مجرى النهر ... عكْس التيار : ( بانورما النيلين )

مجرى النهر ... عكْس التيار : ( بانورما النيلين )


04-19-2018, 10:14 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=499&msg=1524172462&rn=0


Post: #1
Title: مجرى النهر ... عكْس التيار : ( بانورما النيلين )
Author: ابو جهينة
Date: 04-19-2018, 10:14 PM

10:14 PM April, 19 2018

سودانيز اون لاين
ابو جهينة-السعودية _ الرياض
مكتبتى
رابط مختصر

طفتْ وردة يانعة من ورود النيل ،، تتباهى بلونها الأخضر اللامع على سطح النهر ،،
طفتْ هاربة من صخب البحيرة و هديرها ،، و رذاذ مياهها يضرب جنباتها فتملأ صفحتها الخضراء بقطرات كبيرة تجعلها تغطس هنا لتطفو هناك ناثرة عنها قطرات الماء فتنزلق من عليها كأوزة مهاجرة تستحم بعد طول عناء الرحلة تنفض عن جناحيها الماء.

دخلتْ أرضا جديدة ،، متوجسة ،، تدور حول نفسها حتى لا يفاجئها خطر داهم.

و ما أن وصلتْ لتخوم البلد الآخر شمالا ،، وقف نفر طوال القامة ،، بلونهم الأبنوسي اللامع ،، يقفون متكئين على رماحهم الطويلة التي يضارعونها طولا يحملقون في هذه الزائرة الجديدة ،،
كانوا يعرفون أنها بداية جديدة لأرض جديدة و أن الوردة أول الغيث تعقبه زخات و زخات. لم يعيروها كثير إهتمام ،، فالنهر فيه متسع للجميع و لها أن تسرح و تمرح فيه طالما أنه لا ضرر منها.

هناك إنقسمتْ الوردة عن طيب خاطر ،، فبقي جزء منها ليسكن هذا الجزء من النهر المبارك ، و إنطلقتْ هي بعد أن رأتْ الترحاب الصامت في بداية رحلتها.
بقيت الوردة المنقسمة ،، تتناسل و تتكاثر و هي لا تدري أنه سيأتي يوم يجبرونها فيه لتفصل شرايينها المتصلة بالماء لتموت غرقا بين أحضان مَن نفحها الروح و الحياة ،، سيقولون أنها تعرقل مسيرة النهر و الحياة فيه ،، هكذا سيقولون لها.

وإنطلقتْ الوردة الأخرى تتهادى توزع بذورها على ضفتى النهر و مستنقعاته ،، تتهادى و هي ترى زنابقها تنمو و تترعرع و تتكاثر في سرعة مذهلة ،، لا ينافسها في السباحة شرقا و غربا أي منافس ،
ففرحتْ التماسيح و أفراس النهر لأنها وجدتْ ما تختبيء تحته لأغراض في نفوسها.
و وجدتْ الشمس متسعا من الوقت لتقوم بتبخير مياه النهر على مهل و روية بين فرجات الورود التي ملأتْ صفحة النهر ،، فصار المطر موسميا ،، و توالدت أنواع جديدة من الذباب تعلمتْ كيف تجعل النوم ممكنا حتى الموت ،،
و غضبتْ إناث البعوض على ذكورها لأن الذكور يتمسكون بالسكنى في المياه الساكنة و البرك الآسنة تاركين النهر الجاري للورود الدخيلة ،، فأقسمتْ أن تملأ البلد بفيح الحمى و أن تعكر صفو الليالي على النائمين في ( الرواكيب ) و ( الحيشان ) إنتقاما من ذكورها.

قال الرب عز و جل في سورة القمر ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر و فجرنا الأرض عيونا فألتقى الماء على أمر قد قدر ).
هذا في أمر الطوفان ،، و لكن أمر الله يكرره بمشيئته وقتما يشاء و حيث يشاء و لمن يشاء .

فالوردة المنتشية بخطواتها الحثيثة شمالا بعد أن نثرتْ بذورها جنوبا و إطمأنتْ بأن ذريتها ستعيش بسلام و في أمان ،، فوجئتْ بالمد الصاخب يأتيها من جهة أخرى ،، كله عنفوان و قوة ،، داكن اللون تشوبه حمرة ،، يخالطه لون الطين ،، يجرف بين طياته الهادرة كتلا من الأخشاب والحيوانات النافقة و أشجارا بكاملها تتقلب في أتون أمواجه التي تأكل ضفتيه بنهم ،، فتتداعى كتل الطين لتزيد النهر غباشا و خصوبة.

و كأن همهمة الصاخب هذا تؤكد أن هؤلاء الذين صحبوا النهر إلى مكان لقاء ذراعه اليسرى ،، تؤكد أنهم مثل نهرهم الذي تبعوه ،، معفًرة وجوههم ،، قوية أجسادهم ،، يتلهفون على ملاقاة قدرهم الموعود في هذه الأرض التي تدندن بلحن التمازج و اللقاء الفريد ،،
نساءهم يشبهن هذا الهادر في الخصوبة و اللون ،، أخذن منه عنفوان المشاعر وصدقها وأرضعنها للأجيال المتلاقحة معها والآتين من شعاب الأرض و فجاجها ،، شعْث غٌبْر ، حفاة الأقدام ،، فكانت ثمرة هذا التلاقح مزيج فريد و كأنه ترياق يصعب تركيبه مرة أخرى مهما تفنن الناس في عناصره و مركَباته.

صخب الأيمن الممزوج بعصارة التاريخ ،، و هدوء الأيسركهدوء حكماء القبيلة ،، يجتمعان كنقيضين ،،
فتتغلب الحكمة الوقورة على العنفوان الهادر عند دلتا الإلتقاء ،، فيرتفع منسوب الترياق بعناصر أخرى ،، بهار و توابل و أعشاب ،، فيكمل النقيضان الرحلة و هما يعتلجان إعتلاج النفس البشرية في مسيرة التكوين الأزلية،،
فأمتلأتْ ضفتى النهر شرقا و غربا بأجيال معتلجة لونا ومزاجا ،، يحمل النهر في جريانه هذه الخلطة فيوزعها على الأخضر واليابس ويسقيها لهم عبر الزرع و الضرع.

تناثرتْ الجبال غربا وتناثرتْ شرقا ،، لتكون بإذن ربها أوتادا لخيمة الأرض الممتدة المترامية الأطراف ،، حتى النهر لم تخلٌ جزره من هذه الأوتاد الموصولة بعروق طبقات منسوب الماء كالشرايين والأوردة في طول البلاد وعرضها .

تهب رياح موسمية جافة مغلفة بموجة ( السَموم ) الحارة تحمل في طياتها بذور ( العٌشَر ) و ( الضريسا ) و ( المسكيت ) و ( الحلفا ) و ( التنوم ) و ( الحرجل ) و ( المحريب ) وتنثرها هنا وهناك في إنتظار هطول الأمطار لتجد البذور طريقها عبر طبقات الرمل والطين و من بين الصخور لتعاود نضوجها وتمتليء بقلاتها ببذور يافعة سرعان ما تتطاير في كل إتجاه بإنتظار الخريف التالي ،، لا تبالي أين فروعها وأين جذوعها وأين جذورها ،، تنطلق لتأخذ الحياة طريقها إلى فلقات حباتها ،، هكذا في دورة محسوبة وموقوتة.

تغرد ( قٌمرية ورقاء ) على غصن شجرة تقع عند سفح جبل شرقي ،،، كانت تنقل خبرا تنافس به الزواجل من الحمام ،، إنها تبشر أسراب الطيور بأن أنهارا قد شق الله لها طريقا وسط البلاد و أن الخير عميم من الحب و النبات ،،
فبدأتْ منذئذ أسراب الطيور في رحلات منتظمة تجوب ضفاف النهر ،، وتعود إلى أوطانها عندما يبدأ الغمام في التجمع ،، و ( يشيل القبلي ) ،، خبر يحسدها عليه الهدهد سليل هدهد سيدنا سليمان ناقل الأخبار.

قايض الرعاة المزارعين بما يحملونه من خيرات جبالهم وأوديتهم وسهولهم ،، و من ثَمً إتجه الرعاة نحو مراعيهم يقودون قطيعا من الأبقار التي تسر الناظرين بألوانها ،، أبقارا لا ذلولة فتثير الأرض ،، و لا تتشابه عليهم فهي موسومة على ( سناكيتها ) منعا للتشابه و الإختلاط والإقتتال ،، ،، أبقارا تحمل الكَل و تطعم الضيف وتحمل متاعهم يوم ظعنهم وتتحمل مشاق حلهم وترحالهم.
وبقيتْ الورود ساكنة ،، في إنتظار مخاض جديد ،، تأمل في رحلة جديدة على مجرى النهر أو عكس التيار.