخير، وجدت أن هنالك سعوديا يسمى "الشيوعي الأخير"، ومتلازمة اسمها "الشيوعي الأخير" وووووووإلخ..

أدناه "متلازمة الشيوعي الأخير" بقلم دلال البزري:

Quote: متلازمة اسمها "أنا الشيوعي الأخير"
دلال البزري
4 أبريل 2019

"قيادي" شيوعي لا يتردّد في وصف نفسه بـ"الشيوعي الأخير". "قائد" شيوعي آخر يمرّر عبر الإعلام الصفة ذاتها عن نفسه: "اليساري" الأخير. وثلّة من "الشخصيات البارزة" تحوم حول هذه الصفة، وتتراوح عباراتها بين "الشيوعي الحقيقي" و"الشيوعي الأصيل" و"الشيوعي الصحيح".. إلخ. ودائماً مع "الرتبة" القيادية، وقصده الضمني أنه وحده هو الشيوعي؛ ولا مرة ترى واحداً من القاعدة الشيوعية ادعى هذا الاستثناء عن بقية رفاقه. وحدهم "القياديون" السابقون يعانون من هذه المتلازمة (syndrome)؛ وهذه الأخيرة هي إشارات وسلوكيات تصدر عن جماعة متشابهة، بعد تعرّضها لصدمة، كبيرة أو صغيرة. وفي حالتنا، تتمثل "الصدمة" بالسقوط المروِّع للشيوعية، وبقلعتها وتوابعها؛ وما لحقها من هيمنة جديدة لأفكار هي على نقيضها التام؛ حتى في الدول نفسها التي جسّدت الشيوعية المتحققة، الواقعية. ما هو معنى هذه المتلازمة؟

احتكار صفة الشيوعي، وكأنها ترمي إلى نزع الصفة نفسها عن آخر يعتبر نفسه شيوعياً، هو نوع من الهرطقة الشيوعية؛ كما هو خروج أحدهم بالقول إنه المسلم الأخير، أو الوحيد. مثل الأديان، تنشد الشيوعية الكمال والانصهار؛ ولا يلتقي شيوعيان يدّعيان الاستحواذ على الصفة، إلا ويكون أحدهما غير شيوعي أصلاً. ولا يقف الشبه مع الدين عند هذا الحدّ؛ فالشيوعي الأخير، بعد الأوحد، هو بمثابة خاتم للدعوة الشيوعية. لا قبله ولا بعده. نوع من التطويب الذاتي، لا يحتاج إلا للموت لتكتمل حلقاته. كأنه يقول للذين أتوا، أو لم يولدوا بعد، إنكم إذا أردتم شيوعيةً فخذوها من سيرتي، من قيادتي، من اسمي، من وجهي، من كتاباتي. من تصدّق من بين هؤلاء المبرّزين، بأي "مزاج" تختار من بينهم؟ وبناء على أية ميول؟ أي نزوع؟


أسئلة أخرى حول هذه المتلازمة: مثلاً، ماذا يعني أن يكون المرء شيوعياً؟ أنه قرأ كل كتابات ماركس وإنجلز ولينين وستالين؟ أنه لم يكْتفِ بهذا، بل توغّل في تاريخ الثورات الشيوعية، وعرف مجرياتها وخلاصاتها واستنتج من تجاربها؟ ثم: بعدما قرأ هذا كله، هل استوعب ما قرأه، هل فهم حقاً ما قرأه؟ وبأي معيار تحكم عليه، على درجة شيوعيته "الثقافية" هذه؟ أم أن الشيوعي لا يحتاج الشيوعي إلى هذه الثقافة بالأصل، خصوصاً الشيوعي القاعدي، البسيط. وعليه الاكتفاء بالملخصات، وجلسات التثقيف والتوعية، وإلى ما هنالك من دروب أنشطة "قاعدية" تؤمِّن للقيادة مواقعها التعليمية، الأستاذية، وسيطرتها على "الأفكار" التي قرأتها وحدها واستوعبتها وحدها؟

ثم بعد القراءة، أو اليقين بالأحرى، ماذا عن "تطبيق" هذه الشيوعية؟ إذ لا تقوم النظرية الشيوعية بغير ممارسة. صح؟ والتطبيق على كل المستويات: يعني في السياسة، هل طبق هذا الشيوعي القديس النظرية الشيوعية؟ أم أن الواقع لم يسمح له. ومع ذلك، واصل شيوعيته "المطبّقة" و"ناضل" في هذه الظروف المضطربة، وساوم وحسب، وناور، وغطى وتلاعب... ومع ذلك بقي شيوعياً؟ أم أن الإنجاز كان بأنه "تبوأ" موقعا "قيادياً، فآمن بنفسه كـ"شيوعي وحيد"؟

ليس للسذاجة السياسية حدود، تلْهمك أحياناً. ومن بناتها أنه يحق لك أن تسأل هذا الشيوعي الأوحد والأخير إذا بقي شيوعياً، وهو يخوض في حسابات مجتمعه ومذاهبه وزواريبه وحروبه.. وأن لوثة واحدة لم تنَل منه؟ ولا نحسب هنا البيئة التي نشأ فيها هذا القديس: هل وجب أن يكون والداه شيوعيين؟ وهل الآباء الشيوعيون يختلفون عن الآباء غير الشيوعيين بتربية أولادهم؟ هل النتيجة التي نراها على الأرض أثمرت شيوعيين "أقحاحا" على يد هذه أو تلك من العائلات؟ بل، مرة أخرى، هل يعني شيئا أن يكون المرء شيوعيا "قحّاً"؟

في الاجتماع والأخلاق الشيوعييَين، هل كان هذا الشيوعي الأوحد والأخير مثالاً يُحتذى به، كما يحب أن يبدو؟ هل كان يعامل من حوله بالروح المساواتية الشيوعية، بالتقاسم، بالغيرية، بالانكباب على الفئات المستحقة كما تنصّ الشيوعية؟ لا يعرف عن هؤلاء المطوِّبين أنفسهم نفَسَاً من هذا القبيل، هم الذين شبّوا على امتيازاتٍ حزبية، وتهليلٍ وتبخير، فصاروا يؤمنون باستثنائيتهم، كلٌ على حِدة، بأن الله كسر القالب عندما خلقهم. وبذلك لا يستطيعون النظر إلا إلى "فوق"، ولا مرة إلى "تحت" حيث قد يجدون أيضا من يقول عن نفسه "شيوعي حقيقي"؛ ولكنه لا يملك العلاقات ولا المنابر، ولا الطاقة، ولا الغرور..

يشبه هؤلاء العظماء من بين القوم الزعماء الذين يحكموننا. مع فرق واحد أنهم ليسوا في السلطة. أو أنهم يحتلون الموقع الأدنى في جهاز السلطة الثقافية والإعلامية، وشِلَله المنتشرة في المدينة. ومع فارق آخر، أنهم لا يأملون خيراً كثيراً، بعد كل هذا العمر، وكل هذه الهزائم، إلا بقطعة من ذاكرة الجموع؛ ترسخ استثنائيتهم بوجه تاريخ طاحن، فيحمون وجوههم بقداستهم، مقلّلين بذلك من أضرار النسيان على أسمائهم. شيء من الخلود.

ماذا ينضح من هذه المتلازمة؟ أن لدى فئة معيّنة من الشيوعيين، من أعمار متقدمة، وذوي "مراتب" معينة، شعورا بأن الزمن فلتَ من أيديهم، وبأن عليهم، على الأقل، تسجيل رسالة إلى التاريخ، لعلّ الذين لم يولدوا بعد يعلمون بأن رجالا مرّوا على لبنان، عظماء بشيوعيتهم، سجّلوا صفحات نضال؛ فينهلون منهم، في ظروفٍ أفضل، بعض الاستلهام من "تجارب شعبنا السابقة". كما يحصل عادةً مع طانيوس شاهين وثورة الفلاحين وانتفاضة العمال.. إلخ. كأنهم "يوصون" بأنفسهم: لا تنسونا، لا تنسوا أسماءنا.. صرخة جرداء في وادٍ أجدب.

Post: #37
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-08-2019, 07:17 PM
Parent: #23

تحية للأخ العزيز عادل أمين: ما أكتبه، أو أحاول كتابته، هو امتداد ظني لذلك المشهد الثقافي في السودان. بمعنى آخر، تقارب كتاباتي على تواضعها ذلك وضعية ذلك الإنسان، الذي ينتقل قسراً من سياق اجتماعي وثقافي أقل تعقيداً إلى سياق آخر للعيش أكثر تعقيدا. ماذا يحدث له في بيئته الجديدة؟ ما قدرته على التكيف؟ وما إلى ذلك من تساؤلات الوجود والبقاء. بالنسبة للشق من مداخلتك المتصل بعقبات قد تحول دون وصول كاتب ما إلى الناس، فذلك أمر يتصل في تصوري بمسائل عديدة، قد يكون من بينها كما ألمحت أنت السياسات الثقافية وما هو متاح من حريات، إلا أن على الكاتب أن يواصل كتابته خارج هاجس الانتشار، وربما في حالات أخرى بعيدا عن أمراض النجومية والشهرة، فأنت ككاتب لا تتحكم في الأخير بما هو واقع خارج ذاتك. ما يهمني شخصيا ذلك الصراع الأكثر مرارة مع أدوات الكتابة!

Post: #27
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: امير الامين حسن
Date: 10-04-2019, 07:56 PM
Parent: #1

تحياتى استاذنا الخواض لك والأستاذ البرنس
فى انتظار الاطلاع على الرواية

Post: #28
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-04-2019, 11:20 PM
Parent: #27

Quote:
عبد الحميد البرنس كاتب وروائي جميل ..
قرأت له كذا مرة وأعجبني جدا ..
التحية لأخونا البرنس ...



حياك الله أخي جمال ود القوز. وأشكرك على ثناء لا أستحق. تاليا نص من المتوالية القصصية مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة:












تواريخ لا يذكرها أحد






















حدث ذلك إذن منذ عهد بناء أول حائط في تاريخ العالم.

كان الإنسان، هذا الكائن ذو القدمين والذاكرة وجملة أشياء فريدة أخرى، قد توصّل قبلها لفكرة بناء ذلك الحائط، عن طريق سعيه الدؤوب المقدّس ذاك، للبقاء على قيد الحياة، وسط تقلبات ذلك المزاج النزق للطقس، بأقلّ قدر ممكن من الأضرار، أو الخسائر.

الحفريات، على جدار تلك الكهوف القديمة قدم الأرض نفسها، تخبرنا بمثل تلك اللغات المكتشفة حديثا، أي قبل نحو ثلاثة قرون أو أقلّ تقريبا، أن الريح وقتها كانت تتمرن على القيام بنزوة الأعاصير المدمرة بتمهل شديد. كما لو أنها بالضبط كانت تدرك مدى خلودها. هكذا، في أثناء غفوة نهاريّة للريح اللعوب نفسها، نشأ أول حائط قبالة مدخل كهف عند أقدام جبال كليمنجارو في كينيا كمصدٍ للريح. شأن الأفكار ذات الأصالة الأخرى. لا أحد يدري على وجه الدقة إلى أين يمكن أن ينتهي بها المسير عبر نهر الزمن المتدفق سريعا هنا وهناك. إذ جاء في أعقاب ذلك الإنسان الذي وُصفَ في حينه بالأعجوبة إنسان آخر. منح للحيطان عبر ربط بعضها إلى البعض الآخر إمكانية أن تصير إلى جدران.

صارت الحيطان في ترابطها ذاك متكتمة.

بعد مرور قرون أخرى، أقبل إنسان ثالث، يقال إنه لا ينام في العادة إلا خطفا. كانت رغبة السيطرة تعتمل في صدره، عندما أخذ من فكرة بناء الحائط تلك بُعدها المجازي، فنشأت تاليا وعلى فترات ومراحل لا حصر لها حدود وسجون ومسافات وحيطان جهمة أخرى لا مرئية داخل البشر أنفسهم وبينهم. كان من بين وظائف تلك الحيطان الخفيّة تنظيم عمليات الضبط الذاتي مثل "تأنيب الضمير والخوف والنفاق"، وحتى ما يدعونه بشيء من حذلقة هذه الأيام: "احترام السلطة".

تبع ذلك الإنسان، لحظة أن مضى نحو ألف عام، إنسانٌ رابع طابق بحذق مثير للحيرة ما بين مخالفة المجاز والسجن المادي.

صارت الحيطان منذ ذلك الحين أكثر وحشيّة.

ثم أقبل، بعد فترة ممتدة أخرى، إنسانٌ خامس.

رأى هذا الإنسان أن يقوم بتنظيم تلك الفواصل بعد أن تكاثرت داخل الإنسان وخارجه على ذلك النحو من خلال البيت ودور العبادة والمدارس، في هيئة "مُثُّلٍ عليا"!!

هكذا أعطى هذا الإنسان الماكر للجدران أسماءها.

كان من ضمن تلك المسميات ما يدعى "حائط البكّارة". بعض أولئك الناس، في منطقة الشرق الأوسط، يدعون ذلك الحائط تلطفا قائلين بالذات في تلك المجالس الثقافيّة الجامعة "غشاء البكّارة". كان غشاء البكارة هذا أول حائط مادي يُعرف من جسم الإنسان. وقد توصَّل الإنسان لعجبي إلى وجود ذلك الحائط من جسده حتى من قبل ظهور علم التشريح والأشعة ذات الرنين المغناطيسي. ثم ولا ريب أخذ يتكون هناك، على نحو مطرد، "حائط المنفى، " طوبة فطوبة، ولا يزال.

كان حائط المنفى هذا من أكثر تلك الحيطان "مدعاة للكآبة". يُوضع وراء هذا الحائط عادة أُناس يطالبون بهدم حيطان أخرى أُنفق في بنائها آلاف السنوات، حيث يُتركون هناك لمصيرهم تحت رحمة سماء العزلة لمكابدة تربة الحنين وحصاد الذكريات بين قوم مجهولين. ليس هذا فحسب. إذ جاء من بعد إنسان سادس يدعى "ذو الوجه العابس". وضع هذا الإنسان عقوبات تقلّ شدتها أو تزيد بحسب سمك وارتفاع الحائط الذي يتمّ تجاوزه. الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. وقد أقبل من بعد أولئك جميعا بشر آخرون لا تُعرف أعدادهم. كان يشع من عيونهم بريق غامض يُدعى "الذكاء". لم يكتفِ هؤلاء الذين وصفهم أحد شعراء الصين وقتها بالأبالسة بوجود تلك الحيطان. وقد أخذوا يبتكرون جيلا في أعقاب جيل وحتى الآن في أساليب تحسين مناعة الحيطان وتحصينها بلا توقف إلى أن غدا اليوم من رابع المستحيلات أن يتم تجاوزها.

هذا إذن تاريخ وجيز لقصّة بناء الحيطان في العالم.

بصورة ما، ولا أحد هناك يعرف على وجه التحديد والدقة كيف تمّ ذلك، وما الغاية أو الحكمة منه، بُعث من ركام ذلك الموت الموغل تماما في البعد والقدم وكذلك النسيان أول إنسان عبر تاريخ هذا العالم قاطبة قد فكر في بناء الحائط. حدث ذلك في مدينة نيويورك في أمريكا. أجل، لشقائه بُعث هناك، بالتحديد في تلك المدينة الفاتنة المولعة بالمقتنيات النادرة، حيث انتهى به المطاف هذه المرة بين جدران زجاجيّة داخل تلك الجدران الحصينة لمتحف "المتروبوليتان"، وقد تأكد أخيرا علماء الأنثروبولوجيا، بواسطة تلك الأجهزة الليزريّة الفاتنة، من تصديق الدعاوى التي تفوّه بها في أثناء المحاكمة. قال عند انبعاثه وقد أدرك على الفور هول ما خلّفه في وقت سابق وراءه "ما كل هذه الحيطان القائمة، يا أخوتي"؟

لما كان مكتظا كذلك بشهوة ملايين السنوات، ذهب مباشرة إلى شقراء تبيع الآيس كريم عند إحدى نواصي ميدان الزمن "تايم إسكوير". قال لها بلغة أهل المدينة التي بُعث فيها للتو إنه يريدها "الآن". واصل بصوت تخنقه الرغبة: "لا يهم أين، حتى أمام هؤلاء الناس المارة". كانت فتاة مكتنزة الردفين على قدر عال من ألفة المزاح السمج. قالت وهي تشيح بيدها في الفراغ الماثل بينهما "رجاء، يا هذا، لا تتجاوز الحائط القائم بيني وبينك، إلا استدعيت البوليس". قال بدهشةِ طفلٍ في الثالثة: "ما البوليس"؟ قالت الفتاة مجارية سذاجته الواضحة كعينِ الشمس "البوليس، إإإإم، البوليس، يا هذا، هو شخص تم تدريبه وتكليفه لقاء راتب شهري من قِبل بلدية مدينة نيويورك لحماية هذا الحائط أو ذاك من المرور عبره خلسة أو قسرا باسم السلطة العليا للقانون". تابع بحيرة لم تتوقف منذ انبعاثه "لكنني لا أرى الآن حائطا ينهض بيني وبينك".

بعد قليل، سأل:

"ثم ما القانون"؟

قالت بصبر أمام ما أخذ يترسخ لديها أنها قبالة مصيبة غير متوقعة بالمرة:

"القانون؟ إإإإم. القانون، يا هذا، هو جدران نموذجيّة تمّ تصنيفها وتبويبها ووضعها داخل حيِّز تؤلِّفه وريقات لو تمّ فردها لغطتْ مياه بحر العرب. يُدعى ذلك الحيز "كتاب القوانين"، حيث يعمل الحاكم السلطان الرئيس المسؤول بموجبه على مطابقته هنا وهناك مع طرق تجاوز الحيطان في الواقع المادي وغيره لتحديد مدى عقوبة التجاوز بصورة غير شرعيّة. فالنقل بصورة قسريّة". بدا له أن كلامها على الرغم من تصاعد فحيح الرغبة بين ساقيه لا يخلو من طرافة. وإن خالجه إحساس غامض أنه إزاء حيلة مبهمة لم يختبرها من قبل مطلقا في لعبة الغزل. قال:

"إذن. ما عقوبة مَن تجاوز حائطا، عنوة"؟!

وابتسم.

كان الجو باردا. لم يكن ثمة راغب في شراء الآيس كريم تلك الساعة من النهار. قالت من باب كسر رتابة العمل لا غير:

"حسنا، يا هذا السيّد الغريب، يُوضع مَن تجاوز أي حائط هناك عنوة أو خلسة بين جدران عاليّة أخرى يستحيل أبدا تجاوزها تسمّى بلا شك "السجن"، حيث لا وجود هناك لآيس كريم أو لمناسباتٍ تُعرض خلالها أزياء آرماني أو حتى لمرقصٍ ليليّ يُسمع بين جدرانه شأن تلك الأيام صوت فرانك سيناترا أحيانا. لكن يبدو عليك أنّك لم تسمع حتى بالأخوين رايتوس"!

تجاهلها.

وعيناه تبرقان مرة أخرى بوميض تلك الشهوة المليونيّة القاتلة، قال: "أريد مع ذلك تجاوز حائطك الخاصّ الآن". أخذ يتوغل ببصره بعيدا داخل صدرها المكتنز. هنا، تغيرت نبرة صوتها. وقامت هكذا حالا ببناء حائط الحسم، قائلة "أرى أنك قد تجاوزت الآن حائطيّ الخاصّ بالفعل، وتلك جريمة في عرف القانون، لو تدري، يا هذا". وأخذت تفكر لأول مرة وإن كان بنوع من التردد في الاتصال برقم هاتف الطوارئ. قال في نفسه بيأس تمنّى معه أن يعود إلى مهجعه الأبديّ "لو كنت أدرك ساعتها أن الخوف سيملأ هذا العالم من بعدي ما فكرتُ قطُّ في بناء ذلك الحائط". غادر الفتاة في صمت.

بدا مكتئبا تماما لحظة أن استدار مبتعدا عنها، بتلك الخطى البطيئة المثقلة، وقد خالجه حنين مباغت لا يقهر، لرؤية تلك الأشياء التي درج على رؤيتها قبل موته، كالشمس التي أخذ يبحث عنها بناظريه طويلا ودونما جدوى، وسط ذلك الدغل للغابة الإسمنتية الكثيفة المتفاقمة صعودا، حتى "باب السماء"، والتي يدعونها "ناطحات سحاب". كما لو أنه لم يُبعث من قبره بعد. في اللحظة عينها، كانت الفتاة لا تزال تتابعه بنظراتها، من وقفتها الحائرة تلك، من وراء فاترينة العرض الزجاجية، بينما يبتعد هو، كما يتابع إنسان عاقل عطوف إنسانا آخر أصابته لوثة جنون مسالمة بها شيء من اللطف.

كان يتوقف أثناء سيره. يتلمس حائطا هنا وآخر هناك بدهشة. وقد أبعد عن مركز تفكيره المعضلة المسماة الحيطان الصاعدة كالجبال "مقلقة راحة الآلهة". عوضا عن التوقف للتفكير في أشياء لا يعرف لو قُدِرَ له مقابلة أبناء عمومته يوما كيف يصفها لهم. في غمرة هذا الذهول، بينما يستعيد تفاصيل حديثه ذاك إلى الفتاة، لم يتوصل أبدا لفهم وجود مثل تلك الحيطان الخفية داخل البشر وبينهم. لا بل حتى تلك الحيطان التي تحجب أجساد الناس ويدعونها ملابس. فجأة، استوقفه عند أنقاض مركز التجارة العالمي شرطيّ شاب له وجه طافح بالنمش تنمّ لهجته على أنه من نواحي ولاية تكساس بهذه العبارة "قف مكانك، مَن أنت بحق القانون يا هذا؟ ثم ما هويّتك"؟ قال بطيبة تلك الألفيّة الزمنية البائدة:

"أنا يا أخي لو تعلم أول مَن بنى حائطا للبشر في التاريخ"!

ضحك الشرطي رافعا رأسه لأعلى. ثم قال بتهكم واضح:

"لا تخف. سنرى أي نوع من رعاة البقر المشبوهين أنت"؟

لم تكن معه وقتها بواقع الحال أي أوراق ثبوتيّة دالة عليه.

كما لم يُوجد لديه حتى مجرد عنوان لجدران خاصّة به تسمّى أحيانا في قاموس شعراء الحقبة الرومانسيّة "حضنا" أو "مأوى".

تم إيداعه، بعد إنقضاء حيثيات تلك الإجراءات "الضبطيّة" المهيبة، داخل أحد السجون، حيث قبع هناك، بين حيطان رماديّة، بأبواب ذات قضبان سوداء جهمة، إلى حين حلول ساعة محاكمته. لم يكن يدرك، حقَّ الإدراك، أن الاستغراق، على ذلك النحو، في التفكير بما آلت إليه من بعده فكرة بناء الحائط، قد حال بحسم بينه وبين رؤية ملايين الأشياء، التي أعقب ظهورها موته. لعل ذلك بالضبط ما قد عصمه من الوقوع فريسة سائغة لذلك المدعو في قواميس الطبّ "جنون".

هناك داخل السجن، كما يهز زلزال مدمر بيتا على شفا جرف، أخذ يدرك جيدا معنى أسوأ فكرةٍ خرجت من رأسه ذات يوم بعيد تسمّى "الحائط". قال بأسى لسجينٍ آخر صادف أنه كان مصابا في لا وعيه بداء الريبة المحكم: "انظر بربك ما فعلتْه يداي ذات يوم، يا أخي". كان يشير إلى حيطان السجن، وتلك الحيطان في الخارج، قبل أن يغرق كعادته منذ أن بُعث من ركام الموت في تأمّل المادة السطحية لتلك الجدران. السجين ذاك كما هو متوقع لم يعلق بشيء، البتة. كان قلقا فقط من وجود سجين آخر إلى جانبه ما ينفك منذ لحظة وصوله يطرح بلا توقف أسئلة غريبة الأطوار. ربما لهذا شرع على الفور في بناء حائط منيع من الصمت بينه وبين ذلك السجين الوافد بأسئلة ومزاعم تاريخية "تثير حيرة الشيطان الرجيم نفسه". كان السجناء الآخرون من حولهما قد ضجروا من حيطان الملل داخلهم وبينهم. وكان نفر منهم لا يزال مستغرقا بدأب في هدم حيطان السجن الملتفة بمعاول الذكريات أو الحنين. وهو ما لم ينعم به السجين صاحب الادعاء القائل إنه "أول مَن بنى حائطا للبشر في التاريخ". حيث كان يعاني بلا وعي من الوجود الغامض لتلك الحيطان التي تسمّى "سجن النسيان والعدم". وقد تباعدت به آلاف السنوات عن تلك الوجوه والعلاقات الأليفة التي أحبّ. كان جهره بتلك الأفكار والمزاعم الشيطانية عن بناء أول حائط بمثابة مواد بناء ملائمة لأخذه مرة واحدة من قبل السجناء الآخرين ووضعه بلا شفقة بين جدران الشائعة والعزلة الباردة المقبضة، حتى النهاية: "احترس! يُوجد سجين هنا فاقد للعقل".

كان من بين وظائف الجدّات في عهود سحيقة لم يعد يتذكرها أحد منذ آلاف السنوات أن يخبرن الأجنّة في الأرحام بواسطة تلك الأغنيات والأهازيج الرقيقة الحانيّة تلطيفا للمأساة أن الحيطان الجهمة تنتظر مقدمهم هناك في الخارج، لا محالة.

أجل، "مَن يعبر حائطا وراءه آلاف الحيطان، يا صغاري"؟

هكذا، شيئا فشيئا، قرنا بعد قرن، تحول ذعر الأمّهات ذاك لما ينتظر أطفالهن في الخارج من حيطان إلى شيء غدا له خصائص جيناتٍ وراثيّة أخذت البشرية لاحقا تطلق عليه بشيء من الحذلقة اسما غير اسم البكاء ذعرا: "صرخة الميلاد".














Post: #29
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-05-2019, 02:14 AM
Parent: #28

Quote: سلام برنس
احسن زاتو رواياتك تكون موجودة ومعروفة في هارفارد وديوك و nyu في الاول حتي بعد داك
تبين في الوطن . اظن حتي موسم الهجرة الي الشمال في الاول انتشرت وزاعت في الغرب قبل
تظهر في السودان .
علي كل حال نحن منتظرين والله نشوف الكتب


حياك الله عزيزنا عثمان:

يبدو أنني أواجه صعوبات تقنية في جلب الروابط الخارجية إلى المنبر. لكن هناك ثلاثة من كتبي يمكن العثور عليها في مكتبات أمريكية وكندية كما هو مثبت تاليا. والكتب رواية السادة الرئيس القرد، مجموعة ملف داخل كومبيوتر محمول، ثم المتتالية القصصية مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة:


Stanford university
University of California
University of Texas
University of Iowa
Washington University in St. Louis
Indiana University
American University in Cairo
Emory University
University of Michigan
Ohio State University
Duke University
NYU ABU Dhabi
Princeton University
University of Pennsylvania
Columbia University
New York University
Yale University
HCL Technical Services\ Harvard College
Portland State University
University of North Carolina at Chapel Hill
Library of Congress
University of Toronto Robarts Library\ Canada

Post: #30
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: أبوبكر عباس
Date: 10-05-2019, 04:34 AM
Parent: #29

الخواض والبرنس سلام،
الأدباء يتبعهم الحالمون
العنوان "غرفة التقدمي الأخير" حالم جداً ويوحي كأنو هناك تقدميون يساريون حقيقيون قبله.
اليسار التقدمي، إسلام الرسول وحياة الصحابة لم يحدث على مستوى الواقع ولن يحدث،
ديل حاجة كدا تخلي الفقراء يتمسكون بأمل كاذب مجرد أدب انساني.
التلاتين سنة الفاتن بعد سقوط جدار برلين ومجي الإنقاذ؛
اتفضح اليسار واليمين الديني
وبقى واضح انو الهوى غربي في هارفارد وأمازون دوت كوم وستاربكس ....
التقدمي الأول هو الوفرة الاقتصادية الغربية في أوربا وكندا وأمريكا وأستراليا

Post: #31
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: نعمات عماد
Date: 10-05-2019, 08:36 AM
Parent: #30

شكرا تاني الأساتذة البرنس و الخواض على النسمة الثقافية وسط الهجير السياسي.

إقتناء الجامعات العالمية لكتب البرنس مفخرة لكل السودانيين.

و الجاب استاذ البرنس يجيب استاذ الفاتح ميرغني ان شاءالله.

د. ابوبكر عباس

من فضلك شاهد فوكوياما يتحدث عن الثلاثين عاماً الماضية و عن politics of dignity
< https://youtu.be/AWakIqF-ITU >

Post: #32
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-07-2019, 00:16 AM
Parent: #31

أهلاً بالدكتور ابوبكر والاستاذة نعمات

آسف للغياب.

تمتلئ روايات كونديرا بالحديث عن الحزب الشيوعي والشيوعيين، والخبرة الاساسية للروائي تمثلّت في عضويته في الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي آنذاك..

في لقاء الصحيفة مع البرنس ورد التالي:
Quote: هل لديك أي انتماء سياسي في السودان
ليس لدي أي انتماء عقائدي سياسي.

طيب، في غياب علاقة شخصية مع التقدم السياسي، إنْ جاز لنا التعبير، ماهي المنابع التي شكّلت "بحر " الرواية؟؟


Post: #33
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-07-2019, 02:26 PM
Parent: #32

أشكر هنا الأخ الكريم محمد عبدالله الحسين على بهاء الحضور والمشاركة مع أمل أن يعكس هذا البوست شيئا ما مما أحاول كتابته هنا وهناك. تالياً تعليق من الكتاب الكبير رءوف مسعد في الفيسبوك على مقال عن رواية غرفة التقدمي الأخير نشرته صحيفة اندبندنت عربية في عدد اليوم للكاتب والشاعر المصري علي عطا:

Quote: اود هنا كتابة توضيحا و تعليقا سريعين .. بالطبع وجودي في هولندا يجعلني غير متابع للاصدارت الابداعية العربية الا ما يشير اليه الاصدقاء الذين يعرفون اهتمامي و شغفي بقراءة الأجيال الاصغر مني حيث اني و صلت حاليا الى الثانية و الثمانين (!) هذا هو التوضيح اما التعليق فهو اني بالطبع لم اقرا الرواية سوى القراءة النقدية التي قدمها على عطا مشكورا و هو من ارسل اللينك اليّ وكنت اليوم كما قلت له في بوست الشكر اكتب عن تجربتي في المنظمات الشيوعية و اليسارية المصرية .. واعلل اهم اسباب اخفاق التنظيمات الماركسية و اليسارية المصرية الى كسب مودة و تعاطف جماعير غفيرة هو تحجر تطبيق الافكار الماركسية بسبب عدم امكانية متابعة فوران الافكار و التظريات الماركسية في الغرب ( على ايامي بسب جهل قادة هذه المنظمات باللغات الاوربية عد قلة قليلة من اليهود المصريين مثل هنري كوريل اضافة الى النخبة الارستقراطية التي انضمت الى الماركسية و تنظيماتها مثل نبيل الهلالي و محمد عباس سيد احمد وشريف حتاته وافراد عائلة سيف النصر و انجي افلاطون
وغيرها من السيدات المثقفات ) . لكن موهبة معرفة لغات اجنبية لم تتح للقادة الذين تخرج بعضهم من الازهر او قبعوا في السجون فترات طوال مثل زكي مراد . هذه واحدة اما الثانية فان الجهل بقيمة العمل الابداعي للماركسيين القادة في التنظيمات الماركسة و اليسارية جعل الاتجاه الابداعي انذاك مكبلا بقيود الواقعية الاشتراكية ( هكذا كان اسمها ) التي كان يقودها في موسكو جوركي وبليخانوف .. لا اعرف طبعا بسبب عدم قراءتي للرواية المشار اليها سر تحولات و هجرة البرنس و ابطاله الى الشمال لكنها بالتأكيد علامات يأس قاتم من التنظيمات و من فشل الانتماءات السياسية

...رءوف مسعد

Post: #34
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-07-2019, 07:39 PM
Parent: #33

Quote: على سبيل التحية

حياك الله الشريف الشريف!

لم تطرح الرواية في الأسواق حتى الآن وما وصل منها إلى الناس كان نسخا محدودة للصحفيين والمهتمين من أصحاب الشأن.

Post: #35
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: سيف النصر محي الدين
Date: 10-08-2019, 00:20 AM
Parent: #34

شكرا يا خواض.
ومشتاقين والله يا برنس. كيفك والاولاد. جيد انك لسة بتكتب.

Post: #36
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-08-2019, 00:56 AM
Parent: #35

فاتني الترحيب بالاستاذ أمير

كما ارحّب بالدكتور سيف النصر.

وفي انتظار إجابة البرنس على سؤالي عن ينابيع ومصادر نهر الرواية أو بحر السرد،

اسجّل مرة أخرى إعجابي ب"الحيطان"، وهذه تسميتي الخاصة للنص..

و"تمنيّت لو كنت كاتبه"،

وهذا في رأيي المتواضع من أقوى التعابير التي يقولها كاتب لإبداء رأيه في نص ما..

وسأعود إليه.

Post: #38
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-09-2019, 02:29 AM
Parent: #36

"حوائط البرنس بين النشوء والارتقاء والحفريات".

يمكن للعبارة أعلاه أن تلخّص قصة البرنس "تواريخ لايذكرها أحد"...

سأعود للتفصيل...

Post: #39
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-09-2019, 06:56 PM
Parent: #32

Quote: في لقاء الصحيفة مع البرنس ورد التالي:
Quote: هل لديك أي انتماء سياسي في السودان
ليس لدي أي انتماء عقائدي سياسي.

طيب، في غياب علاقة شخصية مع التقدم السياسي، إنْ جاز لنا التعبير، ماهي المنابع التي شكّلت "بحر " الرواية؟؟


عزيزي المشاء: فكما تقول أنت هنا "كل سؤال مشروع". إلا أن سؤال المنابع هذا سؤال بالغ التعقيد على ما يظهره في الآن من بساطة. دعنا نبدأ بالجانب الشخصي رأسا نحو الهدف: كانت لي تجارب تنظيمية في السابق هنا وهناك. وكما يقول نيتشة الحيّة التي لا تغير جلدها تهلك. إلا أن الأمر بالنسبة لي هنا لا يتمثل في تغيير قناعات مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والسلام بأخرى على النقيض مثلا. بقدر ما هو توصل إلى نتيجة مفادها أن تعاطي السياسة في مستواها اليومي المباشر لا يناسبني ككاتب، وللدقة كسارد يهتم بالقبض على جوهر الحياة شديد التقلب والمراوغة. وفي هذه الرواية، أعتقد أن التقدمي هنا يحيل إلى نموذج في مقاربة الواقع والتعاطي مع وقائعه من منطلق عقائدي لا إلى كيان سياسي أو تنظيمي قائم هناك في الواقع المعاش. ومع ذلك، الرواية عرضة للتأويلات التي قد تقع خارج حسابات المؤلف مثلما يعكس مقال الروائي والشاعر المصري علي عطا أدناه. فمهما بلغ المثال الواقعي العياني الملموس من دقة مقتربا من كمال ما إلا أنه ظني لا يصلح كي يكون نموذجا روائيا دالا. ماركيز في السياق قام بإرجاء نشر رواية سرد أحداث موت معلن ثلاثين عاما، وهي رواية نقطة انطلاقها حدث واقعي، بناء على رغبة أمّه، كي لا تؤثر على أصدقائها أهل الضحية الواقعية. لكنه عاد بعد النشر واعترف أن نشرها قبل ثلاثين سنة كان من الممكن أن يكون بمثابة الكارثة "إذا لم يضف لها جنون الشعر وكيمياء الحنين". ماركيز يشير هنا كما فهمت إلى أهمية الخيال في توسيع أبعاد الواقع الضيقة. بمعنى ربما أن الأدب عامة والرواية خاصة تطرح على مستوى الوعي الممكن حسب البنيوية التكوينية بدائل للحياة أكثر إنسانية وقابلية للعيش. هنا من الممكن جدا تفهم سخرية كاتب مثل بورخيس من المدرسة الواقعية في الأدب وقتها. بورخيس نفسه صاحب كتاب الرمل الذي أراد أن يتخلص منه بالحرق لو لا أنه خشي أن دخان كتاب مثل هذا قد يختنق العالم به!


Quote: في روايته "غرفة التقدمي الأخير"، الصادرة حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن "سلسلة الإبداع العربي"، يسرد الكاتب السوداني المقيم في أستراليا عبدالحميد البرنس أحوالاً بائسة عاشها بطل العمل "حامد عثمان حامد" ونفرٌ من "رِفاق"، لا يقلون عنه بؤساً، في ظل اعتقادهم جميعا بأنهم معارضون يساريون لنظام حكم الرئيس المخلوع أخيرا عمر البشير. اعتبروا أنفسهم فرعاً في القاهرة - حيث يقيمون - لحزب يساري، مركزه في الخرطوم، في حين أن الأمل الكامن في في نفوس غالبيتنهم هو النجاة من الفقر المادي المدقع عبر فرصة للهجرة إلى الشمال الرأسمالي، متخذين من مصر محطة أخيرة نحو ذلك الهدف.
هذه الرواية تعد بحسب مؤلفها هي الجزء الأول من ثلاثية. في الجزء الثاني منها كما ذكر البرنس نفسه، "يتم عبر علاقات السرد فحص قضية الموت في سبيل أمر ما: إحدى الشخصيات تقودها تأملاتها إلى أن الضحايا هم وقود الحياة المترفة للسادة الأماجد حسب تعبير صلاح عبد الصبور... هناك صراع مصالح قائم ودماء أبناء الوطن بالنسبة لسلطة قمعية لا يعني سوى مزايدة أخرى على حسن الظن بها". وليس مستبعداً أن يكون الجزء الثاني هذا مقاربة جديدة للعلاقة مع الغرب على غرار ما قدمته مثلا رواية الطيب صالح الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" التي نشرت في بيروت في العام 1966.
وعنوان رواية البرنس يحيل إلى عنوان قصيدة شهيرة للعراقي سعدي يوسف، كتبت في العام 2006، وإن كان مضمونها يتناول عودة موقتة من المنفى إلى الوطن، وجاء فيها: "القصة وما فيها يا أصحابي ويا رفاقي (لا أدري إذا كنتم تستعملون كلمة رفيق... لا يهم!) أن الشيوعي الأخير ذهب قاصداً البصرة بعد أن ودّع حبيبته (ليزا) التي أوصته بألا يدخل البصرة بعد طول غياب إلا تحت الراية الحمراء".
"حامد" هو السارد الرئيسي في "غرفة التقدمي الأخير"، والأحداث تبدأ من لحظة بلوغه التاسعة والعشرين من عمره وقد مرت عشر سنوات على وجوده في مصر "منفياً". لكنه يسردها بعد مرور سنوات على وقوعها في شكل أقرب إلى مذكرات، كتبت بعد الهجرة المبتغاة. كان قد استقر في شقة من غرفة واحدة، "غرفة باردة كميدان"، بحسب وصفه، في محيط مصري فقير في شرق القاهرة. وفيها وفق سارد عليم "يكاد يسمع عواء جوعه يتناهى بإلحاح من ظلام بطنه". أما حامد نفسه فيقول: "صوتٌ ما آخر أوحى أن ما أعانيه، ربما ليس سوى أثر تدخين أعقاب السجائر الملقاة على الطرقات هنا أو هناك، أو لعله تنفس هواء الغرفة المشبع بعفن الرطوبة". ثم سرعان ما يعود السارد العليم في اللحظة ذاتها: " أرتالٌ مبعثرةٌ من الكتب. هو فأر كتب. أسير العبارات، عاشقها الأبدي المترع براح الشعر وأدبيات هذا اليسار". كان "حامد" حتى تلك اللحظة لا يزال وفيا لانتمائه إلى اليسار؛ "منذ بدأ الليل بدا كما لو أن هناك أكثر من سبب لتكاثر خلايا الضيق داخل صدري: التفكير في وفاة الرفيق لينين المبكرة، إعدام زعيم الحزب منذ عقود وتركه ذرية، قرار مالك الشقة برفع قيمة الإيجار". زعيم الحزب المشار إليه في ذلك المونولوغ هو نفسه القيادي الشيوعي السوداني عبدالخالق محجوب الذي نفذ فيه حكم الإعدام في 28 يوليو(تموز) 1971.
يتوقف "حامد" أيضاً في تأملاته داخل غرفته البائسة تلك عند حدث تحديد إقامة اللواء محمد نجيب؛ أول من تولى رئاسة مصر بعد ثورة 1952 في فيلا في شرق القاهرة لسنوات طويلة في صحبة كلبه الذي عندما نفق قام بدفنه في حديقة الفيلا وكتب على القبر "هنا يرقد صديقي الوحيد".
المرأة والتحوّل
الحدث المحوري في حياة "حامد" في تلك الحقبة يتمثل في مقابلته "مها الخاتم" أمام مبنى مفوضية اللاجئين في أحد أحياء القاهرة الراقية. يحاول التودد إليها لكنها لا تبالي به حتى بعد أن يصبحا زميلين في العمل اليساري السري، ضمن خلية سودانية في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي. لكنه مع ذلك لا يتوقف عن السعي وراءها حتى بعد أن يعلم بعلاقتها الغرامية بزميل آخر هو "جمال جعفر". وسرعان ما يهاجر "جعفر" إلى أميركا بعد أن أفشى تفاصيل علاقته "الجنسية" بـ"مها" لكل من يعرفونهما. هنا يجد "حامد" السبيل ممهدا لاصطياد "مها" وهي في ذروة صدمتها العاطفية، لكنه لا ينجح في ذلك إلا بعد أن يحصل على عمل في مركز أبحاث أميركي في القاهرة، تتحسن بفضله أحواله المادية بما ينقله من السكن في تلك الشقة/ الغرفة البائسة، إلى السكن في حي مدينة نصر الراقي.
"حامد"، واسمه الحركي "مُسالم"، سرعان ما سيزهد "مها"، خصوصاً بعد أن طلبت منه أن يتزوجها، ونجده يبرر لنفسه تخليه عنها بأنه لا يجوز لمثله أن يتزوج من "عاهرة". ليلة افتراقهما زارا معرضا في أتيليه القاهرة المواجه للمقر المركزي لحزب التجمع معقل اليسار المصري... وبحسب السارد العليم أخذ يتراءى (ذلك المبنى) هناك، على يسارهما، مثل كتلة قاتمة أشبه ما تكون بجسد من دون أطراف، وقد تحجَّر كميتٍ". ص 171، في إشارة إلى تحول أفكار الذي وجد نفسه في اللحظة ذاتها يفكر في طريقة للتخلص من "مها" "كقميصٍ بال"، مبررا لنفسه تلك الندالة بأنه تأكد حالا من أن عقله ينطوي على "هشاشة ثورية ذاتية لا تُحتمل".
تقول له "مها"، بعدما تأكدت من أنه قرر التخلص منها: "إن الثوري لدينا عنيف في أقواله مسالم في أفعاله". جاءت على الجُرج. والجملة أصلا هي لفرانز فانون. "معاوية الكامل"، وهو أحد أعضاء الخلية اليسارية تلك، بعدما التقى في القاهرة قريباً له ينعم بالثراء، أخلف وعده بعدم حلق شاربه وذقنه وشعر رأسه إلا بعد سقوط حكم الطغمة العسكرية في السودان. هذا الثري ويدعى "بهاء عثمان"، يفخر بأنه أصبح مواطناً أميركياً، وهو سيلعب أيضاً الدور الأهم في وضع حامد على "الطريق الصحيح"، فقد رشحه للعمل مساعد باحث بقسم العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وقال له خلال اللقاء الوحيد الذي جمعهما: "دع عنك الأوهام عن الإمبريالية". ص 183. هذا العرض "كان بمثابة سلسلة قنابل ألقيت على منجم روح حامد المنغلقة بصخر السلبية، وربما كذلك قلة الحيلة وحتماً ضعف القوة".
حامد يسرد مخاطبا "شكر الأقرع"، والأخير يتولى بنفسه السرد أحياناً. "الأقرع" هو أيضا من الساعين إلى رحاب جنة أرضية انطلاقا من القاهرة، ويقول: "ما يهمني من شؤون هذه المدينة، ليس سوى لقمة طعام ومطرح رأس، إلى أن يقرر الله، فالتحق بأولئك الهاربين خفافاً إلى رحاب دولة غربية. عدا ذلك فليذهب إلى ظلمة القاع المنسي من الجحيم". هو لا يخفي عدميته، ويشكل مع "حامد"، ربما، وجهين لعملة واحدة، إذا سلَّمنا بأن لكليهما الهدف نفسه، أحدهما يضمره مدعيا النضال ضد كل ما يمت إلى العسكريتاريا والرأسمالية المتوحشة بصلةٍ، فيما الآخر يعلنه بوضوح سافر وفج، من دون أن يدعي أن له صلة بأي نضال، غير ذاك الذي يتصل بتأمين الحد الأدنى من طعام يبقيه على قيد الحياة، وجدران تحميه من النوم في الشارع.
يقول "حامد" لنفسه، لدى تسلمه عمله الجديد، ربما ليدفع الريبة التي انتابته للحظةٍ إزاء أهداف ذلك العمل: "لقد مضى عهد الرفض". هو على أية حال سار على درب "مها الخاتم" التي سبقته إلى العمل لحساب "منظمة مشاريع تنموية" أميركية، لكن طلبها الذي تقدمت به إلى مفوضية شؤون اللاجئين قوبل بالرفض، فيما كان هو على يقين لا يعرف أسبابه من أن طلبه سيلقى القبول، وأنه سيصر على ترك "مها الخاتم" لمصير شديد البؤس، خصوصاً وهو يعلم أنها تمر بمرحلة متقدمة من مرض السرطان، وهكذا يأتي ختام الرواية عبر سارد عليم: "من بين دموعها المتساقطة، على صخرة قلبه الصماء الصلدة، دمعة فدمعة، قالت: قريبا لن تكون هناك على رأسي شعرة، يا حامد. كيفية الهروب من كيان آدمي يوشك على السقوط، كان ذلك كل ما فكر فيه هذا اليساري".
"غرفة التقدمي الأخير"، هي التجربة الروائية الثانية لعبد الحميد البرنس بعد رواية "السادة الرئيس القرد" التي صدرت قبل عامين عن دار "ميريت" في القاهرة، وهو أصدر في العام 2001 مجموعته القصصية الأولى "تداعيات في بلاد بعيدة"، وأتبعها بمجموعة قصصية ثانية عنوانها "ملف داخل كومبيوتر محمول" صدرت العام 2010، وصدرت له متتالية قصصية عام 2016 عنوانها "مشاهد من رحلة يوسف".

Post: #40
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-10-2019, 02:02 AM
Parent: #39

ماسأطرحه حول تواريخ لا يذكرها أحد للبرنس ،ليس دراسة نقدية بالمعنى الدقيق وإنما إشارات تساعد القارئ في مقاربة النص و"فهمه"...لا توجد طريقة واحدة لمقاربة نص البرنس فهو يقبل طرائق متعددة.

مثلا يمكن النظر إليه من زاوية العنوان، وكيف يعكس العنوان أولا يعكس مضمون النص ، وماهي وظيفة العنوان.

كما يمكن مقاربته بالنظر الى بداية النص ونهايته...يبدأ النص بكيف اخترع الانسان الحائط لسد الحاجة "الحماية"، وينتهي النص بالإيحاء بأن الإنسان كائن محكوم عليه بالحوائط منذ وجوده في الرحم، وان صرخة الميلاد هي في تفسير سردية البرنس علامة الخوف من الحوائط المنتظرة..
يقول نص البرنس عن أعلاه:
Quote: هكذا، شيئا فشيئا، قرنا بعد قرن، تحول ذعر الأمّهات ذاك لما ينتظر أطفالهن في الخارج من حيطان إلى شيء غدا له خصائص جيناتٍ وراثيّة أخذت البشرية لاحقا تطلق عليه بشيء من الحذلقة اسما غير اسم البكاء ذعرا: "صرخة الميلاد

العلم له تفسيره الخاص بصرخة الميلاد.

أما الدين فيفسر الصرخة بأنها "نخسة الشيطان" للمولود.

يقول الحديث:
Quote: ما مِن مَوْلودٍ يُولَدُ إلَّا نـخَسَه الشَّيطانُ، فيَسْتَهِلُّ صارخًا مِن نَـخْسَةِ الشَّيطانِ، إلا ابنَ مريمَ وأُمَّه، ثم قال أبو هريرةَ: اقْرَؤوا إنْ شِئتُم: {إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].

الراوي : أبو هريرة | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج المسند

الصفحة أو الرقم: 7182 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط الشيخين

يرد "الشيطان "في سردية البرنس. حين يتحدث عن "الأفكار والمزاعم الشيطانية" مرتين، وعن "أسئلة ومزاعم تاريخية "تثير حيرة الشيطان الرجيم نفسه"، لكنه ينأى عن التفسيرين الديني والعلمي لصرخة الميلاد.

سردية البرنس تفسر صرخة الميلاد بشكل يعكس "عبثية الوجود".

وهاهنا نجد الحرية التي تُعطى للإبداع في تناوله لمظاهر الوجود، ...

ونواصل....

Post: #41
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-10-2019, 10:52 AM
Parent: #40

الزمن والمكان في النص:

يمكن مقاربة النص من خلال زمانه ومكانه..فالزمان يمتد الى الوراء السحيق من الزمن مقتفيا سردية داروين في تفسيره لنشأة الأرض ، ونجد ذلك في العبارة التالية الواصفة لأول من بنى حائطا في التاريخ البشري"
لما كان مكتظا كذلك بشهوة ملايين السنوات

ونجد أيضا وصفا لطيبة المخترع الأول للحيطان " في العبارة التالية:
قال بطيبة تلك الألفيّة الزمنية البائدة:

فالزمن يمتد من بداية انسان الكهوف ليعبر قرونا غير محددة في النص من خلال ارتقى مفهوم الحيطان الواقعية والمجازية حتى يصل إلى الزمن المعاصر في مدينة نيويورك.
يوهم السارد بعبارته التالية أنه قد انتهى من سرد حكاية نشوء وارتقاء الحيطان :
هذا إذن تاريخ وجيز لقصّة بناء الحيطان في العالم.

هذا الايهام هو لافساح المجال لمخترع الحائط "إنسان كليمنجارو"..وقد لجأ السادر إلى حيلة لطيفة حين خلع رداء الراوي العليم ليرتدي زي الراوي غير العليم لإدخال المخترع إلى ساحة السرد، حين قال:
بصورة ما، ولا أحد هناك يعرف على وجه التحديد والدقة كيف تمّ ذلك، وما الغاية أو الحكمة منه، بُعث من ركام ذلك الموت الموغل تماما في البعد والقدم وكذلك النسيان أول إنسان عبر تاريخ هذا العالم قاطبة قد فكر في بناء الحائط.
وفي رحلة المخترع المأساوية يكتشف أنواعا كثيرة من الحيطان، وهنا تتواصل بشكل غير مباشر قصة بناء الحيطان التي كنا قد اقتنعنا أنها قد انتهت.

كذلك نجد أمكنة كثيرة أولها مكان اختراع الحائط كما في العبارة التالية :
نشأ أول حائط قبالة مدخل كهف عند أقدام جبال كليمنجارو في كينيا كمصدٍ للريح

ثم يعبر بنا إلى الشرق الأوسط كما في العبارة التالية :
". بعض أولئك الناس، في منطقة الشرق الأوسط، يدعون ذلك الحائط تلطفا قائلين بالذات في تلك المجالس الثقافيّة الجامعة "غشاء البكّارة".

ثم نجد نيويورك كما في العبارة التالية:
حدث ذلك في مدينة نيويورك في أمريكا

فالنص ينتقل بين الأزمنة والامكنة في مساحة مطبوعة صغيرة ،ومن هنا يطرح سؤال هل من بطل في النص؟
هل هو المخترع الأول لفكرة الحائط ، إنسان كلمنجارو؟ أم الحائط في تحوّلاته الكثيرة المتعددة عبر الزمان والمكان؟ أم أنه "الإنسان" في كافة مراحل تطوره؟
كما ألمحنا سابقا فالنص يأخذ بنية داروينية حفرية "اركيولوجيا" في بحثه عن نشوء وارتقاء "الحائط" والحوائط بالجمع من خلال بشر كثيرين ساهموا في تحويل الحائط من مصد للريح إلى كابت للإنسان.

أخر نقطة أحب الإشارة إليها هي أنواع الحيطان كما رصدناها في النص وهي كالتالي:

أنواع الحيطان:
1- النسيان والعدم كحائط. يقول النص "حيث كان يعاني بلا وعي من الوجود الغامض لتلك الحيطان التي تسمّى "سجن النسيان والعدم".
2- الصمت كحائط. يقول النص "ربما لهذا شرع على الفور في بناء حائط منيع من الصمت بينه وبين ذلك السجين الوافد بأسئلة ومزاعم تاريخية
3- الرحم كحائط: "مَن يعبر حائطا وراءه آلاف الحيطان، يا صغاري"؟
4- السجن كحائط " هناك داخل السجن، كما يهز زلزال مدمر بيتا على شفا جرف، أخذ يدرك جيدا معنى أسوأ فكرةٍ خرجت من رأسه ذات يوم بعيد تسمّى "الحائط".
5- حائط الجسم والحائط الخاص" وقامت هكذا حالا ببناء حائط الحسم، قائلة "أرى أنك قد تجاوزت الآن حائطيّ الخاصّ بالفعل
6- الشائعة والعزلة الباردة كحائط. يقول النص "جدران الشائعة والعزلة الباردة المقبضة".
7- جدران خاصّة به تسمّى أحيانا في قاموس شعراء الحقبة الرومانسيّة "حضنا" أو "مأوى".
8- الحيطان الخفية. يقول النص"لم يتوصل أبدا لفهم وجود مثل تلك الحيطان الخفية داخل البشر وبينهم
9- الملابس كحائط. يقول النص "لا بل حتى تلك الحيطان التي تحجب أجساد الناس ويدعونها ملابس. فجأة".
10- القانون كحائط. يقول النص "القانون، يا هذا، هو جدران نموذجيّة تمّ تصنيفها وتبويبها ووضعها داخل حيِّز تؤلِّفه وريقات لو تمّ فردها لغطتْ مياه بحر العرب".
11- الحائط كمصد للريخ . يقول النص "نشأ أول حائط قبالة مدخل كهف عند أقدام جبال كليمنجارو في كينيا كمصدٍ للريح".
12- المتحف كحائط. يقول النص "انتهى به المطاف هذه المرة بين جدران زجاجيّة داخل تلك الجدران الحصينة لمتحف "المتروبوليتان".
13- "حائط البكّارة". كان غشاء البكارة هذا أول حائط مادي يُعرف من جسم الإنسان.
14- الحائط المجازي. يقول النص "أقبل إنسان ثالث، يقال إنه لا ينام في العادة إلا خطفا. كانت رغبة السيطرة تعتمل في صدره، عندما أخذ من فكرة بناء الحائط تلك بُعدها المجازي، فنشأت تاليا وعلى فترات ومراحل لا حصر لها حدود وسجون ومسافات وحيطان جهمة أخرى لا مرئية داخل البشر أنفسهم وبينهم. كان من بين وظائف تلك الحيطان الخفيّة تنظيم عمليات الضبط الذاتي مثل "تأنيب الضمير والخوف والنفاق"، وحتى ما يدعونه بشيء من حذلقة هذه الأيام: "احترام السلطة"
15- المنفى كحائط. يقول النص "كان حائط المنفى هذا من أكثر تلك الحيطان "مدعاة للكآبة". بين القوسين من قول لادوارد سعيد عن المنفى.

Post: #42
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-10-2019, 04:30 PM
Parent: #41

يطيب لي هنا أن أرد على تحية الأخ العزيز أمير الأمين حسن بدءا. ثم أعبر عن عميق امتناني للعزيز المشاء، على جهده النقدي الخلاق، الذي أضاء نص الحيطان، أو تواريخ لا يذكرها أحد، وهو أول النصوص التي وردت في المتتالية القصصية "مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة" الصادرة عام 2016 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر. وتأكيدا ما بين التقويس "مدعاة للكآبة" يعود إلى تحليلات إدوارد سعيد الحصيفة حول المنفى، والتي لم يسبق لي الاطلاع عليها قبل أن يربط أسامة الخواض نفسه ما بين أحد نصوصي هنا عام 2005 وتأملات سعيد تلك حول المنفى، وبالفعل انتبهت ساعتها بنوع من الأسى إلى تلك الفجوة في بنائي المعرفي، حين يتعلق الأمر بتجربة ضخمة في مكابدة النفي مثل التجربة الفلسطينية، ومن غير درويش وغسان كنفاني وإدوارد سعيد يمكن اعتباره هنا بمثابة الممثل الأرقى لتلك التجربة. أذكر أنني قمت بتعليل تقصيري تجاه سعيد وقتها إلى سببين، أولهما ضيق ذات اليد في القاهرة، وهي ما تدفع إلى السبب الآخر، وهو أنني خشيت أن أغامر مرة أخرى بقروشي مثلما حدث لي مع كتاب الاستشراق عمل سعيد الهام الذي قام بترجمته وقتها أكثر المتحذلقين مقتا في العالم، وأعني كمال أبو ديب. وعودة إلى تعبير سعيد "مدعاة للكآبة"، أتذكر هنا أن بورخيس يعطي تعريفا للغة في أحد نصوصه بوصفها نسق من الاقتباسات. لقد وضع المشاء بهذا النقد للتو وساما على صدري خاصة إذا علمنا مدى ضيق مساحة إعجابه بالنصوص كمبدع من طراز فريد. أسامة الخواض الشاعر صاحب أحد أجمل النصوص في مشهدنا السردي "وللكمثرى وظيفة أخرى" أو الوقائع الخفية في حياة "منصور السناري":

Quote: 9/12/1987.

الحديقة يكسوها الثلج وبقايا صمت متناثر. العشاق يلتصقون ببعضهم بحثا عن الدفء الهارب من شوارع "صوفيا".. محطة الباص خالية إلا من العشاق والسكارى والتائهين مثلي.. قبل قليل كانت هنا.. تلبس معطفا عادياً يخلو من ذوق الأنثى. لكنه دافئ ومزدحم ببصمات أصابعنا العشرين.. شعرها مبعثراً كان. ومندى ببقايا ثلج وعطر خفيف.. كانت هنا للمرة الأخيرة.. وجهها كان مليئا بخزن غامض وبعض قسوة غير معلنة.. قالت لي "أنت غير جاد.. سأعاني من ماض معك.. ليست مشكلة، لم تترك لي مجالا للتعليق، أخذت حقيبتها الأفريقية وهرولت حتى غابت بين أشجار "مدينة الحرية".. وكانت تمارس بوجع هوايتها المفضلة "البكاء" لم أكن حزينا، لكنني سرت صامتا .. وخلافا لعادتي القديمة، لم أغن على الطريق إلى محطة الباص.

10/12/1987م.

صحوت من النوم متأخراً.. تحسست سريري المترجرج، تذكرتها بعمق وشهوة.. أخرجني من ذلك العمق الجميل صوت زميلي في الغرفة مصيحا على، وداعيا إلى شرب كأس من الشاي.. شكرته معتذرا بأنني لم أنظف فمي جيداً من قبلات قديمة.. بتعجل شديد ارتديت ملابسي، وقذفت بنفسي في الطريق.. شعرت بآلام حادة في كل أجزاء جسمي مع قلق لطيف.. دخلت المطعم الطلابي، وخرجت منه مثقلا برائحة الخس والتفاح.. عددت "الفكة" التي في جيبي، فاكتشفت إنها لن تسمح لي باحتساء كوب من القهوة، والتمتع بمنظر النساء الجالسات، -وأيضا- النساء الواقفات في الصف.. أدرت النظر بحثا عن السودانيين، فلم أجد أحداً، فانحشرت في أول باص.
مزدحما بالارتباك دخلت مبنى الكلية، ألغيت المحاضرة، فجلست على مقعد في الحديقة المجاورة.. منذ عام كان هذا هو اليوم الوحيد الذي لم تحضر فيه خفية مندسة من عيون الفضوليين، بي اشتياق لسماع جملها المرتبكة.. كان يزعجني عدم قدرتها في اختيار المفردات.. قلت لها ذات صفاء (ولماذا لم يسموك "ارتباك"؟).. بكت..

17/11/1986.

كنت أقيم في السكن الطلابي المجاور لسكنها.. ولهذا السبب – فقط – كان على تدريسها اللغة البلغارية ضمن مجموعة طلاب جدد.. منذ خمس سنوات أقوم بهذا العمل.. لا أنكر إنني أجد متعة في ذلك العمل رغم التكرار والرتابة، ففي هؤلاء العصافير تحس طعم البكارة، وتشم رائحة السودان الذي لم أطأ ثرائه منذ ست سنوات.. بدأت بالحديث عن قواعد اللغة البلغارية.. شارك كل الحاضرين بالنقاش والأسئلة والتعليقات المرحة.. كانت صامتة، بين الحين والآخر كانت تلتفت ناحيتي.. لم تجذب انتباهي، عادية الجمال كانت، ومن وجهها يطفح نشيد حزين وأليف.. ترتدي بنطلون جينز قديم، وبلوزة اجتهدت – إلى حد كبير – أن تبدو أنيقة.. رغم ذلك كانت تذكرني بالمقدمين على الجنون.. لم أعرها انتباها، وواصلت الشرح بين أكواب الشاي والعصير ورائحة السجائر.. انتقلت إلى الحديث عن المذكر والمؤنث والمحايد..فجأة انفجرت محتجة على ما أسمته التقسيم العشوائي (العلم مذكر أو مؤنث.. المحايد كذبة في ثوب اللغة) حاولت إقناعها بكل ما أعرف عن اللغات التي أجيدها.. وتلك التي لا أجيدها.. احتد النقاش بيننا، ففضل البقية فض الجلسة إلى موعد آخر هرول البقية إلى مساكنهم، وبقينا "أنا وهي" كان الثلج قد بدأ في السقوط خفيفا واعتدل الطقس قليلا.. كان الطريق فارغا إلا من مظلات تهرول في اتزان لزج.. قلت لها (لماذا خرجت في هذه الساعة؟).. لم تعر سؤالي اهتماما.. وبعد صمت قصير، حدقت في وجهي طويلا وعميقا. طأطأت رأسها، ثم نظرت إلى في تودد مشوب بالصرامة الأنثوية، وقال (هل لديك رغبة في مواصلة النقاش,) لم تنتظر إجابتي.. فردت مظلتها، وأشارت إلى بعينيها، فدخلت تحت المظلة.. كنا نسير صامتين وراء السكن الطلابي.. سألتني فجأة "أنت مذكر؟" وأردفت: وأنا مؤنث؟.. هل يعقل أن تكون هذه المظلة محايدة؟.. هبت الريح عاصفة.. أمسكنا بعود المظلة صرنا نغالب الريح، كنت صامتا، وعادتها كانت تثرثر عن أشياء كثيرة في ترابط غير منطقي.. وبعد قليل أفلتت المظلة من أيدينا، وسقطنا على الأرض.. من غصن عال في شجرة كمثرى كانت المظلة ترقب كائنين يتحدثان بلغة المتاهات..

22/12/1987.

بعد انتظار طويل في صفوف بقالات صوفيا. نجحت في الحصول على زجاجة كونياك، ودجاجة ورغيف.. دلفت إلى السكن الطلابي رقم 100 حيث يسكن صديقي بارودي.. كانت صوفيا تعبق برائحة البيروسترويكا، وبعض ارتباك يلف شوارعها وأحياءها، وأنا أعبق ببقايا كمثرى.. شاردا كنت.. في منتصف القعدة قال لي "بارودي" (أفهم أنها قد حركت في نفسك شيئا لا أستطيع فهمه.. ولكن حسنا فعلت، في لا تليق بك).. صمت، وواصلت الشرب في نهم وسرحان.. صرت أعب الكؤوس عبا حتى ثملت.. لم أتناول عشائي.. نزقا هرولت في الممر.. حطمت كل المرايا وزجاج النوافذ والأبواب.. غازلت العابرات في وقاحة.. حضرت الشرطة واقتادتني.. أمام مركز الشرطة، طلبت تدخين سيجارة.. أطلق سراحي لبعض الوقت.. لم أضع الفرصة، قمت بالتبول في حوض للزهور.. قام الشرطي بضربي من الأمام حتى سقطت مغمى على.. صبوا على ماء بارداً.. وحينما أفقت، سألوني "لماذا خرقت القانون؟".. فرأوا على مسمعي كمية من المواد التي تدينني، وسألوني (هل ترغب في قول كلمة أخيرة؟).. قلت لهم: اكتبوا.. أجنبي يبحث عن كمثرى في سماء صوفيا.. اتهمني الشرطي بالثمالة والبله، وقام بضربي.

23/12/1987.

في العاشرة صباحا، قام الشرطي بإطلاق سراحي بعد تغريمي خمس ليفا عقابا على تبولي على الزهور، ووعد بإبلاغ الأمر إلى المسئولين عن السكن الطلابي ليقوموا بمعاقبتي مرة أخرى.. خرجت مرتبكا أفكر.. لما كان ما كان؟.. دلفت إلى حانة مهملة، وطلبت زجاجة بيرة.. أشعلت سيجارة "بالتأكيد سيقوم مسؤول السكن الطلابي بتعليق صورتي في مدخل السكن متهما أياي بسوء السلوك، لن يدور بخلده كيف عشت هنا ست سنوات، قضيت ثلاثة منها بدون إمرأة.. بعد ذلك عثرت على غجرية تائهة قمت بتنظيفها قبل التهامها.. طلبت زجاجة أخرى وصحنا من الكباب والبطاطس. من الحانة تنبعث موسيقى شعبية ذكرتني بالقرويات اللواتي كنت اصطادهن من الشوارع الصامتة.. كن يعانين من أزواجهن المدمنين ووطأة الطلاق.. كن يفهمن إننى عابر.. كما كنت - في الجانب الآخر – متأكدا من هذا جيدا.. رغم ذلك، كان هنالك شيء يروقني جدا في علاقتي بهن.. كن يستقبلن بترحيب رائع طريقتي الخاصة في التعبير عن شعوري نحوهن.. كنت أفكر مع النساء بصوت عال.. سببت لي هذه الطريقة متاعب كثيرة مع النسا"ء المهذبات" قالت لي أحداهن يوما "أنت مهذب وطيب، وتبدو مثقفا.. معظم النساء يعجبن بك من البداية، ولكن ينقصك شيء واحد".. قاطعتها "أفهم ذلك.." ولكن هؤلاء العابرات يفهمن إنني أفهم ذلك، ولذلك لبرهة من الزمان يطرن من الابتهاج على إيقاع طريقتي المبتكرة، ربما لأننا جميعا غرباء نبحث عن دور خاص يليق بحالتنا.. ورغم ذلك لم تكسر تلك العلاقات روتين حياتي.. كبقية الطلاب السودانيين الضائعين مثلي. كنت أدخل زجاجة خمر لأخرج منها إلى أخرى أكثر قوة وأعنف سريانا.. بصوت عال ونشاز نغني أغانينا المكررة، نتشاجر، نشتم بعضنا البعض ثم ننام بالعشرات في غرفة واحدة.. نصحو لننتعش، نضحك، ننسى شجارات البارحة، نخرج، نفترق لنلتقي بدون سابق إنذار في غرفة أخرى.. نطرق أبواب الطلاب الذين يبيعون الخمر سرا. نهرق أموالنا ونحن جياع. قال صديقي "عبد الصمد" (نحن كالغجر).. "نعم" أم "لا" لا أدري.. لكنني أعرف جيداً شكل هذا الفضاء السلافي.. ست سنوات عصافير وعصافير عبرت، وشهادات هرولت، وجنازات هاجرت، والرتابة سيدة هذا الفضاء.. ولذلك نفرح بالطلاب الجدد لأنهم يكشفون لنا خواء هذا العالم، ويغيرون شكل القعدات (النقاش) الأغاني – طريقة إدارة الشجارات الليلية – و.. إلى أن يدخلوا الحلقة الجهنمية، فيكشفون لنا ضرورة هذا الخواء.

1/1/1988.

ممرات السكن الطلابي ممتلئة احتفال رأس السنة. وان محنط في سريري أشم رائحة كمثرى.. كيف تسلقتني هذه الكمثرى؟ ربما لسذاجتها الطفولية.. كانت صرامتي تجاه الأشياء والحوادث تزعجها، وأيضا تعجبها هي الشاردة في ثلج الغربة.. كعادة البنات القادمات من السودان ممتلئة – كانت – بالوحشة، ومن حديثها يفوح إحساس قاتل بالوحدة والعزلة.. كانت تبكي من سخريتي على العالم، وكانت تبكي – كذلك – من النشوة على سرير مترجرج تفوح منه رائحة السجائر و "الصعوط" والكتب القديمة وبقايا الخمر والقيء والبول.. لما تسلقتني؟ سرب أسئلة يحلق في فضاء غرفتي.. أسئلة هنا، وأخرى هناك.. مرة سألتني: ما هو شعورك حين خرجنا متعانقين ذلك المساء؟.. في ذلك الزمان صمت، وبكت هي بحرقة لم أفهم معناها، ولكنني – الآن – أذكر بلذة ووجع خفيف كيف خرجنا – تلك الليلة – متعانقين متشابكي الأيدي في صمت واطمئنان ووجل.. كنا نسقط على الثلج وننهض متعانقين مرة أخرى دون أن ننفض عن ملابسنا بقايا الثلج والطين وأوراق الشجر المتساقطة في مفترق الطرق بين سكنينا ، افترقنا كل إلى طريقه دون أن ننطق بحرف أو نلتفت إلى بعضنا.. إلى الآن لم أسألها عن شعورها ذلك المساء.. كنت لا أعطيها الفرصة كي تعبر عن نفسها.. ربما لاستيائي من طريقتها في التعبير عن ذلك، وربما لأنني كنت اعتقد أن ذلك غير مجد لإنسان مثلي يعتبر نفسه عابرا دوما في هذا العالم.. ولكن هل كانت عابرة؟ ربما من نوع خاص – كما فهمت الآن – كانت تعبر أسلاك الخوف وتندس – كلما هزمها الحنين في انكسارات عقلانيتي وشراهتي للنساء الخائفات.. مرة قالت لي (أخاف عقلانيتك مثلما أخاف حاجبيك الجميلين).. كنت – أيضا – أخافها، ولكن بدرجة أقل.. أخافني سريان الحنين الخفي الذي بدأ يتملكني أن الذي اعتقدت أنني قد تخلصت من العاطفة الهشة.. ست سنوات تعلمت أن أهزم مثل هذه المشاعر، أنا "منصور السنا ري" المعزول عن هواء وطنه ورائحته.. انقطعت عني الخطابات، وساهمت في ذلك بكسلي. سرت إشاعة عن زواجي بأجنبية، فقاطعني أهلي.. لم أكترث، وعودت نفسي على هذا.. لكني أشك - الآن – في كل ذلك.. فمع هذه النقطة الساذجة بدأت أكترث.. شيئا فشيئا صارت تمتلكني طريقتها الفريدة في نطق الكلمات "أجي ، بري ، كُر عليّ" بحس استشراقي، أعجبت برد فعلها تجاه ما يدور حولها.. تعبر عن شعورها وانفعالها بكل جسدها و..دموعها.. لكم امتلأت قمصاني وملاءات ووسائد سريري بفيضان بكائها.. كنت أرقب هذا الكائن العجيب بلذة بدأت باردة، ثم اشتعلت كما أنا مشتعل الآن.. فهمت – الآن – لما لم استطع أن أرد على سؤال مدير السكن الطلابي عقب تلك العاصفة. قال لي (لقد سكنت معنا هنا ست سنوات.. وكنت شابا وديعا ولطيفا.. ما الذي حولك هكذا؟ هل تعاني من مشاكل أسرية؟ هل في حياتك امرأة؟ هل.. هل".. في هذه اللحظة فقط، أدرك أن في حياتي عبرت امرأة ذات طعم خاص، أشعلت حياتي الخابية. واختفت ليظهر لي سؤال غريب "كيف سأرجع إلى وطني"؟

15/12/1988.

مطار صوفيا مزدحم بالمودعين.. أصدقائي يحشون حقائبي بالخطابات والهدايا، ويحشون ذاكرتي بالوصايا للأهل والعشاق. حانت ساعة الدخول إلى صالة المطار وودعتهم واحدا واحدا في شرود أصيل وأسى مصطنع.. شعرت بوخز عميق في قلبي.. كيف سأواجه وطني؟ كانت هي تقف منزوية، لم تودعني، وكانت ترمقني بطرف عينها الثالثة.. كانت حزينة في إباء أنثوي مهزوم، وكنت مرتبكا قليلا.. رمقتها باشتهاء كسير.. "ماذا في حياتي"؟.. داهمني هذا السؤال عند بوابة الدخول.. كنت أفكر فيه وأنا أتابع إجراءات السفر في تبلد.. فاحت رائحة كمثرى فسعلت.. تذكرت قولا لصاحبي بارودي "ليس من الضرورة أن تؤكل الكمثرى، ولكن لها وظيفة أخرى.." الطائرة المغادرة إلى الخرطوم ستحلق بعد خمس دقائق.. حملت حقائبي وهرولت تجاه لغز قادم وسؤال يطاردني "ماذا ستكون في حياتي"؟



صوفيا 17/11/1989.

Post: #43
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-10-2019, 10:58 PM
Parent: #42

تحياتي العزيز أبو بكر عباس.. أتفق معك حول أن تاريخ العالم منذ نحو ليس فقط العقود الأخيرة، بل منذ نحو أكثر من مئتي عام، تم كتابته تحت الكثير من المسميات الزائفة. تارة الكشوفات الجغرافية لأغراض البحث العلمي، تارة الحروب الأوروبية الأوروبية "ذات الطابع القومي"، تارة التوسعات الاستعمارية، تارة الصراع ما بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي، وأخيرا "محاربة الإرهاب" وما يسمى "الفوضى الخلاقة". والواقع أن الجوهر المحرّك وراء ستار تلك المسميات كان ولا يزال يتمثّل في سلطة المرابين، الذين قاموا بتمويل حملات الكشوفات الجغرافية والحروب الأوروبية والاستعمارية والحربين العالميتين، وكل ما قد يضاعف سلطتهم، والذين لا يتحكمون فقط على سبيل المثال هنا من خلال نحو ستة بنوك في أسعار العملات والذهب والفضة وفي أسعار البترول صعودا وهبوطا، بل ويمتلكون حتى حق إصدار وملكية العملات في غالبية دول العالم بما في ذلك الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا. هذا الواقع المقبض الصادم يمكن الإمساك به عبر قراءة (تاريخ المال). وعلى الذين يرغبون مثلا في فحص هذه المزاعم النظر في الدليل الأمريكي بحثا عن بنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي، والذي لن تعثر عليه قط ضمن قائمة القطاع العام، بل (القطاع الخاص)، حيث تعود ملكيته إلى تلك القلة أو الأسر المحدودة. طوال هذا العمر، لم أكن أدرك مدى خطورة ما قد يمكن أن يمثله تاريخ المال وتطوراته اللاحقة على مصير العالم ككل. هذه معرفة قد تبهت حيالها الكثير من المعارف الأخرى. سلطة المرابين عملت على الدوام وراء ستار كثيف من الأوهام الشائعة أو عبر الأقنعة وهي سلطة ظني الله وحده يعلم ما هي. سلطة متمكنة على نحو يبدو حتى لا تاريخي. وإذا سألت نفسك هنا لمن هي مديونة تلك الدول الغربية بما فيها أمريكا بكل تلك التريليونات؟ مكاتب الضرائب ذات النفوذ الساحق قد تجيب. لكن نحن نعثر دوما عن وظائف أذرع المرابين من دون أن نتساءل من يكمن هناك وراءها أو من يمتلكها مثل ما قد توضح المادة التالية من الإنترنت:

Quote: الأسواق المالية تترقب قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بخصوص أسعار الفائدة في حال سيرفعها أم يبقيها على حالها، الكل يتسمر أمام شاشة التلفاز مترقبًا قرار الاحتياطي حول أسعار الفائدة على الدولار الأمريكي أقوى عملة في العالم.
وبعد خروج خبر مؤلف من كلمات قليلة يُنبئ أن الفيدرالي قرر رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي بواقع ربع نقطة مئوية، تتناقل الخبر معظم الشاشات بكل لغات العالم، لينعكس على أداء الأسواق المالية، فتتحرك أسواق الأسهم والسندات والسلع والعملات حول العالم، وتخرج البنوك المركزية للدول سواء التي تربط عملاتها بالدولار أم الأخرى بتصريحات حول مآل سعر الفائدة على عملاتها المحلية.
كل شيء يتأثر؛ فالفيدرالي قرر! فما هذا البنك الذي إذا قرر اهتزت لقراره الدول والبورصات حول العالم وتأثر المستثمرون فيه، ومن ذلك الشخص الذي يترأس هكذا مؤسسة! من يعينه وما هو تحصيله العلمي ليتقلد المؤسسة التي تقرر مصير الدولار والعملات المرتبطة به.
الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي
هو البنك المركزي للولايات المتحدة الأمريكية مقره في العاصمة واشنطن ويترأسه حاليًا جانيت يلين التي خلفت بن برنانكي، وككل البنوك المركزية فهو المسؤول عن السياسة المالية للولايات المتحدة واستقرار العملة وسعر صرفها وطباعة النقود والتحكم بمعدل الفائدة على القروض، كما أنه المنقذ للبنوك العاملة في الولايات المتحدة عبر إقراضها أثناء الأزمات من خلال سياسة التسهيل الكمي، كما أنه يشرف على البنوك للتأكد من عدم اتباعها سياسة متهورة وأن جميع تعاملاتها المالية تسير في الاتجاه الصحيح.
يتبع البنك المركزي 12 بنكًا فيدراليًا في ولايات مختلفة ومجلس محافظي البنك الذي يضم سبعة أعضاء تبلغ مدة تعيينهم 14 عامًا ويعينهم الرئيس الأمريكي ويقر تعيينهم مجلس الشيوخ ويختار منهم رئيس المجلس ونائبه، ويحدد المجلس السياسة المالية للبنك، وأعضاؤه جزء من 12 عضوًا يشكلون لجنة السوق المفتوحة الاتحادية التي تحدد السيولة النقدية وسياسة الائتمان في الولايات المتحدة.
يعتبر البنك الفيدرالي الأمريكي بما يملك من أدوات وسياسات من أكبر المؤسسات المالية وزنًا على مستوى العالم من حيث القوة والتأثير من خلال سياساته المتبعة.
تأسس في العام 1913، وهو جهة غير حكومية وتعيين رئيس البنك لا يتم مباشرة عن طريق رئيس الولايات المتحدة بل تقدم له بعض أسماء المرشحين من قبل مجلس الاحتياط الفيدرالي ليختار أحدهم.
إلا أن محللون واقتصاديون ينظرون بنظرة تشاؤمية لهذه المؤسسة فالولايات المتحدة لم تعرف التضخم حتى تأسيس بنك الاحتياط الفيدرالي حيث كان معدل التضخم نحو نصف بالمئة قبل تأسيس البنك ولكن بعد إقرار نظام بنك الاحتياط الفيدرالي وصل معدل التضخم إلى 3.5% سنويًا.

Post: #44
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-11-2019, 06:15 AM
Parent: #43

هل انتابك يوماً هاجس "اتقان" الكتابة مما يجعلك تتفادى الكتابة نفسها حتى لا تُفجع؟؟

وعطفاً على السؤال السابق:

كيف "تقيس" يا برنس -تطورك أو تقهقرك الإبداعي؟

Post: #45
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-11-2019, 08:03 AM
Parent: #44

العزيزة نعمات أشكرك كثيرا على دعم كريم وكذلك الفاتح ميرغني إنسان لا ينسى ورجاء أن يكون بخير دائما

Post: #46
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: Osman Musa
Date: 10-11-2019, 11:49 AM
Parent: #45


نتابع مبسوطين بعودة المبدع البرنس . له التحية مطبوقة .

Post: #47
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-11-2019, 08:15 PM
Parent: #46

Quote: جيد انك لسة بتكتب


وهل بوسع المرء أحيانا مواصلة العيش دون تنفس، يا سيف النصر؟

كل الود.. كل الود.. مع أمل أن تكونوا، جميعا، بصحة جيدة وسعادة.




في مناسبة إضاءة المشاء لنصّ الحيطان، أو تواريخ لا يذكرها أحد، هنا إضاءة نقدية أخرى من قبل الناقد المصري يسري مصطفى للنص نفسه، وقد جاءت ضمن دراسة للمتتالية القصصية (مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة)، التي يشكل نص الحيطان أول نصوصها، وكان الدكتور يسري قد نشرها في الحياة اللندنية، بتاريخ 29 يونيو 2017، تحت عنوان (عبدالحميد البرنس قاص الاغتراب):

Quote: عن عالم مسكون بالغربة والفقد والمنفى، تتواتر نصوص المتتالية القصصية «مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة» للكاتب السوداني عبدالحميد البرنس، (قصور الثقافة- القاهرة). عبر تسعة نصوص تتعدد مستويات الاغتراب، بدءاً من معناه الذاتي الذي يخفق فيه الفرد في أن يحقق ما يريده كما نرى في قصص «الحاجة إلى غرفة/ تواصل الرنين ثانية/ مرارات الماضي/ طائر غريق»، أو الاغتراب بمعناه الشامل، حيث انفصال الإنسان عن البنية الاجتماعية المحيطة به، مثلما نرى في قصص «المنفيان/ في خفاء/ قريباً من قاع الزمن حكاية للنسيان»، أو الاغتراب بمنحاه الوجودي مثلما نرى في القصة الأولى «تواريخ لا يذكرها أحد». يصدّر الكاتب نصه بعبارة دوستويفسكي الشهيرة في «الإخوة كارامازوف»: «إن قطعة الخبز تبدو لنا دائماً أكبر مما هي في الواقع حين نراها في يد غيرنا»، تحمل سؤالاً مضمراً عن كل هذا الإحساس العارم بالمرارة التي تملأ العالم. عبر أجواء فنتازية لم تخل من نزوع فلسفي يتشكل المنطق الجمالي للقصة الأولى «تواريخ لا يذكرها أحد»، حيث الرجل الذي بنى أول حائط في تاريخ البشرية، والذي نكتشف ونحن معه، في نص لا يعرف سارده أكثر من متلقيه، أن ثمة حيطاناً أخرى لا يتوقف العالم عن الإتيان بها، بدءاً من حائط الخوف وصولاً إلى حائط السجن، ومن المعنوي يتحرك الكاتب لينفذ إلى المادي، ثم يخترق أسواره لينفذ عبر طاقة التخييل الكامنة في السرد إلى حوائط أخرى تبدأ بالصمت ولا تنتهي النسيان والعدم.

يبدو الاغتراب جامعاً بين السارد (يوسف)، وصديقه الضائع في القاهرة، حيث يلتقيان في قصة «المنفيان» بلا موعد، مثلما افترقا من قبل بلا موعد، وعلى رغم تبدل الأحوال غير أن ثمة شيئاً يجرهما صوب الحكاية، فيجلسان على مقهى الحرية، ويحتسيان البيرة، وتبدو اختيارات الراوي الرئيس للجمل الحوارية بينهما دالة وشفيفة، مسكونة بالحنين، وتحضر نوستالجيا بخاصة بأمكنة لا يعاينها المتلقي، ولا يحددها الكاتب بدقة. فعل النفي/ الغربة/ الإقصاء/ التهميش هو الجوهر والمراد في نص مكثف، ومشحون بالتوتر الداخلي، منذ المفتتح وحتى الختام، حيث تأتي الجملة الأخيرة التي يلفظها صديق (يوسف/ السارد)، فتبدو تلخيصاً لمشهد اعتذاري كلما يقدم السارد على حكي تفاصيله، ينحرف المسار السردي صوب وجهته المركزية، فتتعمق مشاعر العزلة والاغتراب: «سألته عن عنوانه بينما يترنح خارج المقهى.

قال إنه يفضل أخذ أجرة التاكسي والسير على قدميه. لم أعلق. أوقفت عربة أجرة. نقدت السائق مقدماً أجره. قال يخاطب السائق: «انتظر». أخرج رأسه من النافذة، والعربة بدأت بالفعل في التحرك، وقال: «أنا آسف» (ص 27). ينسحب الإحساس بالاغتراب على العلاقة التي يصنعها السارد البطل (يوسف)، مع فتاته السودانية بالقاهرة، فيوسف ينتظر الهجرة إلى كندا لاجئاً، و«وداد» تحيا موزعة بين أبيها السوداني الذي يصبح بمثابة الصدى لذكريات بعيدة وأمها المصرية، ويبحثان معاً عن غرفة واحدة ليمارسا فيها الحب، ويلجآن في طرافة إلى لعبة قدرية كي تحسم وداد ترددها، ويتفقان على أنه إذا حضر الرجل النحيل دائم الجلوس في الكازينو قبل الرجل البدين الآخر فستذهب الفتاة مع يوسف إلى منزل صديقه الذي استعاره لساعات بعد مكابدة، غير أن القصة المفتوحة على احتمالات عديدة تنتهي بتيمة الانتظار المر: «كان للرجل النحيل هيئة شاعر حالم بذقن دائري مهمل. يدلف إلى الكازينو متأبطاً كتاباً وأوراقاً وعلى جيب قميصه قلم أزرق.

يجلس مستقبلاً مياه القناة، يتأمل، يشرع في الكتابة، أحياناً يتوقف ليتابع القراءة، أو يعاود التأمل في شجر الفايكس الممتد حليقاً حذاء سور الكازينو الخارجي، بينما لا يكاد صدره يكف احتراقاً بسجائر «بلومونت». ظل حتى يوم أمس يحضر إلى هنا كساعة طبيعية، فلم تأخر الآن» (ص37). عن هذه المدن الثلجية المثقلة بالرتابة والمتخمة بالحضارة أيضاً، حيث تصبح العزلة بنية مهيمنة على فضاء النص والعالم، تتواتر القصص/ المشاهد الثلاثة من رحلة يوسف، فنرى «في خفاء/ قريباً من قاع الزمن/ حكاية للنسيان».

في نص «في خفاء» ثمة حارس ليلي «طوني» في مدينة ثلجية، نراه عبر عيني زميله راوي القصة والمتورط فيها في آن، والذي يقدم لنا شخوصها أيضاً، فيرصد لنا ملامح طوني وهمته وولعه بسلفيا الجميلة، وتقربه الضاحك من كلبها، وحركته التي لا تهدأ، ثم يقدمه تارة ثانية بعد عام واحد من لقائهما وقد فترت الهمة، وبات طوني رجلاً آخر، أو بالأحرى شبحاً في مدينة شبحية، بخاصة بعد أن رحلت سلفياً عن المكان: «وكما شرع فجأة في الحديث، صمت مبكراً بنحو نصف الساعة، بدأت أخلي المكان، تاركاً لطوني مهام التسليم إلى أحد الحارسين من وردية الصباح. أتذكر، خلال الساعتين المتبقيتين لي من الوردية، أن طوني لم يعد يلقي تحية تجاه أحد سكان البناية، ولم يبدُ حتى آخر لحظة لي في الموقع أن ثمة أثراً لسلفيا الجميلة في صحبة الكلب» (ص48).

في «قريباً من قاع الزمن» يصبح الحارس الليلي مسؤولاً عن أحد الإستادات المهجورة المختصة برياضة هوكي الجليد، ويصبح رايان باركر علامة على هذا العالم الراهن مثلما يصبح اللاعب الكندي جاك روميتش علامة على الماضي، وتتواتر لحظات مفعمة بالمجد في هذا الجزء من العالم المؤمن بالنسبي والمتحول، مثلما يلوح عالم يقيني وجامد في مكان آخر، لتصبح المفارقة هي جوهر النص والحكاية: «وأنا لا أزال أتسمر في وقفتي تلك، مأخوذاً بالقراءة والفرجة على صورة قديمة، خطر لي أن الدولة المهدية في السودان كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، بالتزامن مع صعود مجد أرميتش الرياضي في كندا، من دون حتى أن يتزعزع ولو لحظة واحدة، حلم قائدها بالغزو والنوم على سرير الملكة فيكتوريا» (ص52). يؤنسن عبدالحميد البرنس المرويات الواقعية ويطوعها في متن قصته «حكاية للنسيان»، ويتعامل مع تاريخ أحد الشوارع المسماة على اسم شرطي قتله أحد اللصوص في مدينة وينبيك، بوصفه ذاكرة للمكان وشاهداً على تحولاته، في قصة يوظف فيها الكاتب تقنية التداخل الزمني جيداً، حيث يبدأ النص من خط القص الرئيسي، وسقوط سيرجنت جون فيرن صريعاً، ثم نرى عودة عبر الفلاش باك إلى مشاهد متتابعة من حياته، ثم عودة جديدة إلى خط القص الرئيسي، يتلوها قفزة زمنية إلى ما آل إليه الشارع ذاته: «سيرجنت حين تلقى في مكتبه بلاغاً بالحادث في حوالي الثامنة والربع صباحاً، وحتى وهو يخلف على مكتبه أحد رجال الإطفاء لنقص وقتها في عدد القوى اللازمة من البوليس، لم يدر بخلده أن الشارع الذي سيحمل اسمه بعد لقاء حتفه الوشيك سيتحول تدريجياً إلى ملتقى تعقد فيه بائعات الهوى تلك الصفقات على عجل.

على أية حال، تلك لم تكن اللعبة الوحيدة من ألاعيب التاريخ التي لا تحصى. ففي عصر السرعة هذا، نسيت الغالبية العظمى من الناس ذلك الاسم الكامل للشارع. وقد اكتفوا مع تقادم العهد بالدلالة عليه بتلك الرتبة، سيرجنت، والتي يمكن أن تحيل في نهاية المطاف لآلاف النظاميين في هذا العالم». (ص 61). إلى فضائه الاجتماعي «السودان» يعود الكاتب في قصتيه «طائر غريق/ تواصل الرنين ثانية»، ويهيمن الحلم على نص «طائر غريق»، وتظهر الجدة كاشفة، وحلمها بالطاهر يعقوب، وتشكل الأسطورة الشعبية والموروث الديني جانباً من صيغ الحكي عن المكان المعبأ بالمرويات الشفاهية، وتبدو «سها» في القصة الأخيرة علامة على واقع يتصدع، مثلما يصبح يوسف ابناً لتمزق هوياتي مريع.

في «مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة» ثمة نصوص عن المحنة والألم، عن مرارة الاغتراب ووحشته، عن يوسف، ووداد، والطاهر يعقوب، وأماندا، ورايان كوبر، وطوني، والجدة كاشفة، عن المنسيين في البلدان البعيدة، عن اللاجئين في المنافي، والمبعدين في الأرض، عن القمع بوصفه نقيضاً للوجود، والحرية بوصفها معنى له، يتقدم هنا عبدالحميد البرنس خطوة جديدة، أكثر نضجاً وتطوراً من مجموعتيه السابقتين» تداعيات في بلاد بعيدة/ ملف داخل كمبيوتر محمول»، فيدشن مشروعه القصصي المفتوح على اقتراحات سردية وسيعة، تحمل منجزها الخاص وعالمها الإنساني الرهيف.


Post: #48
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-12-2019, 08:46 AM
Parent: #44

ضمن مجموعة "قصص ضائعة", ذكر ماركيز شيئا عن اليأس الذي انتابه من جدوى الكتابة، مقارنة بوسائل أخرى (تحديداً السينما) ذات تأثير شديد الفاعلية، وذلك قبيل أن يجلس وراء الآلة الكاتبة لثمانية عشر شهرا، حيث أخذ العالم يتشكل في قالب (مائة عام من العزلة) كالمعجزة. تذكرت ذلك، بينما أطالع مداخلة أسامة الخواض الأخيرة. وحالة اليأس التي تصيب الكتاب أحيانا حدثت لنجيب محفوظ كذلك، وعلى عكس ماركيز، فقد دهمت نجيب بعيد الإنتهاء من عمل كبير مثل الثلاثية. وهناك مثال رامبو أفرغ ما لديه وهم نحو أفريقيا هائما على وجهه. إدريس جماع، أنهى لحظات باقية إن لم تخن الذاكرة عام ١٩٥٨ ثم لم يصف بيت شعر آخر إلى أن رحل أواخر السبعينيات. جلست مع حسبو سليمان بتوصية من مصطفى سند لاستكمال إجراءات بحث عن الرومانسية في شعر جماع. نشر جزء منه في السياسة والجزء الآخر في الأسبوع. حسبو قال إنه جالس أثناء العلاج إلى إدريس جماع الذي التزم الصمت طويلاً. ثم نهض بعد أن ارتجل بيتا من الشعر: تموت الخيانة في مهدها إذا ما أصابت تميم الشرف! وأثناء البحث تناهى إلى مسامعي من جهة الحلفاية أن إدريس جماع كان يكتب الشعر بينما يكون هائما على وجهه ثم يلقيه كيفما اتفق. لا أدري من مثال هذا وذاك كيف يعتقد المبدع في لحظة معينة بلا جدوى الكتابة. وترك الكتابة هنا غالباً ما يكون بديله الجنون أو الموت حرفياً أو الإدمان. سأعود مواصلا هذه التداعيات!

Post: #49
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-12-2019, 06:21 PM
Parent: #48

Quote: سأعود مواصلا هذه التداعيات!

اهلاً برنس
فكّرْ ايضا في الاسئلة والمداخلات التالية:

بدأت تجربتك في النشر بالنشر على حسابك الخاص،

كيف تطوّرت التجربة بعد ذلك؟

تحدّثت في ردّك على النذير عن استماعك للكتب المسموعة في أثناء قيادتك لسيارتك.

هذا يحيلنا إلى "الوردية الثانية" للكاتب السوداني.

فهو لايمارس الكتابة كحرفة،وإنما "وردية ثانية" غير مدفوعة الأجر في غالب الأحيان، وتحتلّ مكاناً هامشياً في أولويّات المجتمع.

كيف تباصر "ورديتك الثانية"؟؟؟

هل لديك طقوس للكتابة ضمن حدود تلك المباصرة الشاقة؟ خاصة أن الرواية تحتاج إلى زمن طويل لكتابتها ومراجعتها.

بالمناسبة العبدلله يقوم أيضاً أثناء "المكوة" يوم السبت دائما ًبالاستماع إلى كتاب صوتي أو مشاهدة فيلم عربي.

كذلك أوفِّق بين حبّي لبعض الرياضات مثل الفنون القتالية المختلطة UFC و MMA، والتنس، وكرة القدم الاوروبية واللاتينية، بأنْ أغلق الصوت في المباراة الرياضية واستمع في نفس الوقت إلى كتاب صوتي.

معظم روايات دوستوفسكي وأمّهات كتب أخرى، استمعت إليها بنفس هذه الطريقة.

سؤال آخر:

ماهو رأيك في الجوائز الأدبية مثل كتارا وبوكر؟

وهل تفكّر في المنافسة فيها؟

Post: #53
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-13-2019, 05:39 PM
Parent: #49

لعل أغلب تلك التساؤلات، قد أحذت حيزا من تفكيري كذلك، عزيزي المشاء! لكنّ سؤال النشر لم يعد على الأقلّ لعشر سنوات خلت بمثابة إشكالية قائمة، مع ظهور كل هذه التأثيرات العملية على المجال، نتيجة التطورات التي لا تني تحدثها ثورة المعلومات وتكنلوجيا الاتصال، مثلما كانت عليه الحال خلال عقد التسعينيات وحتى بداية الألفية الثالثة مثلا، وهو ما أشرت إليه في مقال كتبته إلى الحياة اللندنية قبل سنوات عن مأساة الكاتب المصري نبيه الصعيدي كمثال دال على ما يمكن أن تحدثه مشكلة النشر على المبدع من تدمير وقتها. أذكر أن أحدهم بعد صدور تداعيات في بلاد بعيدة، قد كتب في (ينابيع الفكر و المعرفة.) ما يلي:

Quote: "تداعيات في بلاد بعيدة" المجموعة القصصية الأولى للكاتب السوداني المقيم بالقاهرة عبد الحميد البرنس، صدرت مؤخراً على نفقته، لتشير إلى أمرين: الأول الوعد بكاتب متميز في القصة والثاني محنة النشر وفوضاه في بلادنا العربية حيث يضطر كاتب متميز إلى طباعة عمله على نفقته الخاصة، بينما تلفظ المطابع يوميا عشرات بل مئات الكتب عديمة القيمة. تشتمل المجموعة على ثماني قصص أو تداعيات قصصية بالفعل، تتراوح بين الومضة القصصية وبين مشروع الرواية، وقد جاءت على النحو التالي: " طريق، عودة، وقفة، غلام، صديق، حيرة، خليفة، تداعيات في بلاد بعيدة"


على أن تداعيات المجموعة مع ذلك قد وصلت إلى الناس على ضيق النطاق ولم يقصروا معي ولم أكن لحظة نشرها على ذلك النحو أحمل أي إحساس بالمرارة في داخلي وتناولها النقد بكرم لم أكن حتى أحلم به أو أتوقعه مثلما قد يدل السياق التالي:


Quote:
"فى قصة "وقفة" لعبد الحميد البرنس.. لا نلمح أثرا للراوي، كما لا نلمح أثر الشخصية محددة الملامح من حيث الشكل الخارجي والصفات الأخلاقية وعالمها النفسي، حتى الاسم غير موجود، وإنما نتعامل مع مشهد يمثله بشر مجهولون لا يحملون أية سمات، فقط يحملون سمات الإنسان الضعيف الأسيان، فى شفافية. ورغم جهلنا بخلفيات الحياة الخاصة لهذه الشخصيات، إلا أن هذا الإبهام هو الذي يتيح كل التأويلات الممكنة، مما ينتج لنا نصا مفتوحا في مقابل النص المغلق"، صلاح السروي.

"نصوص عبدالحميد البرنس قد وصلتنا ويبدو أنّه يعمل بمستوى من الدقة على مشروع إبداعي في الفضاء السردي و بإمكانات تشي بمبدع كبير قادم بعمق معرفي وحِنكة حرفية"، الصادق الرضي.

"تتميز قصص المجموعة بالتكثيف الشديد للمشهد الذي يستفيد البرنس في صياغته من تكنيك المونتاج"، الشرق الأوسط.

"كنا نسأل أنفسنا في مصر، أين أدباء السرد في السودان؟. لا يمكن أن يكون ذلك القطر القاري قد نضب بعد الأديب الكبير الطيب صالح. وفعلاً عن نفسي كل فترة زمنية أجد عملاً أدبياً مدهشاً يؤكد لي ولنا أن السودان معطاء. في أوائل هذا العام 2003م، قرأت للأديب الشاب عبدالحميد البرنس مجموعته القصصية «تداعيات في بلاد بعيدة». مجموعة مدهشة"، سعدالدين إبراهيم.


يمكن القول إنني كنت محظوظا ولم يقتلني هم النشر ربما كما قتل نبيه الصعيدي حرفيا:






ميتتان للكاتب المصري نبيه الصعيدي







قبل سنوات، رحل نبيه الصعيدي، في ظرف قاس، من الوحدة المطبقة، ولما يتعرّف إلى حجم موهبته الكبيرة كسارد، سوى قلّة من المهتمين، حيث ظلّ السواد الأعظم من نتاجه الروائي والقصصي حتى النهاية في شكل مسودات ظلّت عسيرة على نشر بدا في مصر؛ خلال عقد التسعينات إجمالاً أشبه بمحاولة العثور على لبن الطير، الأرجح لجملة العلاقات الحاكمة وقتذاك على مستوى الوسط الثقافي، مضافاً إلى هذا لا طبيعة الصعيدي الحادة المزاج فحسب، بل كذلك غلبة الغرائبي الغارق في سوداويته، غير المروّض تقريباً بحسّ فكاهي، أو حتى معنى ما قد يبرر وجود الحياة نفسها ناهيك بعيشها، على منجزه الإبداعي ككل.

الأكثر مدعاة للأسى والتعاطف هنا، هو ذلك التطابق التام تقريباً، على مستوى «رؤية العالم»، ما بين شخصية نبيه نفسه المدجّجة بصدق أخلاقي أقرب إلى المثال وشخصيات سرده المتخيل!

كنت أسير رفقته، كصحبة نادرة خارج أسوار الجامعة، وكان ذلك نهاراً آخر من نهارات مدينة الزقازيق (شرق القاهرة)، حيث خانعٌ هو ورتيبٌ كل شيء محيط، فإذا حسّه العبثي الطافح بالسخط يطفو بغتة عبر قارب المرارة الذي لا يحتمل. سألني حينذاك، وهو يعلم سلفاً أنني لم أنفصل بعد بأي درجة تذكر عن مسارات «الوعي الكائن»، عن مبرر وجود طفل في قريتهم (القنايات) غير بعيد مِن الزقازيق، لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، حرفياً. كنّا وقتذاك، نسير باتجاه مكان عمله في شركة التأمين، حيث يجلس هناك نبيه الصعيدي خلف مكتب من الحديد، بمشاركة مكاتب من الطراز ذاته، لموظفين أكثر ما يميزهم الطيبة والبساطة الريفيتان. لقد كانوا الموظفين أنفسهم الذين درجوا على مطالعتي كطالب جامعي أسمر نحيل، «من السودان الشقيق»، لا ينفك يزور زميلهم الغريب الأطوار من حين إلى آخر. فنبيه كان ضخم الجثة، شرهاً في التدخين، صوته جهوري؛ يتحدث إليك وأنت إلى جانبه، فتحسّ أحياناً كما لو أنّه يخاطب إنساناً يقف على الضفة الأخرى من الشارع، وإذا هو مع وعيه الطليعي الحاد ككاتب، ينفجر إذا أمِن إليك بالضحك فجأة، أي مثل أي متوحش آخر عرفه العالم في ذلك الوقت، وكان يغضب بالمقدار نفسه لاشتعال ذلك الفرح، وذلك ما ضيّق دائرة أصدقائه، في زمن يعلي النّاس فيه قدر الزيف، من خلال ما يدعى «الذكاء الاجتماعي».

قدتُ دراجتي القديمة المستعارة من طالب فقير آخر، وكانت من دون أنوار ومستلزمات سلامة أخرى كالفرامل، واتجهت عصر ذلك اليوم إلى قرية القنايات لمفاجأة نبيه بالزيارة، وكان أن قادني إليه رأساً عبر أزقة كثيرة بدت كالمتاهة، فلاحٌ بجلباب أزرق، وكانت فرحة نبيه الطفولية الكبرى، وهو يراني أمامه على حين غرة، في تلك الأنحاء. وكما جرت العادة عند زيارات المكتب، أغرقني نبيه بالسجائر، كما لو أنّها أعلى أشكال الضيافة المعتمدة لديه، وهو يؤكد أننا سنزيّن احتفالاتنا الصغيرة بالفول والطعمية، في حال تخرجي قريباً في الجامعة، وهو ما لم يحدث لأن نبيه اختنق قبلها على الأرجح بدخان سجائره القوية تلك، وهو يغالب ثقل معنى العالم وخفته صعوداً وهبوطاً في آن، ثم سألني فجأة ما إذا كنت أعرف فلاناً، وكان أحد أساتذتي في كلية الآداب، فقال أنه منهم «من القنايات هنا»، وما إن علم أنني رسبت في مادة ذلك الأستاذ، حتى قادني إليه رأساً، ومن خلال أسلوب نبيه المباشر تمت تسوية المسألة تالياً، من دون أن يشهد نبيه نهاية ما بدأ هو من «خير!»، لأنّه صار عندذاك، أو كما سبقت الإشارة، في عالم الموتى.

كانت زيارة نبيه مؤسسات النشر الحكومية في القاهرة تتكرر عبر السنوات، ويحدث فيها الأمر ذاته، ثم ذلك المدعو «اليأس»، والفارق الوحيد، الذي ظلّ يحدث في أثناء تلك الزيارات كان يتمثل ليس في النشر، بل في زيادة عدد المسودات التي أنجزها، ويبدو لي الآن أن من العسير جداً على أي بيروقراطي التعاطف مثلاً، مع عمل إبداعي تبدو رحلات أبطاله نحو أراضين كثيرة تقع في العمق من أرضنا هذه. في ذلك اليوم، وهذا ما تناهى إليَّ سماعاً بعد رحيله، خرج نبيه الصعيدي من مباني الهيئة العامة للكتاب، أو هيئة قصور الثقافة، كعهده دوماً بخفي حنين، وقد انتزع هذه المرة مسودات أعماله المودعة هناك في انتظار النشر ورمى بها إلى النيل. هو فعل ذلك مثلما قد يفعل في الموقف ذاته أي بطل ملحمي آخر يظهر فجأة في غير زمانه. أجل، مات نبيه تالياً؛ بعد مرور فترة قصيرة. إلا أنه كان يبالغ في الاهتمام بمسوداته، ويقوم بطباعة أكثر من نسخة من كل مسودة، بتكاليف باهظة، بحسابات دخله المحدود، ولا ينسى في الأثناء أن يعمل على تغليفها أو تجليدها بالحنان الأبوي الذي يليق بطفل وحيد.

مرت الأيام، وتباعدت بي السبل والطرق والسنوات، ثم اتصلت أخيراً، مِن أستراليا حيث أعمل وأقيم؛ بصديق مشترك، هو الكاتب العربي عبدالوهاب. في أثناء استعادة تلك الذكريات، خطر لي فجأة أن أسأله عن ميراث نبيه الصعيدي الثمين الذي لم ينشر، واعتذرت على تقصيري، وأنا أسأله البحث عن طريقة ما يمكننا أن نساهم بها في نشرها. مرة، في أواخر الألفية الماضية، طرَق صديق أخرق باب شقتي المؤجرة في القاهرة، وأخبرني من دون مقدمات بأن صديقي الكاتب مجدي حسنين؛ المحرر في صحيفة «الأهالي» وقتذاك مات بالسكتة القلبية. ما أحمده أن العربي عبدالوهاب في أثناء تلك المكالمة قام بتهيئتي جيداً، لتقبل أمر يبدو لي أكثر قسوة من موت الفجاءة، وهو يخبرني أنّه قام بلقاء أحد ورثة نبيه، على خلفية احتفالية عامة في قصر الثقافة بالزقازيق، وأخبره ذلك الوريث بما يشبه الفرح تأكيداً أنّه قام بحرق كل كتب وأوراق قريبه التي خلّفها بعد موته؛ لأنّها كما يزعم «ليست ذات فائدة».

Post: #50
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-12-2019, 06:49 PM
Parent: #48

Quote: هل انتابك يوماً هاجس "اتقان" الكتابة مما يجعلك تتفادى الكتابة نفسها حتى لا تُفجع؟؟

وعطفاً على السؤال السابق:

كيف "تقيس" يا برنس -تطورك أو تقهقرك الإبداعي؟


كما لو أن المشاء يفكر هنا بصوت عال. وكي نتأكد من هذا، علينا اعتبار ما تقدم تساؤلا يفتتح أفقا للتفكير الجماعي وليس سؤالا ينتظر إجابة كسابقه في الترتيب والأخير هنا والأول في مداخلة أسامة هناك سأبدأ به. وأعني: هل انتابك يوماً هاجس "اتقان" الكتابة مما يجعلك تتفادى الكتابة نفسها حتى لا تُفجع؟؟ ولعل هاجس الإتقان هذا كان ماثلا هناك في تجربة كل كاتب جاد. إلا أن تجنب الكتابة تماما في هذا السياق لا يخدم ظني الكاتب وكتابته في شيء. هناك دوما فجوة ما بين تصور الكاتب لكتابة شيء ما وتحقق هذا الشيء عمليا كمنجز. فالكتابة مثل الكائن الحيّ. بعضها يولد بأسنانه وينمو سريعا وبعضها الآخر يحتاج في تطوره إلى الكثير من الجهد والعرق. وماركيز لم يكن استثناء بعلو كعبه في المجال حين قال "الكاتب الجيد يعرف بعدد ما يمزق من أوراق". إنّه صراع الأدوات نفسه لتجسير الفارق القائم ما بين الكتابة كفكرة في ذهن الكاتب وتحقق هذه الفكرة عمليا على الورق كمنجز. ذلك الصراع الذي دفع كاتب مثل مارسيل بروست إلى التقرير أن 10% موهبة و90% جهد وعرق. إلا أن توماس أديسون يذهب في السياق إلى أبعد معطيا للعبقرية 1%. ألا نذكر هنا قول أديسون نفسه: "إنني لم أفشل لكنني قمت بتجربة عشرة ألف طريقة لم تقد إلى المصباح الكهربائي"؟

ما يواجه الكاتب الآن، في تصوري الخاص، ليس فقط صعوبة المهمة ولا أقول استحالتها لا على مستوى تجاوز ما سبق بل إضافة إلى ما قد سبقه من تجارب نوعية في مجاله، بل كذلك في مكافحة عوامل التشوش العام والخاص، الموضوعي والذاتي. فمثلا يوجد الآن إغراء وسائط التواصل الاجتماعي، وهو إغراء قد يوقع الكاتب في الخفة، قد يدفعه للنشر على عجل أو على بعد لمسة من لوحة المفاتيح، حيث تأتي الكتابة أو نواة الكتابة محاطة عادة في مثل تلك الأحوال بالكثير مما هو غير جوهري وملوثا بشوائب اللحظة الماثلة!

تساؤل أسامة الآخر، سؤال القياس، قياس تطور الكاتب أو تقهقره، قد لا ألقي له ذلك الاهتمام المطلوب، لا من زاوية الكاتب الإيراني صادق هدايت الذي يكتب فقط لظله الساقط أمام المصباح، بل لأنها مهمة النقد على ما أتصور، أو هذا يتعلق بمستوى المعايير القائمة خارج ذات الكاتب من تفاعل وقبول ورفض. وفي السياق، لم أنظر أبدا إلى شيء كتبته في الماضي بغير عين الحسرة أن كتابته كان من الممكن لها أن تتم على نحو أفضل بكثير!

Post: #51
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-13-2019, 00:53 AM
Parent: #50

Quote: نتابع مبسوطين بعودة المبدع البرنس . له التحية مطبوقة


ولك مثل ما في قلب أمي لي من دعاء.





المنفيان

















تجمد فور أن رآني أستوقفه.

أخيراً مدّ يده إلى يدي قائلا:

«ألا تزال تبتسم يا يوسف»؟

زاد مدى ابتسامتي اتساعا!

عانقني، خطفاً. ابتعد. قال:

«زمن»!

وهوى بنظرته المتعبة الجافّة إلى حافّة الرصيف. بدأت أتأمّله. وجدتني لدهشتي لا أحمل شيئاً ما في داخلي تجاه ما بدر منه تلك الأيام. رفع رأسه. كانت تمر فتاة. تابعها. عاد يتأمّلني. قلت: «كانت رحلتي شاقة». قال: «الحق، متى عدت»؟
قلت:

«قبل أيام»!

كان قد مضى على وصولي أشهر. أخذنا تاليا نتمشّى، ببطء، ولا هدف، بينما لا أنفك أختـلس النظر إليه، من لحظة إلى أخرى، في خضم الضجيج المتصاعد لميدان الفلكي. وقد لمحته في الأثناء وهو يبتسم بمرارة أكثر من مرة. فجأة، قال:
«ظروفي صعبة».

ثم أعقب ضاحكاً:

«بدأتُ أرتاد حتى موائد الرحمن في رمضان، تصوّر»؟

قلت:

«القاهرة مدينة كبيرة، يا أخي»!

قال:

«نعم».

ثمة شيء آخر حزين في صوته.

كنا نقترب في توافق لا إرادي من مقهى الحريّة. جلسنا هناك على مائدة إلى الداخل. قلت «القاهرة زادت زحاماً». لم يعلق. طلبت من الجرسون الواقف على رأسينا زجاجتي ستيلا. شاهدت وجهاً قديماً يجلس على الجانب الآخر من المقهى الكبير. قال «إنه عاطف». أردف «دعه». قلت «يبدو حزيناً». تجاهل ملاحظتي. عطس. قال «الحمدلله». تابعت احتساء الزجاجة. ضغط بأصابع يديه على حافة المنضدة. بدتْ أظافره مقلّمة. سألني بحياء، بدا مباغتا وغريباً، شيئاً من المال. قال «ربما مئة». أخرجت المحفظة. أكاد ألمس فضوله. وقد خطر لي أنني لا أكاد ألاحق اندفاعاته منذ أن التقيته. بدأت في عد الورقات. أعطيته ألفاً. لاحتْ على عينيه غلالة دمع. أشحتُ. غمغم. عدت بنظرتي إليه. قال:

«لعلك تذكر تلك الأيام»؟

لم ينتظر إجابتي. غرق بالضحك فجأة. وجدتني أضحك معه. أخذ يتشمم الورقات العشر. وضعها داخل محفظة مهترئة.

بصوت رُدت إليه أسباب الحياة قليلاً، سألني:

«كيف سارت بك الحياة، يا رفيق، في كندا»؟

أردت قول شيء ما.

لكنه ما لبث أن قاطعني، قائلا:

«لم يعد من الرفاق هنا الكثير».

أقبل الجرسون وليم. فكرت عند أول الجلسة أن وليم غدا قليل الابتسام. وإن ظلّ محتفظاً إلى حد بعيد بهيئته القديمة. وضع وليم على المنضدة زجاجتين خضراوين أخريين. انصرف صوب زبون يجلس على مائدة قريبة. لاحظت أن وليم لم يتعرّف عليَّ بعد. قال كمن أدرك مـا كنـت أفـكر فيه «هذا وليم، يا يوسف». قلت «وجوه المقهى نفسها». أومأ برأسه وهو يمسك ببقايا الزجاجة الأولى. نظرت إلى الكاشير الغارق قبالة مدخل المقهى داخل ما بدا إطراقاً أليفاً. وقد بدا شعره القليل على أطراف رأسه أبيض. قال بعد دقائق من الصمت «الحياة غريبة». وشرع يعبّ الشراب. كنت أفتقد إلى ضجيج المقهى. كانت الأرضية الأسمنتية ذات الطلاء القاتم مهملة. المراوح لا تزال تئن في الأعلى. حلّ شاب نحيل في مكان ماسح الأحذية العجوز عند جانب المدخل. جاء وليم أكثر من مرة وذهب. عاد هو من الحمّام للمرة الثالثة. ذهبت إلى هناك مرة. كانت الزجاجات تتراكم. قال ناظراً إلى المائدة: «هل لديكم مثل هذه الزجاجات في كندا»؟ ابتسمت. ولم أعلم ما وراء سؤاله على وجه الدقة. ضحك بصوت عال. وجدتني أقول «الزجاج هناك قبائل وأفخاذ وبطون»!

بشيء من الحسرة، قال:

«لا بد أنها بلاد جميلة».

تلوت شيئاً من شعر درويش «طعم العسل في بلاد الآخرين مر»! قال «كيف حال الرفاق هناك»؟ قلت «نادراً ما أسمع منهم». قال «لم نعد نسمع منهم هنا كذلك الكثير». ومضى «لا بد أنهم غارقون هناك في الملذات». قلت «للناس أعذار». قال إنه غير مقتنع أن ما عايشه معهم «هنا» أمر لا يستحق عناء السؤال عنه. أردف «كنّا رفاقاً». أضاف: «تقريباً». ثم نظر إليَّ بعينين بدتا مفرّغتين من كل شيء. سألته إن كان يرغب "حقّا" في العودة إلى الوطن. هزّ رأسه بالنفيّ. لم أشأ أن أسأله: «لماذا». بعد دقائق أخرى من الصمت، قال: «لا يوجد هناك ما قد يستحق الذهاب إليه. أمّي وماتت»!

بدأت الظلمة تهبط تدريجياً على ميدان الفلكيّ في الخارج.

أقبل الجرسون وليم. قال يخاطبه بأريحيّة أدهشتني «لعلك تذكر هذا الأستاذ، يا وليم». كان يشير إليّ. قال يوضح لوليم الغارق لا يزال في فنجان التذكر «هذا يوسف، يا وليم»! أخيراً، بدا كما لو أن وليم لم يسمعه قطُّ حين قال إنه «للأسف الشديد» على وشك الانتهاء من الوردية ويريد "الآن" أن «يحاسب». أخرجت محفظتي. فتحتها في هدوء. لاحت صورة زوجتي والولدين. ترددت في سري أن أريهم له. شكرني وليم قائلاً بنبرة بدت حميمة هذه المرة «لا تغب عن المقهى هكذا، يا أستاذ يوسف». جاء جرسون آخر. لم أره من قبل. سألته إن كان يرغب في المزيد. قال «نعم». سألت الجرسون، قائلاً «زجاجة واحدة فقط، من فضلك». قال فور انصراف الجرسون الجديد إنه توقف عن الشراب لكنه يعود «اليوم».

أقبل الجرسون مراراً، وذهب.

كنت أقول للجرسون كل مرة:

«فضلا، زجاجةً واحدة فقط»؟

بدأ نطقه يثقل. قال: «أيام، يا رفيق يوسف». وذهب إلى الحمّام. لم أعد أحسب عدد مرات ذهابه إلى هناك. كان قد بدأ يسير كمن يقوم بخياطة طرفي المقهى. وجدتني أنظر إلى الكرسي الذي ظلّ يشغله قبالتي بحياد. عاد من الحمّام بشيء من دندنة تلك الأيام. كنت لا أزال أتحدث إلى ماسح الأحذية. قاطعنا قائلا إنه يريد بدوره «التلميع». نظرت إلى حذائه. كما لو أنه قطع به ألف ميل على أرض غبراء. غرق كلانا مجدداً في الصمت. عاد الماسح بالحذاءين. قلت: «لا بد لي أن أذهب». انحنى يضع قدميه داخل الحذاء. حاسبت الجرسون. نهضنا مغادرين. سألته عن عنوانه بينما يترنح خارج المقهى. قال إنه يفضّل أخذ أجرة التاكسي والسير على قدميه. لم أعلق. أوقفت عربة أجرة. نقدت السائق مقدماً أجره. قال يخاطب السائق: «انتظر». أخرج رأسه من النافذة، والعربة بدأت بالفعل في التحرك، وقال: «أنا آسف».



Post: #52
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-13-2019, 05:04 PM
Parent: #51

تعدد احتمالات القراءة:

في المقطع التالي من نص البرنس الاخير ، هنالك خطا في إيراد شعر محمود درويش:
Quote: بشيء من الحسرة، قال:

«لا بد أنها بلاد جميلة».

تلوت شيئاً من شعر درويش «طعم العسل في بلاد الآخرين مر»!

الصحيح هو:
Quote: القمح مرٌّ في بلاد الآخرين

هنالك احتمالات عديدة لقراءة ذلك:

الاحتمال الأوّل: أخطأ المؤلف الفعلي "البرنس" في كتابة النص الشعري.

الاحتمال الثاني: الخطأ مقصود للتدليل على "السكر" مثلا أو ما يفعله المنفى بذاكرة المنفيين أو أن الشخصية الروائية لا تحفظ الشعر جيدا.

الاحتمال الثالث: كل الاحتمالات في "2" صحيحة ،إذن فالخطأ في إيراد النص الشعري هو حاصل جمع كل تلك الاحتمالات..

كل ذلك يعتمد إذا ما كان هنالك أجزاء من النص السردي لم تنشر ،فالسياق يساهم مساهمة فعالة في تأكيد تلك الاحتمالات أو نفيها.

Post: #54
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-13-2019, 06:23 PM
Parent: #52

مواصلة لمقاربة تساؤلات المشاء عن النشر وقضايا أخرى مثل الجوائز، أضيف أن الفيتوري أثناء زياراتي المتكررة له في مبنى السفارة الليبية في القاهرة خلال عقد التسعينيات، سألني إن كان لدي شيء ما معد للنشر، موضحا أن سمير سرحان (رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب وقتها) بمثابة صديق له، على أنه شدد أن يكون ما لدي أمر يستحق النشر بالفعل، فأخافني ذلك، فقلت له "ليس بعد"، أو نحو ذلك. بعد عودتي إلى القاهرة عام 2010 بعد غياب دام نحو سبعة أعوام، وجدت السهولة، التي اجتاحت مجال النشر، بفضل تطورات الثورة العلمية الثالثة ومحاولات دور النشر الخاصة للبقاء، قد دفعت بجيوش من الكتاب، الذين ما أن تجلس في مكان ما حتى يقدمون لك كتابا (من كتبهم)، وكنت تشعر بالتعاطف مع غالبية هذا الجيش، لجهة محاولاتهم الدعائية المستميتة كي يظلوا على سطح الذاكرة بوصفهم مبدعين بدليل مادي هو الكتاب الفاخر الذي بين يديك. غياب برنامج الحد الأدنى يفعل الكثير. لقد بدت لي مثل تلك المزاحمة لأصحاب المشاريع الذاتية الضيقة تلك مثيرة حقا للشفقة وربما اليأس كذلك. وعن موضوعة الجوائز، عزيزي المشاء، فقد كنت ضمن عدد من الكتاب شملهم استطلاع صحفي لصالح "العين الإخبارية" الصادرة في الإمارات جرى في الليلة التي سبقت إعلان جائزة نوبل الأخيرة، وهنا الاستطلاع الذي أجراه الصحفي والكاتب عبدالكريم الحجراوي كاملا:


مثقفون يتحدثون لـ"العين الإخبارية" عن فرص العرب في حصد "نوبل للآداب"
العين الإخبارية - عبد الكريم الحجراوي الأربعاء 2019/10/9 05:27 م بتوقيت أبوظبي


مرت 31 عاما منذ حصد العرب جائزة نوبل للآداب، التي نالها الروائي المصري المخضرم نجيب محفوظ، وعشية الإعلان عن الجائزة العالمية التي تمنح للفائزين عن عامي 2018 و2019 يتجدد الحلم بأن يظفر بها كاتب عربي آخر.
بعد أحداث العام الماضي.. جائزة نوبل في الأدب تسعى لاستعادة بريقها
"العين الإخبارية" استطلعت آراء عدد من النقاد والمبدعين العرب حول إمكانية تكرار المعجزة وحصد كاتب عربي الجائزة الأعلى في مجال الآداب على مستوى العالم التي تعلن في العاصمة السويدية ستوكهولم الخميس.
قلة الإنتاج

استبعد الدكتور خيري دومة، أستاذ الأدب الحديث بجامعة القاهرة، حصد عربي الجائزة العالمية، قائلا: "لا أظن أن الجائزة ستذهب إلى عربي هذا العام، فليس لدينا في الفترة الحالية أديب بالقوة والغزارة التي تمكننا من حصدها مرة أخرى".

وأضاف: "كان لدينا قبل نجيب محفوظ تجربتين تستحقان الجائزة بقوة، وهما طه حسين وتوفيق الحكيم، بوصفهما من الأركان المؤسسة في الأدب العربي، وأيضًا كان يستحقها يوسف إدريس بوصفه صاحب خط مميز في الأدب وله نهجه".
ورأى دومة أنه ربما يكون الأديب السوري الكردي سليم بركات من الأسماء التي تستحق الجائزة، وكذلك الأديب المصري بهاء طاهر؛ لكن ما يقلص فرصة الأخير قلة إنتاجه الروائي.
وتابع: "ربما نوال السعداوي تسحق هذا الجائزة، لأنها صاحبة مشروع وتسير في خط وحدها وتصر عليه، فهي سيدة مناضلة، كذلك أدونيس من المرشحين لنيلها، لكن رغم كل ذلك أستبعد أن ينال العرب الجائزة هذا العام".

اللغة عائق

قال الروائي المصري عمار على حسن إن "الأدب العربي المترجم يبعد العرب عن الترشح لنيل الجائزة، اللهم إلا الأسماء المتداولة كل عام مثل أدونيس ونوال السعداوي، اللذين وصلا لمراكز متقدمة في قائمة المرشحين للجائزة، لكن تظل الترجمة العائق الأول أمام نيل العرب نوبل للآداب".

وأضاف: "لدينا قامات في المجالات الأدبية المختلفة لا تقل عمن نالوا هذه الجائزة في الغرب، لكن لجنة نوبل تقرأ بـ5 لغات فقط ليس من ضمنها العربية، وفي عام 1988 السنة التي فاز فيها محفوظ بنوبل، كانت لجنة الجائزة قررت أن تمنح الجائزة لعربي تقديرا لهذه اللغة".
وتابع: "لذا طلبت اللجنة ترشيحات لمبدعين عرب، وأغلبها جاءت في صالح نجيب محفوظ".
تنبأ عمار بمنح الجائزة هذا العام لكاتب أوروبي وآخر أفريقي من جنوب الصحراء أو آسيوي، أو ربما تمنحها اللجنة لكاتبين من أوروبا.
وأضاف: "إذا عدنا إلى معيار الترجمة فعلاء الأسواني الأكثر حظا بترجمة أعماله، لكن للأسف ينظر إلى أعماله كما ينظر لأعمال الياباني هاروكي موركامي أنها أدب شعبوي، لكن من الوارد أن تتغير ذائقة لجنة التحكيم وترى أن هذا النوع من الأدب يستحق التكريم كما عودتنا في الكثير من المرات".

معوقات عديدة
بينما رأى الروائي السوداني عبدالحميد البرنس أن هناك معوقات قد لا تقف في صف من يكتب باللغة العربية، وتحول دون حصول كتاب عرب ثقال على الجائزة.
وأضاف: "أعني هنا تلك الشروط الموضوعية التي تقع خارج ذات الكاتب، مثل سقف الحريات المتاح والتحرر من الضرورة"، مشيرا إلى وجود كتاب عرب أصحاب مشاريع إبداعية منجزة على مستوى عال من الجودة، مثل أدونيس أو إبراهيم الكوني.
وتابع: "الكاتب العالمي جابرييل جارسيا ماركيز لديه مقال مشهور عن جائزة نوبل، يرى فيه أن الجائزة أخطأت أحيانا أصحابها وأحيانا ذهبت إلى من لا يستحق"، مستطردا: "ربما هو يشير هنا إلى معايير تتحكم في الجائزة بوصفها معايير لا تتعلق بالجودة الفنية دائما".
وقال: "بالنسبة لي لا أفكر في الجوائز هنا وهناك من أي موقع سواء كقارئ أو ككاتب. ربما يحدث هذا حين يتجاوز مفهومك للكتابة تلك المسائل الطيبة مثل النجومية والشهرة والمكافأة، إلى مفهوم ينظر إلى الكتابة كموقف من العدم".
اللجنة متحيزة

قال الشاعر والروائي المصري علي عطا إنه يهتم شخصيا بتقديم نوبل للآداب لمن يستحق الجائزة على مستوى العالم، بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها.
وأضاف: "مع الأخذ في الاعتبار أن من حقي أن أنتقد انحيازها الأوروبي الواضح منذ انطلاقها عام ١٩٠١، وهو انحياز مخالف لوصية ألفريد نوبل الذي أرادها جائزة إنسانية".
كما انتقد عطا "ذكورية الجائزة الواضحة سواء على صعيد من يحصلون عليها أو على صعيد تشكيل لجنتها، الذي يدور حوله علامات استفهام كثيرة، خصوصا من حيث علاقة أعضائها بالإنتاج الأدبي في مختلف أنحاء العالم"، وفق قوله.

ورأى أن العنصر السياسي طالما لعب أدوارا مفضوحة في اختيار الفائزين أو إقصاء مرشحين، مضيفا: "هذا كله ترتب عليه أن بعض من حصلوا على الجائزة لا يستحقونها".
واختتم حديثه قائلا: "أرجو تعديل مسار جائزة نوبل للآداب لتكون كما أراد لها مؤسسها، ولا أظن أن ذلك يمكن أن يتحقق بين ليلة وضحاها، كما أن الرضا التام عن اختيارات لجنة الجائزة لن يحدث أبدا، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لها ولغيرها من الجوائز".
الإبداع العربي يستحق

قالت الروائية المصرية منى الشيمي، التي سبق لها الفوز بجائزة كتارا للرواية العربية، إنه لا توجد مشكلة في الإبداع العربي لكنه لا يقدم للغرب بسبب نقص فرص الترجمة، وربما يكون هذا لسبب متعمد، موضحة أنها لا تستبعد فوز عربي بالجائزة.

وأضافت: "لا يوجد كتاب حاليا كنجيب محفوظ أو جابرييل ماركيز يمكنهم إصدار عشرات الروايات بسبب تغير إيقاع الحياة، كما أن ضغوطات الحياة لم تعد تعطي فرصة التفرغ للمبدعين".
وأردفت أن "جائزة نوبل دائما ما تفاجئنا بأشكال مختلفة تفتح باب الأدب على مناحي جديدة، فقد أعطتها للصحفية البيلاروسية سيفتلانا أليكسييفيتش أو للمغني بوب ديلان"، مشيرة إلى أنها دائما تكون سعيدة بتلك الاختيارات.
وقالت الشيمي إنها لا تحبذ إعطاء الجائزة لنوال السعداوي، كون إنتاجها الأدبي لا يليق بالجائزة، مضيفة: "كما أن الحديث عن قهر الرجل للمرأة في وطن مقموع بالكامل يفقد مصداقيته، فيجب أن نطالب بالحرية للجميع وليس لفئة معينة دون غيرها".
فرص ضئيلة


قال الكاتب المسرحي السعودي فهد الحارثي إنه لا يعتقد أن العرب لديهم فرصة للحصول على الجائزة العالمية لسببين: تسيس الجائزة والمحتوى العربي الفقير.
وأضاف: "الأدباء العرب مهمشون لكنهم يزيدون من تهميش أنفسهم"، متسائلا: "كيف لمن عاش في هامش الصفحة أن يكون له القدرة على التأثير في محيطه وصولا لنوبل؟".
وتابع: "شخصيا لا أميل للبحث عن عربي مبدع يرشح لها، ولا أبحث أو أنتظر اسما يصل، وعلى من يرغب في الوصول أن ينغمس في محيطه تماما ليتفرد ويصل بصوته المؤثر لقارئ هو في ظني أهم من الجائزة".

أدونيس المرشح

قال الروائي المصري طارق إمام إنه "عندما نتحدث عن فرص العرب في الحصول على جائزة نوبل للآداب، فإننا على الأغلب نتحدث عن اسم محدد هو أدونيس".

وأضاف: "أدونيس لن يحصل على نوبل، لأن الضجة المصاحبة لفرصه في الحصول على الجائزة عربية أصحابها صحفيون ومحررون ثقافيون عرب يخرجون سنوياً نفس الكلام المكرر من الثلاجة بعد تحديث تاريخ النشر".

وتابع: "ثمة كاتبان سيحصلان هذا العام على الجائزة، التي ذهبت في السنوات الأخيرة مرتين لاثنين لا ينتميان للكتابة الأدبية أو حتى الفكر أو الفلسفة، هما الصحفية سفيتلانا أليكسييفيتش والمطرب بوب ديلان، ما جعل الجائزة تنحرف عن مسماها وتصنيفها النوعي لتصبح (نوبل للثقافة) بمعناها الأشمل وليس للآداب".
رأى الروائي الشاب أن نوبل ربما تمنح هذا العام لنوعين أدبيين مختلفين، رجل وامرأة، فتصيب عصفورين بحجر واحد، لمراعاة التنوع والتأكيد على التفات الجائزة المتنامي لكتابات المرأة.
وقال: "أتمنى أن تعود نوبل للكتابة التخيلية، وأن تبحث بعيدا عن المركزية الأوروبية، فحتى الكتاب الذين حصلوا عليها في السنوات الأخيرة من غير الأوروبيين يحملون جنسيات أوروبا، مثل يوسا البيروفي الذي صار إسبانيا أو إيشيجورو البريطاني رغم أصوله اليابانية".
حسابات وكواليس
رأى المخرج المسرحي المغربي ورئيس مهرجان مكانس الدولي للمسرح بوسلهام الضعيف أن جائزة نوبل ليست بريئة من الحسابات ومكر الكواليس، لذا يصعب التكهن بفوز عربي.
وقال: "كما يصعب الحديث عن اسم أدونيس، رغم أنه يستحقها منذ سنوات كشاعر إنساني رسخ شعرية كونية، لكن نوبل في آخر لحظة تأتي بأسماء وجغرافيات لم نكن ننتظرها".

سوريامصرالسودانالمغربالسويد

Post: #55
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عمر التاج
Date: 10-14-2019, 02:01 PM
Parent: #54

نتابع في صمت
ونستمتع بدهشة
وأدب
شكرا يا برنس على هذا الجمال
وشكرا يا خواض على هذه النافذة الشاهقة

Post: #56
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-14-2019, 05:56 PM
Parent: #55

Quote: تحدّثت في ردّك على النذير عن استماعك للكتب المسموعة في أثناء قيادتك لسيارتك.

هذا يحيلنا إلى "الوردية الثانية" للكاتب السوداني.

فهو لايمارس الكتابة كحرفة،وإنما "وردية ثانية" غير مدفوعة الأجر في غالب الأحيان، وتحتلّ مكاناً هامشياً في أولويّات المجتمع.

كيف تباصر "ورديتك الثانية"؟؟؟

هل لديك طقوس للكتابة ضمن حدود تلك المباصرة الشاقة؟ خاصة أن الرواية تحتاج إلى زمن طويل لكتابتها ومراجعتها.


عزيزي المشاء:

إن أمرا كالقراءة عبر الاستماع أثناء القيادة قد يبدو لي الآن بمثابة نوع من التكيف مع ضغط الحياة الذي لا يحتمل في (الغرب)، حيث يتحول الواقع باطراد خلف مظهره الحر الطليق إلى طقوس يومية لما قد يمكن تسميته (العبودية الحديثة)، ولم تكن التجربة في مجملها بالنسبة لي سوى "ممتعة".

ليس فقط الكاتب السوداني، كما أتصور، هو الذي يعاني من وضعية التهميش تلك، بل هو طابع القولبة الفكرية والثقافية السائد عالميا، والذي يعمل بصورة منهجية على إشاعة السطحية وكل ما هو خال من قيمة. مثلا، تويتر، لما أردت فتح حساب هناك، نصحوني ألا أحاول أن أكون عميقا. كذلك بدأ العد التنازلي في السودان بنوع من الفرح لبدء أعمال محلات ماكدونالدز هناك والتي قد لا تفرق من حيث الفائدة عن برامج الترفيه الأمريكي التي لا تحصى. أي انتظار الناس لدورهم لتعاطي شيء ما يخلو من القيمة الغذائية بما يبدو طواعية وتشوق حتى. عموما، كلما زاد رهق العبودية الحديثة كلما زادت الحاجة هناك لأضحاك "هذا العبد" وتسليته حتى يقبل على حمل النير ثانية ولا يتمرد. إن مفهوما مثل (تدوير الدولار) يعني في هذا السياق الكثير!

مضافا إليه، لم يعد لي قرشا واحدا من كتاباتي اللهم إلا مبالغ رمزية جراء النشر في الهيئة المصرية العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة في القاهرة، حتى العقد المبرم مع مؤسسة دار الهلال التي كان من المفترض أن تصدر رواية السادة الرئيس القرد لو لا المصادرة بدت مكافأته أشبه بعطية الشافع لشراء حلوى من دكان اليماني على الناصية. ومع ذلك، أرى بعضهم يعرض كتبي على مواقع مثل أمازون ونيل وفرات بالدولار مناديا على بضاعته بذلك النوع من البراعة التسويقية. لكن أكثر ما أدهشني أن أحدهم يعرض في أحد المواقع تنزيل رواية غرفة التقدمي الأخير مجانا مع أنها عدا النسخ المقدمة للنقاد والصحفيين لم تنزل إلى الأسواق حتى الآن. لقد خشيت أن أضغط على ذلك اللينك مع فضولي. ربما كان فخا من جراثيم الإنترنت!

عن سؤالك عن طقوس الكتابة، كنت زمان لا أكاد أكتب حرفا من دون أن أمسك سيجارة بين أصابعي وكوب الشاي ثم تاليا القهوة بجانبي. بعد أن أقلعت عن التدخين عام 2013 تماما، أكتفي بكوب من القهوة وعلى الخلفية عادة ما أستمع لموسيقى موتسارت. وكذلك برزت لدي هنا مسألة التكيف مجددا، كنت أذهب إلى العمل في سيدني بواسطة القطار الذي يستغرق وصوله الساعة لا أتوقف خلالها عن العمل على رواية السادة الرئيس القرد، ثم أجلس في المحطة قرابة الساعة متابعا العمل على الكومبيوتر المحمول، وحين يهدأ عمل الحارس الليلي بعد العاشرة مساء، أبدأ في قراءة شيء ما، أو مشاهدة أحد الأفلام. وفي طريق العودة، أجهد حتى لا يأخذني النوم داخل القطار. على أن رواية السادة الرئيس القرد وغيرها استغرقت مني في المجمل سنوات عديدة من الكتابة وإعادة الكتابة!

Post: #57
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-15-2019, 11:43 AM
Parent: #56

أشكرك كثيرا أخي عمر التاج.

Post: #58
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: قلقو
Date: 10-15-2019, 12:11 PM
Parent: #57

سـيقام معرض الخرطوم الدولى للكتاب بأرض المعرض ببرى ( وما أدراك ما برى واسود البرارى وكنداكاتها ) خلال الأسبوع القادم او الذى يليه لا أدرى , لكن المهم أنه سيقام وأتمنى أن أجد اصدارات الأستاذ عبدالحميد السائح جنبا إلى جنب مع كثير من الأصدارات الممنوعة من دخول للسودان ابان عهد حكم الكيزان المظلم .
ما أجمل اليموقراطية .

Post: #59
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-15-2019, 05:26 PM
Parent: #58

مرحبا بالاستاذين عمر التاج وقلقو ..

شكرا برنس على ردودك المسهبة المفعمة باللغة الجميلة والفكر .

ويبدو من المتابعات الصحفية لكتاباتك أنك أصبحت جزءا أصيلا من المشهد الثقافي المصري.

هنالك حساسيات بين الثقافتين المعاصرتين المصرية والسودانية..

اين تجد نفسك في تلك "الحروب الثقافية الصغيرة"؟؟؟

Post: #60
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-15-2019, 06:44 PM
Parent: #59

شكرا أخي قلقو. وكذلك الشكر واجب، عزيزي المشاء، على أخيك، إذ تفتح لعملي المتواضع نافذة، على "من حيث بدأ\ الوطن". وفي المناسبة، مصر فضاء بالغ الحيويّة والثراء، حين يتعلق الأمر باللغة العربية، لجهة المنافسة العالية وعراقة المؤسسات ورسوخ التقاليد الثقافيّة. والمثل العراقي يقول في السياق "يا نازل مصر زيك ألف". فإذا كنت مثلا نجارا شديد البراعة فهناك الكثير من هم في مجالك من المصريين. ربما لهذا أذكر هنا قول الفيتوري الجميل لي "في مصر يحترمون المواهب القوية ولا يتورعون عن تقديمها والاحتفاء من ثم بها". أو كما قال شاعرنا العظيم ذلك القائل كذلك "لو لا هواكِ لمِتُّ في وطني". والقاعدة بالنسبة لي هناك في مصر وكل مكان "أقم بينك وبين الناس جسورا لا حوائط". وأضيف "ما أمكن". إذ لا يمكن التعامل أحيانا مع ذوي الآراء المسبقة. أنت إنسان وأنا إنسان. كلانا عابر في هذه الحياة. دعنا إذن نجعل من المساحة المشتركة بيننا مكانا أكثر قابلية للعيش. أقلّ مشقة وعسرا وأكثر راحة وسعادة. وما تبحث عنه في مصر أو أي مكان آخر ستجده غالبا. قد يكون هناك أصحاب نظرة مركزية بالغة الضيق من المصريين. ولكن كذلك وُجِدَ وقتها رجل صاحب موهبة إبداعية أصيلة مثل إبراهيم أصلان الذي حين قدمني إليه الناقد الجاد الدكتور صلاح السروي خلال عقد التسعينيات كي أكتب في الحياة اللندنية وكان أصلان مديرا للقسم الثقافي بمكتب القاهرة قال لي "نحن في الحياة تحكمنا جودة المادة". أواصل الحديث هنا عن تجربتي النسبية الخاصة. لم يتم التعامل معي بمنظور إقصائي بوصفي سودانيا وأنا أطرق باب مؤسسة أو مطبوعة أو مجلس مصري جاد. حدث هذا معي في مجلة أكتوبر حيث قمت بقضاء فترة تدريبي أثناء دراسة الإعلام في الجامعة ومؤسسات الأهرام والأخبار والجمهورية والهلال وإبداع وقناة النيل الثقافية وأدب ونقد (بيتي المعارض الحميم) ومكاتب الشرق الأوسط والحياة والسياسة ومراكز حقوق الإنسان وغيرها. والأكثر جمالا في خبرتي هناك تلك الاستفادة الجمة من الخبرة المصرية على مستوى الإنسان البسيط في معافرة الحياة ومكابدة الظروف والتعامل مع المصاعب بروح عالية. إنني أعطي عامة للمشترك الإنساني أولوية قصوى. في النهاية دعنا عزيزي المشاء نتذكر قول بورخيس بالغ الدلالة "في مجال الكتابة لن يسعفك أحد"! وإذا حدث فإلى حين. ذلك أن الزمن حكم لا جنسية ولا شلة ولا "حرفنة شفوت" بالمعنى السلبي قد تشفع لديه!

Post: #61
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-15-2019, 11:57 PM
Parent: #60

المقال المنشور أدناه مهم لسببين:

الاول: يتحدث عن المنفى وتاريخه ويستشهد كثيرا بادوارد سعيد.

الثاني: الحديث عن دلالة "الاسم" وتأثيره على حامله كما في اسم "صموئيل" .

بالنسبة لاسم "البرنس"، ما هي قصة الاسم؟

وما مدى تأثير وقعه على المستمع إيجابا وسلباً؟

أقول ذلك انطلاقا من تجربة، فدائما ما يتم التفاعل مع اسم "الخواض" لدى المستمع./

وكما ترى في المنبر العام، ففي أحايين كثيرة يسلبني اسمي الشخصي، ويفضّل الكثيرون اسم الوالد...

فإلى المقال:

Quote: ذرائع المنفى فـي سيرة صموئيل شمعون الروائية «عراقي في باريس»
13 أغسطس,2019



أحمد الويزي *

“نحن جميعنا منفيون، في عالم ليس له مركز”

تيرا نوسترا Terra Nostra
كارلوس فوينتيس

1) على تخوم الوطن/الوثن:

يُقصَد بالمنفى لغةً المكانُ الذي يلوذ به المنفي ويلتجئ إليه، مستجيراً من شدة الاصطلاء بنيران التسلط والاستبداد، ملتمساً المدد والسند لنفسه وقضيته، بعدما يكون قد وقع عليه فعل النفي، أي الطرد والدفع(1)، سواء بكيفية فوقية قسرية، أو بشكل تلقائي نابع من بعض الاختيارات الذاتية الصرفة.

والنفي في الحالتين معاً، فعلٌ من أفعال العنف القصوى، وهو رديف رمزي لعملية العدم والتصفية بالقتل، مادام يستهدف في العمق استئصال الفرد من مداره الطبيعي والثقافي الأول، واقتلاع جذوره من امتدادها البيئي الأصيل، والدفع به طريداً وحيداً بعيداً عن أفراد الأسرة وأعضاء العشيرة أو القبيلة الطبيعية والثقافية، نحو مرابع ومراتع ومواقع غير مألوفة ولا معروفة، حتى وإن كانت مأهولة.

إنه إذن، ممارسةُ انتقاصٍ واجتحاف للإنسان، غايتها تذليله وتقزيمه من خلال عزله وإفراده أولاً، وحرمانه من حقوقه الطبيعية في الانتماء والاندماج والامتداد ثانياً، ثم طرده أو الدفع به الى “الخروج” وهو فعل تأديبي أكثر وطأة وإيلاماً، من أفعال القهر والإكراه البدني الأخرى معاقبة له على جرم ربما اقترفه في حق الوطن/الوثن.

وتُعدّ عقوبة النفي خارج مجال الوثن الجماعي (الوطن)، من بين أقدم العقوبات التي ظلت الجماعات البشرية تمارسها، باسم الدفاع عن المُثل العليا للقبيلة والعشيرة، وبوازع المحافظة على القيم الأخلاقية الكبرى للجماعة، في وجه كافة “العاقين” و”المارقين” من الأبناء غير البررة، الذين يتجرؤون على خدش النظام العام، ويرتكبون “جرم” الخروج عن سلطة الإجماع، والسيادة العليا، والقيم العامة (2).

وبذلك، يُكره المنفي الذي يكون قد أقصته العشيرة من رحمة حماها وحمايتها، على ملاقاة مصير التيه، والضرب في بلاد الغربة منبوذاً، ومقصياً، وأعزل إلا من إرادته وقوته ورغبته في الصمود والبقاء. وينشأ لدى المنفي تبعاً لذلك، نوع من الحالة النفسية والثقافية العامة، التي تتسم بملامح وصفات محددة ومشتركة، يمكن وسمها استناداً الى أعمال العلامة الراحل إدوارد سعيد، بحالة المنفى.

هذه الحالة هي مجموع الأفعال وردود الأفعال، الناجمة عن بعض الإواليات السيكولوجية والفكرية والفلسفية العامة، التي يعيشها المنفي ويتعايش معها، وهو يحمل قدر الخروج المكره والابتعاد القسري، عن دائرة الأهل والبلاد؛ يتساوى في ذلك المنفي المجبر كرها على النفي، والمنفي الذي يلوذ بالبلاد الأخرى من باب الاختيار.


ففي معرض الحديث عن ملامح المنفى وبعض آثاره النفسية، يصف د. إدوارد سعيد(3) المنفى قائلاً بأنه واحدٌ من أشد الأقدار مدعاة للحزن. ذلك أن الإبعاد القسري عن الأهل والقبيلة في الأزمنة ما قبل الحديثة، لم يكن الممارسة العقابية التي تستدعي في النفس رهبة شديدة، لمجرد كونها تعني الخروج والتيه لسنوات طويلة، في مبعدة عن أفراد الأسرة وعن المرابع الأليفة، وإنما هي كذلك لأنها اعتُبِرت ضرباً من الإقصاء والنبذ الدائمين، اللذين يظلان يلاحقان المنفي في حلّه وارتحاله، وهو ما يُشعِره بكونه غريباً مرفوضاً أينما ولّى ويمّم، ويجعله يحس على الدوام بالارتباك، وبعدم قدرته على التصالح مع الماضي، فينقلب طعم الحاضر والمستقبل في فمه، مخلوطاً بمذاق المرارة. . .

ولأن المنفيّ يُجبَر على أن يكون بعيداً عن مركز الألفة (الوطن/الوثن الجائر)، ولا يستطيع أن يجد حتى وهو في ضيافة أكثر البلدان عدالة، ذلك المركز الذي ينشدّ إليه بخيط صبابة حالمة (الوطن العادل)، فإنه يظل يعيش على الدوام حالةَ وسطٍ دائمة (البين/ بين).

هذه الحالة تترك المنفيّ مثلما يقول إدوارد سعيد، لا ينصهر ولا يندمج في محيطه الجديد، ولا يتخلّص كليةً من عبء البيئة الماضية. يعيش في تضايق مستمر، لأن أنصاف التداخلات، وأنصاف الانفصالات تؤلمه وتضايقه، وهو مصاب بهوس الحنين والحلم؛ وإلى ذلك فهو عاطفي من ناحية، ومقلد حاذق لا يعلم به أحد، من ناحية أخرى.

ويضيف إدوار سعيد قائلاً بأن المنفى يجعل المرءَ مكرهاً على التفكير في وضعه، ويا لها من تجربة فظيعة! إنه الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي: فلا يمكن أبدا التغلب على ما يولده من شجن أساسي. . فمآثر المنفى لا يني يقوضها فقدان شيء ما خلّفه المرء وراءه إلى الأبد.

2) الأدب وطن بديل للمنفي!

لا يجد المنفي وطناً يتعزى فيه عما ضاع منه، سوى وطن الأدب. والمتتبع للكتابة الأدبية التي تناولت ثيمة المنفى، ليندهش أيما اندهاش لذلك الكم الهائل جداً من الكتابات الأدبية، سواء منها السردية أو الشعرية، التي نذرها أصحابها لنقل تفاصيل تجاربهم الخاصة أو تجارب غيرهم، ممن عانى مصير الطرد والدفع مكرهاً، وتجرع عذابات النفي وفظاعات الاقتلاع.

إذ منذ عصر أوفيد Ovide الروماني، وحتى وطن صموئيل شمعون العراقي، مروراً بكوكبة من الشعراء والكتاب الموزعين على أقدار النفي، في جغرافية الأزمنة المديدة وتاريخ البقاع والأماكن العديدة؛ أُريق الكثير من المداد على عتبات التيه وأضرحة الضياع، إلى حدّ لم يعد معه المنفى مجرد موضوعة مركزية في الأدب وحسب، وإنما صار بمقدورنا الحديث عن نمط خاص من الكتابة الأدبية، لا يتميز بهيمنة ثيمة “النفي” المركزية وحسب، وإنما هو ينزاح عن بقية الأنماط الأدبية الصغرى، بكونه يتناول هذه الموضوعة من خلال طرائق وأشكال محتوياتية متميزة.

وتبعاً لذلك صار من السهل على كل كتابة تتصدى لأدب المنفى، أن تقف على مجموعة من العلامات المميزة لهذا الأدب، أهمها كونه أدباً يعتمد على إوالية التذكر والاسترجاع (الارتكان الى الذاكرة)، ويهيمن فيه عنصر التطابق بين هوية المتكلم في النص، وبين هوية الموقّع على ذلك النص باسمه الكامل، وهو الشيء الذي يجعل من أغلبية النصوص المنذورة لثيمة المنفى، نصوصاً سيرية بامتياز، تروي معاناة اقتلاع أصحابها من تربة البلاد، وتفوح وهي تبوح بروائح التضجر والتبرم في أوطان التيه والتشرد والضياع.

وتنشأ عن تلك الخصيصة الأولى، وضعية خطابية لازبة هي وضعية التلفظ في الخطاب Énonciation، حيث تشيع في النص مؤشرات لغوية ترتبط رأساً بوضعية المتكلم الأنطولوجية (تعدد مظاهر أحواله النفسية، واختلاف مشارب مرجعياته المعرفية)، مع ما يرافق ذلك مــن صـور وإجـراءات تعبيريـة صـوغيـة Modalisateur ، تظهر ملامحها بشكل مفضوح، على جسد اللغة التي كتِب بها النص.

غير أنه وعلى الرغم من وجود تلك الجوانب المشتركة كلها، فإنه لا يحق للدارس اعتبار جميع ما كُتِب ضمن أدب المنفى متقارباً من حيث القيمة الأدبية والمستوى التعبيري، إن لم نقل تناسخاً لنص أصلي واحد أوحد، وحاشية على متن مركزي سابق في الزمن، هو النص/الأب/النموذج. فحينما نتوخى وصف الغابة، غالباً ما نجتحف حق الشجرة في البروز والتميز والفرادة، فنجني بذلك على بعض النماذج التي تتميز بالخصوصية!

إن أدب المنفى كغيره تماماً من التجارب الأدبية الأخرى(4)، لا ينبغي اعتباره أدباً يتطابق بعضه مع البعض الآخر جملة وتفصيلا، حتى وإن كانت النصوص التي تدور في فلكه، تنتمي الى مجرة ثيمية واحدة. إنه كغيره من الآداب الإنسانية الكبرى حقل ابتكار واشتغال فرديين، ينفتح دوماً على التراكم من خلال الإضافة، وعلى الترسيب من خلال تخصيب بعض الأشكال، وتجريب طرائق وإمكانيات شكلية ومحتوياتية متنوعة.

وبذلك فهو يسعى لكي يتسع كأدب لصيق بمصير الإنسان التراجيدي ومعاناته المأساوية، الى تغطية المزيد من التجارب الفريدة، التي فتحته وما تزال تفتحه على الصيرورة.

وبناء على ما سبق ذكره، نتساءل عن أهم عناصر الجدة والفرادة في مؤلف صموئيل شمعون، كنص يندرج ضمن أدب المنفى بامتياز.

3) أكسسوار وديكور ومشهد المنفى في سيرة “عراقي في باريس” الروائية:

يورد صموئيل شمعون في الملحوظة التي يستهل بها سيرته الروائية، بعض الكلام الذي جاء على شكل اعتراف متأخر، تبوح به الأم العجوز حين تلتقي بابنها في أمريكا. تقول له الأم: “هل تعرف يا شموئيل، بعد لحظات قليلة من تسميتك، شعرت بحزن شديد وقلتُ لنفسي، إننا بهذا الاسم الثقيل، نضع الكثير على كتفيْ هذا الطفل!”.

إن افتتاح المحفل السردي بهذا الاعتراف الوارد على لسان الأم، لهو بمثابة مؤشر عتباتي Incipit يضطلع بوظيفتين اثنتين، تستبق الأولى مجموعَ الصفحات السردية الموالية، لتخبر القارئ في اختصار جد مقتضب، بحجم وطبيعة ذلك الحِمل المعاناتي “الكثير”، الذي وُضع لخمس وعشرين سنة(من 1979 وحتى بداية عام 2004!)، “على كتفي هذا الطفل” وكأنه صليب جديد أو حجر سيزيفي ضخم؛ وهو ما يُفترض أن يكون مادة حكائية لمجموع صفحات السيرة الروائية (وعـددها 300).

الى جانب ما سبق، يضطلع المؤشر الافتتاحي المذكور بوظيفة أخرى تتلخص في أن الكاتب يسعى منذ اللحظة الأولى من تدشين محفله السردي بالملحوظة أعلاه، الى وضع أحد المفاتيح الرئيسية في معاناته بين يدي القارئ، حتى يستفيد هذا الأخير من ذلك في تمثل بعض الأسباب الخفية والكامنة وراء خلفية تلك المعاناة المومأ إليها في السابق؛ ويتعلق الأمر ها هنا بذلك المقوم التعييني الخاص، الذي يشير رأساً الى الشخصية الرئيسية في المحكي السيري، ويحيل عليــها داخل النص وخارجه، ونقصد بالتحديد طبيعة الاسم الشخصي(شموئيل).

إننا أمام اسم غير عادي، اسم خفيف في اللسان، لكنه ثقيل على كاهل الإنسان (خصوصاً العربي)، لأنه مشحون بمجموعة من الأعباء والأوزار، وقابل لأن يتفجر كلغم حربي، ناثراً من حواليه شظايا التشويش تارة، والتوجس والإدانة تارة أخرى، لأنه دال اسمي منحاز الى جغرافيا ثقافية لها بعض الخصوصيات المميزة.

فهو اسم نبوي يجيئنا مباشرة من العهد القديم(5)، محمّلاً بمجموعة من المعاني والترسبات الاشتقاقية والدينية، ليَعْبُر بنا بعد ذلك الكثيرَ من المحطات الفاصلة في بصم ذاكرة الأفراد والشعوب التاريخية، ثم يرسو مثل صليب مسنون على “كتفيْ هذا الطفل” العراقي، الذي يحمل محنة حلمه بوطن يكون جديراً بالتشبث به والانتماء إليه، ليس تراباً وحدوداً ووثناً وحرساً، وإنما هو خليط ضوء وعتمة وصور.

إن نسبة اسم شموئيل (أو صموئيل، لا فرق!)، الى شاب عربي خرج من العراق في نهاية العقد السبعيني (الذي ظل يغلي بأجواء الحروب الباردة والساخنة)، حاملاً بين شغاف القلب إصرارا ثابتاً يحث خطوه على النزوح بالحلم الفتي الندي، بعيداً عن خريطة الكابوس العربي الكبيرة، ملتمساً ومتلمساً في الآن ذاته، السبيل الممكن الذي يفضي الى هوليوود، مصنع الأحلام السينمائية الوردية، من خلال المرور عبر محطات غير مَرحة ولا مُريحة بالمرة، تبدأ بمعتقل سوريا الرهيب، لتعرّج بعد ذلك على مخافر التعذيب الوحشية بمعسكرات لبنان والأردن، وتمتد نحو موطن الضياع واليأس في تونس واليمن، ثم أرض الاغتراب والارتياب بقبرص، وأخيراً مقام التهوّس والتيه والتشرد بين الحانات في باريس؛ إن نسبة ذلك الاسم لوحده فحسب الى شاب بتلك المواصفات، ليُعدُّ مدعاة للارتياب، ومجلبة للاتهام، وعلة لتلقي الأذى واستقبال الألم!

إن حَمل دالٍّ اسمي غير أجوف (مثلما هو الحال بالنسبة لاسم شموئيل)، في أوطان التوجس والريبة والخيفة والحرب، يعني منذ البداية حمل صك اتهام ناجز، يعرض صاحبه للخطر المخابراتي الداهم والدائم، ويجعله يعيش وضع نفي مستمر.

إن الدال الاسمي هنا، يُفقد حامله صفة “البراءة” حتى ولو كانت أحلامه السينمائية هي كل طويته وهويته، ومن ثمة يزج به ضمن بوتقة حامية من الاعتقالات المتواصلة، والاستنطاقات المشبعة بالتنكيل والتعذيب. يحكي السارد في النص (ص: 15/16)، عن نهاية التجربة الاعتقالية الأولى لدى المخابرات السورية، فيقول: “. . . اقترح علي الضابط [بعدما تأكد من أني لست جاسوساً يهودياً] أنه من الأفضل أن أغير اسمي”.

إزاء الاسم كواحد من أكسسوارات المنفى (6)، يأتي الجسد. إنه ليس علامة فارغة ولا محايدة كذلك، لكونه غالباً ما يخضع كمادة من طبيعة خام، الى عمليات تصرف وتحويل ومعالجة بَعْدية متوالية، تتغيى وسمه باعتباره علامة دالة، بطابع الجماعة الاثنية المميز، ومنح صاحبه صلاحية الانتماء الى دائرة أوسع من لون إيهابه، وذاكرة جيناته الوراثية، قصد جعله فرداً من أفراد عشيرة مغلقة، مثلما لها مدار في الجغرافيا، لها كذلك حوزة ثقافية تؤثث ذاكرة اللغة والأفراد.

وهو ما ينشأ عنه أخيراً، اعتبار كل مؤشر طبيعي أو ثقافي في الجسد، إلا ويلعب دوراً حاسماً إما في عملية دمج الأفراد وقبولهم في الجماعة، أو إلغاؤهم وطردهم ونفيهم من الوسط العام، وربما تعريضهم للتصفية الجسدية، لأنهم لا يحملون ذاكرة القبلية وتأشيرتها فوق إيهابهم.

يحكي السارد في المؤلف عن تجربة الاعتقال السورية، التي كان الارتياب في التسمية سببها المركزي، مشيراً الى الكيفية التي تعامل بها رجال المخابرات مع جسده، قائلاً: “. . . طلب مني [ضابط المخابرات السورية]، أن أخلع بنطالي ففعلت، ثم طلب مني أن أخلع لباسي الداخلي ففعلت. التفت الضابط الى المحقق الآخر، وقال له: هذا مش يهودي”(ص: 15).

يلعب الجسد في سيرة “عراقي في باريس” الروائية، دورين متناقضين يساهم كل واحد منهما إما في عملية دمج السارد/البطل في قلب مجموعة معينة، أو رفضه ونفيه والزج به بعيداً طريداً، الى منفى آخر.

فإذا كان الجسد في المعتقل السوري، لم يخذل صاحبه بعد أن تورط في تهمة الجاسوسية بفعل وزر التسمية، وإنما على العكس من ذلك استطاع أن يخرج من صمته، ويُخرِج بذلك شموئيل من دائرة الثقل والإدانة، جانحاً به الى برّ الطمأنينة والسكينة وهدوء القلب، لما أفصح ما تحت اللباس الداخلي ببلاغة اليقين الأخرس (= القفلة غير المستأصلة، كإشارة على الانتماء الى الدائرة المسيحية!)، عن غياب أي مؤشر مادي يثبت ويؤكد تهمة الجاسوسية اليهودية؛ فإنه في المرة الموالية سيحول دون تحقيق ما ظل صاحبه يصبو إليه، بعدما اتقدت نار الصبابة واشتدت بين ضلوعه في ربوع تونس، وهزّه الهوى المشبوب بحب زهرة.

في هذه المرة، ستعجز بلاغة الجسد الأخرس المعدّلة، عن الوصول بشموئيل الى البرّ المبتغى، لأن أخ زهرة المتدين “هدّدها بالقتل، إنْ هي واصلت اللقاء مع ذلك العراقي الكافر”(ص: 31).

وسوف لن تفيد شموئيل هذه المرة، عملية التصرف والتعديل في الجسد، حتى وإن ظل بعد عملية الختان التي أجراها عليه الحلاق الشعبي، يهمس بلغة تسخر من وضعه وموقفه: “لقد قطعتُ العضو المشبوه والامبريالي في جسدي!”(ص: 32).

هكذا إذن، يلعب مقوما الاسم والجسد دوراً أساسياً في تمثيل ذرائع النفي في مؤلف صموئيل شمعون، لأنهما علامتان ثقيلتان الى أبعد حد، سيما داخل فضاء عربي مسكون بهاجس الوقيعة والدسيسة، يتوزع بين جنباته الجواسيس وحراس الوثن.

ففي هذا الفضاء، يصبح كل مواطن متهماً مرتاباً في طويته وهويته، ومشكوكاً في نيته وسريرته الى أن يثبت العكس، وهو الأمر الذي يُجبر المرء في بعض الأحيان، الى التدخل من تلقاء نفسه متصرفاً في اسمه وطبيعة جسده، بغـية التلطيف من وقع الاسم لحظة التلقي، والتماس الخفة في تمثل صور الاختلاف على خريطة الجسد، تفادياً لكل ما من شأنه أن يؤول بالغريب المغترب، الى نهاية غير سعيدة ومصير عاقبته وخيمة وأليمة.

ومثلما يتدخل المنفي بطواعية وتلقائية في التخفيف من ثقل تسميته، يباشر عملية التعديل والتصرف في شأنه الجسدي، إما بإضافة بعض الرتوشات التي تتوخى التلاؤم مع ظرفية النفي الخاصة، أو التنصل من أخرى تقع تحت طائلة الظن المريب، حتى يتمكن المرء من تفادي دواعي التصفية، أو الإقصاء والطرد في اتجاه منفى آخر.

إن المنفى يجعل الاختلاف شبهة، والاستثناء إدانة، والخروج عن دائرة المعهود والمشهود تهمة (وأية تهمة!)، حتى ولو كان موضوع الاختلاف والاستثناء والخروج عن دائرة الجموع، لا دخل لإرادة الفرد فيه، ولا نية مبيتة له من ورائه، مثلما هو الشأن بالنسبة للاسم ولعلامات الجسد.

إن مؤلَّف “عراقي في باريس” خصوصاً في فصله الأول، حينما يسترجع السارد مجازات التيه ومسارات الضياع من العراق وحتى باريس، ليعدّ بحق صرخة فاضحة لأوضاع القمع والقهر والعقاب والقصاص المجانية، في بيئة عربية متخلفة، تجبر فيها كل السّلط الزجرية أفرادها على التماثل والامتثال، ويعامل فيها الفرد وكأنه عضو من جماعة حيوانية، ينبغي عليه أن لا يشذ عن لون القطيع، وأن يتلقى عصا القائم بأمر رعايته بأريحية وسعة صدر.
في هذا العالم الذي تعمّه الأشباه والنُّسخ، وترعاه طلائعُ الإدانة ومحاضر الشبهة والتهمة، تغدو “الحياة” غير الحياة الحقة، سيما لدى فئة المتمسكين باختلافهم، والقابضين على جمر حلمهم الساعي بهمة وثبات، نحو الانفلات من أسْر الجمع والمَجْمعة الكابسين، مثلما هو شأن سارد صموئيل شمعون.

ففي هذا العالم الذي يعج بالمخبرين والبصاصين والعسكريين، ممتداً من العراق الى ما بعد غرب تونس، ليستويَ “مقبرة ضخمة” للإنسان (مثلما وصف ذلك مصطفى الحداد أحد أصدقاء السارد التونسيين، في الصفحة 31 من المؤلف)؛ يتقلص مجال الاستثناء، وينكمش مدار الاختلاف، وتكـاد باقة الأحلام تغدو فيه مجرد ورود ذاوية.

يقول صموئيل شمعون: ” كنت أقضي الليل [وأنا ببيروت] في الشرب مفكراً في السينما. . . كنت أتألم وأنا أرى المسافة بيني وبين السفر الى أمريكا تتوسع وتتعمق وتكاد تصبح رحلة مستحيلة”(ص: 27). عندها يصحو صموئيل من ضائقة الغربة مجدداً، ويشد على عصاه معتصماً بخيط الحلم الشفيف، فاتحاً في جدار المقبرة الضخمة كوة، تسمح بالانطراد والانفلات والخروج عن دائرة الموت العام، بإرادة واعية برهانها العنيد، وهي تسعى باتجاه بديلها السعيد.

إن السارد/البطل ليعي الوعي التام، بأن تمسكه بتحقيق الحلم السينمائي، في واقع كابوسي مرعب للغاية، يلعب فيه سدنة الأوثان أدوار رجال البوليس والقضاة معاً، في محاكمة كافكاوية مفتوحة على مطلق الزمان والمكان، لهو ضرب من المجازفة الجميلة الباهظة الثمن، ونوع من المراهنة الجنونية الجريئة التي تسعى الى قلب الأدوار، والانتصار لحلم يتوق الى استبدال موت الجماعة، بحياة فردية هلامية جميلة وبديلة، لها مذاق الطفولة العذب المستساغ، ضداً على مرارة ومَرْ ت الواقع العام؛ وهو ما يكفله وطن السينما، الذي يصر السارد/البطل على الانتماء إليه هو وحده لا غير، حتى وإن ظل عاجزاً عن تحقيقه(ألا يمكن للقارئ أن يؤول تجويف القاعة السينمائية، وعتمتها، والاطمئنان السعيد، والوضع المريح الذي تستدعيه في نفس المشاهد لحظة المتابعة، بأنه تعويض استعاري عن بطن الأم؟!).

فأنْ يكون المرء واعياً أشد ما يكون الوعي بحلمه (والحلم هنا ذريعة نفي ثالثة في هذا المؤلف الشيق!)، متمسكاً بالخروج بنفسه من مقبرة الأحياء الضخمة، في سبيل الوصول الى هوليوود، معناه أن يعدّ نفسه كي يعتبر أي مكان خارج هذه المملكة السعيدة، منفى قاسياً وعسيراً، لا يكرّس غير الألم والسأم، ولا يذيق المرء سوى عذابات الاجتثاث والانتزاع باستمرار.

إن منفى صموئيل شمعون تجربة أخرى. منفى مختلف عن بقية المنافي. إنه منفى لا ينتصر لمكان وزمان ضد آخر، كعادة أدب المنافي، وإنما هو واقعة خروج مفتوحة على عودها الأبدي. تجربة وقودها الرغبة والإرادة في استطالة الحلم، في أوطان تنفي الأحلام.

إنها صرخة تفضح نفي الحلم في وطن الشبهة والتشابه، وتشهر بعمليات سحل الخيال الممنهجة، وتكشف عن سيرورة تعطيل قدرات المرء على التفرد والابتداع، وفي أحسن الأحوال تأجيل ذلك كله بمشاغل أخرى كثيرة، يتبرع حراس الوثن بجعل الجسد العربي ينشغل بها ويشتغل لها، سواء أكانت جوعاً، أم عطالة، أم تهمة، أم ورطة تستتبع التعذيب والإكراه البدني (ألم يخطب الحجاج في أهل العراق ذات زمن شبيه بزمننا، قائلاً: “لأجعلن لكل امرئ منكم في جسده وفي نفسه شغلاً”؟!).

4) ذاكرة المنفى ولغة الممانعة:

أنْ يستمسك المرء بقوة الخيال الجامح في وطن الطاغية، مثلما يفعل سارد صموئيل شمعون، وهو يغالي في ذريعة التشبث ببرنامج السينما، باعتبار الأخيرة وليداً أرقى وأوسع من بنات الخيال، معناه ممانعة المنفي لشروط الطرد والدفع القسريين، بالانتماء الطوعي الى منفى اختياري مختلف، أشد رحمة ورأفة، وأخف عنفاً ووطأة من منفى سدنة الوثن، لأنه لا يتوحد سوى مع جسارة المنفي في إعلان الخروج، وجرأة ركوبه التيه، وشجاعة ضربه في المفازات السحيقة بحثاً عما يسند الذات ويدعمها، حتى تتمكن من تحقيق حلمها الشقي، خارج دوائر التصنيف والتحنيط والنمطية مهما كانت حتى ولو كانت نمطية الكتابة نفسها! محمولا على أجنحة السفر المتوالي فحسب، حيث لا زاد سوى قدرة اللغة والذاكرة على الفتق والرتق.

ولأن ذاكرة المنفي غالباً ما لا تسعف صاحبها لحظة الكتابة، في بناء الأحداث والوقائع وفق نسق منضبط لإيقـاع ما جرى، ليس لأن ما جرى ينتمي الى فصيلة الواقع الموضوعي، الذي يتأبى على على التَّذوت والمسك، وإنما لأن هذا “الواقع” يشترك من جهة مع خيالِ المنفي (عمليات الإسقاط النفسي)، ومن جهة ثانية مع اللغة كطرف آخر (يمنح خياله القدرةَ الفعلية على الظهور والتجلي) في الصوغ والتوضيب؛ فإن رواية ما جرى غالباً ما تكون خليطاً هجيناً من اللغات والوقائع والمشاعر، ومن الأحكام والأحلام، ومن تهويمات الذات وترجيعات الموضوع، ومن شؤون الحديث وشجون الحنين، فتصير عناصر القصيدة متاخمة لخصوصية القصة، ومواد القصة متراكبة مع أجزاء الخاطرة، وأدوات الأخيرة ضرباً من أحلام اليقظة(7).

إن الكتابة التي تعتمد على عُدة الذاكرة مثلما يشير الى ذلك الناقد برينو فيرسييه Bruno Vercier، هي كتابة لا تنفك من أسر الذات كأنا وكآخر في نفس الوقت، بحيث يتقاطع فيها ما هو خاص جداً (التهويمات والوقائع والذكريات الفردية)، مع ذلك الطرف المشترك الذي يتمثل في عنصر اللغة (باعتبارها ذاكرة الجماعة، وخزانَ تجاربها وأوهامها وأهوائها).

يقول برينو فيرسييه: “يجري كل شيء (= تفاعل الذاتي مع الموضوعي) في الكتابة: فإذا ما اعتبرنا أن الفرد يُختزل في الذاكرة (ذاكرته هو بالذات)، فإن هذه الأخيرة هي بالتحديد لغة”(8).

انطلاقا من هذا المعطى العام، يبدو أن صموئيل شمعون مدرك تماماً لصعوبة المهمة الملقاة عليه، لحظة استرجاع ما جرى كتابةً(9). لذلك لا نجده يتورع في المزج بين عناصر قصيدة النثر، والكتابة السيرية، والكتابة الروائية، في بوتقة سردية ممتعة وسائغة، تتأفف عن الخوض في عمليـات التشهير الفاضحة لأطراف وأنظمة ومؤسسات وقيم بعينها.

إنها غير تلك الكتابات المكلومة والجارحة في الآن نفسه، التي بقدر ما هي تنزف بالألم والوجع، بقدر ما تجرح وهي تصدح بالشتيمة والنميمة، مثلما هو دأب أدب المنفى على العموم. إن “عراقي في باريس” سيرة روائية مفتوحة على إرادة الحياة بروح ديونيزوسية، غير مسكونة بالضغينة والغل والحقد، وتصفية الحساب.

سيرة متحررة من قيود الماضي وإكراهات الحاضر، ومن ثقل النموذج والمثال، اعتمد صموئيل شمعون في كتابتها، على فن السخرية والكاريكاتير في الكثير من المحطات التي تستدعيها الذاكرة، للتعبير عن ذلك الانشطار الذي يستشعره البطل/ السارد بين وعي الكتابة السردية من جهة، ومأساوية الواقعة المروية من جهة أخرى.

إن صموئيل شمعون وهو يواجه تحديات الواقع المريرة، من خلال نفيه وتشرده وضياعه في فرنسا والوطن العربي، لا يجد أجدى سلاح لمقاومة قسوة المنفى ووطأة الاغتراب والضياع والتشرد، غير السخرية التي تصبح في هذه الحالة أداة للدفاع عن النفس، ووسيلة للتحصن ضد عنف العالم وغرابته، بل إنها بالأحرى ميكانيزم نفسي لتجاوز وطأة القهر والسحق، والتفوق على مرارتها في النفس.

لا يرسم صموئيل شمعون في مؤلفه السيري أية حدود كابسة، من شأنها أن تقلص من امتداد هذه الاوالية، أو من صدّها أو التصدي لجموحها النافر، باسم لائحة مثقلة بالقيم والمثل الأخلاقية المنكفئة على وثن محدد، بل إننا لنلفي فاعلية السخرية تطال أقنوم الأنا والآخر، وتمتد إلى عالم المقدس والمدنس، وتراوح السفر بين جهة الشرق والغرب على حد سواء.

فعلى سبيل المثال، حين يتذكر صموئيل شمعون ما حدث له مع الكتائبي طوني، الذي ظل يمسك في يده بالمسدس، وينتظر منه الحديث عن رواد السينما الجديدة في فرنسا، وجان لوك غودار خاصة، إن هـو أراد أن ينجو بنفسه من الهلاك المبين، وكيف ظل هو خائفاً وصامتاً لا يحير جواباً؛ حين يتذكر الكاتب ذلك يصر على أن يمزج مذاق هذه الحادثة المرّ بذكرى أخرى بليلة، يستعيد فيها بهجة الرد السعيد الذي طبع به قرياقوس صديق الطفولة ذاكرته، حيث قال: “في تلك اللحظة، تذكرت قرياقوس الذي سألني ذات يوم: هيه جويي، إذا سألك شخص ما، من هو أفضل سيناريست في العالم، بماذا تجيبه؟ يومها قلت لقرياقوس: دعني أفكر قليلا. ضحك قرياقوس وقال: هذا أمر لا يحتاج الى تفكير يا جويي. إنه الله. نعم الله هو السيناريست الأعظم، خالق هذا الفيلم الذي نحيا فيه جميعاً”! (ص: 21).

أمام عنف ومرارة التهديد الوشيك بالموت، يستل الكاتب سيف المفارقة العجيبة، للدفاع عن النفس ضد عنف هذا العالم الأسود وعبثيته الظالمة. ألا يصير سؤال الكتائبي طوني عن ج. ل. غودار والنوفيل فاك في فرنسا، أتفـه وأسخف وأحط، أمام لمعة قرياقوس الحادة والنافذة، وكأنها حدّ مدية؟ ألا إن السخرية المرة والمفارقة العجيبة، لهما أذكى وأنكى سلاح لمواجهة ضيم المنفى، وتجاوز قسوته الجائرة، ووطأة الاغتراب فيه، والضياع بين ظهرانيه.

ويمكننا بالجملة، أن نعتبر كتاب صموئيل شمعون عن المنفى، تجربة متميزة وفريدة بشكـل كبير، لأنها استطاعت أن تستعيد رحلة الضياع التي عاشها الكاتب، بطريقة تحتفي بالخفة الذكية، والضحك الأسود، والسخرية اللاذعة، عبر نص سيري/روائي مُهجّن تخترقه أجناس وأنماط كتابية متنوعة، ومن خلال منح ثيمة المنفى ذرائع جديدة، ترتهن لذات الفرد باعتبارها نواة دلالية مركزية، يتفاعل ضمن برنامجها الخاص (الاسم والجسد والحلم)، كل ما هو تاريخي وثقافي وسياسي وديني,, الخ.

إنها في الأخير، سيرة حلم لذيذ، يخرج سائغاً وممتعاً ومتمنعاً، من بطانة كابوس المنفى الساحق. وفيما هو يرفض الانصياع والامتثال (بل وحتى الاكتمال!)، يظل يراهن دوماً على الهروب والانفلات، حتى وقد أودعه صاحبه بين دفتي كتاب!

الهوامش:

1) يقول ابن منظور في لسان العرب: “ونَفى الرجلُ عن الأَرض، ونَفَيْتُه عنها: طردته فانْتَفى”(أنظر مادة ” نفي” في اللسان).

2) تحبل كتب التاريخ والآداب الإنسانية جمعاء، بالكثير من الأسماء والوقائع والحكايات، التي تشير الى حالات النفي والإكراه على الخروج. وحتى نبقى ضمن الذاكرة الثقافية العربية فحسب، لنستحضر هنا المصير الذي لقيه الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، بعدما ” تحامَتْه القبيلة كلّها”، باسم قيم الشيوخ ومثلهم العليا، التي تُجرّم طقوس الاستلذاذ والاستهواء ومداومة الشراب.

مثلما ينبغي أن نستحضر في نفس الصدد، وضمن السياق الإسلامي هذه المرة، منفيين آخرين سواء في مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية [قال ابن منظور في اللسان، ضمن مادة” نفي”: “أَمَرَ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، بنَفْي هِيتٍ وماتعٍ، وهما مخنثان كانا بالمدينة”]، أو في مرحلة تأصيل الدولة وتقوية شوكتها [منفيو زمن الفتنة الكبرى، والدولة الأموية، والعباسية، وباقي الدول والإمارات الأخرى!].

3) يقول د. إدوارد سعيد: ” لقد كانت هناك على الدوام، علاقة قائمة بين فعل التهديد بالنفي، وبين ردة الفعل التي تتلبس الشخص المعني بالرعب، مخافة أن يغدو واحداً من المجذومين، وهو ما يعني أن يعيش الشخص وضعية النبذ الاجتماعية والمعنوية”. أنظر كتاب إدوارد سعيد:
Des intellectuels et du Pouvoir (representations of the intellectual), traduction française par Paul CHEMLA, Paris, Seuil, 1996, p 63.

4) لا ينبغي أن يغرب عن بالنا أبداً، بأن الآداب الإنسانية كلها منذ عصر فيرجيل والى اليوم، لا تدور إلا حول ثلاث موضوعات رئيسية، هي: موضوعة الحب، والحياة، والموت. والنفي باعتباره تجربة في معاناة الموت الرمزي، هو جزء من مدونة الآداب الإنسانية الكبرى.

5) صموئيل اسم ورَد في العهد القديم، وهو مركب من كلمتين: “سمع”و”إيل”، بمعنى “سمع الله”. والسبب في هذه التسمية أن النبي صموئيل جاء الى الدنيا، بعدما توسلت أمه حنة إلى الله زمناً طويلاً، كي يرزقها بولد.

(6) لا تتوقف معاناة السارد/البطل من خلال التسمية، مع محيطه العربي على الخصوص، عند محنة المعتقل السوري وغيره، بل تمتد حتى وهو يتسكع حراً طليقاً، بين زقاقات وشوارع وحانات فرنسا. أنظر مثلا ما وقع له مع عبد العزيز، أخ صديقه الجزائري مراد (ص: 67/68).

(7) لنلاحظ كيف ستتحول فكرة السيناريو الموعود لفيلم “الحنين الى الزمن الانجليزي” في نص صموئيل شمعون، الى تعلة لتجريب بعض الأنواع الأدبية: القصة، والرواية، والسيرة؛ وكيف توسم “عراقي في باريس” في النهاية، بكونها بناء روائياً بينما هي خليط هجين فيه بعض السيرة الذاتية، وبعض بهارات الكتابة الروائية والشعرية!.

(8) برينو فيرسييه Bruno Vercier، “أسطورة التذكار الأول: ليوطي ولييريز (Le Mythe du premier souvenir : Loti, Leiris)، مجلة تاريخ الأدب بفرنسا:
Revue de l’Histoire littéraire de la France, Paris, Armand Colin, 1975, p. 103

(9) قال صموئيل شمعون في حوار أجرته معه الصحفية الجزائرية نوارة لحرش:”حسنا، لقد تعذبت منذ طفولتي. والدي تعذب كثيرا، وأمي كذلك، إخوتي، وأخواتي كلهم تعذبوا. قاتل الله الفقر والجهل. بالله عليكِ قولي، ما الذي أفعله بمخيلتي اللعينة، حين أعرف أن أبي ولد يتيما، أصم وأبكم، وأن الأكراد والفرس والأتراك قتلوا كل عائلته؟ هل تعرفين كم أعاني وأنا أتعامل مع مخيلتي بنعومة وصبر مفرطين، لجعلها لا تختزن إلا صور الحب والتسامح. الثأر هو أحقر شيء في الدنيا” . أنظر الحوار على الرابط الرقمي التالي:
http://wwwhttp://www. jozoor. net/main/modules. php؟name=Newsandfile=articleandsid=767.

Post: #62
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: قلقو
Date: 10-16-2019, 07:45 AM
Parent: #61

QUOTE:
جاء فى صحيفة (الجريدة)) الصادرة صباح اليوم الأربعاء 16/10/2019 بأن السيد وزير الثقافة والإعلام الأستاذ فيصل محمد صالح قد اعلن عن افتتاح الدورة 15 لمعرض الخرطوم الدولى للكتاب مساء غد الخميس .وأضاف الأستاذ فيصل بأن هذا العام لن يشهد أى قيود على الكتب السياسية او الدينية او الثقافية بأستثناء تلك الكتب التى تسئ للأديان او التى تدعو للفتنة والوقيعة بين الناس .علما بأن البرنامج الثقافى المصاحب للمعرض سيقام هذا العام تحت شعار (حنبنيهو) وفق ما أشار به الدكتور جراهام عبدالقادر وكيل الوزارة .
ما أجمل الديموقراطية .

Post: #63
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: حيدر حسن ميرغني
Date: 10-16-2019, 09:30 AM
Parent: #62

يا سلام .. البرنس يطل علينا من جديد من نافذة غرفة نسج حكايتها بعبقرية
أنا كذلك ، لم أدخل هذا الحوش منذ سنوات .
ما أحلى العودة حين تكون في حضرة من تحب
شكراً أستاذنا العزيز أسامة على هذا (الإستدراج) النبيل للبرنس

Post: #64
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-16-2019, 06:05 PM
Parent: #63

بالنسبة لي، ربما ذكرت هنا وهناك قصة اسم البرنس. لقب قديم لجدي لأبي. اختفى خلال سنوات الفقر بعد أن تبددت ثروة هائلة لسبب أو آخر من ضمنها ما كان يعرف بتأميم مايو. كان أول رجل بنى بيتا من الطوب في مدينتهم الصغيرة أو قريتهم الكبيرة شرق النيل. ولم يكن خلال سنوات مجده يحمل نقودا في جيبه. مات فقيرا مكافحا مآلاته اللاحقة رقيقة الحال تلك بنبل منقطع النظير. وقد عاد قبلها يعمل محاسبا لدى من كان يقوم بتمويله من تجار بروح عالية لم تركن قطُّ إلى مرارات الماضي. أذكر ذلك الصباح البعيد من عقد الثمانينيات كيف كان يتناول شاي الصباح بالبلح أيام إحدى أزمات السكر بمثل تلك الواقعية الآسرة. وأذكر كذلك لما صححني في أمسية ما لما وددت كمراهق أن أطلعه على معرفتي بشعر المتنبي. قال بلطف العارف "إذا كان (سّرَّكم) حاسدنا وليس (سِرَّكم)". لكنّ اسم أسامة (الخواض) الآخر صار كذلك لازمة له داخل المشهد الثقافي في السودان. أعني (المشّاء). ويا له من لقب يقودنا رأسا إلى (تأملات حول المنفى)، وهو مقال لإدوارد سعيد، وقد ضمه إلى مقالات أخرى في الأدب والسياسة والثقافة وبالطبع المنفى في كتاب عنوانه (تأمّلات حول المنفى). وظني كما يكشف مقال أحمد الويزي هنا (ذرائع المنفى في سيرة صموئيل شمعون الروائية) الذي أورده المشاء مشكورا في السياق أن عمل سعيد هذا بمثابة عمل يرقى إلى مستوى الشعر وسمو معرفيّ أقرب إلى الفتوحات الباطنية! وقليلة هي المقالات التي يمكن أن تحدث في مجالها فتحا مثلما هي عليه حال مقال لويس ألتوسير عن الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية. هنا نص بمناسبة سيرة المنفى هذا عن مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة:

تواصل الرنين ثانية



ألحتْ أمّي وشقيقتي الصغرى سها، ولم تكن يوم غادرتهم في ذلك الصباح الباهت البعيد، قد تجاوزتْ الرابعة بعد من عمرها؛ على أن ترافقاني، "خطوة بخطوة"، إلى حيث رغبتُ أبداً أن أكون وحدي، قبالة ذلك "الفناء".

كان لا بد، على أي حال، من وجود أحد منهم، إلى جانبي، كي يدلني، في ذلك الصباح الذي أعقب يوم عودتي مباشرة، على قبر يعقوبَ، أبي.

كان سائق عربة الأجرة الشاب منصرفاً، في الأثناء، عن حديثهما، إلى الطُرق المتربة الشاحبة، التي طالما بدت على ألقٍ حان في أحلامي المتكررة بلا نهاية تلك بالعودة. «لم يتسبب لي طوال حياته في أذى». «كان وجه أبيك ذاك وهو ميت يسقط دائما ناحية اليمين». «المقابر نفسها تغيرت، يا ولدي». «أما المقابر الجديدة، يوسفَ أخي، فهناك. عند الكرو». «صحيح. أين أنت مما حدث، يا ولدي. قد لا تصدق. لكن الكرو البعيدة تلك صارت الآن في قلب المدينة». وددتُ عندما غرقت البرهة في الصمت لو أنني حكيت لهما كيف وقع عليَّ نبأ رحيل أبي في كندا، لولا أن من شأن ذلك الحديث أن يُجدد أسى الخلاف، الذي ظلّ محتدماً، بيني وبينهم، بشأن تسمّية أكبر أبنائي، باسم يعقوبَ، أبي.

اكتأبتْ زوجتي، عند بداية ذلك الأسبوع الذي سبق الولادة، ولم يمضِ على موت أبي وقتها سوى أسابيع، قائلة: «إطلاق اسم ميت على مولود بمثابة إطلاق رصاصة عن قرب شديد على رأس دون خوذة». هكذا، لم تكن البلاغة تنقص زوجتي، خلال محاجَّتٍها لي. «هراء، يوسفَ ولدي. لكل أجل كتاب. أنت نفسك، يوسفَ، لم تمت، وقد تمت تسميتك على جدّك، يوسف، بعد موته مباشرة». «من حقها (يا أمّي) أن تناديه بما يحلو لها. لا أحد يتبقى صحبةَ طفل في الأخير أكثر من أمّه». «سبحان الحيّ الدائم الذي لا يموت»، تناهى صـوت أمّي، بينما نقترب كثيراً من المقبــرة المقـامة، دون أسوار، على هضبة ترابية هائلة. قالت: «أستطيع تحديد قبر زوجي، إذا ما أوقفتنا، يا ولدي، على ذلك الجانب، حيث يوجد مسجد صغير أبيض». «هناك مسجدان، يا خالة»، عقّب السائق. أرختْ فكها. ثم تساءلت «كيف لم أفطن من قبل إلى وجود مسجد آخر هناك». قالت سها «كما لو أنهما توأمان، اللون الأبيض نفسه والمعمار، يا أمّي».

كان علينا، إذاً، أن نطأ، في جيشان تلك المشاعر، على قبور كثيرة، كيما نلتقي، بقبره هناك، عند المنتصف. وقد بدا واضحاً أن الممرات القديمة المتعرجة بين القبور لم تعد موجودة هناك. قبل نحو ثلاثين سنة، رفعت أمّي يدها، عن تراب قبر جدّتي ممتعضة، من مشية شابة، كانت تسير، على تلك الممرات، كعارضة أزياء. «المستهترة (قالت أمّي) تظنّ أنّها بمنأى عن اليد القريبة للموت». كانت سها تتابعنا، بتلك الحيرة، بينما نتبادل الحديث، في مكان ما من المقبرة، التي لم تعد برأي أمّي «مفهومة هذه الأيام»، باحثين بأنظارنا ناحية الغرب، عن موضع قبر جدتي لأمّي ذاك، دونما جدوى. قالت أمّي «أتذكر، يوسفَ، زياراتنا تلك إلى قبرها؟»، هززتُ رأسي أن «نعم». واصلنا السير ثلاثتنا، إلى خارج المقبرة، في صمت مطبق رأيتُ خلاله وجه أبي، وهو يطل من ذاكرتي، كتحية طيبة على الطريق. كانت جلستْ قبلها عند صدر قبر أبي، متكئة بظهرها، على قبر ترابي مجاور لا ملامح له، قائلة «السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. هذه أنا. أم عيالك. المسكينة. وهذه بنتك سها. ثم هذا (وقد اختنق صوتها) ولدنا، يوسف يعقوب يوسف، وقد جاء لزيارتك، من كندا». ثم... وهي تنحني، بصدرها نحوه، ماسحة براحتها على تراب القبر، سألته:

«كيف حالك اليوم، يا رفيقي».

ستعاتبني أمّي، إذا ما قلت لها إنني لم أجد الوقت اللازم في كندا لإقامة عزاء يليق بيعقوب أبي. أما المهندسة سها، فستنظر إليَّ نظرتها إلى رقم في معادلة حسابية، لا دمع يختزنه ولا ضحك بالتأكيد قد يضج به، إذا ما أخبرتها أنه لم يكن لدي كذلك حتى الوقت اللازم لأحزن عليه. ولم تنس أمّي طريقتها الدرامية المعتادة تلك، والتي لم يغيرها على ما بدا الزمن، عندما أخذت تخبره، كما لو أنه بالفعل يسمعها ويشاهدها، عن قصة عودتي. لم تسقط لدهشتي حتى حكاية سرقة نقودي في مطار ماليزيا. وكانت حرصتْ، في أثناء الطريق، على تلقيني وسها «قولاً مأثوراً»، مؤكدة أن المرء إذا ما ردده، بذلك الصدق، فستُنكشف الحُجب عن الميت ويرى، كما لو أنه ُيطالع زائرَه، «عبر شاشة تلفاز، ياباني». ثم باعدت داخل ذلك الحيّز الضيق لعربة الأجرة ما بين يديها لتريني أنا بالذات الحجمَ الذي يمكن أن تكون عليه تلك الشاشة.

بعد صلاة العشاء، أخلدتْ أمّي، بجرمها الصغير، إلى النوم، في حجرة داخلية. كنت لاحظتُ فور وصولي أن ظهرها احدودب وكيانها كله أخذ ينطق بالإعياء. شقيقتاي الأخريان، انصرفتا، تباعاً، إلى المطبخ، وبينما الليل يعبر منتصفه، قالت سها «حدث ذلك يوسفَ أخي داخل هذا الصالون». فكرتُ: حين كان أبي يناجيني من هنا، كنت هناك، وحين أخذت أناجيه من هنا، غدا هناك. «طلب مني أن أقوم بتدليك ساقيه». «قال إنه لا يكاد يشعر بهما». «من هزالهما، يوسفَ أخي، بدا كما لو «أنني أراهما للمرة الأولى». «لم يعد أبي على ما تركته أنت عليه». «أغمض عينيه. خلته استغرق في النوم. سحبت نفسي بهدوء». «عند هذا الباب، وجدتني ألتفتُ كما لو أن منادياً من السماء يدعوني. جمَّدني لوهلة ما رأيت. كان يحاول النهوض، بنصفه الأعلى، بينما يتابعني، بعينين أخافني أساهما. وجدتني أواصل سيري مبتعدة. قلت «أستوضحه في الصباح». لكنه (فجراً) فارق الحياة. «لماذا نهض أبي وأخذ يتبعني بنظراته تلك، يوسفَ أخي؟».

خلال شتاء كندا القارس، يتأخر الشروق، في بعض الأيام، ولا يعلن الضياء، عن حضوره، إلا في نحو التاسعة تقريباً. وكان ذلك أول صباح مظلم أعقب وصول نبأ رحيل أبي يعقوب. ودعتُ زوجتي بابتسامة. كان الحمل جعل تنفسها عسيراً. كما لو أنّها تصعد جبلاً مع كل حركة تقوم بها. وكان عليَّ أن أبقيها حسب وصايا الطبيب خارج دائرة التوتر ما أمكن. أتذكر كل ذلك الآن بوضوح تامّ. ما إن أوصدت الباب، حتى سالتْ دموعي، ومشتْ حارة متدفقة، عبر الممشى الممتد بين شقق الدور الثاني، بينما أخذ يترسخ لدي أن إنساناً بدا حضوره في نفسي ربما منذ ولادتي كحضور الثوابت الطبيعيّة في الكون لم يعد له الآن من وجود. ثم لمدى ثلاثة أيام تالية، بينما أهبط في تلك الساعة المبكرة نفسها، كنت بالكاد أرى عبر غلالة الدموع ذلك الرجل، وهو يجلس القرفصاء، أسفل صناديق البريد القابعة، ما بين بابي مدخل البناية الزجاجيين. لكأنه عابر سبيل يستدفأ. كان يحييني من داخل أسماله الخفيفة، التي لا تناسب برد يناير ذاك، بابتسامة ظللت معرضاً عنها، بينما أتجاوزه شغوفاً كل مرة بمواصلة بكائي، في أثناء تلك الطريق المظلمة والزلقة إلى العمل. بعد سنوات، خطر لي أن ذلك الرجل كان يشبه يعقوب أبي، إن لم يكن هو نفسه، وقد جاء لعزائي فيه.

كانت تقترب من الثانية، عندما انضمت إلينا أختاي مجدداً، وقد جلبن معهن براد الشاي ومستلزماته، إضافة إلى قطع من كعك منزلي. قالت شقيقتي الكبرى التي تقطن في إحدى ضواحي العاصمة الخرطوم إنها هاتفته في منتصف آخر نهار له، لكنّ «مريم»، كانت تعني الشقيقة الوسطى، لم تُجب وقتها على هاتفها، «مع أنني كررت المحاولة، يوسفَ أخي». «لو أنّ مريم أجابتني لأمكنني إذاً الحديث إلى أبي». قالت مريم ترد عليها وتخبرني في آن: كنا متحلقين هنا داخل الصالون حول سريره هذا، نحادثه. وكان التليفون هناك على بسطة تلك النافذة. لا أدري يوسفَ أخي ما قد حدث لي». تواصل رنين هاتفي هذا ثانية إلى أن توقف. كما لو أن قوة غامضة ظلّتْ تشدني إلى حيث أجلس. قالت سها: أمّي عزت ذلك، «يوسفَ أخي»، إلى أن قسمة شقيقتي الكبرى من الكلام مع أبي كانت قد تمت، من قبل، في كتاب «الأجل».

أتيح لي أن أهاتفه، قليلاً من القاهرة، وكثيراً من حواضر كندية، وأخرى أستراليّة، كما حادثته مرة من اليابان. أخبرني أثناء محادثة، من أتوا، عن إعجابه أنني أتحدث الإنكليزية، مع «الخواجات أنفسهم». كانت أمّي جالسة، تلك المرة، إلى جانبه، حين طلب مني أن أبحث له، عن «عروس كندية». انتزعتْ السماعة من يده، وبغيظ «قل لأبيك أن يهتم من الآن فصاعداً بشؤون الآخرة». مرة، على هامش مناسبة في فانكوفر، أخذ يحثني على إرسال «الدولارات»، آلمني ذلك. كان من المستحيل شرح المسألة عبر الهاتف، ذلك أن أمّي، وكان فارق العمر بينهما كبيراً، عملتْ دوماً على أن تكون وصيّة عليه، كمريض بداء السُّكر. «إذا ما أعطيت والدك القروش، فإنه سينفقها كطفل على أشياء تضر بصحته، إنه لا يتورع حتى عن الذهاب إلى أقرب حلواني، لشراء الباسطة والبسبوسة». كان أذان الفجر يتناهى من غير مكان، لحظة أن قالت شقيقتي سها إن أبي كان يغافل أمي أحياناً، ويتحصَّل على مثل تلك الأشياء، بمجرد أن يقبض على معاشه الضئيل. أكثر ما قد أثار دهشة أبي أثناء مكالمة هاتفية أخرى أن كندا بدت مغمورة بضياء الشمس، بينما يطبق عليهم في الآن نفسه داخل الوطن ظلام حالك. قال: «سبحان الله». وتغيرتْ فجأة نبرة صوته، بينما يسألني بما بدا يأسا:

«متى تعود إلى البيت، يا ولدي»؟

Post: #65
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-16-2019, 06:32 PM
Parent: #64

قصة اسم البرنس.

Quote: لقب قديم لجدي لأبي. اختفى خلال سنوات الفقر بعد أن تبددت ثروة هائلة لسبب أو آخر من ضمنها ما كان يعرف بتأميم مايو.

كان أول رجل بنى بيتا من الطوب في مدينتهم الصغيرة أو قريتهم الكبيرة شرق النيل. ولم يكن خلال سنوات مجده يحمل نقودا في جيبه. مات فقيرا مكافحا مآلاته اللاحقة رقيقة الحال تلك بنبل منقطع النظير. وقد عاد قبلها يعمل محاسبا لدى من كان يقوم بتمويله من تجار بروح عالية لم تركن قطُّ إلى مرارات الماضي.

أذكر ذلك الصباح البعيد من عقد الثمانينيات كيف كان يتناول شاي الصباح بالبلح أيام إحدى أزمات السكر بمثل تلك الواقعية الآسرة. وأذكر كذلك لما صححني في أمسية ما لما وددت كمراهق أن أطلعه على معرفتي بشعر المتنبي. قال بلطف العارف "إذا كان (سّرَّكم) حاسدنا وليس (سِرَّكم)"

سرد رائع يا برنس.

هذا -كما يبدو لي- مشروع "رواية" يكتبها الحفيد عن جده.

Post: #67
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-17-2019, 01:57 AM
Parent: #63

كل شيء لا يزال إنسانيا كما كان في نبله القديم طالما أن حيدر حسن ميرغني لا يزال يتنفس هواء العالم نفسه فتحية لمرورك الدال أخي من هنا.

Post: #68
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-17-2019, 05:40 AM
Parent: #67

تحياتي وترحيبي بالعزير حيدر حسن ميرغني.

الحنين؟ يابرنس!

صدّرت ايزابيلا الليندي كتابها "بلدي المخترع" بالآتي نصّه عن "نيرودا":



ثم وفي رد على سؤال قارئ، لخّصت مشروع كتابتها بأنه "االاشتياق" :



هل يشعر برنس بأنواع من الحنين :

الحنين السوداني، الحنين المصري، الحنين الكندي؟؟

أم يجيب كميلان كونديرا حين قال عن إقامته في فرنسا:

"انني في غاية السعادة هنا"؟

ماالدور الذي يلعبه الحنين في كتابته؟

Post: #66
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: امير الامين حسن
Date: 10-16-2019, 07:12 PM
Parent: #1

(. كنت باختصار أموت واحدة واحدة )

سلام حبيبنا البرنس
هل تقصد ' حتة حتة ' كما فى القول ألشعبى ؟

Post: #69
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: قلقو
Date: 10-17-2019, 09:10 AM
Parent: #66

سلمات يا خواض ,
اليوم الخميس 17 اكتوبر سيفتتح بأرض المعارض ببرى الكتاب الدولى فى دورته 15 .
نتمنى أن نجد مؤلفات الأستاذ اسامة البرنس وغيره من مؤلفات الكتاب السودانيين الذين منعت كتاباتهم من الدخول للسودان امثال الأستاذ فتحى الضو والمحبوب عبدالسلام وغيرهم من أدباء هذا البلد الذين نفتخر بهم .

Post: #70
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-17-2019, 08:36 PM
Parent: #66

Quote: (. كنت باختصار أموت واحدة واحدة )

سلام حبيبنا البرنس
هل تقصد ' حتة حتة ' كما فى القول ألشعبى ؟


عزيزي أمير:

ربما كانت إجابتي هنا (ربما)!

أنا أتعامل مع النص هنا لا كمؤلف. بل كقارئ. هناك نظريات التأويل الحديثة للنصوص تلك التي استبدلت مفهوم المتلقي بمفهوم القارئ لما قد يحتوي عليه الأول من سلبية والثاني من فعالية معتبرة في السياق أن القراءة هي إعادة لكتابة النصّ الأصلي. وتقول كذلك بتعدد القراءة واختلافها للنص الواحد بتعدد واختلاف التكوين الثقافي والخلفيات المعرفية لكل قارئ منفردا. ربما لهذا هناك من يرى أن وضع المقدمات النقدية للكتب هي مصادرة لمفهوم تعدد القراءة هذا. وجورج لوكاتش الذي جاء إلينا بمفهوم (الموهبة العمياء) لتفسير مواقف بلزاك السياسية يكشف وفق هذا المفهوم أن الكتابة الإبداعية في تعقيداتها تلك قد تتجاوز مقاصد الكاتب ومنطلقاته الواعية. ولعل المشاء يفيدنا أكثر في هذا الخصوص. إلا أنني لا أخفي إعجابي بشاعرية ما أسميته أنت القول الشعبي هنا. أذكر أن إحدى معارفي، فتاة من كولومبيا تدرس الموسيقى وتعمل كطاهية في سيدني، قد أخبرتني بسحر اللهجات المحلية وتعدد مستوى الحطابات في رواية مائة عام من العزلة في نصها الأصلي. وكثيرا ما تساءلت بيني وبين نفسي كيف تفقد اللغة طاقتها الحميمة تلك حين تتحول من سياق دارج إلى سياق سمّه فصيح. ومع ذلك، كما في مثال نجيب محفوظ، يمكن تنسيب الخطابات وتلونات الوعي، كمواقف ثقافية واجتماعية متصارعة داخل النص الأدبي، من خلال لغة فصحى في الأساس، ربما سعيا نحو أكبر قاعدة محتملة من القرّاء.

Post: #71
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-18-2019, 05:51 AM
Parent: #70

بدا أن عمر أخبر صاحبه بأشياء كثيرة عني. حدث ذلك أثناء آخر مرة رأيت فيها عمر قبل نحو العام تقريبا. كانت أماندا في زيارة لشقيقاتها الكبرى مليسا. كانا عمر والرجل قد حضرا داخل جلبابين أبيضين نظيفين من غير موعد. كان الرجل سوريا في نحو الأربعين يدعى لسبب ما باسم "نور الله الأنصاري". أحسنت وفادتهما بفاكهة صيف طازجة. تنحنح الرجل أعقاب التهامه مجموعة من ذلك العنب الأخضر الخالي من البذور دفعة واحدة. حتى ذلك الوقت، ظلّ عمر ملتزما الصمت وعلى مُحيّاه بدت آثار سجود سوداء حالكة. لم أشأ وأنا أخفي حيرتي من زيارتهما الغريبة أن أسأل عمر الذي زاد وزنه كثيرا على نحو أخفى أي أثر لعنقه عن سر زيارتهما الغريبة تلك وما طرأ عليه هو بالذات من تغيرات.

كانت زوجة عمر "شجرة السيسبان شبيهة النخلة القطبية" وصلت إلى كندا صحبة بناتها الثلاث قبل نحو العامين. بعد مرور أشهر تقريبا على وصولهم شاع داخل مجتمع المنفيين في المدينة أن عمر لم يعد يُرى مع أسرته مرة أخرى. "نحن، يا أخانا في الدين الحنيف، أحببنا أن نزورك للتفاكر معا في معاني وحكم ومواعظ قصة ظلت تحدث في كل زمان ومكان، قصة تحدث في حياة كل إنسان منذ عهد سيدنا آدم عليه السلام، قصة لن تتوقف إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض بمن عليها، ولن نطيل عليك، لكنها قصة ستشهد أحداثها أنت بنفسك بعد حين". هكذا، تناهى صوت الأنصاري وسط أزيز الثلاجة الرتيب. وكان للرجل المُعمم ما أراد: أن يأخذني منذ البداية مثل حكَّاء بارع بكياني كله. حتى إنني لم أعد أتساءل بعدها بيني وبين نفسي عن ردود فعل جيسيكا المتوقعة لحظة أن ترى عمر في طبعته الجديدة.

يُحكى، يا أخانا في الله حامد، أن رجلا من تلك العصور الزائلة قد طُلب منه الحضور إلى محاكمته على عجل ودونما أي إنذار حتى. كانت تنتظره في المحكمة هناك قضية حياة وعمر كامل، يا أخانا، وكان في حاجة ماسّة لأصدقائه الثلاثة الذين وثق بهم حتى تلك اللحظة للوقوف إلى جانبه والإدلاء بشهادتهم لمصلحته، قال لهم "يا أصدقائي المخلَصين، تعلمون جيدا أنني لم أقم طوال حياتي بمصاحبة أحد من ذلك العالم غيركم، لقد كنتم رفقتي الوحيدة، وأنا بحاجة إليكم الآن".

وقال موجها حديثه هذه المرة للصديق الأول "إنني في حاجة ماسة إليك أخي، قد حرصتُ على أن أرعاك وأعمل على نمائك ليلا نهارا، وآن الوقت كيما تبادلني جميلا بجميل". لكنّ ما حسبه من قبل صديقا أجابه بكل برود معتذرا أنه لا يستطيع الذهاب معه إلى أي مكان آخر خطوة واحدة. أما الصديق الثاني فقد قال للرجل "يا أخي، والله لن أذهب معك إلى داخل المحكمة تلك بإرادتي، فذلكم مكان مخيف، وليس هناك ما يجبرني على تحميل نفسي فوق طاقتها، لكنني سأعمل على توصيلك حتى باب المحكمة، لن أتجاوز ذلك قيد خطوة، هنالك أشياء لا يجامل المرء فيها الأخلاء، وهذه حكمة ظننت أنك تعرفها بالفطرة". أما الصديق الثالث، فقد كان "نعِم الصاحب". قال له بكل جوارحه "أبشر، تالله لأذهبن معك يا أخي، بل لأكونن إلى جانبك حتى نهاية المحكمة، لقد وُجِدَ الأصدقاء الأخلاء لمثل هذا اليوم، لن أخذلك، فما يصيبك يصيبني". وتلك هي القصة ببساطة. كما لو أن حياتي كانت بحاجة إلى لغز وأُحجية أخرى، أضاف الأنصاري قائلا:

"يا أخانا حامد، هل فهمت مغزى هذه الحكاية"؟

لو أن شكر الأقرع كان هناك لطلب أن يأكله الشيطان حتى يفهم. كان عمر الخزين لا يزال مشدودا إلى رفيقه الأنصاري بكلياته.

أحيانا، مثل أي لعين آخر في هذا العالم، يتتبع عمر أثر كلمات هذا المدعو الأنصاري على وجهي، وهناك على عينيه الضيقتين تبدو غلالة رفيعة من الدموع وتختفي. ويده اليمنى في الأثناء لم تنفك لحظة واحدة من اجترار مسبحة حجازية خضراء. لكأنه يقول لي في دهاليز الصمت القصير الذي أعقب سؤال الأنصاري ذاك "هيّا، يا حامد، اصعد معنا، الآن، إلى مركب نوح، فالفيضان قادم، لا محالة". من بعد أن رشف رشفة أخرى من كوب الماء الموضوع على المنضدة الزجاجية الصغيرة أمامه، قال الأنصاريّ مواصلا الموعظة اللغز بصوت بدا لي لسبب ما لا يتناسب تماما وهيئته العامة:

"يا أخانا حامد، المحكمة هنا هي القبر، مثوى المرء بعد موته، أما الصديق الأول فهو أموال المرء وبيته، أما الصديق الثاني فهم أهل الميت وأصدقاؤه ومعارفه، يحملون جنازته بحزن ولوعة، يودعونها إلى جوار باب القبر، يهيلون عليها التراب يمضون عنها. أما الصديق الثالث فهو العمل الصالح"! يا أخانا حامد، أقول لك الحق، إن الرحلة طويلة والزاد قليل والطريق موحشة، وتذكر جيدا أن هذه البلاد يفتح فيها الشيطان على المرء الصالح ألف باب للهلاك، كل باب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، نعم، المواعظ تفيد، يا أخانا. وقد علمنا كذلك من أخينا عمر هذا، وهو للحقّ يحبك لوجه الله، أن جماعة من أولئك المبشرين بالمسيحية، لعنهم الله، يزورونك هنا، أعني في محل إقامتك هذا، بل وتذهب معهم أنت نفسك، بقدميك هاتين، لحضور صلواتهم في الكنيسة، وفي هذا قال سماحة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين:

"لا يجوز للمسلم دخول معابد الكفار كالبِيَع والكنائس والصوامع والديارات وأماكن تعبدهم؛ لأن في ذلك إقرارا لهم على عبادتهم وتشبها بهم، ودعاية للجهال إلى غشيان أماكن عبادتهم مما قد ينخدع بهم بعض الجهلة، ويتقربون بمثل عباداتهم ويقلدونهم، لكن إن كان الداخل من أهل العلم والإيمان والمعرفة التامة بتعاليم الإسلام ودخل لسماع ما يقولونه حتى يرد عليهم، أو يعرف اختلافهم واضطرابهم ليحذر منهم، ويبين تفاهتهم وما يفعلونه من الخرافات والخزعبلات، ليكون على بصيرة من دينه، ويعرف الفارق الكبير بينه وبين أديان أهل التحريف والتبديل، أو دخل الكنائس للنظر في بنائها، وكيفية تأسيسها حتى يحذر المسلمين من التشبه بهم في معابدهم وخصائصهم؛ جاز له ذلك، والله أعلم". "اللعنة على الأستاذ السابق المدعو بعمر الخزين هذا"! ذلك ما خطر لي، ما إن باغتني الأنصاريّ. تسربتْ تاليا، خلال احدى نوافذ الصالة الزجاجية المواربة أفقيا، ذبابتان خضراوان، أخذتا تحوِّمان من حولنا دون طنين، وقد بدا لي ذلك بمثابة أمر آخر مثير للدهشة تماما: وجود الذباب في كندا.

سنوات مرت على وجودي في كندا وتلك المرة الأولى التي أرى فيها الذباب عيانا بيانا، وتلك دهشة لا تقل عن دهشتي الأولى لحظة أن رأيت الجليد لأول مرة في حياتي. كان اللهاث وراء أماندا والغثيان الذي أخذ يصيبني في أعقاب مضاجعة المومسات من شارع سيرجنت قد دفعني إلى الإقتراب كثيرا في تلك الأيام من جماعة مسيحية تدعى "شهود يهوا".

ليتني لم أبح لعمر بذلك.

كنت أذهب معهم إلى الكنيسة صباح كل أحد. أُرتِّل معهم أهازيجهم الدينية وصلواتهم بصوت منغَّمٍ ظلّتْ تحمله الجوقة بعيدا إلى داخل نفسي. ذلك القرب من الناس في أعلى تجلياتهم الروحية بدأ يهبني بعض السلام الداخلي لبعض الوقت. لو لا أنهم أخذوا يزعجونني بزياراتهم المتكررة إلى شقتي متأبطين كتبهم ومجلاتهم ومواعظهم. لكنّ شيئا آخر جعلني أُقلِّب لهم ظهر المجن تلك الأيام فانقطعوا عن زيارتي بلا رجعة. وقد علمت منهم مع مرور الوقت أن المرأة منهم لا بد أن تظلّ عذراء إلى أن تفض بكارتها بعد كتابة عقد زواج رسمي تباركه الكنيسة وأن الزوجة إذا ما أرادت الظفر بفراديس الرب لا بد لها من أن تكون مخلصة لزوجها حتى الممات. "اللعنة على حظوظي"، وقد كان عشمي منذ البداية بُنيت صروحه على أمل أن الإقتراب منهم في ثوب المريد يملأ فراش المنفيّ الغريب عقب كل صلاة بعلاقة دائمة أو أخرى. اللعنة، اللعنة اللعنة، ثم اللعنة سبعا على حظي العاثر وقد رأيت من بينهم فتاة شقراء تشبه "ضوء القمر على كأس المارتيني".

كنت أتابع حديث الأنصاري والذباب لا يزال يحوّم بذهن غائم تماما.

الوغد، عمر ابن الزانيّة اللعين هذا، قد أخذ ينظر، فجأة، إلى ساعته.

لعله يتهيأ لأن أصطحبهما لآداء صلاة المغرب جماعة داخل شقتي أو خارجها والتي غدت قاب قوسين أو أدنى. أذكر ما حدث تاليا بوضوح لا يزال حتى الآن يبهجني. طلبتُ الإذن منهما بتهذيب أدهشني بدءا لدقيقة واحدة لا أكثر. أحضرت وسط الهدوء ذاك ثلاث كأسات لها قوام عارضة أزياء خليع. واحدة لي، واحدة للأنصاري، وواحدة للمدعو عمر. عدت بزجاجة ويسكي ماركة ريد ليبل. ملأت الكأسات بأريحية شديدة. جلست ووجهي ناحية الأنصاري كمن يتابع حديثا جرى قطع تسلسله. رأيتهما للحظة وهما يتبادلان النظر فيما بينهما في دهشة وحيرة وغيظ مكتوم وبلادة، لكأن الطير على رؤوسهم، قبل أن يغادرا الشقة من غير أن يلقيا عليَّ بالسلام حتى! لا شك أنهما ظنّا أن الشيطان نفسه يتقمص منافذ روحي في تلك اللحظة. لكأن شيئا لم يكن. تابعت الشرب من زجاجة الويسكي مباشرة من غير أن أضيف هذه المرة شيئا من الماء كما جرت العادة، بينما أخذ الظلام يخفي ملامح الأشياء وراء النوافذ الزجاجية الواسعة للصَّالة.

Post: #72
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-18-2019, 08:55 PM
Parent: #71

Quote: هل يشعر برنس بأنواع من الحنين :

الحنين السوداني، الحنين المصري، الحنين الكندي؟؟

أم يجيب كميلان كونديرا حين قال عن إقامته في فرنسا:

"انني في غاية السعادة هنا"؟

ماالدور الذي يلعبه الحنين في كتابته؟


ذلك ما ورد في مداخلة سابقة لعزيزنا (المشاء). وقد أورد (المشاء) كذلك ارتباطا بموضوعة (الحنين) أسمي ايزابيلا الليندي ونيرودا القائل:

"يحدُث هكذا
أن أتعب من قَدميّ
ومن أظافري،
ومن شَعري،
وظلّي.
يحدُث هكذا أن أتعب من كوني إنساناً".

لكن بدءا ألا ترى معي هنا أن لقب (المشاء) نفسه ينطوي على كل ذلك القدر من الحنين؟

في مراجعته لمذكرات المخرج الإسباني السينمائي الكبير لويس بونويل (أنفاسي الأخيرة)، يتطرق ماركيز إلى ما حكاه لويس بونويل عن فقدان أمّه للذاكرة خلال العقد الأخير من عمرها، وكيف كانت حياتها تبدأ وتنتهي في اللحظة نفسها دون ألم، وقد كانت مثلا تقرأ الصحيفة وتعيد قراءتها بالشغف الأول نفسه. وقد لاحظ ماركيز في السياق ببراعته تلك أنها لم تفقد فحسب الذكريات السيئة على ما تحمله من سلام داخلي عملية الفقد هذه، لكنها تسببت حتى في فقدان (الذكريات الطيبة) التي يعتبرها ماركيز بمثابة (نواة الحنين)!

الكاتب دوما ما يحنّ إلى فردوس مفقود سواء على مستوى الحفر في الذكريات القديمة بالغة الغور، أو على مستوى التطلع المستقبلي نحو وضعيات للعيش أكثر إنسانية مقارنة بما هو قائم، والطيب صالح ينظر إلى عملية البحث عن الفردوس الضائع هذه كأداة إنسانية للتغلب على صعوبات الراهن. فقد تكون الطفولة كمثال بالغ الدلالة على هذا الفردوس على قدر من الشقاء، لكننا حين نراها خلف ركام وتعقيدات الحاضر تبدو أكثر ألقا وجاذبية وسعادة عما كانت عليه بالفعل. ربما في السياق نفهم قول المتقدم لكاتب روسيا الكبير (إن قطعة الخبز تبدو أكبر حجما حين نراها في يد غيرنا)!

الحنين إلى عالم أكثر إنسانية، سواء اتخذ صيغة الرجوع إلى الماضي أو التطلع نحو المستقبل، شكل على الدوام نقطة انطلاق مهمة في عمل كل كاتب جاد، وحتى هنا، قد أفهم قول ميلان كونديرا "إنني في غاية السعادة هنا (فرنسا)" من باب أنه وجد وطنا في الكتابة أو ما قد توفره له فرنسا من ظروف ملائمة لكتابة لا سقف لها. وفي تصوري أن غالبية أعمال كونديرا تكشف أنه من أكثر أولئك المرضى بالحنين تعبيرا عن الحنين. خذ مثلا رائعته (خفة الكائن التي لا تحتمل)، وقد أجرى على لسان توماس أو شخصية أخرى ما يلي: "مَن يعش في الغربة يمشي فوق فضاء خاوٍّ مجردا من شبكة الرعاية الاجتماعية التي تحيط به. كل كائنٍ بشريّ بلاده الأمّ، حيث تُوجد عائلته وأصدقاؤه، وحيث يستطيع أن يتحدث باللغة التي تعلمها في الصغر من دون أي مشقة".

الحنين عموما يجتاح أعمق أعماق هذا الكائن البشريّ، سواء أكان كاتبا أو غير كاتب، لا لشيء سوى لوعيه في الصميم بحتمية زواله، ولسعيه اليائس للقبض دون جدوى على جوهر حياته المتفلت أثناء عبوره السريع، من خلال هذا العالم، وذلك قول كونديرا نفسه "هذا الفخ الذي يسمّى العالم"!

Post: #73
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-18-2019, 09:03 PM
Parent: #72

Quote: لكن بدءا ألا ترى معي هنا أن لقب (المشاء) نفسه ينطوي على كل ذلك القدر من الحنين؟

من اللحظة التي عثرت فيها على لقب "المشاء" ، عند "رامبو"، شعرت أنني أكتب "اسطورتي الخاصة"،

على الأقل ، على المستوى الشخصي.

وهو أي "العثور على الاسطورة الخاصة"، هو من وضع قدمي على طريق لايشبهني فيه أحد،

لأنه مثل بصمتي.

Post: #74
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-19-2019, 09:36 PM
Parent: #73

رامبو!، يا له من ملهم حقا، ذلك القائل:

"يوجد أخيرا، عندما يكون بك جوع وعطش، أحد ما يطردك". لعل حياة رامبو في جوهرها كذلك بحث عن أسطورة خاصة. لقب (المشاء) هنا قد يشي على نحو ما بذلك البعد الطارد محليّا لمن يقع عليه عبء "الوعي الشقي"، ذلك الوعي المتجاوز الذي ينطوي على الاختلاف والمفارقة في بيئة في جوهرها محافظة متآلفة مع طرق ربما تكون ثابتة للعيش. ومن يمشي مبتعدا عن تلك البيئة باحثا عن تحرره وتحررها في آن، ثم يحدث أن يعود إليها في مسار دائريّ، مثل معاوية نور وإدريس جماع كنموذجين واقعيين، يكون مصيره الاحتراق، أو الغرق كمصطفى سعيد بوصفه نموذجا جماليا صاغه الطيب صالح ببراعة.


Quote: تعدد احتمالات القراءة:

في المقطع التالي من نص البرنس الاخير ، هنالك خطا في إيراد شعر محمود درويش:
Quote: بشيء من الحسرة، قال:

«لا بد أنها بلاد جميلة».

تلوت شيئاً من شعر درويش «طعم العسل في بلاد الآخرين مر»!

الصحيح هو:
Quote: القمح مرٌّ في بلاد الآخرين

هنالك احتمالات عديدة لقراءة ذلك:

الاحتمال الأوّل: أخطأ المؤلف الفعلي "البرنس" في كتابة النص الشعري.

الاحتمال الثاني: الخطأ مقصود للتدليل على "السكر" مثلا أو ما يفعله المنفى بذاكرة المنفيين أو أن الشخصية الروائية لا تحفظ الشعر جيدا.

الاحتمال الثالث: كل الاحتمالات في "2" صحيحة ،إذن فالخطأ في إيراد النص الشعري هو حاصل جمع كل تلك الاحتمالات..

كل ذلك يعتمد إذا ما كان هنالك أجزاء من النص السردي لم تنشر ،فالسياق يساهم مساهمة فعالة في تأكيد تلك الاحتمالات أو نفيها.


أشكر المشاء مجددا على جلاء إضاءاته النقديّة وربما أضيف إلى ذلك على سبيل قول الأشياء بطرق أخرى: مدى هيمنة الطرق النقلية المهيمنة في الخلفية على البناء المعرفي لكلا الشخصيتين!

Post: #75
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-20-2019, 01:02 AM
Parent: #74

تحدث البرنس عن العلاقة بين الكتابة بالفصحى والعامية،وأشار إلى أن الكتابة بالفصحى قد تهدف إلى التوجه إلى أكبر عدد من القراء، حين قال:
Quote: ومع ذلك، كما في مثال نجيب محفوظ، يمكن تنسيب الخطابات وتلونات الوعي، كمواقف ثقافية واجتماعية متصارعة داخل النص الأدبي، من خلال لغة فصحى في الأساس، ربما سعيا نحو أكبر قاعدة محتملة من القرّاء.

ونلاحظ ذلك بجلاء في المقطع التالي للبرنس:

Quote: "الشقيُّ مَن يتعثر في أثناء المشي بخصيتيه".

وهي كتابة فصحى للمثل السوداني المعروف.

لاحظت أيضا ان البرنس يستخدم "رفاق" بدلا من "زملاء" كما هو التقليد في الحزب الشيوعي السوداني والتنظيمات المرتبطة به.

هل استخدام "رفاق" بدل "زملاء" اقتضته "ضرورة السعي نحو أكبر قاعدة محتملة من القرّاء"؟

Post: #76
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-20-2019, 07:37 PM
Parent: #75

لا أعتقد، عزيزي المشاء، أن استخدام (رفاق) عوضا عن (زملاء)، مع اشتراكهما على مستوى الظلال الأيديولوجية، قد فرضته ضرورة مثل تلك. ربما كانت محاولة ما للتشويش من جانبي على أي محاولة تربط ما بين الرواية كعالم متخيل وبين نموذج واقعي ما. قد تشكل حادثة ما، ذكرى ما، حنين ما، صدام من أي نوع ما، وما إلى ذلك، نقطةَ انطلاق للكتابة، إلا أن عملية إعادة خلق العالم هنا سرعان ما تنأى أثناء تشكيل نماذجها مما بدأت منه أو به. مثلا، على المستوى الواقعي، كان أن اعترض طريقي بالإساءة أمنجي سابق. كانت نتيجة ذلك اللقاء الإنسانيّ البائس: رواية السادة الرئيس القرد. وإذا سألتني: أين يوجد ذلك الأمنجي الواقعي في سياق الرواية المذكورة، أقول لك ببساطة: لا وجود له هناك. كان من الممكن أن يكون الأمر بعبارة ماركيز "بمثابة الكارثة" إذا انحصر الأمر على محاكاة الواقع هنا. ولحظة أن أقرأ ما يكتب عن الرواية لا أجد أي تطابق هناك ما بين الأمنجي الواقعي وذاك المتخيل. هنا مقال نقدي للكاتب العربي عبد الوهاب عن الرواية في الحياة اللندنية:



Quote: رواية السوداني عبدالحميد البرنس: صناعة الدكتاتور بمسحوق الوهم

غلاف الكتاب

العربي عبدالوهاب | منذ 19 يوليو 2018 / 00:00 - اخر تحديث في 18 يوليو 2018 / 19:43

يمكننا أن نبني تصوراتنا الخاصة بموازاة المطروح داخل إطار المشهد الروائي الذي يصنعه الكاتب السوداني المقيم في أستراليا عبدالحميد البرنس في روايته الأولى «السادة الرئيس القرد» (ميريت)؛ ذلك المشهد الطويل ككابوس؛ والمؤثر حدَّ البكاء والموزَّع على مجموعة مقاطع يفضي بعضها إلى بعض. تلك المقاطع التي تسعى فى حركتها الظاهرية نحو مغازلة واقع، يتجلى حضوره من خلال الحفر الدؤوب في بنية الوعي لدى الشخصيات مستخرجاً هواجسهم الملعونة التي تصبح هي محور حيواتهم، على رغم أنهم يتحلقون حول شخصية «حمو» (الطفل الشيطان) الذي سيعتلي في النهاية سدة الحكم، ويحصل على لقب «الرئيس القرد»، علماً أن الرواية مكرّسة لآليات صناعة الديكتاتور، إلا أن الكاتب استبعد حضوره - ليظل مثل كتلة غامضة تلفها الألغاز وتدور حولها الحكايات - قدر الإمكان مستنهضاً في الوقت نفسه الأحداث المحايثة لميلاده والمتزامنة مع تطور وعيه، واختلافه عن معاصريه (من وجهة نظرهم المبالغ فيها) لدرجة رفضهم له بسبب هذا الاختلاف المزعوم. فنطالع الداية القانوية «أم سدير» التى تفتتح الرواية برؤيا هي عبارة عن رسالة يحملها شخص غريب ناقلاً إياها عن «الشيخ أحمد الطيب البشير السوداني». وقفت «أم سدير» أمام هذه الرؤيا متأملة بِركة دم تخرج منها أياد بشرية مقطوعة، من بداية الرواية إلى نهايتها، وظلت هذه المرأة مع شخصيات أخرى؛ تدعم - تحت رقابة أجهزة الأمن- الخرافات حول شخصية الطفل الشيطان/ حمو/ الرئيس القرد. ومِن هذه الشخصيات «شامة العجيلة، حليمة الأنصارية، سماح ابنة شامة»، ومعهن «حسين الضاحك»، و «حسن الماحي»؛ الذى حصل بعد خروحه من المعتقل على لقب «ذيل القرد الماحق». هذه الشخصيات تستكمل أدوار شخصيات أخرى لتدفع بعجلة السرد في الاتجاه الكابوسي/ الواقعي/ المتخيل. فـ «حسين الضاحك» اشُتهر بضحكاته المبالغ فيها على نكات «الرئيس صانع البهجة»، وأنه في إحدى المرات تغافَل ولم يضحك على نكتة الرئيس، فاتبعته عربة «الأمن القومي»، على رغم تنكره في هيئة امرأة خوفاً من القبض عليه، وكادت تعتقله، أما هو فقد حاول استرضاءهم فأخذ يضحك في شكل مبالغ فيه، ليعلن لهم بهجته الزائفة. إلا أن رجال الأمن لم يهتموا بهذا، بل وجهوا له الأمر بأن يذهب إلى المقهى الذي كانت تذاع فيه نكات الرئيس ويضحك أمام الناس هناك. ولعل عدم اهتمامهم بخنوع «الضاحك» أمامهم تحمل دلالة عميقة، على ضرورة الانبطاح الجمعي لتلك المجتمعات، وأن يتوغل الناس في الانحناء حتى يصير مرضاً لا شفاء منه.

أما شخصية «حسن الماحي»؛ نموذج المثقف، فلم تبرح وعيه خرافة (حمو)، الذى يمتلك عيناً ذات أسنان، مكّنته من التهام فراشة... «أترى يا عم هذه الفراشة الميتة الآن على كف يدي؟ قال حسن الماحي: نعم أراها. ولم يعتقد حسن الماحي حتى تلك اللحظة أنه يتحدث في الواقع العياني إلى الشيطان الرجيم صاحب الحيل الألف وسبعمئة نفسه. تابع الطفل حديثه ذاك بالبراءة الممنوحة عادة لمن هو في مثل عمره: سآكلها، هذه الفراشة الصفراء. أعني بعيني» ص 79. وعلى رغم أنه نقل فزَعَه مما رأى إلى زوجته «شامة»، إلا أن «حسن الماحي» ظل يخشى الهروب إلى مدينة نيالا النائية، وفق إلحاح زوجته؛ بسبب قناعته بأنه سيلقى حتفه هناك كما أوحت له أمه منذ الصغر، ففضّل الموت هنا على الموت هناك. «حسن الماحي» الذي جسّدت حياته أزمة المثقف تجاه السلطة، يستكمل مسلسل الخوف المطلق والخضوع الآمن لجبروت رجال الأمن، فنراه يستسلم لهم، ليقبع في السجن سنوات عدة، حمَلَ بعدها لقباً دالاً على الخضوع التام: حسن ذيل القرد الماحق. والسلطة لم تطلق الماحي إلا بعد أن تأكدت من ذهاب عقله إلى الأبد، لتأمن الشرور المترتبة على وعيه في عهد الرئيس القرد. وهكذا تشق هذه الرواية طريقها بجرأة وتحدٍ، مخترقة الأنساق الكلاسيكية المتعارف عليها في التقاليد الروائية صانعة أطروحاتها الجديدة على يد كاتب مجدد. ولأن كتابة رواية أصعب من بناء كاتدرائية كما ذكر السابقون، ما يؤكد صعوبة البناء ودقته، وأهمية إبراز الفنيات الداخلة في تشكيل الصورة النهائية من الرسوم والنقوش الملهمة، يمكننا أن نقول إن البرنس تمكّن بجدارة من تشييد بناء روائي فريد، اعتمد فيه على تفتيت المشهد إلى شظايا صغيرة بعدما قام بتحليلها واستقراء أبعادها الدلالية من خلال قراءة وعي الشخصيات التي تؤمن فتصدق بوجود ثعالب طائرة تلتهم رؤوس المسافرين إلى مدينة نائية تدعى «نيالا». هذا بالإضافة إلى ورود أسماء الشخصيات كاملة مثل «الداية القانونية أم سدير»؛ أو بصفاتها الجديدة مثل «حسن ذيل القرد الماحق»، إلى جانب تظليل بعض المقاطع أو الجمل القصيرة بالحبر الثقيل الذي من شأنه خلق تنويعات سردية تحمل الكثير من الإشارات الدلالية. بالإضافة إلى الاستعانة ببعض المراجع المدرجة فى نهاية الرواية مثل كتاب «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان»، و «سيرة ولي الله أحمد الطيب بن البشير السوداني». هذه التقنيات أضافت إلى السرد رؤى جديدة ساهمت في إيهام القارىء بواقعية أحداث الرواية التي تتحرك أحداثها في مسارين هما: صناعة الخرافة حول شخصية «حمو» وانسحاق الشخصيات من قبل سلطة الأمن القومي. يتقاطع المساران كثيراً؛ لكنهما في لأحوال كافة يؤديان إلى نتيجة واحدة، هي صناعة شخصية «الرئيس القرد»، بعد «الرئيس صانع البهجة»، و «الرئيس العابر». وفي سخرية لاذعة تعد سمة هذا العمل، نجد مثلاً الناس في عهد «الرئيس القرد» يفضلون التنقل داخل المدينة - تخلصاً من الزحام! - بالقفز على فروع الأشجار، تماشياً مع فكر المرحلة (القرداتية) المتفشية فى المجتمع. ومما ساعد على إبراز المشهد الروائي الطويل؛ استخدام الكاتب المتميز للوصف؛ «رانَ بعدها، صمتٌ مُفخّخ بالتوقع اليائس والتساؤلات الداخلية المشخونة بالتوتر، داخل الغرفة الغارقة في العتمة، من قبل أن يتهشم بصوت عربة طوارئ مسرعة، كان قد تناهى، بالتزامن مع عودة شامة الصامتة من المطبخ، حاملة فى يدها زجاجة وقود، لتضخ منه داخل مصباح الكاز الصغير، الذي أخذت شعلته تبهُت منذ مدة، كشمس غاربة من وراء كثبان رملية» ص31. ذلك الوصف الذي لا يحفل به آخرون، يظل حاملاً قدرات غير عادية من التخييل الفني، اتكأ عليها عبدالحميد البرنس في إيهام القارىء بواقعية متخيّلة، وشخصيات مصنوعة بدقة كي تنهض بحمل رسالة فنية ودلالية تعني؛ كما ورد بعد انقضاء تلك العهود في مذكرات سماح ابنة شامة الجعيلة وحسن الماحي، أثناء إقامتها فى مدينة كندية كمهاجرة مِن عالمٍ آخذٍ في الاندثار؛ هو عالم رواية «السادة الرئيس القرد». تسجل سماح ما دار هناك، بينما الرئيس القرد (حمو) رفيق صباها لا يتوقف عن البحث عنها بغية استعادتها، ليستعيد صباه ومن ثم زمانه الغابر.

Post: #77
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-20-2019, 08:16 PM
Parent: #76

أجواء من الجزء الثاني من سيرة التقدمي لا يزال العمل جار عليها:




كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد ظهر يوم خريفيّ، حين رنَّ جرس الهاتف، داخل شقتي، وتناهى صوت أماندا، بعد فترة طويلة أخرى ممتدة من الغياب. وكنت لا أزال حانقا عليها بسبب تلك المواقف المتكررة. آخر مرة، "غيَّرتُ فيها جلدي"، كما يقال. صرت طواعية إلى ما تريدني هي تماما أن أكون عليه. كنت آكل أكلها. أتنفس هواءها. أشتم بأنفها. لن أتورع في تلك الأيام إذا أرادتْ هي في لحظة نزق حتى عن (..). تخلّصتُ مرة وإلى الأبد من زيّ صحفيٍّ محترم بمقاييس القاهرة، إلى أن غدوت بين ليلة وضحاها مسخا، أو موضوعا للتندر وسط أولئك المنفيين على مقاهي بورتيج بليس. قالوا "لقد أصاب حامد عثمان حامد جنون المراهقة". لم يشفع لي عندها كل ذلك. عموما، رفعتُ السماعة، وكان صوتها الأليف ذاك آخر ما كنت أتوقع سماعه. قلت بفتور "مرحبا". لكنّ ذلك لم يكن صوتها المعتاد. كان صوتها الآخر ذاك المُذيب لبأسِ الحديد نفسه. خفق قلبي. قالت إنها تريد أن تراني على نحو ملح الآن. بغتة: "ألا تفتقدني، يا وليم"؟

أخذتْ حصوني سريعا في التصدع. كمن يتأهب لملاقاة إهانة أخرى، قلت "بلى، أفتقدك، يا أماندا". قالت بحنان غريب "ما مقدار هذا الفقد"؟ وجدتُّني أقول كالمنوَّم "كثيرا". قالت كما لو أن الله استجاب لدعاء قديم: سأحضر إذن في الحال، أحبك".

كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع منها تلك الكلمة منذ أن غزت وحدة حياتي المزمنة خلال احتفالي ذلك المساء بعيد ميلادي الخامس والثلاثين في شقة جمال جعفر المشتركة مع الصيني: "أحبك". مع تسارع وجيب قلبي هذا، واستسلامي ذاك، آثرت أن أفر من هذا الحبّ، فقلت بصوت أوهنته فترات الصمت المتفاقمة في حياتي خلال تلك الأيام "ولكن". قطعتْ ترددي متسائلة كمن يمسك بخيوط لعبة تمرَّس عليها طويلا، قائلة "ولكن.. ماذا، يا وليم"؟ قلت محتميا بذكرى مرارة مقالبها الكثيرة "أنا مشغول الآن، يا أماندا". أي لوعة حملها ردها "أفي الأمر فتاة أخرى، يا وليم"؟ قلت:

"أنا متعب فقط، يا أماندا".

قالت بعناد وتصميم غريبين "سأحضر إليك إذن، حالا حالا، فقط كن في انتظاري". قلت "لا. لا بد أن أنهي المكالمة الآن".

بدا صوتها أكثر حزنا ولوعة:

"إذن فالوداع، وليم، حبيبي"!!

وَافَقَتْ مكالمتها تلك كما لا أزال أتذكر بوضوح وجلاء ما بعد منتصف ظهيرة اليوم الثالث من عطلة سنوية دامت عشرة أيام.

منذ اليوم الأول، أخذ البعد من مشاق العمل يسمم حياتي بذكريات الماضي البعيد والقريب في آن، لم يكن ثمة من معين إلى جانبي، سوى النوم لساعات قليلة، القراءة أحيانا، تجرع ما قد لا يحصى من أكواب القهوة السوداء المرة خلال أوقات النهار، والتجرع أبدا لا يتوقف من زجاجة ويسكي كاملة ماركة "ريد ليبل" على مدى المساء والليل وحتى الساعات الأولى للصباح. لقد بدأت الشقة في الأثناء في التحول شيئا من بعد شيء إلى مقلب لا يحتمل للقمامة: رائحة السجائر المحبوسة، أواني الطعام المتسخة وصلت حتى إلى داخل الحمام، بينما ظللت أطفئ أعقاب السجائر المتعاقبة على باطن حذائي البيتي السميك وأقذف بها هنا وهناك دونما اكتراث، كانت قشور البصل متناثرة على أرضية الصالة إلى جانب قشور خضروات أخرى، والملابس المؤجلة للغسيل منذ نحو ثلاثة أسابيع تلوح أينما وقع البصر، لقد بدا المشهد داخل الشقة قبل أن يرن جرس الهاتف حاملا صوت أماندا أشبه ما يكون بمعمل ملائم لتحضير روح شيطان تملَّكه السأم.

هكذا، عندما وطنتُ نفسي أخيرا على نسيان أماندا بون تماما، هداها الله أن تعاود اتصالها بي مطالبة برؤيتي "حالا"، بالذات في ذلك اليوم الذي وصلتُ فيه إلى نقطة اللا رغبة في كل شيء. لقد كنت وباختصار شديد ميتا، في عالم ميت.

حين أشارت إلى حوالي الثامنة مساء، كانت أماندا هاتفتني بإلحاح لأكثر من تسع مرات. لم أرد على مكالمة واحدة من تلك المكالمات، البتة. كنت أترك الجرس يرن ويرن ويرن، إلى أن أسمع صوتها، بينما تترك رسائلها المتتابعة القلقة على جهاز الرد الآلي. كنت أدرك قلة حيلتي وضعفي وهواني المقيم حيال صوتها. كانت تقول عند بداية كل رسالة، متسائلة بنبرة يشوبها شيء من خذلان لا مبرر له، قائلة "أعلم أنك هناك، أجبني، حبيبي وليم، وللعلم فقط لن أيأس معك، ألا ترغب فيَّ، أنا حبيبتك، أماندا"؟ بعد التاسعة مساء، أخذتْ تهب ريح عاتية، كما لو أن السماء غاضبة من شيء. كان البرق يومض من آن لآن. المطر يتساقط بغزارة، ويتوقف فجأة. لم ينفك الندم يعاودني في أعقاب كل مكالمة من تلك المكالمات. لكن المحظور وقع في حوالي التاسعة والنصف. كانت طرقات أماندا بون على باب الشقة تحمل في تتابعها الحاد تصميما غريبا. فتحتُ الباب، لا مفر. بدت مبتلة تماما وفي يدها لاحت حقيبة ملابس بنية صغيرة وهناك من داخل عينيها أخذ يومض لدهشتي حبّ أموميّ غامض بدا أقرب إلى حنان لا يتناسب أبدا ورعشة متصلة ظلت تصدر من بين شفتيها المكتنزتين. لقد بدت في هيئتها العامة تلك أشبه بقارب إنقاذ صغير في يوم عاصف.


















في أثناء مكالمتها الأولى تلك، فاتني أن أدرك ربما لزخم المفاجأة أبعاد الطريقة التي تم من خلالها إعلان ذلك الحبّ، من طرفها، لأول مرة.

طريقة عصرية بحتة.

ولم تصمد حصوني!!

انفصلتْ أماندا عن حضني عند باب الشقة، أخيرا. أدارتني فور إغلاق الباب باتجاه المطبخ والصالة من كتفي. قالت "لا تلتفت، يا وليم". كنا لا نزال واقفين داخل الطرقة وراءنا باب الحمام المشرع، عندما أخذتْ تنضّ عنها ملابسها وترمي بها كآخر دروس التعذيب على الأرض أمام ناظري بينما تكرر تحذيرها قائلة في أعقاب الرمي بكل قطعة "لا تلتفت، وليم حبيبي، حذار، لا تلتفت أبدا، حبيبي". حين رأيت قطعتي ملابسها الأكثر خصوصية أدركت أنها تقف ورائي عارية تماما. هكذا، سبقتني هي إلى الحمام، بينما أخذت أنا في تسوية الفراش الذي بدا في زخم تلك اللحظات بمثابة الحقيقة الإنسانية الوحيدة الماثلة داخل معمل تحضير الشيطان ذاك. هناك بدت مرحة سعيدة وهي تحاول أسفل مياه الدش صدَّ يدي المراوغة المتجهة بلهفة لأول مرة نحو ملامسة ما بين ساقيها دونما عائق، هذه المرة. أنعش ذلك قليلا شجرة الحياة المتيبسة في داخلي. أخيرا، أقبلت تلك اللحظة التي حلمت بها طويلا لقرابة العامين من صد جائر ونفور مثير للحيرة. كنت أقف قريبا منها مرتعشا على بعد خطوة واحدة غير مصدق لما يحدث بالفعل تحت أنظار العتمة.

كانت تستلقي عارية. البرق يومض وراء النوافذ الزجاجية الواسعة في تتابع. لكأنها أعدت شعورها بدورها لمعانقة اللحظة نفسها وتهيأت لها منذ تعارفنا الأول. كان كيانها كله مخيّرا في هذه المرة لإرادتي. وجسدها يكاد يضئ داخل العتمة بنور ذاته. ولا تدري في زخم اللحظة إن كان مصدر ذلك الضوء الروحُ لحظة صفاء أم شدة بياضها الحليبي الذي لا يحتمل؟

بدأتُ ألاطفها بمخزون تلك الرغبات العميقة المؤجلة لمدى العامين تقريبا. ثوان. دقائق تمر. وحرارة جسدها الفتي وصلت إلى أقصى درجات الغليان. قبلتُها كثيرا وطويلا وببطء. توغلت بلساني صاعدا هابطا جاثيا في الأثناء بين ثناياها. تقلبنا معا على الفراش الواسع ردحا لا أعلم. مع كل ذلك، ابن الكلب، المدعو "موضوعي الخاصّ هذا"، أبدا لم يُحرّك ساكنا. ظلّ بعناده الأكثر خذلانا في العالم قابعا في ارتخائه المجيد، حتى وهي تستلم دفة القيادة بحذق أنثى الكوبرا. يا للعار! وقد ظلّ موضوعي الخاصّ بكلمة "ميتا"، بكلمتين اثنتين فقط "ميتا تماما"، بعبارة حاسمة "ميتا تماما كخرقة".

لم تبعثه من موته الذي بدا موتا كونيا أبديا مطبقا مطلقا حتى ذكريات الحرمان، لاءات الحاج إبراهيم العربي التاريخية الثلاث، ولم تبعث فيه الحياة، حتى تشوقات حفل عيد ميلادي التاسع والعشرين قبالة حائط مبكى المنفيّ الغريب في القاهرة. رويدا رويدا، بدأت أفقد توازني. أخذ اليأس يعتصرني من كل جانب. رأيتها أخيرا وهي تغمض عينيها. لعلها تنوب عني في تجنب رؤية الخيبة الماثلة كشبح فضيحة مدويّة تمّ الكشف عنها للتو. لعلها تحاول التفكير في وسيلة ما يمكن أن تعيد إليَّ بواسطتها هدوئي المتسرب تباعا، مع إنها فعلتْ كل شيء تقريبا يمكن تصوره. ومع كل تلك المساعي، لم تتصاعد الدماء إلى عروقه قيد شريان. أعصابه ظلّت مرتخية مثل خيوط مقطوعة في آلة وترية. كان شيئا أصمّ يقع خارج حدود ذاتي. لا يحسّ حتى بقُبلاتها الجنونية المتتابعة. كما لو أن ما يحدث لتقوقعه أمر يتمّ في أثناء محادثة رجاليّة.

ما أخذ يضاعف شعوري بالخيبة، ليس لأنها المرة الأولى الكاملة لي معها فحسب، ليس لأنها حدثت في أول لقاء لي حقيقي بها على فراش، بل فداحة الاكتشاف، عظمة الحقيقة القائلة قبالة ذلك العنفوان الأنثوي الموَّار: لم يعد موضوعي الخاصّ صالحا للعمل. قالت بعد أن استلقيت إلى جانبها خائرا مهدودا مذهولا محطما مأخوذا بوقع المفاجأة "هذا أمر مرده إلى الإرهاق". كنت أنصت إليها ساكنا مشلولا لا أقوى حتى على تحريك عينيّ الشاخصتين داخل العتمة كعينيّ غريق.








في صبيحة اليوم التالي، هرعت إلى الطبيب بكل ذلك الفزع، سألني عن تأريخ العائلة المرضي، كشف على قلبي، ضاغطا في آن على شرياني الأيسر، ثم، بتلك السلطة التاريخية المطلقة، طلب مني أن أسحب سروالي لأسفل قليلا، مرر يده مرارا خطفا على طول تلك المنطقة الواصلة ما بين الساق والحوض. جفلت آنئذ. قال "أنت معافى، وذلك أمر يحدث أحيانا للرجال في مثل عمرك"، لكأنه أعطاني شهادة ميلادٍ لِرجولةٍ جديدة، وقد فكرت لاحقا بأسى: كم تقدم بي العمر!

سألتني أماندا بعدها، بينما تراني أفتح باب الشقة سعيدا متحررا من كل تلك المخاوف، قائلة "ماذا قال لك الطبيب، يا وليم".

قلت:

"لا شيء، يا أماندا"!

لم يفتني وأنا أدفع بها نحو السرير ملاحظة أنها قامت بتقليب الشقة في غيابي رأسا على عقب. بدا كل شيء مرتبا نظيفا ممهورا بلمسة أنثوية ساحرة. كما لو أنه تم إعداده وتهيئته لحياة مستقرة مشتركة طويلة الأمد ودائمة. حتى انني بدأتُ أفكر أن العذابات المتولدة جراء اللهاث وراءها لمدى العامين بلا طائل لم تكن سوى أضغاث أحلام وتهيؤ مريض.

كانت أماندا بون لا تزال عارية مغمورة بالعرق، تفوح منها رائحة المطهرات القوية وصابون تنظيف الأواني ذو الرائحة البرتقال، حين وصلنا للذروة مرارا معا وغفلنا راجعين في كل مرة بشعور طفلين متعبين، بينما غرفة النوم بنافذتيها الزجاجيتين الكبيرتين العاريتين من ستائر غارقة في ضوء ما بعد منتصف الظهيرة الحاد. ونحن راقدين على جنبتينا، واضعين رأسينا على راحتينا، ناظرين بامتنان متبادل إلى بعضنا عبر كل ذلك القرب، بدأتْ دموعها تسيل على حين غرة.

في البدء، رأيتها تتجمع داخل عين واحدة، عينها اليسرى. تنحدر نحو كفها. قبل أن تنزلق صوب الفراش المعجون في تقلبات الحبّ. لأنني لم أعرف، حتى تلك اللحظة، سوى ذلك النوع من الدموع، أحسستُ بقلبي وهو يسقط في قاع هوّة سحيقة. لعلها، أدركتْ أخيرا مدى ما أحدثته دموعها داخلي، حين مدتْ يدها ماسحة على رأسي. وضحكتْ فجأة، وهي تقول باستنكار غمره غنج حان:

"وليم؟ إنها دموع الغبطة، حبيبي"!

بدا الغروب وراء النافذتين الزجاجيتين الواسعتين مخمليا، حين استيقظتُ من نومي، مطهما بالحضور الكليّ لها، في حياتي.

"أماندا أماندا"، لم تكن تعي دلالة اسمها. فقط، هزت آنذاك كتفيها، بلا اكتراث. لعل ما أثارها وقتها غرابة السؤال لا السؤال:

"ما معنى اسمك، يا أماندا"؟

أنا دودة البحث، علمت لاحقا أن "أصل الاسم لاتيني، لا علاقة له بقرابتها الهنود الحمر، ويعني قيمة الحبّ أو الشيء النفيس".

أحيانا، قد يحدث، مثل هذا!

نتقبل ما نحن عليه كما هو.

نتقبله من دون تساؤل أو مراجعة. محاولة معرفة الأشياء اليومية في حضورها الدائم الحميم، هي مسألة لا تحجبها العادة وتقصيها خارج دائرة التفكير فحسب، بل هو الشعور أن مجرد التعامل معها كموضوع للمعرفة يعني فقدانها لمعناها الكليّ، إنها انفصلت عن ذواتنا بدرجة ما، وجودها إذن زال، أو هو عرضة للزوال، حين لم يعد مطابقا لوجودنا، ذلك أن التفكير في الشيء يتطلب قيام قدر من المسافة بيننا وبينه. داخل تلك العتمة، مددتُ يدي اليمنى، أخذت أتحسس مكانها على الجانب الآخر من الفراش، بدا باردا خاليا من الدفء، لا بد أنها نهضتْ من النوم قبل فترة، كان صوتها يتناهى من ناحية الصالة والمطبخ عابرا الطرقة الصغيرة الضيقة خافتا مدندنا بلحن خفيف من أغاني تلك الأيام العابرة. "أمريكا تحب الراب الذي يغنيه رجال العصابات". في اتجاه الحمام، بعد الخطوة الأولى داخل غرفة النوم الواسعة، بدأت أحسّ وكأن شيئا غريبا قد طرأ على مشيتي، وقد أخذ إحساسي بالأرض من تحتي ينمو ويتضاعف، إحساس ريشة في طريق التحول إلى شيء ثقيل صلب وقار. كما لو أنني ظللت أمشي قبلها لسنوات طويلة خارج قانون الجاذبية. كانت أماندا لا تزال تدندن، حين عدت إلى مواصلة السير داخل الغرفة بهدوء وصمت. وقد شرعت ألف حول السرير حافيا، بلا هدف، سوى التمتع بثقل الأرض تحت أقدامي. لا بد أن حواسي الضائعة قد عادت إليَّ مجتمعة خلال ذلك المساء.

كنت لا أزال أسيرا لبقايا وحدتي القديمة، حين أغلقتُ باب الحمام ورائي، وجلست على مقعد المرحاض وفق عادة عريقة، متأمّلا على غير المتوقع بعض تلك التفاصيل الحزينة التي وسمت حياتي في الماضي. لكنها فتحتْ الباب فجأة. إذ ذاك، بدوت محرجا قليلا. أنظر إليها بضيق خفي من جلستي تلك على مقعد المرحاض. كانت تقف داخل الإطار الفارغ للباب ممسكة بمقبضه المستدير المصنوع من النيكل بيدها اليمنى مائلة عليه مبتسمة وشهيّة كقطعة الخبز الطازج في الشتاء. قالت بخبث حميم "أراك نمت مثل طفل، يا وليم". وقالت بينما أخذتُ أشعر في الأسفل بحركة موضوعي الخاص إنها تنتظرني بالأكل. كان يفوح منها عطر خفيف وقد بدت مشعة داخل فستان نوم بلون البنفسج. ثم رأيتها وأنا أشرئب برأسي وهي تستدير، وتسير مبتعدة بخطى خفيفة عبر الطرقة القصيرة، قبل أن تتوارى داخل المطبخ القائم على أحد جوانب الصالة.

Post: #78
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-20-2019, 08:35 PM
Parent: #77

قال البرنس:
Quote: أجواء من الجزء الثاني من سيرة التقدمي لا يزال العمل جار عليها

حين تقول يا برنس "لايزال العم جار عليها" هل تعني ان النص قد انتهى،

لكن تبقّت بعض اللمسات التي لن تغير من جوهر النص،

أم أنك تكتب ولا تعرف كيف ستكون النهاية؟

طبعا قد اختلطت المسائل المتعلقة ب"الكتابة" بعد ظهور الانترنت...

فما نعنيه بالكتابة هنا يتضمن الفهم الكلاسيكي للكتابة الاحترافية ،

وليس الكتابة التي أصبحت مثل "الوجبات السريعة" ههههه

Post: #79
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-21-2019, 05:45 AM
Parent: #78

عزيزي المشاء: حين يتعلق الأمر بكتابة سمها نوعية، أجدني مسكونا لا بالتجويد، بل هاجس التجويد، وربما لهذا اتسمت علاقاتي بالمدققين اللغويين عادة بشيء من النفور المتبادل، كما تكشف مراسلاتي مع دور النشر، وقد بعثوا لي بهذه البروفة النهائية أو تلك، لا على مستوى تنفيذ ما تم القيام به من جانبي كتنبيه سابق لتصحيح أمر ما، بل لأني قد أضيف في الأثناء شيئا لم يكن موجوداً من قبل، أو حتى أحذف أشياء. أنا لا أعيد قراءة ما كتبت قبل النشر النهائي إلا من داخل تلك الحالة التي يسمونها الإلهام أحيانا.

Post: #80
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: قلقو
Date: 10-21-2019, 08:12 AM
Parent: #79

سلامات يا خواض ويا برنس ,
يا شباب ما جاوبتونى على سؤآلى هل يمكن العثور على مؤلفات الأستاذ عبدالحميد البرنس فى معرض الخرطوم الدولى وفى أى جناح إن وجدت ؟
مع التحايا .

Post: #81
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-21-2019, 08:53 AM
Parent: #80

الأخ العزيز قلقو: أجدني في غاية الأسف هنا لتقصير غير متعمد. ربما لأنني نفسي لا امتلك إجابة واضحة بالخصوص. لكن يمكن الإشارة مع ذلك إلى جناح دار شرقيات، دار ميريت، الهيئة العامة لقصور الثقافة/ القاهرة، والهيئة المصرية العامة للكتاب. أضف إلى ذلك أدعوك شاكرا لزيارة موقع عبد الحميد البرنس، حيث يمكن العثور هناك على نسخ إلكترونية مجانا للكتب التالية: تداعيات في بلاد بعيدة، ملف داخل كومبيوتر محمول، مشاهد من رحلة يوسف الأخيرة.

Post: #82
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-21-2019, 09:07 AM
Parent: #81

رابط موقع عبدالحميد البرنس:

https://www.google.com/url؟q=http://www.xn--mgbaaadacl4asc0a0a5ee2ltarideo2a1a9d.com/andsa=Uandved=0ahUKEwjJy-So8qzlAhVpJzQIHWQzAkEQFggUMAAandusg=...emXDMDFJDcZerIShXT1z

Post: #83
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: قلقو
Date: 10-21-2019, 09:08 AM
Parent: #81

شكرا يا أستاذ عبدالحميد على الأفادة وإن شاء الله سوف اتحقق بنفسى عن وجود تلك الأصدارات بالمعرض ووسوف اجند اصدقائى من عشاق الكتب لنفس الغرض وسوف افيدك إن شاء الله .نحن يا أستاذ عبدالحميد لو ما مسكنا الكتاب وشمينا ريحة حبر المطبعة ما بنتكيف , لكن هذا لا يمنع من المرور على موقعك الألكترونى للتصفح (ملح) على كتاباتك .مع التحايا وارجو لك النجاح والتوفيق .

Post: #84
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-24-2019, 06:09 PM
Parent: #83

أشكرك مجددا قلقو أخي. وشكرا بدءا وآخر للعزيز المشاء على نافذة رحبة. وأشكركم ثانية جميعا.

Post: #85
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-25-2019, 03:07 AM
Parent: #84

شكراً البرنس على الإجابات الممتعة والمفيدة .

سؤالي الأخير هو عن "ثورة ديسمبر " أو "انتفاضة ديسمبر"...

ليس لدي سؤال محدد بشأنها..

لك كامل الحرية في الحديث عنها من خلال أي بعد\ أبعاد تراها..

Post: #86
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-25-2019, 04:59 AM
Parent: #85

إلى حين عودة لتساؤلات المشاء الأخيرة التي صادف أن قمت بطرحها مجددا على نفسي قبيل أن يقوم هو بكتابتها هنا!، أضع تاليا جزءا مقتطعا من أحد فصول رواية السادة الرئيس القرد:



ذهب رأس آخر من سلالة "السادة الرئيس".

قيل لنا إنّه مضى "ربما" نتيجة ثورة شعبية.

قد قيل كذلك إنّه رحل بسبب موتة طبيعية.

النّاس سمعتْ نعي الراديو له على طريقة أنّه صار مطلقا متحررا أخيرا من ضيق الجسد إلى الحلول في "رحاب العالم المترامي". الراديو نفسه عاد نافيا أن يكون له أي دور "هنا".

لا أحد باختصار يمتلك الحقيقة كما "بدا"!!

حتى المظاهرات، عمل وحدات مكافحة الشغب، كل ذلك وغيره، من المحتمل جدا أن يكون محض عناصر دراميّة أعدها جهاز الأمن كعادته بدقة للإيهام لسبب ما أن غياب السادة الرئيس تمّ وفق "إرادة شعبية". لكن المؤكد أن السادة الرئيس غادر عالم الأحياء نهائيا، ولم يُتح له في ظروف ميتته الغامضة تلك أن يجني ثمار ما أشيع على نطاق واسع أن جهاز أمن الدولة تحصّل أخيرا على آلة من مميزاتها قراءة الأفكار السريّة المرتسمة على الدماغ في شكل "حنق". لقد بدأ الأسوأ في تلك الأيام، لا في "ارتكاب معصيّة المعارضة سرا، بل في أن تكتشف تلك الآلة جرثومة المعارضة هناك، في "داخلك".

"هل انتحر السادة الرئيس أم نُحر"؟

كان يكفي تماما وعلى وجه الخصوص في حالات الغياب التامّ للحظّ "اللئيم" أن يمر مثل ذلك السؤال على ذهنك كي يُرمى بك في أحد السجون المنتشرة انتشار "دور العبادة".

لما يذهب السادة الرئيس، لشرطه الإنساني أو قسرا إلى اللحد، يذهب معه الكثير، مما قد بدا، في أيام سطوته وعزته ومجده، بمثابة ثابت كوني راسخ، لا يقربه حتى هذا الشرط الإنساني المدعو "العدم". ذلك بالضبط ما قد أخذ يترسخ من واقع الخبرة بين القلّة المعتبرة أن السادة الرئيس "الثابت المتغير" لم يكن يوما ما سوى احدى صور "السلطة الخالدة"، التي لغرورها لا تعبأ في العمق حتى بما ستكون عليه صورتها هذه أو صورتها تلك في الخارج طالما هي ظلّت باقية هناك عصيّة على عامل الفناء وتعرية الزمن.

السلطة غالبا ما تبدو مثل كائن مهيمن لا يمكن لمسه، إلا أنّه يتمّ توصيفها أحيانا، كعجوز وُلِدَت مع ظهور كلمة "الملكية" في العالم مقترنة مع ضمير "الأنا"، "لا قلب لها"، وما يدعى "السادة الرئيس"، ليس في بعض استخداماته سوى إيهام أنّها ليست خالدة "كما يُشاع". باختصار ما يبقي الناس عبيدا طلقاء للسلطة ليس وفرة الماء والطعام بل الوهم بإمكانية غيابها واستبدالها بما يعتقدون أنّه الأكثر تمثيلا لمصالحهم الخاصّة.

لما ذهب السادة الرئيس، بدا الأمر بالنسبة لأولئك الذين وطنوا أنفسهم ربما منذ الميلاد على العيش في ظلّ الكارثة، كحدث لا يدعو حقّا سوى للحزن أو الحيرة أو ربما ولا بد للقلق، وربما كل ذلك. فإذا لم يكن بالوسع هناك، حتى الإحاطة بتقلبات ما هو "قائم"، وألفت الناس طرق عمله، فكيف يمكن إذن الإحاطة بما قد لا يزال غائبا "في رحم المجهول"؟

أما أولئك الذين تيقنوا أنّ العالم بعد موت السادة الرئيس صانع البهجة لم يعد في حاجة إلى ضحكة أخرى زائفة، فقد تمّنوا على الله بشيء من الفرح ألا يُكتب عليهم الادعاء في أي عهد قادم بممارسة ذلك النوع الذي لا يحتمل من النفاق، كالزعم برؤية النجوم وضح النهار.

كان ذلك، وغيره، مما أطلّ برأسه بعد ذهاب السادة الرئيس صانع البهجة. لقد ظلّ يتحرك هكذا هناك، في الخفاء الآمن السعيد، تحديدا في "لا وعيهم"، أي من دون حتى أن يتيقنوا من وجوده في دواخلهم هم أنفسهم. لقد جرت عادة حيواتهم الرتيبة الخانعة المفخخة بالرعب والضياع في أي لحظة، على قناعة، مفادها أنّه لا يعقب ذهاب السادة الرئيس أيا كان، سوى قدوم السادة الرئيس آخر، أشد نكالا أو أعنف بطشا وبأسا منه، أو نحو ذلك بالضبط ما قد حدث، بعد أن تركت السلطة لفرحة الناس الخفيّة بموت السادة الرئيس صانع البهجة واهب السعادة مانح الفرحة أن تغذي الوهم بالتحرر منها قليلا.

إذ جيء بالسادة الرئيس الجمهورية آخر، مختلف تماما، وقد انحدر، هذه المرة، يا للغرابة، من سلالة قرود المانجا، تلك المستوطنة، منذ بدء الخليقة، في غابة الطلح الممتدة غربا، بمحاذاة نهر صالحين ذي المياه الفوّارة العكرة في أيام الفيضان. وسيبقى السادة الرئيس القرد قائما هناك، على سدة الحكم المكين، ناهيا رافضا وآمرا، كما تمّ تداول الأمر سرا، إلى حين تصفية الخلافات القائمة داخل النظام وقتها، ما بين مختلف مراكز القوى، وإن رجح البعض أن تنصيب القرد بوصفه السادة الرئيس الجديد لم يكن بمثابة حاجة عمليّة، بل كان في جوهره استعراضا مجردا تماما للقوة العمياء للسلطة، أو كان للدقة أمرا من قبل أولئك القابعين في الخفاء الماسكين بإحكام ودقة وحزم لا يلين بخيوط السادة الرؤساء الدمى أنفسهم، من قبل أولئك الأقطاب الخالدين، الذين نطلق عليهم كما جرت العادة اسم السلطة، والذين من عادتهم صنع المستحيل، التفريق ما بين الروح والجسد، تحديد نسب ما يدخل إلى الجيوب وما يخرج منها، والذين يدفعون مَن يكتشف أمر وجودهم المراوغ المتخفيّ عصيّ الإمساك الأغلب إلى سؤال الخالق في علياه، عند شفا ذلك الجرف الحاد المنحدر والزلق للجنون، وقد هاله عجزه قبالة مرأى المظالم والدماء المسفوحة على الأرض، عن الحكمة، "يا إلهي"، من وراء كل هذا العناء.

مقارنة بفترة حكم سلفه السادة الرئيس واهب البسمة صانع البهجة وموزّع نكات، كانت فترة حكم السادة الرئيس السابق للسادة الرئيس القرد قصيرة، وهو السادة الرئيس نفسه، الذي أخذ يُعرف، في الذاكرة الجماعية، باسم "السادة الرئيس (العابر)"، إلى درجة أن غندور الجمر غريق أحزانه وأسير عزلته الذاتية في ذلك الفندق قد وجد صعوبة بالغة لاحقا في تذكر ملامح هذا السادة الرئيس، وبالتحديد عند سقوط دولة السادة الرئيس القرد اللاحقة الممتدة نسبيا. الواقع أن غندور الجمر لم يكن يتعاطى في تلك الأيام كمعتزل طوعيا للحياة مع معطيات العالم الحيّ بقدر ما كان يتعاطى مع ذاكرة هذا العالم.

هكذا، وإن افتقر غندور الجمر للحماس اللازم تجاه التغيير الذي تزامن وقتها مع بدء هجرانه لزوجته علوية التركية وطفلها الشيطانيّ، إلا أنّه بدا مستبشرا خيرا، ولنقل على نحو يشوبه غموض، بمقدم السادة الرئيس العابر ذي الملامح الريفية الطيبة، كدعوة والدته حليمة الأنصارية له أيام طفولته بالتوفيق والسداد والبعد، عن دروب أولاد وبنات الحرام.

لقد تولد انطباع غندور ذاك، بعد أن طالع صدفة صورة للسادة الرئيس العابر في صحيفة "الغد المشرق غدا"، وهو يفتتح نهر العسل المكتشف إذ ذاك حديثا ناحية سواكن. كانت الصحيفة مفرودة، على المكتب، بين يدي موظف الاستقبال. وكانت غريزة التاجر قد بدأت تجتذبه للحياة مجددا، عند زوال حكم السادة الرئيس صانع البهجة، عندما أخذ غندور في مقاومتها هكذا، باستعادة صورة ما لم يكن قائما بعد، قائلا في نفسه "هذا الرئيس بملامحه الطيبة لن يمكث لرعايتنا طويلا". إن غندور، الذي ظلّ يشعر بمرارة أنّ حبّ علوية التركية غدر به، كان في حاجة ماسّة، إلى أن يكثر من عدد ضحايا العالم حتى يتخلص من تفاقم سيل مشاعر العزلة داخله كما تتفاقم خلايا السرطان.

أشياء غريبة أخذت تحدث تلك الأيام.

لو أن حسين الضاحك كان لا يزال حيّا وقتها لظنّ بين ساقيّ حبشية "مستخدمة" أن "عناية السلطة المبجلة" أُصيبت لا ريب بالخبل ولم يعد نظام الأشياء فجأة على ما كان عليه.

مثلا، شهدت بداية فترة حكم السادة الرئيس العابر، تلك السجالات، التي استهدفت "حسب دوائر أجنبية مطّلعة" ذلك النفر من صانعي المشاكل من العامة ممن فهموا في الأيام الأولى لثورة الموت الطبيعي تلك على حكم السادة الرئيس موزع النكات واهب السعادة أن الحرية هي أن تفعل أنت حرفيا ما قد تراه مناسبا. "لا سقف (حسب قول الراديو مرة) قد يحدك هنا على مستوى التعبير والفعل سوى سقف نفسك". كأن تقف أنت نفسك عاريا قريبا من القصر الجمهوري وتوجه السباب بحنجرة مومس مسّها الأغلب جنّ نبي الله سليمان إلى عناية أي رئيس أمريكي. "لا تسريب عليكم، البتة". أو ترى كذلك أنت "يا هذا المواطن البسيط" نفسك بضرورة أن يستضيف السادة الرئيس الجمهورية سيما في الأعياد الرسمية وغيرها وأيام الجمعة المباركة المئات من أفراد الشعب، ممن يواجهون عسرا في الحصول على طعام، على مائدة الغداء الخاصة "بسيادته".

كان من المتعذر تماما احتواء مثل تلك السجالات، ليس لأن ثورة الموت الطبيعي على السادة الرئيس صانع البهجة لا تزال طازجة، والحماس للتغيير في عنفوانه، لا يزال بدوره هناك، فحسب، بل لأن غرض تلك السجالات كان تهيئة الأرض لتقبل ما قد قامت بلفظه من قبل حتى في أخيلة الشعب لا الواقع، إذا كان لا بد لها ثانية من أن تظلّ دائرة!!

لقد أخذت تتكشف تلك السجالات، في الأول والأخير، لا بوصفها "محض ردود أفعال عفويّة على واقع الكبت التاريخيّ"، بل عن "مجموعة تدبيرات خبيثة من عمل السلطة نفسها"، ذلك المستثمر الرئيس، في الموت الطبيعي، أو الغياب التامّ للسادة الرئيس صانع البهجة، بتحويله ربما عن طريق الإيهام إلى ما قد يبدو بالفعل ثورة "شعبية حقيقية". كذلك لم تكن السجالات في جوهرها سوى أشكال تمّ منحها للشعب "لإحداثِ قدر من التنفيس الجماعي عن قهر مزمن". لقد أريد لمثل تلك الهتافات الثائرة في الشوارع أن تبدو عفوية. إلا أن السجالات تتجاوز كونها أدوات تنفيس، لتفريغ ما رسخ من مرارات طوال فترة حكم السادة الرئيس صانع البهجة واهب النكتة مطلق الضحكة، كي تغدو كذلك مثل فخ محكم، لاستدراج خلايا المعارضة النائمة كي تتحرك مع مد موج ثوري أُوحي به، فيتمّ التعرف عليها ووأدها بالرحمة المعطاة نفسها لحذاء زاحفة نحو نملة.

Post: #87
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-25-2019, 06:31 AM
Parent: #86

ويا برنس معليش ، ما تنسانا من صالح الاجابات على الأسئلة أو السؤال التالي:

كيف تختار عناوينك؟

وهل يأتي النص بعنوانه؟

أم تختار العنوان بعد الانتهاء من النص؟

هل تجد صعوبة في اختيار عناوين نصوصك؟؟

هل تستشير آخرين بخصوص العنوان إنْ كنت مثلاً مترددا بين عنوانين أو أكثر؟؟

وبشكل عام :

ماهو الدور الذي يلعبه الآخرون-إنْ وُجدوا- في حياة نصوص البرنس؟؟

Post: #88
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-25-2019, 06:28 PM
Parent: #87

عزيزي المشاء:
كان البشير، في آخر أيامه على مسرح السياسة كرئيس "يعرض" على إيقاع راقص، وهناك في الخلفية تصعد معانقة فرحة الأرض والسماء معا، زغاريدُ "أخوات نسيبة". وعادة ما يفعل البشير ذلك بعد أن يتحدى خصومه السياسيين، قائلا: "من أراد أن يأخذ الحكم مننا فليأتِ على دمائنا"، أو ما إلى ذلك. لعل البشير هنا لا يشير فحسب إلى ما بات يعرف أخيرا بمصطلح "الدولة العميقة"، بل كذلك إلى إنجازه غير المسبوق في أولا تفكيك قومية الجيش والقضاء عليه تماما خلال العقود الثلاثة لحكمه كأحد وسائل التغيير السياسي الحاسمة، ومن ثم استبداله بمليشيات أتباعه العقائديين ومرتزقة الجنجويد، الذين يعودون بأصولهم إلى قبائل من جنوب ليبيا وتشاد والكاميرون وغرب السودان والكونغو وبقايا بوكو حرام، والذين راكموا بعد تحالفهم مع البشير قوة نوعية في فترة وجيزة لا بل جدُّ وجيزة نتيجة لتلك العلاقات مع أمريكا والإتحاد الأوروبي وحلفائهما الإقليميين على جبهتي اليمن وليبيا وتشاد ذات الاحتياط البترولي الضخم، وثانيا ربما يشير البشير وقتها إلى تحالفه غير المعلن مع أمريكا على مستوى تنفيذ أجندتها، سواء بفصل الجنوب أو حتى التمهيد لفصل الغرب عبر تلك السلسلة من المجازر غير المسبوقة، على الرغم من الغطاء الذي يسم علاقته مع أمريكا على السطح كعلاقة عدائية قائمة على "الحظر وفرض العقوبات الأخرى"، وهو الأمر الذي وإن ميز سياسة أمريكا الخارجية القائمة على مفهوم المصلحة وما يرتبط به من مفاهيم أخرى مثل المعايير المزدوجة ، أو Double standards، إلا أنه كان في البدء لحداثة التجربة العملية غريبا على عقلية العقائديين الإسلاميين، وهو ما قد صرّح به أواخر التسعينيات وزير خارجية النظام حسين أبو صالح، ممتعضا مما تقوم به أمريكا مع النظام في الخفاء وتعلنه على النقيض عن النظام نفسه في العلن!

تزامن تصريح حسين أبو صالح وقتها، مع بدء تنشيط تلك التحركات الأمريكية في المنطقة تحت شعار بدا وقتها خافتا إن جاز التعبير، وأعني هنا "الفوضى الخلّاقة"، وعلى طريقة "برز الثعلب يوما في ثياب الواعظينا"، نعلم جيدا كيف أخذت ما يعرف بمنظمات حقوق الإنسان ومسميات المجتمع المدني الأخرى تنتشر بدعم ومباركة أمريكا الماكرة في المنطقة، حيث تلقفها بحسن نيّة الأغلب الكثير من نشطاء السياسة، من بين أولئك الثوريين المتقاعدين عن أحزابهم القديمة على الأخص، فضلا عن أولئك الجوعى الراغبين في العمل العام خارج الأطر الحزبية والسياسية التقليدية، عوضا عن المتضررين التاريخيين من بطش كل ذلك الزحام من الهلتريين الصغار أصحاب النياشين والأمجاد الزائفة. وهو إن كشف عن شيء في السياق، فهو بالتأكيد "غير العمالة"، بل عن دور العامل الخارجي الخطير في التأثير على مجريات الشأن المحلي، خلال ما يتجاوز المائتي عاما. إلا أن الفوضى الخلاقة اتخذت بعدا تدميريا في كل من العراق وليبيا وسوريا، تلك الدول البترولية التي أعلنت في تحد سافر عن تنصلها عن محور "البترو- دولار"، فالدولار الأمريكي بعد رفع غطاء الذهب عنه رسميا عام 1973 ليس سوى ورق تسنده فروض هنري كسينجر التي تحتم على أن يباع بترول العالم بذلك الدولار وحده.

على ضوء هذه الخلفية، وتبدل علاقات القوى التاريخي بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وظهور مصطلحات نوعية على السطح، مثل مصطلح "نهاية التاريخ"، وتحول العالم برمته إلى سوق مفتوحة لتعاظم تأثيرات العولمة؛ بدأت أقتنع أكثر فأكثر بموت الفعل السياسي المحلي في صورته التقليدية، وعدم قدرته على إحداث الفارق، أو التقاط الخيط الدال على حركة الواقع التاريخي المتحوّل، وإن بدا مثل هذا الفعل نشطا على مستوى اجتماعات حزبية مثلا أو اصدار بيانات شجب وإدانة مثلا آخر وما إلى ذلك، فهي حركة تقترب ربما مما وصفه لويس ألتوسير وقتها بمثل تلك الاستعارة اللاذعة "كالبط، يحاول الركض حتى بعد قطع رأسه"، مما يحتم لا "التسليم"، بل البحث عن وسائل أخرى من أجل حياة أكثر إنسانية أو قابلية للعيش الكريم وحرية!

باختصار، كان أكثر ما يميز ثورتنا يتمثل في حقيقة أن الشارع أكثر قوة مع كل ما قد تقدم هنا من أمريكا وحلفائها التقليديين في المنطقة وقاطعي الطرق الذين نشروا ملابسهم في القصر الجمهوريّ لتجف وأطلقوا ماشيتهم على عشب جامعة الخرطوم لترعى وهو الأغلب ما لم يدركه تجمع المهنيين وما فات على القوى السياسية التقليدية أن الشارع الثائر لم يكن في حاجة إلى قائد بل "ملهم" وأن تراكم ذرة الانفعال العام التفريط بها قد يستلزم لاستعادتها ثانية عقود أخرى من القهر والترويع وهو ما تدركه قوى الظلام المتجذرة عبر ما تقوم به من ((جرجرة))!

عموما أعتذر من الخرمجة ذلك أنني لست بالكفاءة اللازمة للحديث عن السياسة عند مستواها المباشر وما قلته للتو ربما يكون تداعيات سياسية مروية على لسان شخصية روائية ما!

Post: #89
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-26-2019, 06:34 PM
Parent: #88

عزيزي المشاء:

العنوان مهم. بل بالغ الأهمية. إذ يشكل عتبة دالة للدخول إلى فضاء النصّ. وكان مما تعلمت من التقاليد الثقافيّة في مصر والعالم من خلال الندوات والصالونات المنعقدة أسبوعيا والكتب والورش وغير ذلك أهمية العقل الجماعي على مستوى قراءة النصوص ومراجعتها وأهميتها وقباس مدى قوتها قبل الدفع بها إلى النشر.

على ذلك النحو، ساهمت كثيرا في نقد نصوص الآخرين، كما قد ساهموا في المقابل، بقدر أو آخر، في نقد نصوصي ومراجعتها، سواء على مستوى العناوين، أو على مستوى المشاهد والأبنية الداخليّة للنص، أو على مستوى التدقيق اللغوي، كأن يشير إليك أحدهم باستبدال عبارة "ينفق ليلته"، بعبارة "يمضي ليلته"، أو "قمم الجبال البيض"، عوضا عن "قمم الجبال البيضاء"، أو يوصي أحدهم لا بمراجعة بعض أجزاء النصّ، بل حذفها. الحذف تقنية مهمة في سياق العمليّة الإبداعيّة. أو تجنب كارثة رسم شخصيّة ما في سياق سردي تستند على فراغ. وعلى أيام دوستويفسكي، لم يدع النبيذ نفسه قائما على فراغ. إنّه يعمل على تجذيره في الذاكرة والتاريخ. لون النبيذ وانعكاسات الوقت عليه والمنضدة التي تحمله ومن أين جيء به وشكل الأكواب ومذاقه ورائحته.

أذكر في السياق أن الروائي والمبدع المصريّ الجاد سعد القرش رئيس تحرير مجلة الهلال وسلسلة روايات الهلال فتح معي نافذة للحوار لمراجعة رواية لي أعجب بها هو على نحو لم يخطر على مدار توقعاتي قبل الدفع بها للنشر، وأعني هنا تلك المسودة التي حملت عنوان (زائر يطرق باب الداية مرتين). في الأثناء، اقترح هو تعديل اسم العمل إلى "حديقة الإنسان"، أو "السادة الرئيس القرد"، وكلاهما وردا في سياق ما من متن المسودة، وبما أن حديقة الإنسان كان يحمل ظلال تأثير قد تجلب للعمل المعد للنشر مسحة تبعية هو براء منها لأعمال جورج أوريل، فقد راق لي المقترح الثاني، ولم يكن في ذهني أو ذهن سعد وقتها أن هذا الاسم قد يتسبب في تدخل الأمن المصري في اللحظة الأخيرة ومصادرة الرواية من المطبعة. ويبدو أن جهات ما هناك، قد أرادت أن تسلبني شرف أن أكون ضحية، حتى لا أجتذب أي نوع من التعاطف، إذ عرض عليّ مجلس إدارة تحرير الهلال الجديد أن يقوموا بنشر العمل، شريطة أن يتم تغيير عنوانه من "السادة الرئيس القرد"، إلى عنوان آخر "ربما عنوان لا يخدش حياء السلطة"، وهو ما قمت برفضه متمسكا بصواب ودقة مقترح رئيس التحرير السابق المبدع سعد القرش، على ما يجر ذلك من كوارث، حتى الآن!

ما أردت قوله هنا، وباختصار شديد، إنني لا أعتبر ما أكتب نصوصا مقدسة، غير قابلة للمساس بها، لكن الأمر قد يتحول إلى ما قد يشبه ذلك، في بعض الحالات.

Post: #90
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-27-2019, 04:07 PM
Parent: #89

شكرا برنس .

هذا بالجد أخر سؤال، لان الاسئلة لن تنتهي ،فهي مثل الثوار ، فلو صمتنا ، فسيُنب الصمت أسئلة جديدة طازجة:

تكلمت عن "الصراع مع أدوات الكتابة"؟؟

هل في مشروعك كتابة رواية تجريبية؟؟

وبمعنى آخر ما رأيك في "التجريب"؟؟؟

Post: #91
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-27-2019, 07:06 PM
Parent: #90

عزيزي المشاء، من دواع سروري مقاربة مثل تلك التساؤلات الحيوية من زاوية نظري الخاصة، مستعينا في آن بآراء الآخرين. عود إلى بدء، خلال تسعينيات القرن الماضي بدا أن الألعاب الشكلانية في الأدب بلغت ذروتها في العالم العربي، خاصة على يد أسماء مثل كمال أبو ديب في النقد وادورد الخراط صاحب مصطلح الكتابة عبر النوعية في السرد ناهيك عن تأثيرات بعض المغاربة الملغزة وغيرها، وهي صرعة سبقنا الغرب إليها على أي حال، كما قد يعكس في السياق كتاب مالكولم برادبوري "الرواية الأمريكية اليوم"، حيث لاحظ ولع الكتاب هناك بعد فوكنر بمسائل التقنية في الكتابة وبنائها المعماري بأكثر من أي شيء آخر. ما قلته للتو، كان من باب الفضفضة، إلا أنني أستعين من باب توسيع المدخل بمولاي مروان العلوي، وهو باحث مغربي في اللسانيات وبلاغة الخطاب، وقد ذكر على نحو دال في دراسته (سؤال التجريب في الرواية العربية: من متهة العنوان إلى متاهة التأويل) ما يلي:

إن الانتقال من الرواية الكلاسيكية، خطية الزمن، ذات البداية والنهاية، المتسم بوحدة المادة الحكائية- إلى رواية تخرق هذه الخصائص - تكسر خطية الزمن، متعددة الأصوات الحكائية والترهينات السردية، مزيج من المواد الحكائية إلى مستوى قد يصل حد التناقض واللانسجام- يجعلنا نسائل الرواية العربية وخطابها ونعيد النظر في التلقي وآليات تأويل الخطاب الروائي المتسم بمظهر من مظاهر التجريب".

الروائي اليمني أحمد زين، رئيس تحرير مجلة الفيصل، لما دفعت إليه بمسودة رواية السادة الرئيس القرد، وكانت تحمل عنوان آخر كما سبقت الإشارة، على سبيل اختبار ما كتبت، كان أن كتب لي أمرا مشابها لما قاله مولاي مروان العلوي أعلاه، وهو ما يلي:

"فكرة الطفل الشيطان. رواية متماسكة، حدث واحد لكن بتنويعات تعكسها الشخصيات، بحسب قربها أو ابتعادها من الطفل. فانتازيا شعبية، يمكن القول على هذه الرواية التي لا تخلو من تهكم على السياسي، بل إن التهكم يأتي في صلب الرواية. رواية تجمع بين الفانتازي والصوفي، لكن في صورة أخرى، والسياسي، كل ذلك تصوغه لغة مشدودة، لا مجال معها للثرثرة. بناء الجملة اللغوية أحد مميزات الرواية، كما أن جمال اللغة نفسها وانتقاء المفردات البعيدة عن الركاكة، يجعل من اللغة شخصية أخرى، لا تقل حيوية عن بقية الشخصيات التي يتفرد كل منها بحياة مختلفة وبرؤية للعالم تزيد الرواية تعقيدا وكثافة. ويأتي التلاعب بالأزمنة ليجعل الرواية تغادر منطقة ضيقة إلى فضاء واسع ومتشابك، ويدفع القارئ إلى التنقل من مستوى إلى آخر، دون شعور بالملل. رواية جميلة بحق".

أما الروائي المصري سعد القرش، رئيس تحرير مجلة الهلال السابق، فلم يخرج كثيرا وهو يكتب على غلاف طبعة الهلال المفترضة عن قول أحمد زين ذاك:

"يصعب تحديد أسلاف لرواية "السادة الرئيس القرد"، ربما تتماس بعض أطيافها مع "خريف البطريرك" لماركيز، و"المسخ" لكافكا، ولكنها عالما ولغة لا تنتمي إلا إلى عبد الحميد البرنس، بابتداعه نسغا فنيا تختفي فيه ملامح الأزمنة، وتذوب فيه المسافات بين الواقعي والغرائبي، الجاد والهزلي، في لغة لا تتخلى عن فتنتها".

بالنسبة لي، عزيزي المشاء، لم يكن كل ذلك واردا على ذهني لحظة الكتابة. كنت فقط أحاول تقريب أو تجسير تلك الفجوة التي أشار إليها ماركيز والقائمة ما بين العمل كتصور وتحقق ذلك التصور عمليا على الورق. ولعل هذه المعاناة ما أشار إليها ماركيز نفسه بأكثر من صيغة لأهميتها البالغة، سواء قوله "الكاتب الجيد يعرف بعدد ما يمزق من أوراق"، أو "أكاد أتفق مع بروست أن 10% موهبة و90% جهد وعرق". وفي الأثناء، لا بد من الاعتراف أنك بغض النظر عن نجاح المسعى بدرجة أو أخرى أو حتى فشله تحاول جهدك كله الإمساك باهتمام قارئ هو هدف لرسائل يومية عديدة ومتنوعة في ظل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال ونشوء تساؤلات ظهرت من قبل مع ظهور التلفزيون والسينما عن نهاية الكتابة الإبداعية وما إلى ذلك.

في السياق، لا أسعى بدواع واعية لكتابة نص حداثي، أو تجريبي، أو متجاوز، بيد أنني أعلي كثيرا من مصطلح لوسيان جولدمان (رؤية العالم)، ولعله هو ما شكل الفارق الأساس هنا ما بين نجيب محفوظ وكاتب مثل ثروت أباظة، إذ أن السرد ليس محض قدرة مجردة على التعبير كتابة، بل هو إعادة لتشكيل العالم أو خلقه. الكتابة الإبداعية في جوهرها رؤية نقدية تصاغ بعقل حر لا تنقصه الجرأة وذلك القدر من التراكم على صعيدي المعرفة والخبرة الحياتية.

عود إلى بدء، من شأن الولع بالألعاب الشكلية أن يجعلنا نراوح على سطح الكتابة لا عمقها. مثلا، على مستوى الظاهر، قد ترى في كتابات روائيين معتمدين كبار الكثير مما قد يعتبره البعض مظاهر تقليدية. لكنك لو أخذت ما هو أعمق قد يتكشف لك مثلا ما يسمى (الراوي العليم) كما في مائة عام من العزلة ليس سوى تواطؤ أننا نطالع العالم من خلال تجربة وخيال ومعارف مؤلف هو الذي يقوم بصياغة كل هذا، يدخل إلى غرف النوم المظلمة، يتتبع خطى تائه وحيد ما في الصحراء، وما إلى ذلك، عوضا عن أن استخدام الراوي العليم قد يدل بصورة أخرى على طابع نقلي سائد للمعرفة ومدى قوة الشائعة في مجتمع ما، إذ لا تتبنى العقلية السائدة هنا ما وصل إليها سماعيا فحسب دون وصف بل تسعى إلى ترسيخه بأشياء من إضافة أو حذف حسب الظرف. ما يتبقى من كتابة ما في الأخير حسب تصوري هو مدى ما تتركه في داخلنا لا من تفاصيل بل تأثير يبدو معه العالم على غير ما كان عليه قبل القراءة.


Post: #92
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-29-2019, 03:40 PM
Parent: #91

شكرا برنس على الاجابات الموحية حقا بأسئلة جديدة.

سأحاول بعد موافقتك طبعاً تنسيق الحوار ، ونشره بشكل منفصل لاحقا ربما في صفحتي في الحوار المتمدن والفيسبوك...

كلمة أخيرة بابرنس؟؟؟؟

Post: #93
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 10-29-2019, 10:15 PM
Parent: #92

يشرفني تماماً أن يتم تحرير هذا الحوار ونشره في مكان ما على يد شاعر كبير عن حق مثل أسامة الخواص. وقد اسعدني الحضور إلى هنا بعد مرور أعوام. وقد تبقت تلك الكلمة بالفعل، الكلمة الأخيرة، على ثلاثة محاور، وهي: على الصعيد الخاص، أستطيع القول إنني حيال تعقد تجارب الحياة ومنعطفاتها الأكثر مرارة قد تجنبت لبعض الوقت تلك الطرق المؤدية إلى المحبة ولم تنتهي بي تلك الطرق البديلة سوى إلى رحاب المحبة. ذلك أن ذرة الكراهية في ميزان القلب أثقل من جبال المحبة. وما الحرية سوى المرور عبر النفق المظلم أحيانا دون أن نفقد تلك السمات الإنسانية القائمة على التسامح والتجاوز الإيجابي والحق في فرص أخرى للعيش في سلام. ثانياً وهذا على صعيد العام أقول إن الحقيقة التي لا يمكن تجنب مواجهتها طويلاً أن عمر البشير قضى على الجيش وأسلم البلاد لاحتلال المرتزقة. ثالثاً رجاء أن يكون المشهد الثقافي في السودان أكثر فاعلية عبر قيم الحوار العقلاني والنقد الموضوعي وإقامة الجسور. أشكرك.

Post: #94
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 10-31-2019, 00:42 AM
Parent: #93

Quote: رجاء أن يكون المشهد الثقافي في السودان أكثر فاعلية عبر قيم الحوار العقلاني والنقد الموضوعي وإقامة الجسور.

وكذلك المشهد الحواري في "المنبر العام".

شكرا برنس:

لقد أضفتْ لمساتك المدهشة على "المنبر العام" رونقاً ذا نكهة فريدة.

Post: #95
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: osama elkhawad
Date: 01-19-2020, 02:12 AM
Parent: #94

ما لي ارى البرنس غير حاضر ؟

هل بدا غيابه الدوري لسنوات قادمات كعادته الوحيدة التي لا نحبها؟

Post: #96
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: Osman Musa
Date: 01-19-2020, 08:00 AM
Parent: #95


منتظرنك يا برنس في الدانقة الرحيبة علي شاطي
النيل الابيض .
منتظرنك في دانقة الحاجة المصرية في خزان الجبل .
تعال يا زول .

Post: #97
Title: Re: عبدالحميد البرنس: غرفة التقدمي الأخير
Author: ابو جهينة
Date: 01-20-2020, 03:03 AM
Parent: #96

تحياتي اخي اسامة

متعة هي السباحة في بحور البرنس عبر اشرعة قلمكم الذي استطاع ان ينبش كل هذا الزخم من معين البرنس

اما بعد
هنا توقفت طويلا في رحاب كلمت البرنس

***


الحنين إلى عالم أكثر إنسانية، سواء اتخذ صيغة الرجوع إلى الماضي أو التطلع نحو المستقبل، شكل على الدوام نقطة انطلاق مهمة في عمل كل كاتب جاد، وحتى هنا، قد أفهم قول ميلان كونديرا "إنني في غاية السعادة هنا (فرنسا)" من باب أنه وجد وطنا في الكتابة أو ما قد توفره له فرنسا من ظروف ملائمة لكتابة لا سقف لها. وفي تصوري أن غالبية أعمال كونديرا تكشف أنه من أكثر أولئك المرضى بالحنين تعبيرا عن الحنين. خذ مثلا رائعته (خفة الكائن التي لا تحتمل)، وقد أجرى على لسان توماس أو شخصية أخرى ما يلي: "مَن يعش في الغربة يمشي فوق فضاء خاوٍّ مجردا من شبكة الرعاية الاجتماعية التي تحيط به. كل كائنٍ بشريّ بلاده الأمّ، حيث تُوجد عائلته وأصدقاؤه، وحيث يستطيع أن يتحدث باللغة التي تعلمها في الصغر من دون أي مشقة".

الحنين عموما يجتاح أعمق أعماق هذا الكائن البشريّ، سواء أكان كاتبا أو غير كاتب، لا لشيء سوى لوعيه في الصميم بحتمية زواله، ولسعيه اليائس للقبض دون جدوى على جوهر حياته المتفلت أثناء عبوره السريع، من خلال هذا العالم، وذلك قول كونديرا نفسه "هذا الفخ الذي يسمّى العالم"!

***

دمتم