سماء القرية 00نص قصصي

سماء القرية
● أسراب القطا:
لاح ضوء الفجر، ثم أشرق الصباح بنوره الوضاح، وارتفعت الشمس تجري في مستقرها 0حينئذ ظهرت في سماء القرية،أسراب طيور القطا تترنم بإيقاع أصواتها المميزة ، وكانت بين الفينة والأخرى ، تردد اسمها قائلة :
ـ(( قطا قطا ، قطا قطا ، قطا قطا)) 0
كاسرة بنغماتها المموسقة ، حاجز الصمت الذي خيم فوق سماء القرية منذ مجيء الليل 0كانت أسراب القطا في رحلتها اليومية تلك، قادمة من أعماق الصحراء ، وكعادتها جاءت متخذة مسارها فوق بيوت القرية ، عابرة من الشرق إلى الغرب ، متجهة صوب نهر النيل ، حيث اتخذت لها (مدامة) في تلك الأرض السباخ الواقعة بين الغيط والقرية0
● نساء القرية:
في تلك اللحظات ، كان الضحى قد أكمل فرش بساط ظله خلف جدران البيوت 0 وبسرعـة انتهزت نساء القرية الفرصة ، وفـرشن البروش على الأرض في ظل الضحى الممدود ، ثم شرعن في اعداد العدّة لتجهيز الجَبَنة ،وذلك بعدأن فرغن من عُواسَةالكِسْْْْْرة وملأن بها الُطباقة0 ثم حبسن دجاجهن في الأقفاص حتى لا يعكر عليهن صفا لحظات القهوة 0أو في الحقيقة لكيلا يلطخ عليهن البِروش بـفضلاته ذات الرائحة العفـنة 0
وبعد برهة قصيرة ،انطلقت رائحة البن المقلي تعطر كافة أرجاء القرية0 حينئذ أقبل نحوهن الحبوبات الكبار السن، وكن بخطواتهن المتئدة ، وظهورهن المحنوءة المحدبة، يمشيـن على مهلهن,متوكئات على عصيّهن،وبحضورهن أكتمل ركب الجبنة 0
في الحال دارت بينهن فناجين القهوة , وشربنها حسب أصولها(بكْري) ثم(تني )،ثم ( تِلْتَاوي ) 0وسرعان ما بلغن ذروة الكيف، وتفـتحت بـينهن أبواب أسرار الأحاديث ، وعلا اللغط ،وأصوات الضحكات والقهقهة، وشبعن ثرثرة، ثم اختتمن الجبنة بشرب فنجان البَركة0
عندئذ انفضّ سامر القهوة, وانصرفت الحبوبات الكبار السن إلى عناقريبهن حامدات، شاكرات، للجبنة متكيفات0 وطفقن يجتررن الذكريات، وما مضى وفات، وتارة أخرى يتحسرن على أزواجهن الّذين صاروا أكوام تراب 0أما النساء الأخريات , فقد أوين إلى ثكنات التُكل, وشرعن يدبرن شئون بيوتهن بكل جدّ ونشاط 0وذلك بعد أن فتحن حظائر الدجاج على مصراعيها , حين شاهدن الديك المهتاج ، يقود حملة احتجاج وسط صفوف الدجاج 0 حيث ملّ الانتظار خلال فترة الحبس وراء أبواب القفص0
ولما حانت ساعة الإفراج ، وتم بالفعل إطلاق سراح الدجاج ،انطلق الدجاج فرحا ، تارة ينكش بمنقاره في التراب بحثا عن الحب وفتات الخبز ، وأخرى يعوث بأرجله فسادا في حثالة القهوة ، وبين الفينة والأخرى ، كان يروى ظمأه من بقايا مُواصة عجين الكسرة 0
كانت الدجاجات في مهمة البحث عن الرزق، تجرى هنا وهناك في ساحة الحوش حرة طلقة ، تارة تصفق بجناحيها فرحة ، وأخرى تطلق العنان لصوتها وتكاكي منتشية :
ـ((كاك كاك، كاك كاك ، كاك كاآآآك))0
وتارة أخرى تكتكت منادية صغارها قائلة:
ـ(( كُوت كُوت ، كُتكت كُوووت ، كُوت كُوت ، كُـتكت كُوووت )) 0
وكن خلفهن يصطحبن صغارهن من الكتاكبت ، والفراريج ، والسواسيو0 وكان في مقدمتهن يقدل الديك الكبير الحجم ، مزهوا بتاجه الأحمر، وريشه المنفوش ، وعلى صدره كان يتدلى العُلعُل كربطة العنق0
كان الديك بين تارة وأخرى ، يفرض هيبته على حاشيته ، ويعلن سيطرته على الجمع صائحا بأعلى صوته قائلا :
ـ((كوكو ككوك كووووك)) 0
● رحلة الإياب :
في تلك الأثناء، وحسب التوقيت المحلي للقرية، كان الضحى، قد طوى بساط ظله من خلف جدران البيوت ورحل ، وأقبل النهار باسطا شعاع الشمس 0حينئذ كانت أسراب طيور القطا ولحسن حظها، قد أكملت أيضا إنجاز مهمتها اليومية على أكمل وجه0 حيث ملأت حوصلاتها بالغذاء ، وتزودت لصغارها خير زاد من ماء النهر 0ثم مضت في رحلة الإياب، عابرة فوق بيوت القرية من الغرب إلى الشرق ، متجهة صوب أعماق الصحراء0
●أسراب الحدأة :
بُعيد ذلك بقليل ولسوء الحظ ، ظهرت في سماء القرية أسراب الحدأة الكاسرة ، وكانت بمخالبها الحادة ، ونظرات عيونها الثاقبة ، وسرعة انقضاضها ، قد عززت قدراتها في إتقان فنون الخطف من أعلى الجو بكل مهارة ، ولبثت تارة تحلق في سماء القرية مترصدة لأسراب الدجاج ، وأخرى كانت تقف للسواسيو بالمرصاد 0وخلال فترة وجيزة ، كانت أسراب الحدأة بطلعاتها المنسقة ، قد غطت كافة أجواء القرية وأحكمت عليها السيطرة 0
بغتة حانت ساعة الصفر لبدء هجومها الكاسح ، وهبطت من أعلى الجو مغتنمة الفرصة ، وأخذت تارة تكر خاطفة السواسيو ، وأخرى تفر مقتنصة غنيمتها0 وما بين لحظات الكرّ و الفرّ تلك ، حينئذ بالضبط تعالت صيحات نساء القهوة في كافة أحياء القرية ، حين شاهدن أسراب الحدأة تكرّ و تفرّ ، ومن تحت أقدامها كان يتطاير في الهواء ريش الكتاكيت والسواسيو0
عندئذ وعلى وجه السرعة ، نهرن دجاجهن قائلات :
ـ(( كر، كَرْ، كـَرْكَرْ00كَرْرررر))0
ثم كًشَشْنه أمامهن ،واصطحبنه حتى دخل الحظيرة ، وكانت نظرات عيونهن تبدو أشدّ غيظا على الديك المرعوب0
في الحال، عقب تلك الغارة الجوية المفاجأة ، قمن بإحصاء أعداد الدجاج ، ثم قدرن الخسائر في الأرواح ، وتفقدن الجرحى من الكتاكيت والسواسيو ، ولملمن الريش المتناثر على الأرض ، وحين أمعنّ النظرة تلو النظرة في عيون دجاجهن المنكسرة ، فغرن أفواههن من هول الدهشة ، وصرن يرددن في غيظ وحسرة قائلات :
ـ(( كُرْعلينا يا يُمّا كُرْ ،كُرْعـلينا يا يُمّا كُرْ)) 0
فقد لاحظن أن الفراريج التي لم يصبها سوء من جراء ذلك الهجوم ، قد تساقط كل ريشها فجأة من هول الفجيعة , وصارت ذيولها ممعوطة 0 ومرة أخرى ،أعدن الكرّة تلو الكّرة ، وصوبن أبصارهن كأفواه البنادق إلى أعلى ، وطفقن يحدقن في السماء , وظللن هكذا واقفات طيلة النهار، يراقبن في غيظ وحسرة ، مشهد أسراب الحدأة المحلقة ، وهي تكاد بأجنحتها تحجب ضوء الشمس0
عثمان عوض الكريم

جميل انت عثمان
وجميل القطا
والحله
وربنا يبعد الجوارح
ويحفظنا



لك ودي

الفنان التشكيلي / أحمد العربي
سلاماااااات
شكرا كثيرا على هذا المرور0
وشكرا على هذا التعليق الجميل0
و شكرا لإهتمامكم بما نكتب0
لك كل التقدير0
مع أطيب التمنيات0
أخوك / عثمان عوض0

ابداع عديل يا عثمان
لوحة تشكيلية مرسومة بالكلمات

فقط بحثت عن معنى رمزي يقف خلف القصة الجميلة
هل هو صراع القدر بين الخيروالشر
هل الدجاج اليف لانه كذلك
ام الحدي متوحش لانه كذلك
ام كلنا جئنا لهذا المسرح الكبير الذي يسمى الحياة لنمثل ادوارنا ونرحل...
************
وانا جاي راجع
اجهجهو
لا قاني
هو
سايق العساكر
بالحراب
ضاقت نعالي
من الزعل
من تحتها
اتململ تراب

الصديق
الأديب
عادل أمين
الأمين
سلااااامات 00
شكرا ليك كثير على التوقيع و هذه الإضاءة الجانبية الباهرة الجميلة0
بالتأكيد مبسوط غاية الانبساط لأن تجد كتاباتي من لدن شخصكم الكريم
هذا الحيز ، و هذا الصدى التأويلي الحميم 0
فمثل هذه الاهتمام يحفز المرء على الصبر و المواصلة 0
تقيل كثير شكري و تقديري 0
أخوك / عثمان عوض

وكان في مقدمتهن
يقدل الديك الكبير الحجم ،
مزهوا بتاجه الأحمر، وريشه المنفوش ،
وعلى صدره كان يتدلى العُلعُل كربطة العنق0

إبداع

Quote: ثم حبسن دجاجهن في الأقفاص حتى لا يعكر عليهن صفا لحظات القهوة 0أو في الحقيقة لكيلا يلطخ عليهن البِروش بـفضلاته ذات الرائحة العفـنة 0

نص رائع فعلاً يا عثمان
الله يديك العافية فقد استمتعت بهذا النص كثيراً

وأتحفنا بالمزيد

اقتباس :
((نص رائع فعلاً يا عثمان
الله يديك العافية فقد استمتعت بهذا النص كثيراً

وأتحفنا بالمزيد))0
ـ
الأخ هشام أدم:
لك التحية وكثير السلام يا هشام
و لك الشكر أضعافا مضاعفة0
بالتأكيد شرفتني جدا بهذا التعليق
و بهذا التوقيع الجميل0
سعيد أكثر بالتعرف عليك0
أخوك // عثمان عوض

Noon
لك التحية وعميق الشكر و التقدير0
و كما يقولون خير الكلام ما قل و دل0
هاهي خلاصة تعليقكم المفيد00 الشديد التركيز00 تمنحنا طاقة
إضافية خلاقة 00 للمباصرة 00 و الاصطبار على رهق الكتابة 0
لك أطيب التمنيات 0
أخوك / عثمان عوض

الاخ عثمان

نصك به لقطات لذاكرة فتوغرافية للتفاصيل الصغيرة,,

سعدت جدا بتخيل ما حدث.. ولك الشكر على ارجاعنا الى ذكرى عزيزة

مودتي

أهلا و سهلا بالأخت بيان
يا ألف مرحبا بك0 يا دكتورة 0
بالتأكيد سعدت أكثر للمرور و بهذا التعليق الجميل0
ـ ــ
اقتباس:
((نصك به لقطات لذاكرة فوتوغرافية للتفاصيل الصغيرة,,))
في رأي الشخصي لكي تبدو هذه التفاصيل الصغيرة واضحة جدا، لابد
أن يكون كاتب القصة هو ذلك شخص الذي يحمل ذاكرة تلسكوبية
أو ميكروسكوبيةبل في الحقيقة مثل أشعة أكس السحرية 0
ـــ
اقتباس:
((سعدت جدا بتخيل ما حدث.. ولك الشكر على ارجاعنا الى ذكرى عزيزة))0

بالتأكيد يا أختي بيان كتبت هذه القصة من مخزون ذاكرتي الطفولية،
ذلك الينبوع السرمدي المتدفق بداخلي كالنهر0
لكنني الآن و أنا في طور النضج حينما أنظر إلى مشاهد الحياة الراهنة
و إلى هذا الحاضر بكل تفاصيله ، ومشاهده الحياة اليومية الدقيقة 0
تبدو لي تلك المشاهد الطفولية متجسدةجنب إلى جنب في مشهد كاركاتيري ساخر آخر0

حيث تبدو لي أسراب الحدأة سرب من الطائرات الحربية المدمرة 0
أما الديك المغرور البيقدل(( بتاجة الأحمر)) و(( ريشه المنفوش))
فقد تحول بقدرة قادر إلى ديك بشري مهزوم 0
لذا أقول بتوسيع مدارك الخيال سوف تجدين
أن الحاضر أيضا موجود مع الماضي في هذه القصة 0
لك عميق الشكر0
أخوك / عثمان عوض

الاخ عثمان سلام ..
نقلتنا بهذه التفاصيل الحميمة الى ربوع الوطن ، هذه الحكاية الجميلة لوكنت من ناس الحل والربط في وزارة التربية لأدرجتها في كتاب المطالعة لأبنائنا الصغار ..
بس الكلام دا لازم بعد موسم حمى الطيور .زتسلم

يا ألف مرحبا بك يا أختي الكريمة عائشة بنت فاطنة
بصراحة كدة و ما شاء الله تبارك الله
ذكرتيني بهذه الصورة و البنت الحلوة الأمورة التي تقف خلفك
لعلعها حسب ظني بنتك حفظها الله 0
أقول لقد ذكرتني هذه الأمورة ببنتي(آلاء )
أذكر أنّها لحظة شروعي في كتابة هذه القصة
كانت تقف خلفي تماما بنفس هذه الوقفة 0
علما بأنني لحظة الكتابة لا أسمح لأحد أو لأي كائن كان بتعكير صفو خلوتي
إلا أن بنتي آلاء وهي دون العاشرة من العمر و تدرس في المرحلة الابتدائية
كانت حينما تعرف أنني أكتب عن شيء ما
تتسلل بكل هدوء و تجلس تماما خلفي بدون ضوضاء0

أتذكر أنه لحظة فراغي من كتابة هذه القصة
كانت قد قرأتها في الحال و نبهتني قائلة:
يا أبي أنت هنا كتبت إنو الديك بيقول ((ععع ععع عوووع))
في حين أنو الديك صوته بيقول ((كوك كوك كوووك))0
و حسب ظني أن الجرس الموسيقي لعوعوة الديك
أي الديك وهو يعوعي هو(( ععع ععع عوووع)) 0
و فعلا تحت إلحاح و إصرار بنتي آلا ء قمت بتغيير صوت الديك حسب
الإيقاع الموسيقي لصياح الديك في أذن الأطفال (( كككوك كوووك)) أي حسب ما ورد في هذه القصة0
لذا بنتي آلاء حفظها الله كانت هي القارئ الأول و كذلك الناقد الأول لهذه القصة0
ــ
الشيء الذي دعاني لهذا الكلام الكثير لسرد هذه الحادثة
هو كلامك الجميل يا أختي عائشة حول هذه القصة
وهو لي مصدر تشريف و فخر و غبطة 0
فقد نبهتيني لأمر تربوي هام أسمى كثيرا و أجل
من أن نكتب لمجرد الهواية و التسلية0
لك محبتي وفائق شكري و تقديري0
أخوك // عثمان عوض

ملحوظة:
يا أختي عائشة بنت فاطنة على بال ما كتبت لك الرد غيرتي ليا الصورة
الكانت منشورة 0

سلامات أخي عثمان ..

بخصوص الصورة فعلا غيرتها قبل شوية لانها كبيرة ، وهذه الامورة هي فاطمة بت عالية عوض الكريم - اختي- ، وحاحكي ليها هذه لقصة في أقرب فرصة الاقيها وما أحوجها لمثل هذه القصة التربوية لانها تعيش في المانيا وعربيها جوبا ، ويا ريت لو تطبع مثل هذه القصص وتواصل فيها فما أحوج اطفالنا لهذا الادب الراقي الذي يداعب خيال الاطفال ، وفاطمة في عمر آلا تقريبا (سبعة سنوات ) ربنا أحفظها ليك وقول ليها أذنك موسيقية وكلك أحساس .. في أنتظار سلسلة لربط أبناءنا في المنافي بواقعهم وبيئتهم السودانية .. تسلم ..

بت فاطنة

الاخ عثمان عوض الكريم

سرد رائع وتفاصيل جميلة

التحايا والود

احمد داود

الأخ أحمد داود
سلامااات
شرفتني يا أخي أحمد بهذا المرور0
لك التحية وكثير التقدير 0
لك الشكر الجزبل على القراءة والتعليق المفيد0
أتمنى أن أكون دائما عند حسن ظنك
مع أطيب التمنيات0
أخوك/ عثمان عوض

وصوبن أبصارهن كأفواه البنادق إلى أعلى ، وطفقن يحدقن في السماء , وظللن هكذا واقفات طيلة النهار، يراقبن في غيظ وحسرة ، مشهد أسراب الحدأة المحلقة ، وهي تكاد بأجنحتها تحجب ضوء الشمس0