#ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜﻮﻻ!- هدية للرفاق وانتم الاشجاع والاكثر صلابة منا

#ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜﻮﻻ!- هدية للرفاق وانتم الاشجاع والاكثر صلابة منا


12-21-2016, 01:06 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=490&msg=1482321989&rn=1


Post: #1
Title: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜﻮﻻ!- هدية للرفاق وانتم الاشجاع والاكثر صلابة منا
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-21-2016, 01:06 PM
Parent: #0

12:06 PM December, 21 2016

سودانيز اون لاين
زهير عثمان حمد-السودان الخرطوم
مكتبتى
رابط مختصر


كتبت ﺩﻳﻨﺎ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ

ﻟﻴﺲ ﺿﺮﻭﺭﻳﺎً ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻘﺎﺅﻛﻤﺎ ﺍﻷﻭﻝ ﻓﻲ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ، ﻭﺭﺑﻤﺎ ﻟﻦ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺇﺣﺪﻯ ﺍﻟﺘﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﺍﻟﻌﻤّﺎﻟﻴﺔ، ﻓﻘﺪ ﺗﺠﺪﻳﻨﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻄﺎﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻚِ، ﻳﺘﺤﺪﺙ ﺑﺤﻤﺎﺳﺔ ﻭﻋﺼﺒﻴﺔ ﻣﺒﺎﻟﻎ ﻓﻴﻬﻤﺎ. ﻭﺳﻴﻨﺠﺢ -ﺭﻏﻢ ﺫﻟﻚ- ﻓﻲ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻠﻚِ ﺗﻠﺘﻔﺘﻴﻦ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﺣﻴﻨﻬﺎ ﻟﻦ ﺗﺪﻳﺮﻱ ﻭﺟﻬﻚِ ﻋﻨﻪ ﺃﺑﺪﺍً! ﺳﻴﺤﺒﻚِ ﺭﻏﻢ ﺃﻧﻚِ ﻻ ﺗﻬﺘﻤﻴﻦ ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، ﻭﻟﻢ ﺗﺴﺘﻄﻴﻌﻲ ﺳﺮ ﻏﻀﺒﻪ، ﺣﻴﻦ ﻗﻠﺖِ ﻟﻪ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺮﺃﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺴﻮﺀ، ﻭﺃﻧﻪ ﻻ ﻓﺮﻕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺸﻴﻮﻋﻲ ﻭﺍﻻﺷﺘﺮﺍﻛﻲ، ﻓﻜﻠﻪ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻳﺴﺎﺭ!
ﻭﺣﻴﻦ ﺗﺴﺄﻟﻴﻨﻪ ﻋﻦ ﻧﻈﺮﺓ ﺍﻟﺸﻴﻮﻋﻴﻴﻦ ﻟﻠﻤﺮﺃﺓ، ﺳﻴﺠﻴﺒﻚِ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺛﻮﺭﺓ، ﻭﺳﻴﻄﻠﺐ ﻣﻨﻚِ ﻗﺮﺍﺀﺓ ﺃﺭﻭﻯ ﺻﺎﻟﺢ، ﻓﻼ ﺗﺤﺎﻭﻟﻲ ﺍﺳﺘﻔﺰﺍﺯﻩ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺷﻴﻮﻋﻴﻲ ﺍﻟﺴﺒﻌﻴﻨﺎﺕ! ﺧﻼﻓﻜﻤﺎ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ ﺳﻴﻜﻮﻥ ﺣﻮﻝ ﺍﻟﺮﻓﻴﻖ ﺳﺘﺎﻟﻴﻦ، ﻓﻠﻦ ﺗﺘﺼﺎﻟﺤﻲ ﺃﺑﺪﺃً ﻣﻊ ﺩﻣﻮﻳﺘﻪ، ﻭﺳﻴﺘﻌﻤﺪ ﺇﻏﺎﻇﺘﻚِ ﺑﺈﻇﻬﺎﺭ ﺇﻋﺠﺎﺑﻪ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ ﺑﻪ، ﻟﺬﺍ ﻓﻼ ﺗﻘﻌﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺦ، ﻭﺗﺤﺖ ﺃﻱ ﺿﻐﻂ ﻻ ﺗﺴﺘﻌﻴﻨﻲ ﺑﺘﺮﻭﺗﺴﻜﻲ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻮﺍﺟﻬﺔ، ﻭﻷﻥ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﺤﺐ ﺗﺸﻲ ﺟﻴﻔﺎﺭﺍ، ﻭﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﺃﻳﻘﻮﻧﺔ ﻟﻠﻴﺴﺎﺭ، ﻓﺄﺧﺒﺮﻳﻪ ﺃﻥ ﺟﻴﻔﺎﺭﺍ ﺑﻄﻞ ﻭﻣﻘﺎﺗﻞ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺃﻥ ﻧﺘﺘﺒﻪ ﺳﻴﺮﺗﻪ، ﺇﻻ ﺃﻧﻚِ ﻻ ﺗﺮﻳﻨﻪ ﻭﺳﻴﻤﺎً ﺃﺑﺪﺍً، ﻭﺣﺎﻭﻟﻲ ﺃﻥ ﺗﺘﻘﻨﻲ ﺍﻟﺪﻭﺭ ﻭﺃﻧﺖِ ﺗﻘﻮﻟﻴﻦ" :ﺃﺑﺪﺍً" ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻔﺘﻀﺢ ﺃﻣﺮﻙِ، ﻓﺎﻟﺮﺟﻞ ﻳﻈﻞ ﺭﺟﻼً ﺧﺼﻮﺻﺎً ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺳﺎﻣﺔ! ﺳﻴﺨﺒﺮﻙِ ﻋﻦ ﻧﺠﺎﺡ ﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺍﻟﺸﻴﻮﻋﻴﺔ، ﻭﺳﺘﺨﺒﺮﻳﻨﻪ ﺑﺒﺮﺍﺀﺓ ﺍﻟﺒﺮﺟﻮﺍﺯﻳﺔ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﻋﻦ ﻣﺤﺎﻭﻻﺕ ﻋﺒﺪﺍﻟﻨﺎﺻﺮ، ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺮﻓﺾ ﻛﻞ ﻣﻮﺍﻗﻒ ﺍﻟﺤﻴﺎﺩ، ﻭﻻ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﺤﻠﻮﻝ ﺍﻟﻮﺳﻄﻴﺔ، ﻓﺎﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺩﺍﺋﻤﺎً ﺻﺤﻴﺤﺔ، ﻭﺍﻟﻌﻴﺐ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻖ، ﻭﺣﻴﻦ ﻳﺘﺤﺪﺙ ﻋﻦ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﻋﻠﻴﻚِ ﺍﻥ ﺗﺘﺬﻛﺮﻱ ﺟﻴﺪﺍً ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺳﻢ "ﻣﺎﻭ ﺗﺴﻲ ﺗﻮﻧﻎ." ﻓﻲ ﺍﻷﻭﻗﺎﺕ ﺍﻟﺮﻭﻣﺎﻧﺴﻴﺔ ﺳﻴﻘﺮﺃ ﻟﻚِ ﻭﺭﻗﺔ ﻣﻦ ﻣﻠﻒ ﻗﻀﻴﺔ ﺃﺣﻤﺪ ﻓﺆﺍﺩ ﻧﺠﻢ، ﻭﺳﻴﻌﺪﻙِ ﺑﺮﺣﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺭﻭﺳﻴﺎ، ﺣﻴﺚ ﺗﺸﺎﻫﺪﻭﻥ ﺟﺜﻤﺎﻥ ﻟﻴﻨﻴﻦ، ﻭﺗﻘﺮﺃﻭﻥ ﻟﻪ ﺍﻟﻔﺎﺗﺤﺔ، ﻭﺭﺑﻤﺎ ﻳﺄﺧﺬﻙِ ﻓﻲ ﻧﺰﻫﺔ ﺇﻟﻰ ﺷﻮﺍﺭﻉ ﺫﻛﺮﻳﺎﺗﻪ، ﻓﻬﻨﺎ ﻣﻜﺎﻥ ﺗﺠﻤﻊ ﺍﻟﺘﻈﺎﻫﺮﺍﺕ، ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎﻙ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﻬﺠﻮﻡ، ﻭﺳﻴﺮﺍﺟﻊ ﻣﻌﻚِ -ﻓﻲ ﻛﻞ ﻟﻘﺎﺀ- ﺧﻄﺔ ﻫﺮﻭﺑﻚِ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﻭﺟﻮﺩ ﻛﻤﻴﻦ، ﻭﻟﻦ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺪﻫﺸﺘﻚِ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻄﺮﺡ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ: "ﻫﻢَّ ﻟﺴّﻪ ﺑﻴﻘﺒﻀﻮﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﻴﻮﻋﻴﻴﻦ؟."!
ﺳﻴﻜﻮﻥ ﻏﻴﺮ ﺭﺍﺽٍ ﻋﻦ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ، ﻓﻼ ﺗﺤﺎﻭﻟﻲ ﺇﺛﺎﺭﺗﻪ ﺑﺮﺍﺋﺤﺔ ﻋﻄﺮﻙِ، ﻓﺄﻧﻔﻪ ﻻ ﺗﺴﺘﻘﺒﻞ ﺳﻮﻯ ﺭﺍﺋﺤﺔ ﻗﻨﺎﺑﻞ ﺍﻟﻐﺎﺯ المسيل للدموع ، ﻭﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺩﺭﺟﺔ ﻏﻀﺒﻪ ﺍﺳﺄﻟﻴﻪ -ﺑﺸﻐﻒ- ﻋﻦ ﻛﻮﺭﻳﺎ ﺍﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ، ﺃﻭ ﺍﺟﻌﻠﻴﻪ ﻳﻘﺮﺃ ﻟﻚِ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺏ ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻟﻤﺎﺭﻛﺲ، ﺳﺘﺠﺪﻳﻦ ﻏﻀﺒﻪ ﻗﺪ ﺍﺧﺘﻔﻰ ﻭﺍﻣﺘﻸ ﺑﺎﻟﺤﻤﺎﺳﺔ، ﻭﻗﺪ ﻳﺴﺎﺭﻉ ﺑﻄﻠﺐ ﺍﻟﺰﻭﺍﺝ ﻣﻨﻚِ!
ﺳﻴﺤﺘﻔﻞ ﻣﻌﻚِ ﺑﺬﻛﺮﻯ ﻣﻴﻼﺩ ﺍﻟﺮﻓﻴﻖ ﻟﻴﻨﻴﻦ، ﻭﺳﻴﻌﻠﻦ ﺍﻟﺤﺪﺍﺩ ﻣﻊ ﻭﻓﺎﺓ ﺗﺸﺎﻓﻴﺰ، ﺳﺘﺠﺪﻳﻨﻪ ﻳﺤﺘﻔﻆ ﺑﺼﻮﺭ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺮﻓﻘﺎﺀ، ﻟﺬﺍ ﻓﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﻟﺘﻨﻀﻢ ﺻﻮﺭﺗﻚِ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻫﻲ ﺃﻥ ﺗﻀﻌﻴﻬﺎ ﺑﺠﻮﺍﺭ ﺍﻟﻤﻄﺮﻗﺔ ﻭﺍﻟﻤﻨﺠﻞ!
ﻭﻷﻥ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻳﻤﻴﻞ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺍﻟﻴﺴﺎﺭ، ﻓﺎﻟﺸﻴﻮﻋﻲ ﻻ ﻳﺘﺮﻙ ﻗﻀﻴﺘﻪ ﻭﻳﺤﺎﺭﺏ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻷﺟﻠﻬﺎ، ﻭﻷﻧﻚِ ﻗﻀﻴﺘﻪ ﻓﻠﻦ ﺗﺴﺄﻟﻲ ﻧﻔﺴﻚِ ﻛﺜﻴﺮﺍً؛ ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺃﺣﺐ ﺷﻴﻮﻋﻴﺎً؟

*و كنت حديقتي، و أنا غريب الدّار

أدقّ الباب يا قلبي

على قلبي..

يقوم الباب و الشبّاك و الإسمنت و الأحجار !

رأيتك في خوابي الماء و القمح

محطّمة .رأيتك في مقاهي الليل خادمة

رأيتك في شعاع الدمع و الجرح.

و أنت الرئة الأخرى بصدري ..

أنت أنت الصوت في شفتي ..

و أنت الماء، أنت النار!

رأيتك عند باب الكهف.. عند الدار

معلّقة على حبل الغسيل ثياب أيتامك

رأيتك في المواقد.. في الشوارع..

في الزرائب.. في دم الشمس

رأيتك في أغاني اليتم و البؤس !

رأيتك ملء ملح البحر و الرمل

و كنت جميلة كالأرض.. كالأطفال.. كالفلّ

و أقسم:

من رموش العين سوف أخيط منديلا

و أنقش فوقه لعينيك

و إسما حين أسقيه فؤادا ذاب ترتيلا ..

يمدّ عرائش الأيك ..

سأكتب جملة أغلى من الشهداء و القبّل:

"فلسطينية كانت.. و لم تزل!"

فتحت الباب و الشباك في ليل الأعاصير

على قمر تصلّب في ليالينا

وقلت لليلتي: دوري!

وراء الليل و السور..

فلي وعد مع الكلمات و النور..

و أنت حديقتي العذراء..

ما دامت أغانينا

سيوفا حين نشرعها

و أنت وفية كالقمح ..

ما دامت أغانينا

سمادا حين نزرعها

و أنت كنخلة في البال،

ما انكسرت لعاصفة و حطّاب

وما جزّت ضفائرها

وحوش البيد و الغاب..

و لكني أنا المنفيّ خلف السور و الباب

خذني تحت عينيك

خذيني، أينما كنت

خذيني ،كيفما كنت

أردّ إلي لون الوجه و البدن

وضوء القلب و العين

و ملح الخبز و اللحن

و طعم الأرض و الوطن!

خذيني تحت عينيك

خذيني لوحة زيتّية في كوخ حسرات

خذيني آية من سفر مأساتي

خذيني لعبة.. حجرا من البيت

ليذكر جيلنا الآتي
*من نص لمحمود دوريش


Post: #2
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-22-2016, 11:16 AM

الشيوعي ليس رمادياً -مقال حسن خليل

إن “الرمادية” لا تصلح إلّا في عملية “مزج” بين لونين، أو لنقل، إنّ مسببها هو وجود آخرين متناقضين في الشكل والمضمون، وبذلك تصبح عملية الخلط بينهما “إسقاطية” لواقع يُراد منه تبرير أو خلق مساحة من “اللا-موقف” في مجمل ما يطرح من قضايا.
– إن النقاش في الأزمة الحزبية، أو ما يرتبط منها بواقع وموقع وعلّة وجود الحزب الشيوعي في لبنان، من قبل أصحاب الحزب أنفسهم، أي أعضاؤه، يتّسم، في الكثير من الأحيان، بالارتجال أو لنقل “بردّات” الفعل على فعل أو افتراضه أو لمجرد تأكيد وجود “رأي”. لن أكون هنا في معرض الإدانة أو الرفض لهذا النقاش، وإنما لأقول: بأن الجهد المضني جسدياً وفكرياً على المُناقش والمَناقش معه، يكون أفعل وأنتج إذا ما استُخدم في إطار محدّد ووجهة صحيحة. هنا، أرفض مقولة بأن الحزب مأزوم، بل وجب القول، بأن الحزبيين مأزومون. وبذلك نخفّف عن الحزب حمل وزر أخطائنا، وبالتالي نتحمّل نحن تقصيرنا وتهربنا من المسؤولية.

في انتفاء الحدود الواضحة
إن طبيعة الصراع السياسي هي انعكاس حقيقي وجدّي لطبيعة اختلاف المشاريع وتَنَوّعها، واستنتاج لاختلاف الهوّيات التي تحملها أو تُعبّر عنها. فمن أجل انتظام الحياة السياسية من الضروري أن تكون حتمية الاختلاف مرتبطة بالبرنامج والسلوك والممارسة وبالجو العام الحاضن والمكوّن لها. وبدون أدنى شكّ لا تأثير لتلك الصراعات على المسار الديمقراطي ببعديه المفهومي والسلوكي، ومن خلاله يمكن إرساء مبدأ التعدّد القائم على التنوّع واحترامه. فالصراع التناقضي القائم على التعددية المرتبطة بالمشروع السياسي لا يمكنه أن يشكّل أي خطر على الحياة الديمقراطية، وعليه يمكن بناء حياة سياسية منتظمة من حيث الشكل والمضمون.
هذ الواقع يجعل المواطن أمام سهولة مطلقة في انتقاء الخيارات الملائمة له ولطموحاته، وعلى أساس تلك الملاءمة يتكوّن وعيه الجماعي أو الخاص الموصل إلى العام المرتبط بكيفية الاختيار بين المشاريع المطروحة وسبب ذلك. وعلى أساس الانقسام حول الخيارات المتعددة، وفقَ شرطَيْ الوضوح والتناقض، تصبح عملية طرح شعارات مثل التغيير الاجتماعي أو السياسي أو الطبقي … “شرعية” ومشروعة أمام المواطنين لاختيار ما هو أنسب لفئة منهم أو لأكثريتهم، أو لأي مجموعة بغض النظر عن أي انتماء سابق من حيث الموروثات التاريخية أو الاجتماعية. إن وضوح الخيارات وملاءمتها للواقع تجعل العملية السياسية سلسة، منتظمة ومتفاعلة لإنضاج مشاريع سياسية مؤسسة لحياة عامة خارج الأطر التقليدية المتعارف عليها كالانتماء القبلي أو العرقي أو الطائفي أو العائلي…
بالعودة إلى فكرة الصراع السياسي، فهي فكرة قائمة على تناقض المشاريع والهويات السياسية وارتباطها بالقضايا التي تدخل في نطاق تنظيم الحياة السياسية وتكوينها عموماً. إنها فكرة يجب أن تكون قائمة على الوضوح، في المشروع والهوية والقوى والأساليب والحدود الفاصلة فيما بينها. لذلك، فإن ضرورة وجود الحدود الفاصلة في ذاتها، هي قضية مرتبطة، بدورها، بوضوح الرؤية السياسية أو أقله الرؤية “الضرورية” لتبيان خطّ “الفصل” في المشروع السياسي؛ أي إنّ ضرورة التعارض تستوجب ضرورة الوضوح في النوع والحد الفاصل، وعلى هذا الأساس يصبح الصراع السياسي واضحاً ومطلوباً نظرياً وعملياً. وإن انتفاء أي من تلك الأسباب المكوّنة للصراع السياسي تُفقد هذا الصراع ذاته علة وجوده. على هذا الأساس يشكل التناقض الواضح الحد الذي يصعب العبور من خلاله من جهة إلى أخرى دون عوائق أو موانع، لأنَّ الانتقال من مكان إلى آخر في مجال السياسة لا يجوز، وتحت أيّ ظرف، أن يكون سهلاً وغير ذي أهمية أو تأثير. هذا مؤشر إلى غياب المبدئية في طبيعة المشاريع وهوية حامليها. إنّ صعوبة الانتقال هذه تُعبّر عن جذرية القضايا وصدق من يمثلها، وأي تخفيف لأي من تلك المنطلقات هو تخل عن شرط ضروري من شروط الصراع السياسي وانتظامه، والذهاب فيه إلى صراع فوقي مرتبط بتبدل في مواقع عليا نتيجة توافق مصالح طبقة ما سياسية أو اقتصادية مرتبطة بأخرى أو برأس مال أو بارتباطات بعيدة كل البعد عن المشاريع والبرامج السياسية.
إن حالة انتفاء تلك الحدود الواضحة تؤدي، بدون شك، إلى بروز مجال كبير يغطي أكثرية المساحة السياسية، ويتمتع بامتداد كبير وبلون يميل كثيراً إلى الرمادي “المحيّر”، يأخذ لون الطبيعة السياسية المناسبة له، تارة يميل إلى التناقض الأبيض وطوراً إلى التناقض الأسود، أي يأخذ ما يمكن أن نسميه منطقة “اللاتوازن أو انعدام الوزن السياسي” المرتبط بأكثرية مكوناته بمصالح شخصية أو سلطوية لا تفيد إلّا أصحابها أو بخدمة آخرين. هذه المنطقة تمثل أساساً الخطر على الحياة السياسية أولاً وذلك لإضفائها، نوعاً من سياسة غير مرتكزة على قاعدة وأساس واضحين، وثانياً على طبيعة وأصل وكينونة الصراع السياسي وأدواته واستهدافاته، وثالثاً على الهوية السياسية التي تنتفي حاجة وجودها لعدم الضرورة وأخيراً على القضية السياسية التي تفقد قوة وجودها وضرورتها مما يؤدي إلى ضياع أي فرصة حقيقية في إحداث أي خرق في بنية النظم أو في مجال التغيير الاجتماعي القائم على الهوية والتناقض والحد الفاصل والقضية السياسية، وبالتالي ستنتفي موجبات جميع أنواع الصراعات السياسية الواضحة والبنّاءة.
إن تلك الحالة هي إعدام وبالمجان لأي حالة تغييرية حقيقية واستبدالها بنوع من التداول الفوقي لسلطة فقدت هي أيضاً الكثير أو فُرّغت من الكثير من محتواها وضرورات وجودها لمصلحة واقع مشوه وهجين ما بين سلطة فارغة ومشاريع وهمية وخطوط غير واضحة ونتائج مسبوقة الدفع والمعرفة. هذا الواقع يؤسس لحالة هيولانية في المشاريع والرؤى ولكن لا وجود لها عملياً وواقعياً، كما يؤسس لوجود حالة من العقم في إنتاج الأفكار لانتفاء الحاجة إليها كما لعدم وجود الدافع، وبذلك نقع في فخ التكرار واجترار الأفكار وعدم التجديد والغموض في المشاريع وانعدام رؤية في البدائل المفترضة على أكثر من صعيد وقضية. خطورة هذا الواقع هي ظهور مشاريع سياسية تستفيد من الغموض أو من اللون الرمادي لكي تنمو وتأخذ لها موقعاً متقدماً في الحياة السياسية واستكمالاً الاجتماعية. لا يمكننا هنا إلّا التأكيد بأن سوء استخدام الصراع السياسي وحرفه عن السياق الطبيعي المرتبط بالقضية السياسية هو المُنتج لكل حركات التطرف على اختلاف أنواعها واتجاهاتها في المشهد السياسي. لقد استفادت القوى المتطرفة من حالة انعدام الوزن السياسي ومن انتفاء أو تآكل المساحة الواضحة والخط الفاصل ما بين القوى والمشاريع، مما أعطى لها دفعاً لتكوّن أو لتحجز أو لتأخذ موقعاً متقدماً وحيزاً أساسياً في المكان والزمان كما في القضية والخطاب السياسي. إن خطورة هذا المستجد تكمن في استمالته للكثير من المواطنين إلى مواقع متطرفة في السياسة وفي الاجتماع؛ وما ازدياد كل تلك المجموعات المرتبطة بالتطرف السياسي ما بين اليسار واليمين بالمعنى التقليدي، وصولاً إلى الحركات الدينية والعرقية والإثنية والقومية والشوفينية… سوى دليلٍ قاطعٍ على ذلك. لقد انتهج متزعّمو تلك التيارات والمجموعات خطاباً منسجماً مع منطلقات كل واحدة منها، وأفرطوا في الكلام عن الثورات والتغيير الانقلابي، ووجدوا الأذن الصاغية عند جمهور واسع، وغالوا في الوطنية الكيانية والشوفينية مستفيدين من سياسات خرقاء ونماذج فاشلة في إدارة الواقع والسياسات العامة، واستفادوا من خطاب “غيبي” استفاد هو بدوره من حالات انهيار مرتبطة بالسياسة أنتجت وللأسف، نوعاً من الفراغ الأيديولوجي، فاندفعوا لتعبئة المكان والزمان، مستفيدين من سياسات وسلوكيات أغرقت العالم في دوامة الحروب والصراعات وغيرها ولكن من نوع آخر…

في السلوك وطبيعة الصراع
لقد استفادت هذه القوى من كل هذا الواقع المتناقض والمضطرب، ومارست السياسة من باب الإفراط في التناقض ولكن ليس من باب الحرص على القضية والموقف السياسي، ولا من أجل التمايز في طرح المشاريع المرتبطة بمصلحة شعبية أو نتيجة لظلم ما أو لسياسة معينة، وغالى تابعوها في طرح القضايا الخلافية المرتبطة بالدين والعرق والطائفة والمذهب وعلى ذلك خاضوا حروبهم، كما أفرطوا في طرح القضايا المريبة في النوع وكذلك المكان والزمان من خلال طرح مواضيع متعلقة بالهوية الوطنية أو الاندماج المجتمعي أو صراع الحضارات أو غيره، فأنتجوا حركات انعزالية في الخطاب والممارسة، وأرسوا حالة من التوتر الاجتماعي المتصلة بتوتر وسلوك مؤسس يؤدي إلى مزيد من التوترات على غير صعيد. هذا الواقع أنتج خطاباً سياسياً مفرطاً في الشوفينية وأبرز “الأنا” المتزمتة المرتبطة بالانتماء العرقي أو المناطقي أو الاثني، و”الهو” المرتبطة بأي آخر خارج تلك الانتماءات. هذا ما أنتجه غياب الخطاب السياسي القائم على نفي الاختلاف في المشاريع السياسية أو غموض تلك المشاريع، كما استفاد هؤلاء من الخطاب السياسي الملتبس وحمّال الأوجه، كما استفادوا، وبدرجة كبيرة، من انفضاض الناس عن الكثير من الأحزاب التقليدية استنكاراً لممارساتها السياسية ولعدم وضوح رؤيتها للأوضاع ومقارباتها للقضايا، وكذلك من تجاهل الناس للعمل السياسي عموماً واستنكافهم منه نتيجة عدم إيمانهم بجدواه أو رفضاً له أو لعدم تضييع الوقت في أمور ليست بذات فائدة برأيهم.
في فترة سابقة، خصوصاً في العقدين الماضيين، وفي الكثير من الدول الأوروبية مثلاً، حدث العديد من حالات التقارب ما بين المكوّنين التقليديين للحياة السياسية اللذين طبعا طابع الحياة السياسية في القارة العجوز ردحاً من الزمن. لقد انتفت مثلاً حدة الطرح البرنامجي بين يسار كان يمثل طبقات اجتماعية فقيرة أو متوسطة ويمين تقليدي كان يتمتع بدعم رأس المال وبعض التراث الديني؛ سبب هذا الاندثار لفكرة الانقسام أو لفكرة التقارب لا فرق بين المعسكرين، كان مرده اعتماد الواقعية السياسية على ما يقولون. إن انهيار الاتحاد السوفياتي بالطريقة التي تمت، قد أعطى المعسكرين الذريعة المطلوبة، فتحول اليسار التقليدي تحت وطأة الذي حدث وفي ظلّ خطاب متسرع جداً إلى الانحياز أو الميل إلى وسطية اعتقد أنها ملجأه الحامي له مما جرى، كما يمكن أن تكون في الوقت نفسه تنكراً للانتماء أو للنأي بنفسه عن المنظومة الفكرية التي اعتقد أنها انهارت إلى غير رجعة. وكذلك فعل اليمين، وتحت شعار العولمة وانتصار نموذجه الليبرالي، إذ إنه اعتقد بنهائية هذا الانتصار واتجه نحو الوسط ليس لملاقاة اليسار وإنما لملاقاة جمهور كبير اعتقد أنه في ذاك المكان، وفي لعبة تداول السلطة بواسطة الانتخابات كان كثير الحاجة إلى مثل هذا الجمهور أقله عددياً.
أضحت الصورة واضحة: لا فرق في البرامج، ولكي لا نعمم، لا فرق كبيراً في البرامج السياسية بين اليسار التقليدي واليمين التقليدي إلّا في بعض القضايا المتوسطة أو البسيطة فقط. كما لا فرق كبيراً في طريقة التعاطي مع العملية السياسية، التي انتظم الجميع فيها باعتبارها تقوم على تداول السلطة بواسطة العمليات الانتخابية، بحيث إنّ نقاش البرامج الحقيقية غاب كثيراً واستبدل بنقاش فوقي أي بين “الكبار” في المعسكرين. لقد أصبح شكل المواجهة مرتبطاً بالإطلالة الإعلامية وفصاحة الكلام أو الشكل أو المظهر، وأصبح معه الإعلام ومراكز الاستطلاعات والإحصاءات… هي من تحدد الفائز وبوقت مبكر، وتشكّل الرأي العام الداعم أو الحاضن لهذا المرشح أو ذاك. هذا الواقع أدى إلى خلق نهج جديد في الحياة السياسية والفكرية، وجعل الأمور تتجه إلى مربعات مشتركة كثيراً بين معسكرين سلطويين لا فرق بينهما إلّا بمن سيتولى السلطة ولو اضطرت الظروف في بعض الأحيان إلى التحالف فيما بينها لمنع أي مكّون آخر من أن يتقدم ويحجز لنفسه موقعاً متقدماً يمكنه بواسطته أن يشارك في الكم. إن الناتج الأهم من اضمحلال المساحة ما بين المعسكرين هو صعود التطرف على اختلاف مستوياته من قوى سياسية واجتماعية وخطاب سياسي. مرد هذا الصعود ليس مرتبطاً بانتفاء المشروع السياسي وليس ردة فعل، وإنما لملء مساحة سياسية اعتقدوها أنها قد فرغت نتيجة غياب المشاريع الواضحة والقوى الحاملة لها. لقد انطوت الفترة السابقة على صعود مدوٍّ لبعض الحركات المتطرفة في السياسة والسلوك، ليس في دول العالم الثالث والمناطق التي تشهد حروباً، وإنما في قلب الديمقراطيات الغربية والمجتمعات التي تفتخر بتعددها وبتنوعها وبتسامحها الفكري والسياسي والديني والاجتماعي. هذا الصعود يُؤشر، وبكل تأكيد، إلى تغير حقيقي في المزاج الشعبي العام المرتبط من ناحية بتغير الحالة السياسية الداخلية لكل بلد نتيجة السياسات المتبعة والقوى التي تمثلها، ومن خلال الحالة العامة التي يشهدها العالم وطرق علاج القضايا والخطاب السياسي المواكب من ناحية أخرى. نحن أمام منحى جديد في السياسة والممارسة له أسبابه ونتائجه.

على تخوم الرمادي
إن الخطاب المتطرف وخصوصاً اليميني منه قد استفاد من تجربتين في السياسة، الأولى هي انهيار مشروع اليسار عموماً وعدم تبلور البديل الجديد أو المتجدد، والثاني مرتبط بسياسات اليمين التقليدي الحاكم أو الموجود في السلطة حيث حاول تحت وطأة المتغيرات التقرب من الوسط لجذب كتلة اليسار إلى صفه للاستفادة الانتخابية مما جعله يتسامح ببعض القضايا التي يمكن التنازل عنها “كطعم” لجذب الناخبين. هذه الحالة جعلت اليمين المتطرف يقتنص الفرصة للانقضاض، بشعارات متطرفة وبخطاب تخويفي من الآخر، على الحياة السياسية ومن باب التطرف في القضايا وفي الخطاب السياسي. هذا المستجد قد أعاد وبدون أدنى شك، رسم الحدود الفاصلة ما بين المشاريع السياسية وإن بشكل بسيط ولكن، وفي الوقت ذاته، بطريقة مختلفة عن السابق من حيث الطبيعة والقوى والقضايا. لقد تمّت إعادة تحديد للخريطة السياسية فأصبحت تضم قوى كانت مغمورة أو غير ذات وزن سياسي في الواقع العام، عادت بوضوح من خلال النتائج التي حصلت عليها في العمليات الانتخابية، ومن خلال الخطاب السياسي الذي استجد، وكما قلنا بطبيعته وقضاياه. وهكذا أصبحت القضية، حالياً، قضية ألوان مرتبطة بطرفي تناقض ولون مشترك في الوسط. فإذا كان التطرف قد شغل القطبين من المساحة أو الطرفين فإن الوسط أو مساحة الوسط ظلت مشغولة بتقارب مريب بين معسكرين سلطويين وجدا مساحة اتفاق جديدة، وهي كيفية التواطؤ ولو غير المعلن لمحاصرة المستجد، ليس بداعي منع التطرف وإنما للمحافظة على تناوب ما على رأس السلطة. للأسف قد أعطى هذا السلوك دفعاً إضافياً لتلك القوى لتحسين مواقعها كما عمّق أزمة المشاريع السياسية وغيّبها كلياً عن مسرح الحياة العامة.
لقد تميزت الفترة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي بالتركيز على الخطاب والقضايا الخلافية المرتبطة بأمور بعيدة عن السياسة التقليدية والمتعارف عليها. فمن صراع الحضارات ونهاية التاريخ في الخطاب الأيديولوجي لمنظري العولمة السياسية ومبشريهم، إلى نقاش الهوية الوطنية في فرنسا أو قضية المآذن في سويسرا أو الرسوم الكاريكاتورية في الدانمارك أو مسألة الأقباط في مصر أو يهودية اسرائيل أو قضية رواندا أو نيجيريا أو التيبت، مروراً بالعراق وأفغانستان والهند والشرق الأوسط وغيرها… شريط، لا بل خط مرتبط ومربوط بسلوك سياسي أصبح واضحاً باستهدافاته وحكماً بنتائجه.
إن التركيز على تلك القضايا جعل آليات النقاش تتغير وتبتعد عن المتعارف عليه. لذلك فإنّ التركيز على فكرة الهوية الدينية أو الوطنية المرتبطة بالكيانية الضيقة قد جعل قواعد اللعبة تتبدل وتتغير لمصلحة الخطاب السياسي الأكثر تطرفاً، بحيث أصبح من يمتلك ذلك الخطاب المثير للغرائز المرتبطة بالدين والعرق والمنطقة والكيان، هو الأكثر شعبية والأكثر تأثيراً، وذلك على حساب الخطاب المرتبط بالقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ومسألة التحرر والتحرير، ومواجهة التشوّه الحاصل على مستوى أكثر من قضية وفي أكثر من مكان. هذا الخطاب أسّس لنمط جديد في التعاطي قائم على تحويل الخصم إلى عدو يستوجب التعامل معه على هذا الأساس، ولذلك رأينا كيف أن العنف تحول إلى الوسيلة الأمضى والأسرع للتعبير عن الرأي والرأي المضاد في أكثر من قضية حول العالم.
لقد تم وضع المواطنين الواحد في مواجهة الآخر ولو كانوا يتقاسمون البلد نفسه أو المكان المشترك من عمل ومدرسة وحيّ وبناية. لقد وضعوهم متقابلين ومتناقضين حول الأصل والهوية والدين والعرق والإثنية والثقافة… وليس حول سبل مواجهة الفقر وتأمين الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليم وإيجاد فرص العمل والحياة الكريمة… لقد أدى هذا الواقع إلى نمو حالات من الفرز القائمة على “النحن” و”الهم” المرتبطة بالأصل والدين، ونمت مجدداً فكرة الكره والحقد المتبادلين، واستُحضر التاريخ بويلاته ومآسيه، فذهب كل فريق إلى نبش أكثر الفترات السوداء التي لطالما اعتُبرت منتهية وتخطاها الزمن والوعي الإنساني كمواد للمتاجرة السياسية وحالات الفرز. لقد طغى الخطاب العنصري على مسرح الحياة السياسية في العالم، وما فكرة “الأنا أولاً” المرتبطة بالشخص أو الدين أو العرق أو الدولة إلّا دليل على الواقع الحالي. وما يثير الاستغراب أن تتحول فكرة التعددية إلى فكرة أساسية في عملية التفتت الاجتماعي وتوتير الأجواء بدل أن تكون جامعة لخطاب سياسي وسلوك مرتبط بالتنوع والغنى، وكذلك الديمقراطية التي، بدل أن تكون الوسيلة لإنتاج رأي عام متفاعل بالطريقة والسلوك أصبحت “وسيلة استخدام” للإقصاء والتهميش والنفي في لعبة مصالح سياسية ضيقة تُستعمل حسب الطلب، ووفق ما تقتضيه مصلحة من يحكمون الحكم. لقد طغى الخطاب السياسي المرتبط بالتقوقع “والكنتنة” على الخطاب الجامع المرتبط بالقضايا والمشاريع الكبرى.

إلى المنطقة الحمراء
من هذا المنطلق وأمام استشراء هذا الواقع المشوه في قضاياه وآلياته لا بد من التفتيش عن بديل آخر للحياة السياسية وامتداداتها، وعلى أساسه يمكننا وقف التدهور الحاصل. إن الأمور المتجهة في هذه الأثناء نحو المواجهات الحادة ذات الأبعاد الطائفية أو الكيانية أو المذهبية أو العرقية يمكنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى الانهيار الكلي للنظام العام المرتبط بأشكال الحكم والانتظام، وإلى سيادة نظم أكثر رجعية؛ فإذا كان فالتر بنجامن قد قال: “إن وراء كل فاشيستية ثورة ضائعة” فإننا نقول إن وراء كل قضية تثار في هذه الأيام، من طبيعة القضايا السابقة الذكر، رأسمالية متجددة تسعى إلى استكمال سيادتها وهيمنتها على ما تبقى من مقدرات اقتصادية وأخلاقية.
ما العمل؟ قول لينين هذا، وإن مرّ عليه قرنٌ من الزمن بدون إجابة، لم يتقادم بعد، حيويته مرتبطة بضرورة طرحه في كل محطة. فعلى أبواب المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي اللبناني تصبح الأسئلة ملحة وذات أبعاد مختلفة. نرتكز على ما ذكرناه ونتوخى الإطلالة على بعض المواضيع، لأنّ امتلاك الإجابات عن كم الأسئلة تبقى بين مجموع المهتمين من شيوعيين وأصدقاء وأصحاب اختصاص في جو من المسؤولية والجدية والموضوعية. إن التأكيد على الموقف المستقل للحزب يجب أن يبقى من أولويات النقاش، وهذا الموقف هو الذي يستطيع المحافظة على كيانية الحزب وهويته السياسية. أود مقاربة هذا الموضوع من زاوية الهوية الطبقية، والتي أصبحت مؤخراً غير واضحة وجلية؛ إذ لا يمكن للحزب الشيوعي إلّا أن يكون مُمثِلاً لفئة من الناس، والقول “بأننا حزب الشعب اللبناني” أظن فيه من التعميم ما يجعله خالياً من المضمون. المقاربة الطبقية للحزب تجعل البرنامج السياسي عامل نضال وفعلاً يومياً حول قضايا ومهام محددة وواضحة، وهذا يستوجب أيضاً تحديد مفهوم الطبقة. لا يكفي القول بأننا حزب الطبقة العاملة، لأن هذا التوصيف بحاجة إلى إعادة تحديد، فمن تكون الطبقة العاملة؟ وأيّ تعديل طرأ عليها؟ فئات الفقراء من مزارعين وأجراء ومياومين، فئات الطلاب والمعلمين وأصحاب الدخل المحدود؟ عاملون في القطاعات المتنوعة، موظفون إداريون… كل هذه الأمور بحاجة إلى التدقيق والتوصيف. بهذا التوصيف نستطيع مواجهة المستجدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث لا يمكن فصل أي منها عن برنامج العمل اليومي، ولا عمّا يحدث في العالم من إعادة تكوين “للمكان العام” وقضاياه، وعملية برمجتها باتجاه مناظير جديدة. هذا الواقع المستجد يفترض مقاربة أخرى للموقف السياسي الذي يجب أن يكون ناتجاً من موقف معارض ورافض للموجود، بمستوياتٍ ثلاثةٍ: السياسي والهيمنة الإمبريالية الأمريكية، الاقتصادي وهيمنة العولمة ورأس المال، الاجتماعي ومحاولة تحميل الفئات الشعبية مسؤولية الأزمات الاقتصادية ونتائجها. مجموع هذه القضايا تُوجب علينا اتّخاذ الموقف المنحاز للذين يعانون البؤس الرأسمالي أينما كان وأينما كانوا، متظللين بمنطق النقد البناء والواضح، حاملين مشروع البديل دون مواربة أو تبريرات. كما يجب الانتباه إلى نمط الخطاب السياسي المواكب للموقف شكلاً ومضموناً من خلال الابتعاد عن التعميم والاسترسال، خطاب يتابع القضايا، ويتخذ موقفاً منحازاً إلى المتضررين دون الإكثار من الشعارات أو الكلام القابل للتأويل أو حمّال الأوجه. خطاب الحزب الشيوعي يجب أن يكون للغد وليس للماضي، لأن ما يميز عمل الشيوعيين هو علميتهم وموضوعيتهم، ومتى انتفت هذه المواصفات انتفت علّة وجود الحزب الشيوعي أساساً.
“الفكرة مقابل الفكرة” و”القضية مقابل القضية” هي مقاربة مطلوبة في السياسة والسلوك. إن الإكثار من المفاهيم التي تأخذ بالثنائية شكلاً ومضموناً في الخطاب السياسي الحالي ما هو إلّا دليل على النية الاستغلالية لهذا المفهوم، من خلال إيجاد الذرائع والسلوكيات المتناقضة لوضع الرأي العام أمام خيارات محددة باثنين: إمّا “معي وإمّا ضدي” أو من “معنا ومن مع الآخرين”، وبذلك تُختَصر المسافات وتُحدّ في أكثر الأحيان بحدّ ضبابي أو رمادي أو “مشتبه فيه بين طرفين”، هما في كثير من الأحيان من الطبيعة نفسها، أو أقله، متفقان بحكم النتيجة المترتبة على الفعل. على هذا الأساس، تصبح مقاربة القضايا من زاوية الفكرة مقابل الأخرى، والموقف مقابل الموقف فاتحةً للخيارات في اتجاهات متنوعة، ومعها نستطيع تلمس الأبيض من الأسود في الممارسة السياسية والمنطلقات الفكرية. اعتمادنا على عملية القطع المعرفي في مقاربة الأمور وفصل النيات عن الأعمال، أي بمعنى أوضح محاكمة “الفعل” وليس النية أو الافتراض، يضعف حجة المتاجرة واللعب على وتر الاستخدام والاستغلال المعرفي وغيره، بحيث تصبح المساحة الفاصلة بين خيارين مساحة واضحة ومحددة وفاسحة في المجال أمام اختيارٍ واعٍ ومسؤول… بهذا النهج والمنطق يجب فصل القضايا ومقاربتها والعمل عليها، إذ لا يجوز الإبقاء على حالة الغموض كأساس للخطاب السياسي المستخدم. خطورة هذا السلوك تكمن في جعل القضايا كافة خاضعة لتأويلات مرتبطة بالظروف المحيطة التي تكون بأكثريتها لمصلحة النظام الحاكم. من هنا يجب أن يأخذ التدرج والترابط الموقع الأساس في عملية البناء التي تفترض حتماً آلية محددة وواضحة. ومنطق الآلية يجب أن يأخذ في الاعتبار القضايا التالية وبالتتابع:
– الاحتفاظ بخط الفصل بين القضايا أي بين المشاريع السياسية؛ بقاء الخط واضحاً يعطي الصورة الحقيقية لطبيعة الصراع مع وضوح في برنامج المواجهة. هذا أساسي، ومتى تحقق، فإن بداية إنضاج المشروع السياسي تكون قد بدأت.
– إيجاد القوى الحاملة والرافعة للمشروع السياسي. قوى صاحبة مصلحة حقيقية تستطيع حمل لواء السير فيه، وهمّ تبعاته، وكيفية استخدامه واستثمار نتائجه. إنها بكل بساطة إيجاد مناضلين قادرين على تحمل موجبات ظروف أو صعوبات عمل يتطلب مجهودات وتضحيات كبيرة. لكن متى توافرت العناصر المقتنعة تصبح المهمة أسهل.
– إيجاد الحاضنة الاجتماعية القادرة على تأمين البيئة الملائمة والتربة الصالحة لنموه وتنميته. أما شرطا وجود البيئة أو الحاضنة أو الأرضية فهما الاقتناع المتبادل بأن هذا المشروع السياسي هو فعلاً يلبي طموحات وآمال هذه الفئة أو تلك، والثاني هو الوضوح المطلوب في طبيعة المشروع السياسي نفسه بالتعبير الواضح وغير الملتبس عن الهم السياسي والاجتماعي لهذه الجماعة أو تلك. ومتى وجد الوضوح كانت المهمة أسهل وظروف نموها ونجاحها أفضل.
– خلق ذهنية العمل مسألة جوهرية إذ لا يمكن السير بالمشروع السياسي دون إيجاد الذهنية المتمتعة بالقدرة على التفاعل مع الأمور والقضايا الموجودة بطريقة علمية ومجدية وفعالة. هذه الأمور تتطلب عملية “قطع” بنيوية وأساسية وحاسمة مع أساليب وأرضيات وذهنيات ثبت عقمها أو فشلها أو عدم جدواها. لا يجب استخدام التقليد أو التماهي مع تجارب دون توافر الظروف الملائمة لها. هذا القطع إذن مطلوب وضروري في عملية بناء المشروع السياسي وفي عملية تنفيذه.
– احترام آلية العمل وكيفيّته وحتى أسلوبه لأنه، وفي ظل تنوع القضايا وتعدّدها وانتشارها، لا بد وأن يكون لدينا أكثر من طريقة أو مكان أو أسلوب. في حين تبقى ضرورة التنسيق على قاعدة الاحترام مسألة أساسية أقله اخلاقياً. من هنا يمكن أن يتم التأسيس لنمط آخر في مقاربة المشروع السياسي الواضح في ظل منطق التبادل القائم على الاستفادة الجماعية من مشروع سياسي واحد وموحد.
– التنظيم، بما هو أداة لتنسيق العمل، وإطار للمحاسبة بالاتجاهين، دون تغليب الطابع السلطوي أو الإلغائي على الطابع التعبوي. استخدامه يصبح جزءاً من الممارسة اليومية: يحدد المهام والصلاحيات، يتابع الأداء ويقيّمه ويتدخل حيث يجب. هنا سأستعيد قولاً للراحل مهدي خليل: ” …فالإطار التنظيمي هو أداة لتحقيق الأهداف، لا صنماً للعبادة. فلنكسر الصنم- الإطار إذا كان معيقاً، أو فلندفعه ليحتل موقعاً متقدماً يلبي طموحاتنا… لندفعه للتلاقي- ولا تهم التسمية للإطار التنظيمي الجامع – فلا نشترط جمعاً كمياً، وفق أنظمة وقوانين، بل المطلوب أن تتجمع الأفعال وإن كانت مختلفة الأدوات…”.
بمرآة عاكسة للتوصيف الآنف الذكر نسأل: أين تكمن أزمة الحزب الشيوعي في لبنان؟
لا بد هنا من التأني في طرح الموضوع؛ فالأزمة الحزبية، بداية، ليست مرتبطة بزمان أو بأشخاص معيّنين، هي أزمة ملازمة للحزب منذ وجوده، هي مخاض عُمُره من عمرِ الحزب، وإلا لماذا كان المؤتمر الثاني والثالث والسادس…. لا بد من تناول الأمر بعيداً عن المناظير الضيقة والشخصانية، ولنبادر ولو لمرة واحدة، وبجرأة إلى طرح القضية بمسؤولية وموضوعية. لا يمكن فصل أزمة الحزب عن أزمة البلد، حيث إنّ الرابط الموضوعي بين الاثنتين ليس في الطبيعة وإنما في المقاربة، وعندما نستطيع الإجابة عن سؤال: أي بلد نريد؟ نستطيع الإجابة عن: أي حزب نريد؟ فإذا كان مشروعنا السياسي قائماً على تغيير النظام السياسي واستبداله بآخر، يجب تحديد هذا الآخر بتفاصيله كافة، وبما أن الحزب هو الأداة الحاملة لهذا المشروع التغييري، تصبح مقاربة هذه الأداة ضرورية شكلاً ومضموناً لتبيان ماهيتها، وبذلك يمكننا القول إنّ الخيار السياسي أو المنطلق الإيديولوجي أو الفكري يناسبنا أمْ لا. لنقل، ولمرة واحدة وبمسؤولية، بأن جوهر الخلاف سياسي مرتبط بمقاربة القضايا وأحياناً كثيرة بغياب الرؤية، يكفي “التلطي” وراء الإجراءات أو السلوك لهذا أو ذاك للقول بأن هناك أزمة وهناك معترضين. نعم فليتحوّل النقاش والاعتراض على القضايا:
– أي نظام سياسي نريد؟ في ظل نظام طائفي متحكّم ومتمكّن، استعصاؤه نابع من طبيعته؛ طابعه مأزوم، لياقته في تجديد أزمته وتمديدها وفي سهولة استداراته وارتهاناته. سيطرته وديمومته من ضعف البدائل المطروحة. واقع يستوجب استبدال النظام القائم بآخر: وطني، ديمقراطي، علماني… دون تردد أو مواربة.
– أي مقاربة مطروحة للتحالفات؟ وجودها من عدمه، إن لم يقترن بقوى من الطبيعة نفسها وبالاستناد إلى مشروع سياسي يعكس الطبيعة المشتركة لقواه، تصبح “ادخاراً” لمواقف ستُوظف في لحظة من اللحظات في خدمة الاصطفافات الطائفية.
– المشروع المقاوم، ماهيته وآلياته؟ وضوح خياراته، أزمته المرتبطة بعدم ربطه بمشروع سياسي تغييري يأخذ نضالاته ويعكسها في تركيبة سياسية تبني نظاماً سياسياً على مستوى التضحيات….
– القضية الاجتماعية والاقتصادية؟ في ظل استشراء الفساد والمحسوبية، في ظل محاصّة لقمة العيش وتوزيعها على المذاهب، في ظل فقرٍ يغطي مساحة الوطن، أي مشروع بديل سيُقدم لفقراء لبنان، الذين أصبحوا، بالمناسبة، أكثرية الشعب اللبناني؛ فأين قضية العدالة الاجتماعية وبناء الدولة العادلة، دولة الرعاية… وحتى الاشتراكية…
هنا يستقيم النقاش وينتظم وكذلك الاختلاف، وعليه، على الشيوعيين أن يحسموا أي حزب يريدون وأي مشروع يحملون. من هذه العناوين يمكننا طرح السؤال التالي:
هل هناك ضرورة لوجود حزب شيوعي في لبنان؟
إنَّ هذا السؤال ليس موجهاً إلى أحدٍ بعينه، هو برسم كل الشيوعيين، الذين مضوا والذين ما زالوا ينتظرون، إلى الحاليين وربما السابقين (إن أرادوا)، إلى الذين ما زالوا متمسكين ببارقة أمل وبيرق يفتخرون بحمله، القابضين على جمر التحديات والمصاعب والمنتشرين في أربع جهات الوطن، وإلى الذين أصابهم داء “النق والنقار” والمرابطين ليلاً ونهاراً، فقط، على وسائط التواصل الاجتماعي لاصطياد خبرية أو شتيمة للنخر بها في جسم الحزب… إلى كل هؤلاء، ومن خلالهم إلى أصدقاء صدوقين ما فرّطوا يوماً بهذا الحزب، مهمة الإجابة، وليكن المؤتمر القادم على قدر التمنيات والآمال.
رفاق، إن فقدنا تواضعنا وصرنا نعيش حالة هذيان وضياع نصبح عمياناً أمام الأخطاء وكسالى أيضاً، فأبعدوا هذه الكأس المرّة.



Post: #3
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-23-2016, 12:34 PM
Parent: #2


يعمد اليمين الرجعيّ، في الصراع الإيديولوجيّ الدائر بلا هوادة، إلى تصوير الأمر كهجوم من “العلمانيّة” على “الطوائف”، بهدف تأليب الطوائف، بحضورها السوسيولوجيّ التاريخيّ، ضدّ الديمقراطيّة، وضدّ الديمقراطيّين المطالبين بالعلمانيّة الكاملة التي تضمن للمؤمنين فصل إيمانهم عن الفساد العضوي للدولة الرأسماليّة، وتالياً ضدّ الداعين للحيلولة دون تسخير الإيمان الدينيّ (العائد لحرّيّة الضمير) في خدمة الفساد المستشري.

وبعد، لا مخرج للديمقراطيّين، والشيوعيّون منهم، من أزمتهم، إلاّ بـإزالة الالتباس الناتج عن المنطق الشكلي (البرجوازيّ) الذي يرى إلى النظام الرأسماليّ الراهن بنظرة سكونيّة لاتاريخيّة (باتت الرأسماليّة في أزمتها العامّة بحاجة إلى “نهاية التاريخ”) فلا يرى الأزمة حيث هي، أي في النظام الراسماليّ. وهكذا تصيب الأزمةُ المنطق الشكليّ النقيض (البرجوازيّ أو البرجوازيّ الصغير). وحده فكر الطبقة العاملة، بمنطقه المادّي التاريخيّ (الديالكتيكيّ الذي يرى العالم في وحدته وفي حركته) قادرٌ على تجنّب الوقوع في الالتباس، لصالح المجتمع ككلّ، بصرف النظر عن حجم الطبقة العاملة في المجتمع. لقد خرج المارد من قمقمه، ولم يعد في الإمكان إعادته إليه. لا يمكن إعادة التاريخ إلى الوراء كما تأمل الإمبرياليّة، لا بالفاشيّة ولا بالحرب، كل ما تستطيع فعله هو التدمير والقتل اللذين ينقلبان عليها في نهاية الأمر.

هنا تكمن مسؤوليّة الديمقراطيّين، والشيوعيّون منهم، في الإضاءة على الأزمة حيث هي في الأصل. تكمن مسؤوليّتهم في خروجهم من أزمتهم بوحدتهم في “النضال الديمقراطيّ العامّ”، كما يقول لينين في الإجابة على سؤال “ما العمل؟”. إنّها مسؤوليّة أخلاقيّة وسياسيّة لم تَعُد مقتصرة على الطبقة العاملة، بل باتت تطال وتشمل كلّ إنسان يتمتَّع بالحدّ الأدنى من الحسّ السليم، نعني الحسّ الديمقراطيّ السليم الذي أسماه كارل ماركس الشيوعيّة باعتبارها الديممقراطيّة التي تتعلّم كيف تصون نفسها، وكيف تدافع عن نفسها، فيتغير العالم من أجل الإنسانيّة جمعاء.

الياس شاكر

Post: #4
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 12-23-2016, 12:43 PM
Parent: #3

الأخ زهير أهنئك في اختيار هذا الموضوع الذي طال العهد بنا من مثلهز

بعدين كتابة دينا جميلة ززيا ريت نبذة عنها و و هل لديها موضوعات اخرى و اين كتبت المقال الظريف ده؟
تحياتي

Post: #5
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-23-2016, 01:17 PM
Parent: #4

كتب هذا المقال في جريدة التحرير المصرية
هي صحفية أردنية دينا سليمان تعمل لأسرة “عمون” تحت مسمى سكرتير تحرير. دينا ما زالت قائمة على رأس عملها صحفية في جريدة“الدستور”، وعملت مذيعة لنشرات الأخبار الرئيسية في التلفزيون الأردني، كما عملت سكرتير صحفي لوزير الشؤون البلدية في عهد حكومة الدكتور معروف البخيت السابقة، ومراسلة إعلامية للفضائية المصرية قبل سنوات عدة. وفازت دينا مؤخراً بأفضل مقابلة صحفية بجائزة الابداع الصحفي للمغفور له الملك الحسين التي تقدمها نقابة الصحفيين الاردنيين.


http://www.up-00.com/"http://www.up-00.com/"

Post: #6
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-24-2016, 09:42 PM
Parent: #5

المثقف النقدي مفهوماً ودلالة


“اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم… ولكن المهم هو تغييره” (كارل ماركس)

ربما لا يستحق “المثقف” تسميته ما لم يبحث في الماهية التي يتشكل منها وفي الهوية التي ينتمي إليها. لذا كان على “المثقف” دائما أن يترحل باحثا عن أبعاد هويته الذاتية، ولا غرو في ذلك، فمبحث “المثقف” يفيض بالتشويق ويتدفق بالإثارة، وقلما نجد مفكرا بارعا لم يخض في هذه القضية ويبلي فيها بحثا في دلالاتها وغوصا في معانيها. وقد تقاطرت الأبحاث وتواترت النظريات في هذا الميدان لتشكل مجالا حيويا بالغ الاستقطاب في العلوم الإنسانية ولاسيما في علم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع التربوي على حدّ سواء.

وقد دأب المثقفون أنفسهم على البحث المستمر في ماهية “المثقف” ودوره، فوظفوا أدواتهم النقدية استقصاءً للعلاقة الحيوية بين “المثقف” والثقافة، كما بين “المثقف” والحياة والإنسان، واستطاع هذا الموضوع أن يستقطب جلّ الباحثين والدارسين فتكاثفت أعمالهم وتكاثرت أبحاثهم في هذا الميدان المثير.

ومن أجل استجلاء مفهوم “المثقف” ومعاينة حدوده وأبعاده، تتجه هذه الدراسة إلى استجواب الأعمال الفكرية للباحثين في هذا الميدان، والترحال في تضاريس النظريات الفكرية التي تناولت هذا الموضوع لاستكشاف طبيعة العلاقة التي تربط المثقف النقدي بالحياة وقضايا الثقافة. وفي هذا الترحال تقتضي منهجيتنا – تجنبا للضياع في المتاهات- أن نبدأ في رحلة البحث عن “المثقف” بأسئلة بسيطة واضحة حول ماهية المثقف وصورته: من المثقف؟ وكيف نعرفه؟ وما أوج علاقته بالثقافة؟ وما هي أبعاده بالحياة؟ ومن هو “المثقف” العضوي أو الملتزم أو النقدي؟ وما هي أهم النظريات التي تناولت قضية العلاقة بين “المثقف” والثقافة والحياة؟ تلك هي الأسئلة التي تشكل الإطار العام لهذه الدراسة حول “المثقف” في تقاطيع صلته بالوجود الاجتماعي والحياة الثقافية بما تنطوي عليه من قضايا وإشكاليات.



ما بين الثقافة والمثقف

تأخذ العلاقة بين الثقافة والمثقف صورة صميمة جوهرية لا انفصام فيها، إذ لا يمكن فهم “المثقف” إلا في ضوء مفهوم محدد للثقافة، فالمثقف وليد الثقافة، صقل بها وتشكل في بوتقتها. وتتمثل الثقافة انتروبولوجياً في العلاقة الحيوية بين الإنسان والوجود مسلكاً وروحاً وفعلاً وحياة، وهذا يعني أن الثقافة بصورتها الأنتروبولوجية هي الحياة الإنسانية بأشمل معانيها وأعمق تجلياتها. وضمن هذا التصور الشامل للحياة الثقافية يصعب علينا تعريف “المثقف” إذ لا بد من تجاوز المفهوم الأنتروبولوجي للثقافة والخوض في مفهوم الثقافة الإبداعية، أي: في الجانب الواعي للثقافة الذي يتمثل في الجوانب العليا من الانتاج الثقافي في مجال الوعي العام وفي فضاءات العلوم الإنسانية من فلسفة وفكر ودين وفن وأدب وشعر وموسيقى ومسرح، وفي عمق هذا التموج الثقافي للوعي الإنساني يمكننا أن نستجلي فهمنا للمثقف بوصفه صورة راقية للوعي الإنساني في أكثر جوانبه نضجا وتطورا وانطلاقا. وهذا يعني أن “المثقف” هو المرآة التي تنعكس فيها الثقافة الواعية الإبداعية للمجتمع الإنساني حيث يتماهى “المثقف” مع إرادة التغيير في الحياة ويتفاعل مع الثقافة بوجهها الإنساني على حدّ سواء.

فالمثقف وفق هذه الرؤية وعي ثقافي، تتجلى قدرته على امتلاك الحقيقة، والتأثير فيها، وإعادة تشكيلها وانتاجها روحيا وأخلاقيا وإنسانيا، والثقافة التي تميّزه هي في هذه الحالة ثقافة الأخلاق والحياة التي تتمثل في قيم الحق والعدل والخير والجمال. والثقافة هنا في هذا السياق تعني نمطا من أنماط التجليات الثقافية للمثقف ودوره في الحياة، وهي ترمز في الوقت ذاته إلى تدفق فعله الثقافي الذي يتصف بالقيمة الأخلاقية، ترسيخا للسمو الأخلاقي الذي يتميز به “المثقف” تأثيرا في الكون والحياة الثقافية.

ومن أجل تقديم تصور واضح عن مفهوم “المثقف” لا بد من المقارنة بين الثقافة والمثقف؛ فالثقافة هي المحمول، والمثقف هو حاملها بل هي المنتوج والمثقف منتجها ونتاجها في آن واحد. وهنا يجري التمييز في الأصل الأجنبي اللاتيني بين الثقافة culture وبين المثقف؛ ففي اللغة الفرنسية تعني كلمة (intellectuel) في أحد وجوهها (المفكِّر) أي المشتغل في مجال الانتاج الفكري والمعرفي على وجه الخصوص، والمثقف وفقا لهذا التصور يكون الإنسان العارف المصقول بالمعرفة، والمحمّل بعطائها، وهذا هو الحد الأدنى لمفهوم “المثقف” في صلة التواصل مع الثقافة والتشبع بمعطياتها.

ومن المؤكد أن مفهوم “المثقف” الفعّال يتجاوز حدود العلاقة الطبيعية بين الفرد والثقافة إلى حد الانتاج الثقافي، وهذا يعني أن “المثقف” لا يقف عند حدود تمثل الثقافة والتماهي بها، بل لا بد له أن يتجاوز هذا المستوى إلى درجة المشاركة في انتاجها وإبداعها وتجديدها. ومن هنا يجب التمييز بين “المثقف” العادي والمثقف البنيوي المنتج للثقافة والفاعل في عملية إبداعها. ومن الضرورة بمكان التمييز بين درجة الفعل الثقافي ومستوياته. فهناك “المثقف” العادي المنتج للثقافة في حدودها الدنيا، وهناك المنتجون لها في أعلى درجة من درجات الانتاج الإبداعي، مثل: كبار العلماء والمفكرين والمثقفين الذين يؤثرون في الحركة الثقافية انتاجا وصيرورة وإبداعا. والنخبة الثقافية، وفقا لهذا التصور، ترمز إلى هؤلاء المثقفين الذي استطاعوا أن يحققوا أعلى درجة إبداعية في عملية الانتاج الثقافي وفي عملية التأثير الثقافي في مجال الكتابة والإبداع في مختلف أوجه النشاطات الفكرية في مجال الشعر والأدب والفلسفة والموسيقا والعلوم الإنسانية بصورة عامة. وفي مجال التمييز بين “المثقف” وغيره من الناس، لا يمكننا أن نتحدث عن الإنسان الجاهل تماما، فالناس مثقفون على وجه العموم، والثقافة خاصية إنسانية، فالإنسان يرتبط جوهريا بالمعرفة ويمتلك القدرة العقلية في عملية تَمثُّل الفكر وفي عملية انتاجه بمستويات مختلفة.

فالثقافة معرفة وقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، ومن هذا المنطلق الأخلاقي تتمنهج رؤيتنا للمثقف حيث تكون الثقافة كما يراها كانط: “مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية”، وبهذا تكون الثقافة في نظر كانط “أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه”(1). ويكون “المثقف” في هذه الحالة سعيا إنسانيا لتحقيق هذه الغايات الثقافية العليا. وفي دائرة هذه العلاقة بين الثقافة والمثقف يمكن القول: إن “السلوك عبارة عن ترجمة عملية للتصورات الذهنية المنبثقة عن ثقافة ما، فالفرد، في أي مجتمع، مغمور بتراث ثقافي يتجاوزه، وهو التراث الثقافي للحضارة التي ينتمي إليها. وهو من خلال هذا التراث يدرك العالم ويحكم عليه، غير أن هذا التراث عندما يتجمد ولا يتجدد يسير نحو الضمور فالزوال، ويحول بالتالي بين الفرد وبين كامل إدراكه لذاته وغيره، ومن هنا كانت هناك صلة دائرية بين تجدد المجتمع وتجدد الفرد فكل منهما يجدد الآخر(2). وضمن هذا التصور يمكن إدراك هوية “المثقف” في صلته الحقيقية مع الثقافة والحياة والمجتمع.

المثقف لغةً

مفهوم “المثقف” مفهوم حديث الولادة والاستخدام، لذا قلما نقع في القواميس اللغوية إلا على شذرات خاطفة تتعلق بهذا المفهوم. وقد جاء في قاموس المعاني: “رَجُلٌ مُثَقَّفٌ: مُتَعَلِّمٌ، مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْمَعَارِفِ، أَيْ ذُو ثَقَافَةٍ “. وجاء في القاموس المحيط لـمجد الدين الفيروزآبادي: “ثقـُف وثقِفَ ثقافةً: صار حاذقاً خفيفاً فطِناً…وثقـَّفه تثقيفاً سوّاهُ وثاقفه فثقفـَه كـنصَرَه فغلبه في الحِذق. وامرأةٌ ثـَقافٌ، كسَحاب، فطِنةٌ، وثِقاف ما تسوّى به الرماح”. ونجد في القواميس العربية تقاطعا في العلاقة بين “المثقف” والمعرفة والثقافة، فالمثقف رجل متعلم يمتلك معرفة وثقافة. وهذه التعريفات تلميحية بسيطة لا تجاوز حدود الإشارات اللغوية البسيطة. ويعرف معجم العلوم الاجتماعية المثقفين “بأنهم الأفراد الذين يتميزون عن باقي أفراد المجتمع بالخبرة والمعرفة (…) ويستخدمونها في مواجهة المواقف الجديدة بنجاح أو حل المشكلات الجديدة بابتكار الوسائل الملائمة”(3).

ومفهوم “المثقف” مفهوم مستحدث في اللغةالعربية، شاع استخدامه في الأدبيات الاجتماعية والسياسية خلال العقود القليلة الماضية. ولفظا(مثقف) و ثقف) بمعنى (حذق وفهم وأدرك. (لفظ (Intellectuel) ذو الأصل اللاتيني المستخدم في اللغات الأوروبية.. أقرب في معناه إلى كلمة (المفكر) لأن الكلمة مشتقة في اللغات الأوروبية من كلمة (intellect) أي الفكر) (4).

وقلما ترد كلمة “مثقف” في معاجم اللغة العربية، ولكن يمكن أن تطالعنا هذه المعاجم بالفعل: “ثقّفَ” وتأتي بمعنى [حذق]، كما في الصحاح. وقد ظهرت كلمة “مثقف” لأول مرة في اللغة العربية في قاموس (محيط المحيط) لبطرس البستاني في نهاية القرن التاسع عشر كترجمة لكلمة Intellectuel الفرنسية، أو “أنتلجنسيا” الروسية، وقد عرفت هذه الكلمة في القاموس بمعنى قريب جداً إلى المعنى المألوف والمتداول في المجال الثقافي وتأتي بمعنى [متعلم وله معنى بالمعارف] أي ذو ثقافة. وفي هذا السياق يعرّف بشارة المثقفين: “بأنهم فئة تتجلى قوة عملها في فكرها الذي تستثمره من أجل ضمان مورد رزق لها، (….) وهي تقوم بالعمل الفكري وفي الوقت نفسه تتخذ مواقف من القضايا التي تهم المجتمع وبالتالي فهي تجمع ما بين العقلانية في التحليل والمواقف القيمية والأخلاقية”(5).

وقد وردت كلمة “المثقف” بصيغ مختلفة في التراث العربي، و وظفت كلمات متعددة للإشارة إلى المثقف، مثل: الحكيم، والشاعر، والعلامة، والأديب، والفقيه، والشيخ، والمحدث، والشاعر، والراوي، والفيلسوف، والعالم، والرشيد، وصاحب القلم، والوراق، والمتعلم، والمتأدب. وهذه الكلمات وغيرها قد يتضمن معنى “المثقف” الكلمة التي نستخدمها في العصر الحديث.


مفهوم المثقف

نادرا ما نقع على مفهوم في العلوم الإنسانية خارج دائرة الوضعية الإشكالية التي تغمر المفاهيم الأنسانية، ولاسيما في مجال العلوم الاجتماعية. وهذه الوضعية الإشكالية للمفاهيم تعبير موضوعي عن قيمة الحقيقة الاجتماعية نفسها التي تأخذ مسارها في مدارات التحول والتغير المستمر. فالمفاهيم في العلوم الإنسانية تعبير عن حقائق اجتماعية نسبية، سريعة التغير، ومضية التبدل، ولا يمكن أن تتبلور على صورة حقيقة نهائية. وهذا الوضع الإشكالي يزيد هذه المفاهيم غنى وتنوعا، وهذه المفاهيم قلما تستنفد معانيها ودلالاتها في نظرية أو رأي واحد، فالمفهوم الاجتماعي – لأنه وثيق الصلة بظاهرته المتغيرة – غالبا ما ينطوي على تضاريس عميقة وطبقات من التراكمات الموغلة في الأعماق. ومن هنا كان على الباحثين التوغل والاستكشاف في أعماق المفهوم الاجتماعي، واختبار الغنى والثراء الكبير الذي يتميز به. وضمن هذا التصور نقول: إن تراكم القول والبحث في المفاهيم دليل على عمق هذه المفاهيم، كما هو دليل على شمولها وأهميتها. وضمن هذا التصور يمكن القول: إن مفهوم “المثقف” يأخذ مكانه بين المفاهيم الإشكالية الغنية بالمعاني المتدفّقة بالدلالات، وسيبقى هذا المفهوم قادرا على جذب اهتمام الباحثين لما ينطوي عليه من ثراء وغنى وتنوع وأهمية.

ومن الضرورة بمكان في هذا المقام أن نستعرض بعض التصورات الذكية التي قدمها بعض المفكرين حول مفهوم “المثقف” بدلالاته ومعانيه. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الوصف الجميل الذي يقدمه صلاح بوسريف لمفهوم “المثقف” إذ يقول: “«المثقف» ليس مفهوماً مُحْكماً، قطعياً، مُمْتَلِئاً بتعبيراته، وما يحمله في طياته من مداليل، بل إنَّه مفهوم متموِّجٌ، منشَرِحٌ، ما فيه من فراغ، ومن مساحات شاغرة، أكثر مما فيه من امتلاء، وهذا ما يسمح بضرورة الإضافة والمَلْءِ، وبالمُراجعة الدائمة، أو البدء من جديد على الدَّوام، ليس بنفي المفهوم وإلغائه، بل لتجديده، وتحيينه، ووضعه في سياق المُتَغيِّرات الحادِثَة والطَّارئة، بما تُحْدِثُ في هذا المفهوم ذاتِه من خُدوش وجروح وتصدُّعات”(6). وهذا الغنى والثراء في المفهوم يؤصّل لمشروعنا في البحث عن تصور متكامل لهذا المفهوم في أبعاده المختلفة والكشف عن طبيعة المشكلات التي ينطوي عليها.

ولا بد من الإقرار هنا بأن مفهوم “المثقف” ولد حديثا للتعبير عن الموقف الشجاع للروائي الفرنسي إميل زولا ونخبة من المثقفين الفرنسيين الذين دافعوا في باريس عن الضابط الفرنسي اليهودي الأصل دريفوس Alfred dreyfuse، الذي اتهم بجريمة الخيانة العظمى، وحكم عليه في 22 ديسمبر عام 1894 بالنفي إلى غوايانا، بتهمة التجسس لصالح ألمانيا. وفي هذه الأثناء كتب إميل زولا مقالته الشهيرة “إني أتهم” التي دافع فيها عن دريفوس، ثم انبرى مع عدد من المثقفين الفرنسيين أمثال: أناتول فرانس، ومرسيل بروست، وسينيوبوس، وليون بلوم، ولوسيان هير، للتوقيع على بيانهم المشهور بتسمية “بيان المثقفين” الذي عبروا فيه عن رفضهم حكم المحكمة. ونشر هذا البيان في جريدة “لورور” الفرنسية في 14 يناير 1898 بعنوان Le Manifeste des Intellectuels. وانقسم الرأي العام بعد هذا البيان بين مؤيد لإعادة المحاكمة ومطالب بتثبيت العقوبة، في صراع بين المعسكرين، المعسكر التقليدي المعادي للسامية والمعكسر الاشتراكي النقدي. وتحت تأثير الضغط الثقافي للمفكرين الفرنسيين أعيدت المحاكمة وخفض الحكم إلى مدة 10 سنوات من السجن، ورفعت إلى محكمة النقض التي ألغت الحكم وأطلقت سراح دريفوس وتمت تبرئته(7).

وعلى أثر هذه المواجهة الفكرية بأبعادها السياسية، انتشر مفهوم “المثقف” وارتبط جوهريا بقيمته النضالية وأرومته النقدية، وأصبح عنوانا لكل الممارسات الثقافية التي تنافح عن المظلومين، وإشارة إلى كل المواقف الشجاعة ضد الظلم والظالمين وإلى كل أشكال الاستبداد السياسي. وقد رسخ في الممارسة الفكرية أن “المثقف” رجل نقدي يسعى للكشف عن الحقيقة ويدافع عن المظلومين. وضمن هذه الممارسة النقدية انكشف الاستخدام على مواقف المفكرين في مناصرتهم المضطهدين والسير بمقتضى الدفاع عن قيم الحق والعدل في المجتمع السياسي. وعلى هذا الأساس بدأ يتمحور مفهوم “المثقف” على ركائز الكشف عن الحقيقة نقديا ورد المظالم توخيا لقيم الحق والخير والعدل والجمال. فالمفكرون الحقيقيون، كما وصفهم جوليان بندا Julien Benda، “أقرب ما يكونون إلى الصدق مع أنفسهم حين تدفعهم المشاعر الميتافيزيقية الجياشة والمبادئ السامية، أي مبادئ العدل والحق، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي السلطة المعيبة الغاشمة” .

وعلى هذا النحو بدأ مفهوم “المثقف” يأخذ دور الوريث الشرعي لمفهوم الفيلسوف الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وارتبط كما أوضحنا في قضية “دريفوس” بالصراع الفكري والسياسي ما بين رجال الفكر من جهة والأنظمة السياسية من جهة أخرى، واصبح مفهوم “المثقف” لصيقا بمفهوم المعارضة السياسية والنقد للسلطة ومقاومتها عندما يقتضي الأمر.

وفي هذا المقام، يقول عالم الاجتماع الأميركي كوزر ( (Coserفي كتابه “سوسيولوجيا المثقفين”: “المثقفون هم المتحدرون من الكهنة والأنبياء والرهبان والمتعلمين أو هم ورثتهم. إنهم المعنيون بالدرجة الأولى بالبحث عن الحقيقة والاحتفاظ بها، كما هم معنيون بالقيم الجمعية والمقدسة، تلك التي تتحكم في جماعة وفي مجتمع وفي حضارة”(8). ويتابع كوزر قائلا: “ولكن “المثقف” تحول إلى حالة من الالتزام بالقضايا الحيوية في المجتمع والسياسة والثقافة”(9).

وفي هذا المقام يقع تعريف عابد الجابري للمثقفين في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية”، إذ يعرّفهم بأنهم “هؤلاء الذين يعرفون ويتكلمون، يتكلمون ليقولوا ما يعرفون، وبالخصوص ليقوموا بالقيادة والتوجيه في عصر صار فيه الحكم فناً في القول، قبل أن يكون شيئاً آخر”(10). والمثقف حسب الجابري: “هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات “المقهورة” و”الكادحة”، إنه “المثقف العضوي” الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع ويواجه تحدياته المختلفة دفاعا عن الحق والحقيقة ورفضا لكل أشكال الظلم والقهر والتسلط في المجتمع”(11). ومن الجميل في هذا المكان أن نورد تعريف وليد خالد أحمد الذي يعرّف المثقفين تعريفا جامعا لأركان وأبعاد التعريفات السابقة بقوله: “المثقفون هم أولئك الأشخاص من المتعلمين الذين يمتلكون المعرفة ولهم طموحات سياسية، وعلى أساس هذه المعرفة الموضوعية والطموحات السياسية وتأملاتهم الذاتية .. يسعون إلى التأثير في السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى، والى صياغة ضمير مجتمعهم، وكذلك صياغة أحكامهم على الواقع دون أن يستخدموا هذه الأحكام مباشرة أو بالضرورة من خبراتهم الحسية”(12).


ما بين “المثقف” والمتعلم

تسود في عالمنا العربي صورة نمطية عن “المثقف” قوامها أن “المثقف” هو الشخص الذي حظي بتعليم مدرسي واسع، ويحمل شهادات علمية عالية. وقد “ارتسمت هذه الصورة في أذهان كثيرين ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين لما وصلوا إليه من مكانة وظيفية بحكم حصولهم على شهادات علمية. وفي حقيقة الأمر لا يمكن للشهادات العلمية المجردة أن تجعل حاملها مثقفا بالضرورة، بقدر ما تجعله مصابا بمرض “التَعالُم” كما أسماه مالك بن نبي“(13). وفي هذا إشارة كبيرة لضرورة الفصل بين التعليم والثقافة.

وعلى خلاف هذه الصورة يمكن لبعض الأفراد أن يحققوا جوهرهم الثقافي دون الحصول على شهادات مدرسية أو جامعية عالية. فكما أن “المثقف” لا يكون وجوده رهنا بالتعليم والشهادة، كذلك الأمر لا يمكن للتعليم أن يمنع شخصا من أن يكون مثقفا بجدارة، فالتعليم يساعد في التثقف وهو شرط ضرورة دون أن شرط كفاية له.

وثمّة من يربط بين مفهوم المتعلم وبين مفهوم “المثقف” على نحو وثيق: وبالمقابل هناك من يرى في المتعلم الحاصل على الشهادات العلمية أو المدرسية “مثقفا”: ويدخل، ضمن هذا المعنى العام والواسع، الموظّفون في مختلف القطاعات، والمعلّمون والأساتذة، والعاملون في قطاع الإعلام، والأطباء والمهندسون، والتقنيون، والطلبة ممن يتابعون دراساتهم في الأنساق العليا من التعليم، في مختلف الشّعب والتّخصّصات”(14). ولكن الباحثين استطاعوا اليوم فك الارتباط بين المتعلم والمثقف: فالمتعلم هو حاصل على الشهادات العلمية، أما “المثقف” فهو ذلك الذي تمرّس بالفكر والثقافة، وأصبح فاعلا ومنتجا للثقافة، ومؤثرا في المجتمع وفق معايير الدفاع عن القضايا الكبرى في المجتمع.

وهنا وفي هذا المقام يميز جان بول سارتر Jean-Paul Sartre بين “العالم” و “المثقف” إذ يرى أن “كلمة “مثقف” لا تطلق على العلماء الذين يعملون في حقل انشطار الذرة لتطوير أسلحة الحرب وتحسينها لأنهم في هذه الوضعية مجرد علماء، ولكن إذا شعر هؤلاء العلماء بالخوف والذعر لما تنطوي عليه هذه الأسلحة من طاقة تدميرية فاجتمعوا وووقعوا بيانا يعارضون فيه استخدام الاسلحة النووية ضد البشر غدوا من فورهم مثقفين”(15). وهذا يعني أن الثقافة موقف نقدي ومسؤولية ورسالة وليست مجرد معرفة وعلم في المخابر أو معرفة في رؤوس العارفين.

وهناك من يعمم مفهوم “المثقف” ليشمل “جميع منتجي الأفكار وناشريها وحملتها ومستهلكيها، بمن فيهم علماء الدين والأدباء والكتاب والإعلاميون والفنانون، بل وجميع خريجي الجامعات والمتعلمين تعلماً مرموقاً”(16).

وهناك من يضيّق مفهوم “المثقف” ليحصره في فئة محددة من الناس، أو نخبة منهم، وغالبا ما تكون نخبة من المفكرين والكتّاب والمبدعين، التي تعمل في حقل الفكر والفن والإبداع، ممن ينتجون الرّموز والدّلالات. وضمن هذا التصور الضيق يفقد كثير من المثقفين حضورهم الثقافي ضمن دائرة المفهوم “مثقف” تفاديا للتّعميم، أو لتعتيم المفهوم وتمييعه(17). وإلى هذا الاتجاه من التعميم يشير محمد عابد الجابري الذي يقول: “إن مفهوم “المثقف” اتسع ليشمل جميع الذين يشتغلون بالثقافة، إبداعاً وتوزيعاً وتنشيطاً، ويرمز إلى الثقافة هنا بوصفها عالماً من الرموز يشمل الفن والعلم والدين”(18). والمثقف، وفق هذا التصور، هو من يتمثل ثقافة وطنه على نحو خاص، ويتماهى بالثقافة الإنسانية على نحو أشمل وأعم، وهو الذي يشارك في تنمية الثقافة بمختلف تجلياتها العامة والخاصة”(19).

وللفصل ما بين التعميم والتخصيص المركّز يمكن القول بأن “المثقف” – بوصفه منتجا للرموز والدلالات- يشارك في نقد الأحداث العامة، ويتدخّل في الشأن العام من منطلق قدرته على قراءة وتحليل المعطيات والأحداث والوقائع ووضعها في مسارها الأخلاقي والإنساني الصحيح(20).

المثقفون النخبة

عندما نأخذ بمفهوم ويلفريدو باريتو للنخبة، بوصفهم الأفراد الأكثر تميزا وحضورا وتأثيرا في مجال اختصاصتهم، عندها نستطيع أن نبني على هذه الرؤية لتحديد مفهوم النخبة الثقافية. وضمن هذا التصور بمكن القول: إن مفهوم النُّخب الثقافية يدل في أبسط تعريفاته على هؤلاء الذين يمارسون تأثيرا أكبر في مجال الانتاج الثقافي والرمزي في مجتمعاتهم وحقول تخصصاتهم الفكرية، ولاسيما الكتاب والمنظرون والأدباء والشعراء والمفكرون والمنظرون والإعلاميون. ويتميز هؤلاء بطاقتهم الانتاجية في مجال الفكر والثقافة، كما يتميزون بتأثيرهم الكبير في الروح المعنوية والثقافية لشعوبهم. وغالبا ما يميز الباحثون بين النخبة الثقافية والمثقفين، فالمثقفون يشكلون طبقة واسعة من العاملين في حقل الثقافة، ولكن النخبة منهم ترمز إلى أكثرهم تميّزا وتأثيرا وحضورا في الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمع. وهذا يعني أن النخبة الثقافية تتشكل من كبار الأدباء والكتاب والمؤرخين والشعراء والفنانين الذي يلعبون دورا مميزا وحيويا في مجال اختصاصاتهم الفكرية والمعرفية.

وللتعبير عن النخبة الثقافية استخدم المفكرون عادة عددا من المصطلحات أبرزها: مصطلح “الأنتلجنسيا” بصبغته الماركسية، ومصطلح “المفكر العضوي” وفقا لنظرية غرامشي، ومصطلح “المفكر الرسولي” صاحب الرسالة وفقا لمصطلح إدوارد سعيد، ومصطلح “المفكر النقدي” وفقا لمنظور نيتشه و سارتر. ومن هذه الزاوية ينظر جوليان بندا إلى النخبة من المثقفين “باعتبارهم نخبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة الذين يشكلون ضمير البشرية (…) إن المثقفين الحقيقيين يشكلون طبقة العلماء والمتعلمين بالغي الندرة لأن ما ينادون به هو المعايير الخالدة للحق والعدل”(21). والمثقفون الحقيقيون، كما يقول بندا، هم الذين يجدون متعتهم في ممارسة الفن أو العلم أو التأمل الميتافيزيقي وليس في السعي وراء الغايات المادية العملية. وهذا الأمر لا يعني بالضرورة أن هؤلاء المثقفين منعزلون عن العالم في أبراج عاجية؛ فالمثقف لا يكون مثقفًا حقيقياً إلا حين يعارض الفساد ويدافع عن المستضعفين ويقف في وجه السلطة القامعة والفاسدة، وفي هذا الجانب الأخلاقي من الثقافة يقول جوليان بندا عن المثقفين الحقيقيين بأنهم: “أقرب ما يكونون إلى الصدق مع أنفسهم حين تدفعهم المشاعر الميتافيزيقية الجياشة والمبادئ السامية، أي مبادئ العدل والحق، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي السلطة المعيبة الغاشمة“(22) . وهذا الأمر عينه الذي يعلنه تشومسكي عندما يقول: “إن من مسؤولية المثقفين أن يقولوا الحقيقة ويفضحوا أكاذيب، وأن “المثقف” هو من يحمل الحقيقة في وجه القوة“.

وكما أوضحنا في مختلف تعريفات النُّخب، غالبا ما يكون الأفراد الذين يشكلون نخبة ثقافية الأفضل بين أقرانهم، والأكثر تأثيرا في مجال اختصاصهم. ومن هذا المنطلق فإن نخبة المثقفين تتمثل في أكثرهم انتاجا وفعلا وتأثيرا وحضورا وممارسة وإبداعا في مجال الفكر والثقافة والإبداع الثقافي. وهذا يشمل مختلف القطاعات الثقافية في الأدب والشعر والفن والموسيقى والرسم والنحت والتصوير وفي شتى العلوم الإنسانية.

يعرّف طارق مخنان النخبة المثقفة بقوله: “هي مجموعة من الأشخاص المتجانسين، يمتلكون رصيدا معرفيا ولهم تكوين عال، ويتمتعون بسلطة رمزية تخولهم التفكير في قضايا المجتمع … ومفردة الثقافة تشمل قطاعات واسعة الأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية وحتى التقنية والبحثية، فالمثقف هو من يتعدى حدود اختصاصه للتكلم في قضايا تشمله كعضو في مجتمع يرتبط مصيريا بالانتماء إليه”(23).

ويعرّف الجابري نخبة المثقفين “بأنهم يشكلون الفئة الواعية التي اكتسبت بحكم ثقافتها موضوعية التفكير ووضوح الرؤية والقدرة على التحليل والمحاكمة المنطقية مما يجعلهم في حصن من أن تنطلي عليهم أساليب البرجوازية ومن أن يخيفهم تحكم المتسلطين“. ويرى “أن هؤلاء المثقفين، هم وحدهم القادرون على تصحيح تلك الصورة في الوعي الجماهيري، ورسم الطريق الصحيح لتحقيقها في حيز الواقع الملموس“(24).

ويشمل تعريف النُّخب الثقافية بصورة عامة هؤلاء الأكثر تأثيراً في مجال الانتاج الثقافي والرمزي في المجتمع، ولاسيما الكتّاب وأساتذة الجامعات والأدباء والشعراء والمفكرون والمنظرون والإعلاميون. ويتميز هؤلاء عمليا بطاقتهم الانتاجية في مجال الفكر والثقافة، كما يتميزون بتأثيرهم الكبير في الروح المعنوية والثقافية لشعوبهم.

وغالبا ما يميز الباحثون بين النخبة الثقافية والمثقفين، فالمثقفون يشكلون طبقة واسعة من العاملين في حقل الثقافة ولكن النخبة منهم ترمز إلى أكثرهم تميّزا وتأثيرا وحضورا في الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمع. وهذا يعني أن النخبة الثقافية تتشكل من كبار الأدباء والكتاب والمؤرخين والشعراء والفنانين الذي يلعبون دورا مميزا وحيويا في مجال اختصاصاتهم الفكرية والمعرفية.

وجلّ ما نعنيه بالنخبة يتمثل في طبقة “المثقفين المحترفين” حسب تعبير كارل مانهايم، أي: هؤلاء الذين يكرسون كل وقتهم لمهنة الكتابة والتأليف والانتاج المعرفي.


الصورة الأنتلجنسوية للمثقف النخبوي

يتشاكل مفهوم “الأنتلجنسيا” Intelligentsia مع مفهومي “المثقف” من جهة، والنخبة الثقافية من جهة أخرى. ويأخذ هذا التشاكل صورته في الاستخدام المتناوب لهذه المفاهيم بدلالة واحدة في كثير من الأحيان، كما يأخذ هذا التشاكل صورة الترادف والتعاقب والاستبدال. ومع الاعتراف بصعوبة الفصل بين مفهوم “الأنتلجنسيا” وبين مفهوم “المثقف” والنخبة الثقافية فإن علينا أن نفصل بينهما ونحدد وشائج العلاقة القائمة بين هذه المفاهيم الثلاثة، لأن مفهوم “الأنتلجنسيا” يمتلك خصوصيته التاريخية ويحمل سماته الخاصة في الدلالة والتعبير عن وضعية طبقة من المثقفين نشأت في سياق تاريخي مختلف.

يشار إلى أن الروائي الروسي المغمور بوبوريكين Boborykin كان من أوائل مستخدمي كلمة “الأنتلجنسيا” عام 1860. وتعود هذه الكلمة في أصولها الاشتقاقية إلى اللاتينية التي كانت تستخدم في ذلك العهد كثيرا من قبل اللاهوتين ورجال الكهنوت في روسيا. وقد استخدمت هذه الكلمة لاحقا لوصف النُّخب الثقافية الروسية الجديدة الصاعدة التي تلقت تعليماً جامعياً على الطراز الأوروبي(25). كما شاع لاحقا استخدام “الأنتلجنسيا” تعبيرا عن النُّخب الطليعية النقدية في روسيا والبلدان الاشتراكية، ثمّ اتسع استخدام كلمة “أنتلجنسيا” كموضة ثقافية بما تنطوي عليه من إيقاع موسيقي في أغلب بلدان أوروبا الشرقية ولاحقا في أوروبا الغربية، وعلى الأثر في مختلف أصقاع العالم. ومن الواضح أن الأوروبيين الشرقيين استخدمو مصطلح “الأنتلجنسيا” للدلالة على المفكرين الذين يقومون بنقد السلطة والأوضاع الاجتماعية القائمة ويمارسون دورا طليعيا في الحركات الثورية(26).

وقد جاء تعريف “الأنتلجنسيا” في الموسوعة بأنها جماعة من المثقفين الذين يأخذون مكانهم النقدي الطليعي في المجتمع. ويغطي هذا التعريف المثقفين من النقاد والكتاب والروائيين الطليعيين الذين يتميزون بقوتهم السياسية وحضورهم الأيديولوجي، وقد أطلقت هذه الكلمة على مثقفي روسيا بعامة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر(27). وقد تخطى هذا المفهوم حدود روسيا وانتشر بشكل واسع في هضاب الثقافة الغربية متقاطعا مع مفهوم “المثقف العضوي“، ومتجاوزا إياه ليشتمل على دلالات جديدة تتجاوز مفهوم “المثقف” الذي يرتقي في صورته الأنتلجنسوية إلى مفهوم النخبة الثقاقية الطليعية في المجتمع. وقد استخدم مفهوم “الأنتلجنسيا” بشكل واسع في أوروبا الشرقية على أثر المعركة الثقافية التي خاضها المفكرون الفرنسيون حول مظلمة دريفوس عام 1894، وبدأت هذه الكلمة تخط مسارها للتعبير عن النخبة من المثقفين ذوي النزعة النقدية التقدمية.

وقد اعتاد كثير من الكتّاب على الاستخدام الترادفي لمصطلحي “المثقفون” و”الانتلجنسيا” للدلالة على المفكرين الذين يمارسون فعلهم الثقافي من منظور نقدي للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة. ويتضمن مفهوم “الأنتلجنسيا” في أصول استخداماته الأولى أولئك المثقفين الذين حصلوا على تعليم عال وتخصصوا في الممارسة السياسية والاجتماعية النقدية بوصفهم طليعة سياسية أو قوة تقدمية ماركسية الطابع اشتراكية الهوية. وربما لا يختلف مفهوم “المثقفون” عن مفهوم “الأنتلجنسيا” كثيرا عندما نأخذ بعين الاعتبار مفهوم “المثقف العضوي” عند “غرامشي“، حيث يتقارب مفهوم “المثقف” ويتجاذب مع مفهوم الأنتلجنسيا، لأن المثقفين العضويين أيضا يسهمون في ابتكار الأفكار ونقد الأوضاع السياسية القائمة ومواجهة التحديات الاجتماعية الكبرى في الحياة السياسية والاجتماعية للأمة.

وضمن هذه الرؤية يمكن القول إن “الأنتلجنسيا” هي أعلى مستويات النخبة المثقفة، فالأنتلجنسيا ليست عددا من المثقفين في بلد ما أو مجال ما، بل هي بالتعريف: “حاملة الوعي الثوري” و “أداة العمل الثوري”، لأن “المثقف” لا ينضوي تحت لواء الأنتلجنسيا إلا عندما يحمل في ذاته طاقة الوعي الثوري رفضا للواقع ونزعا إلى تعديله وتغييره جذريا. ويتضح أن هذه الصورة الأنتلجنسوية تنقض نظرية الطبقة الماركسية لأن “الأنتلجنسيا“، في هذا المقام، هي التي يجب عليها أن تثور وتغير وليست الطبقة العاملة “البروليتاريا “، حيث يتجذر “الحديث لا عن عمال المعامل والمصانع بل عن “عمال العقل” و”العمال الفكريين” أوعن البروليتاريا الثقافية”(28).

المثقف النقدي

للتعبير عن العلاقة الإيجابية بين “المثقف” وقضايا المجتمع ظهرت مصطلحات كثيرة جدا لكنها تدور جميعها في فلك واحد وحول جوهر واحد يتمثل في اهتمام “المثقف” بقضايا المجتمع ونضاله من أجل إحقاق الحق وتجسيد العدل الإنساني ومناشدة الخير والجمال. ومن هذه الكلمات نجد: “المثقف” العضوي، “المثقف” الملتزم، “المثقف” النقدي، “المثقف” الرسولي، “المثقف” الريادي، “المثقف” الطليعي، “المثقف” الناقد، “المثقف” المشاكس، “المثقف” الوطني، “المثقف” الإنساني. وجمع هذه الكلمات تدل في جوهر الأمر على معنى واحد يتمثل في دور “المثقف” ووظيفته في مواجهة مختلف التحديات والقضايا والمشكلات والأوضاع التي يواجهها المجتمع الذي يعيش فيه. ومن الواضح أن هذه الكلمات الدالة على المثقف النقدي تقف على نقيض الكلمات الدالة على المفكر التأملي أو المفكر العاجي أو المفكر الذي يعيش في عالمه الخاص بعيدا عن الحياة وهمومها ومشاكلها. فالفكر كما يرى كثير من المفكرين يجب أن يمارس وظيفة اجتماعية في نقد مختلف التحديات والمشكلات التي يواجهها المجتمع. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن “المثقف” الذي يدير ظهره للمجتمع لن يكون جديرا بتسمية المثقف الحقيقي، وبالتالي فإن “المثقف” هو ذاك الذي لا يرضى أن يكون شاهدًا على الحدث بل فاعلاً إيجابيا متمرسا في قضاياه وأحداثه، ولا يكون فاعلا إلا عندما يكون أنموذجا للمثقف العضوي حسب توصيف غرامشي، أو أنموذجا للمثقف الشجاع حسب جوليان بندا ، أو حتى نموذجا للمثقف الفطين التفكير الواضح الرؤية عند الجابري، والملتزم عند بورديو Pierre Bourdieu، أو مثالا للوعي الشقي حسب هيغل. وفي مقابل هذه الكلمات التي تعبر عن “المثقف الرسولي النقدي” ظهرت كلمات أخرى للإشارة إلى المثقفين السلبيين ومنهم: مثقف السلطة، وفقهاء السلطان، والمثقف الطائفي، والمثقف التقليدي، والمثقف الأيديولوجي، والمثقف السطحي.

عدد كبير جدا من المفكرين تناولوا قضايا “المثقف” وارتباطه العضوي الملتزم بقضايا المجتمع. ومن أجل الكشف عن طبيعة العلاقة بين “المثقف” والمجتمع أو ما يسمى بالعلاقة الصميمية، سنستعرض بعض التيارات الأساسية التي تتمثل في منظور كل من سارتر، وغرامشي، وإدوارد سعيد، والجابري، آملين أن تتضح صورة “المثقف” العضوي الملتزم النقدي المشاكس في مرآة أعمالهم وتصوراتهم النقدية حول دور “المثقف” ووضعية الالتزام الثقافي بقضايا المجتمع وهمومه .وهنا أيضا يجب علينا ألا نغفل أهمية التيارات والاتجاهات الفكرية في هذا الميدان التي لا نستطيع المرور عليها جميعا فهناك محاولات فكرية كثيرة بذلها علماء ومفكرون لا يقلون أهمية، وقد استطاع بعضها أن ينفلت من مركزية الدوران في فلك غرامشي وسارتر وإدوارد سعيد.

أنطونيو غرامشي (1891-1937)

يعود الفضل إلى المفكر الإيطالي الكبير انطونيو غرامشي Antonio Gramsci في اجتراح مفهوم “المثقف العضوي“. وتشكل الأعمال الرائدة الكثيرة التي حققها غرامشي حول الثقافة ودور “المثقف” مرجعية فكرية مهمة ينطلق منها أغلب المفكرين عند تناولهم لمفهوم “المثقف” الفاعل الملتزم بقضايا الأمة والشعب.

يقول غرامشي في تعريفه للمثقف العضوي: “جميع الناس مثقفون (…) لكن وظيفة “المثقف” في المجتمع لا يقوم بها كل الناس”(29). فالمثقف. وفقا لهذه الصورة الغرامشية ناقدٌ اجتماعيٌّ، يعمل في مجال الانتاج الثقافي ويكرس نفسه لخدمة القضايا الاجتماعية الحيوية في المجتمع، ويعمل على بناء نظامٍ فكري مؤنسن ومعقلن في اتجاه تطوير المجتمع والنهوض به. وبالعودة إلى غرامشي نستطيع القول: إن جميع الناس مثقفون بطريقة أو أخرى، وهذا ينسحب على جميع الفئات الاجتماعية من معلمين وفلاحين وعمال وحرفيين وموظفين.

ويميز غرامشي بين نوعين من المثقفين: المثقفون التقليديون، والمثقفون العضويون. فالمثقفون التقليديون يملكون ثقافة مهنية بحسب طبيعة عملهم، ويقومون بنفس العمل وينقلون ثقافة متواترة من جيل إلى جيل مثل: المعلمين ورجال الدين. أما المثقفون العضويون، فهم أولئك المثقفون المخضرمون المتمرسون بالمعرفة انتاجا وإبداعا، الذين يحملون في عقولهم وقلوبهم هموم الطبقات الكادحة في المجتمع من العمال والفلاحين، ويضحون من أجل الدفاع عن قضايا الأمة وقضايا المضطهدين والمسحوقين، وهم في النهاية يمثلون ضمير الأمة والصوت المعبر عن طموحاتها وقيمها الاجتماعية. فالمثقف العضوي لدى غرامشي صاحب مشروع ثقافي يتمثل في “الإصلاح الثقافي والأخلاقي” سعيا وراء تحقيق الهيمنة الثقافية للطبقة العاملة بصفة خاصة وللكتلة التاريخية بصفة عامة(30).

يقول غرامشي Antonio Gramsci: “لم يعد أسلوب “المثقف” الجديد يعتمد على البلاغة، التي هي محرك خارجي مؤقت للمشاعر والعواطف، بل يجب عليه أن يعتمد على المشاركة الإيجابية في الحياة العملية كبان ومنظم لها”(31). ومن هذا التصور للمثقف العضوي يخاطب غرامشي المثقفين الإيطاليين في عام 1919 داعيا إياهم إلى الالتزام السياسي، فيقول “لم يعد بالإمكان ان يتمحور نسق حياة “المثقف” الجديد حول الفصاحة والإثارة السطحية والآنية للمشاعر والأهواء. بل صار لزاما عليه ان يشارك مباشرة في الحياة العملية كبان ومنظم مقنع دائما، لانه ليس مجرد فارس منابر. بات لزاما عليه ان يتغلب على التفكير الحسابي المجرد، فينتقل من (التقنية – العمل) الى (التقنية – العلم)، والى النظرة التاريخية الانسانية، وألا يبقى اختصاصيا دون ان يصبح – قائدا– أي رجل سياسة بالإضافة الى كونه اختصاصيا”(32).

جان بول سارتر (1905-1980)

استطاع المفكر الفرنسي جان بول سارتر Jean-Paul Sartre أن يسجل نفسه بين أفضل النماذج التاريخية للمفكر الملتزم في مجال الفكر والممارسة الثقافية دفاعا عن الحق والكرامة والحرية، وقد تجلى هذا الالتزام على أكمل وجه عندما انخرط في صفوف المقاومة الفرنسية السرية لمواجهة الاحتلال الألماني، وعرض نفسه لعظيم الخطر في دفاعه عن الحرية والتضحية في سبيل الوطن.

يرى سارتر في كتابه “دفاع عن المثقفين” أن “المثقف” الحقيقي ليس هو ذلك الذي يقف عند حدود الكشف عن مختلف التناقضات القائمة في المجتمع، بل هو الذي يعمل على تغييرها وتوجيهها ويعلن مسؤوليته الثقافية في مواجهة مختلف التحديات الناجمة عن ذلك(33). وفي مقابلة شهيرة أجرتها معه مجلة “الاكسبرسو” الايطالية يعرّف جان بول سارتر “المثقف” الحقيقي بأنه “الوجدان الشقي” أي “المثقف” الذي يكشف عن دهاء الأيديولوجيا المهيمنة لفرض السلطة ويحرض على إسقاط أوهامها، لأن الطبقة المهيمنة السائدة تعمل غالبا على تزييف الوعي واعادة انتاج أيديولوجيتها المهيمنة، وهنا يكمن دور “المثقف” في مواجهة التحديات الأيديولوجية للطبقات السائدة والسلطات التي تفرضها. فالوعي كما يرى سارتر يشكل دائرة نفوذ “المثقف”، وهو الوعي الذي قلما يُعترف بأهميته. وقد أطلق سارتر على هذا الوعي “وعي البحث عن الحقيقة”(34).

فالطبقة التي تهيمن تمتلك وسائل الانتاج، وتنتج الأيديولوجيات التي تعزز هيمنتها وسلطتها، ولايمكن للطبقة المستلبة المهيضة أن تستعيد حريتها المسلوبة إلا بمعركة شاملة كلية تسودها قيم الحق والعدالة الحرية والحقيقة والمساواة. وهنا يبرز دور “المثقف” وتتضح رسالته حيث يجب عليه أن يوظف معرفته وعقله وقوته السياسية في مساعدة الطبقات المستلبة على استعادة دورها التاريخي وامتلاك حريتها.

وفي كتابه “دفاع عن المثقفين” يركز سارتر على أهمية المواجهة الثقافية للمثقف وضرورة العمل ضد الأيديولوجيا السائدة والانحياز إلى الطبقات الفقيرة. والمثقف في معركته هذه عليه توظيف قوته المعرفية والثقافية في ترسيخ وإبداع ثقافة جديدة للشعب تمكنه من الخلاص وامتلاك وعيه الخاص، وعليه أيضا تحرير أصحاب المعرفة العملية من التقنيين وتخليصهم من الوعي المزيف، وضمهم إلى صفوف العمال. ويؤكد سارتر في هذا السياق على ضرورة العمل والكفاح من أجل مشروع ثقافي ينطلق إلى تأكيد مستقبل الإنسان في حياة حرة كريمة.

وعندما أرخت ثورة مايو الطلابية عام 1968 في فرنسا أثقالها على كاهل المثقفين الفرنسيين واستجوبت مواقفهم في مستوى النظرية وفي مستوى الممارسة، وجد سارتر نفسه في قفص المساءلة التاريخية عن “المثقف” ودوره، وكان لزاما عليه أن يطرح أسئلة عديدة حول الثورة والثقافة والمثقف والعلاقة بين هذه المكونات الثلاثة للحركة الطلابية في فرنسا. ومن بين الأسئلة التي طرحها سارتر سؤال جوهري ذو شعبيتن: من هو “المثقف” الحقيقي؟ ومن هو “مثقف السلطة”؟ والسلطة في منظوره ترمز إلى كل أشكال السلطات الاجتماعية الرمزية والاجتماعية والسياسية. وفي النهاية وبعد هذه المساءلة النقدية وجد سارتر أن “المثقف” الحقيقي هو ذلك الذي يستطيع أن يحقق التواصل بين الفكر والممارسة النقدية، وانطلاقا من إيمانه بوحدة الفكر والممارسة. ومن أجل التأكيد على منظوره على أهمية التزام “المثقف” بالحياة والقضايا الاجتماعية، نزل سارتر إلى الشارع وأخذ يبيع الصحف لمصلحة الطلاب، معبرا عن انحيازه للطلاب ومطالبهم العادلة. وقد أطلق سارتر على المثقفين الذين داهنوا السلطة آنذاك وخضعوا لمتطلباتها وإيحاءاتها بأنهم أصحاب “الوعي التعس” أو “الوعي الشقي” ويقصد بهم هؤلاء الذين يعرفون الحقيقة ويدركون أبعادها ولكنهم تحت تأثير الضغوط الحياتية والاجتماعية يستسلمون ويبايعون سلطان الهوى والقوة على حساب المبدأ الأخلاقي والالتزام السياسي للمثقف.

إدوارد سعيد (1935-2003)

يرى إدوارد سعيد في كتابه المعروف “صور المثقف” أن المثقفين يشكلون شريحة اجتماعية بأبعاد طبقية، وتكمن وظيفتهم في إنتاج الإيديولوجيات والأفكار والتصورات الثقافية والمعرفية. يوافق إدوارد سعيد غرامشي وسارتر في تعريف “المثقف العضوي” من منطلق دوره الحيوي النقدي في معارضة السلطة والتيارات الأيديولوجية السائدة ومواجهة تحدياتها مهما تكن عواقبها. ويرى إدوارد سعيد أن معظم المثقفين يؤدون الدور الاجتماعي الذي وصفه غرامشي، لكن قلة منهم يستطيعون المجاهرة بالحقيقة في وجه السلطة بشجاعة وصلابة وقوة.

فالمثقف الحقيقي – كما يرى إدوارد سعيد – يمتلك دوره الفاعل في المجتمع وهو دور لا يمكن اختزاله أو تصغيره، لأن “المثقف” يجب أن يكون صاحب رسالة مطالباً بتجسيد مواقف فكرية وفلسفية من مختلف القضايا الوجودية والحيوية في المجتمع. وعليه ضمن هذا التصور أن يتخذ موقف المواجهة والمجابهة لكل سلطة تقليدية ولكل المسائل والقضايا الحرجة في المجتمع (35).

والسؤال الذي يطرحه إدوارد سعيد في هذا المقام، هو: هل يجب على “المثقف” أن يكون دائما معارضا حتى يرتقي إلى صورته النموذجية؟ وفي معرض الإجابة يرى أنه ليس بالضرورة أن يكون “المثقف” دائما ناقدا ومعارضا، بل يجب أن يكون في حالة من اليقظة تمنعه من التشبع بالحقائق المزيفة والأفكار التقليدية، ومن الواضح هنا أن سعيد يعني بذلك “المثقف” المداهن الذي تكمن وظيفته في حماية الوضع الراهن والدفاع عن الأنظمة الفكرية والسياسية القائمة، ويرى بأن لغة هؤلاء المثقفين مصممة على تشويه الحقائق وتصميم الأيديولوجيات المزيفة الكاذبة(36).

وفي كتابه “صورة المثقف” يرى أن الثقافة الحقيقية هي التزام أخلاقي من قبل المثقف، وهذا الالتزام يوجب على “المثقف” أن يمتنع عن الارتباط السياسي بأي من الأحزاب أو الجمعيات أو الهيئات الثقافية، فالمثقف الحقيقي يجب أن يحظى باستقلاله الذاتي وأن يوظف قدراته الثقافية في مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية التي تواجه الحياة والمجتمع. ومن أجل تعزيز هذه الرؤية لنضال “المثقف” وحركته خارج الأطر التقليدية السياسية أو الحزبية يستعرض إدوارد سعيد التجارب النضالية لكبار المثقفين على غرار: جان بول سارتر، جوليان بندا، غرامشي، فرانتز فانون، بيرتراند راسل، جان جينيه، ويبين أن كل واحد من هؤلاء المثقفين ناضل سياسيا واتخذ مواقفه المناهضة للأوضاع القائمة بمنهجيات ثقافية تعتمد نمطا متميزا من الوعي وطاقة كارزمية فريدة في الحضور والتأثير(37).

ينتهي إدوارد سعيد فى تعريفه للمثقف الحقيقي إلى القول بأنه ذلك الشخص الذي يراهن بكل وجوده على حس نقدي، يرفض فيه قبول الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والمكيفة باستمرار لما يجب أن يقوله الأقوياء أو التقليديون، وما يفعلونه، و ينطلق في رأيه هذا من فكرة جوهرية في نظرته للمثقف قوامها: أن “المثقف” الحقيقي يوظف ثقافته وموهبته في اتخاذ المواقف النقدية وفي مواجهة تحديات السلطة، إنه شخص يحمل رسالة ويتخذ موقفا، وينطلق من فلسفة، وهذا كله يفرض عليه أن يطرح أكثر الأسئلة المربكة الحرجة علنا دون خوف أو وجل، وهكذا يكون مثل هذا “المثقف” عصيا على الاحتواء من قبل الحكومات، ومحصنا ضد كل أشكال الجمود والتحجر والتطرف والتأدلج، حيث تكمن وظيفته الأساسية في التعبير عن قضايا المجتمع وهموم الناس وتطلعاتهم.

يقول إدوارد سعيد في هذا الخصوص مؤكدا مقولة “المثقف العضوي” المناضل: “أعتقد أن الخيار الذي يواجهه “المثقف” هو إمَّا أن يتحالف مع استقرار المنتصرين والحكام، وإمَّا أن يعتبر أن الاستقرار حالة طارئة تهدد الأقل حظًّا بخطر الانقراض الكامل، ويأخذ بالحسبان تجربة التبعية ذاتها، وذكرى الأصوات والأشخاص المنسيين، وهذا هو الدرب الأصعب، فالمثقف الحقيقي، يقف بالضرورة على الضفة المقابلة للسلطة، يقف بسلمية وحيدًا بصدره العاري، يصرخ في وجهها بالحقائق التي لا تعجبها ولا تعجب جمهورها الذي ينساق خلف دعاياتها المضللة حول الأمن والوحدة والدين ومقاومة الإرهاب”(38). وفي هذا القول تتبلور رؤية إدوارد سعيد حول “المثقف” النقدي فالمثقف الحقيقي كما يراه لا يستسلم للحظة الظالمة ولو كان مُقدرًا لها أن تبقى قرنًا، بل يهاجمها كما لو أنَّه سيكون السبب في رحيلها.

محمد عابد الجابري

أسهم محمد عابد الجابري في كثير من كتاباته في إغناء مفهوم “المثقف” الملتزم في التراث العربي الإسلامي؛ ففي كتابه المميز «المثقفون في الحضارة العربية»(39) يستجلي الجابري مفهوم “المثقف” ودلالته، ويبين في قراءته هذه وجود غياب كبير في المرجعية العربية لمفهوم الثقافة والمثقف. وهذا الأمر يجعل البحث في دلالة مفهوم الثقافة في التراث العربي صعبا إلى حدّ كبير. ويرى الجابري وجود صعوبة كبيرة في تأصيل هذا المفهوم الذي يفتقر إلى الجذور الثقافية في البيئة الثقافية العربية.

ولا يخرج تعريف الجابري للمثقف عن الدلالة التي وجدناها عند غرامشي وسارتر وإدوار سعيد؛ فالمثقف، حسب الجابري، هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات “المقهورة” و”الكادحة”، وهو بذلك يقصد “المثقف العضوي”، الذي نحتفظ له بتمثل عن مثقف السبعينات والثمانينات والذي كانت اطروحاته وآراؤه حاضرة في مناقشات ومرافعات الطلبة في الجامعات والملتقيات، مثلما كانت اراؤه تناقش داخل المقرات الحزبية عند الحديث عن الصراع الطبقي ومداخل ثورة البروليتاريا.

ويعود الفضل للجابري في أنه قدم لنا تصورا واضحا للمفكر الملتزم في الحضارة العربية الإسلامية، وهو الأسبق إذ استنبط صورة “المثقف” من التراث العربي محاولا تأصيل مفهوم “المثقف” باللغة العربية، بإحالته إلى بيئته الأصلية التراثية العربية التي يمكن من خلالها الوقوف على أهم ملامح هذا المفهوم وتعيناته في التراث العربي الإسلامي.

ويعود الجابري إلى مرحلة تاريخية مهمة في التاريخ الإسلامي في القرن الرابع عشر-وهي مرحلة غياب الدولة المركزية ونشوء الدول المستقلة- ويصف هذه المرحلة بأنها «عصر إمرة الأمراء» و«الدول المستقلة» على حد تعبيره. وفي ظل غياب المشروع الثقافي الكلّاني للدولة ككل في ذلك العهد يحدثنا الجابري عن نوع من المثقفين أطلق عليهم «مثقفو المقابسات»، وهم المستهلكون للثقافة الآخذون من هنا وهناك، حيث يحضرون في كل المجالس الثقافية الخاصة بالوزراء والأمراء، إضافة للمجالس التي يعقدها هؤلاء المثقفون أنفسهم، وهم ما نطلق عليهم اليوم تسمية “فقهاء السلطان”.

وفي كتابه “المثقفون في الحضارة العربية” يتناول الجابري مأساة شخصيتين إسلاميتين مهمتين، هما ابن حنبل، وابن رشد، ليضعنا في صورة المعاناة التاريخية التي واجهها المثقفون المسلمون الأوائل. وقد تعمد الجابري اختيار هاتين الشخصيتين في صراعهما مع السلطة: فابن حنبل هو عالم دين وفقيه كبير وزعيم لمدرسة فقه عظيمة، وابن رشد فيلسوف عظيم مخضرم، وفي الحالتين كانت يد السلطة الغاشمة هي الأعلى والأكثر بطشا وإرهابا.

وفي هذا السياق يتناول الجابري بتفصيل واضح مواجهة ابن حنبل للمأمون حول قضية “خلق القرآن” حيث أصرّ ابن حنبل رغم السجن والتعذيب -فيما سمي بمحنة ابن حنبل- على القول بأزلية القرآن، ورفض فكرة المأمون التي تقول بخلقه، وهذا يشكل كما يريد الجابري أن يقول لنا، نموذجاً إسلامياً للمثقف الحر الملتزم الذي يواجه السلطة القائمة ويتحدى أوجه الخوف والترهيب والتعذيب ليبقى صامداً متحدياٍ، في الوقت الذي تراجع فيه الآخرون خوفا وتدليسا ومهادنة للسلطان.

وكما اتهم المأمون ابن حنبل بالانحراف عن الدين الصحيح، فقد اتهم يعقوب المنصور الموحدي، ابن رشد وجماعته من العلماء بالانحراف عن الدين، من خلال وصفه لكتبهم «بأنها مسطورة في الضلال، ظاهرها موشح بكتاب الله وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، أسياف أهل الصليب دونها مفلولة وأيديهم عمّا يناله هؤلاء مغلولة». وفي الحالتين كانت سلطة الحاكم الخليفة هي القادرة على القهر والسجن وإحراق الكتب. وفي الحالتين كانت الأسباب الدينية هي المعلنة، وفي الخلف منها الأسباب السياسية التي تخص الحاكم وفهمه وما هُيئ له، أو ما دفعه البعض لكي يفهم الأمر عليه. ويرى الجابري أنه على الرغم من تعاقب القرون فإن البيئة العربية الإسلامية ما زالت تواجه المثقفين بمثل هذا العنف الذي شهدناه في القرن الرابع عشر.

وهنا يحضرنا مئات النماذج عن تضحيات العلماء العرب والمسلمين في التاريخ العربي الإسلامي الذين سطروا أروع المثل في مدى تفانيهم إزاء القضايا والأفكار والمعتقدات والقيم التي آمنوا بها وضحوا من أجلها، من أمثال: الحلاج، والجاحظ، وابن سينا، والرازي، وغيلان الدمشقي، وابن المقفع، وابن رشد، وأبو العلاء المعري، والجهم بن درهم. وأكثرهم ذبح وقتل وحرق وقطعت أوصاله مثل الحلاج، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، وعبد الله بن المقفع الذي قتله الخليفة المنصور، وسعد بن جبير الذي قتله الحجاج بن يوسف الثقفي.

وقد قُتل الإمامُ “المثقف” احمد بن نصر الخزاعي، أشهر وأبرز رواة الحديث النبوي في العصر العباسي، لمعارضته السلطان في قضية خلق القرآن. وتعرّض الإمام “المثقف” الكبير الفقيه ابو حنيفة النعمان للاضطهاد و للإهانة والجلد والتعذيب والسجن في العراق، وتعرض الإمام “المثقف” احمد بن حنبل للسجن والتعذيب بسبب قضية خلق القران الكريم. وقتل الشاعر والمثقف أعشى همدان على يد الحجاج بن يوسف في مدينة الكوفة العراقية بسبب جدال سياسي لم يحتمله الحجاج .

وقتل الشاعر سديف بن ميمون بأمر من الخليفة ابو جعفر المنصور. كما قتل الشاعر بشار بن برد على يد الخليفة المهدي، وقتل الشاعر الشهير ابن الرومي على يد الوزير القاسم بن عبيد الله، وقتل الشاعر دعبل الخزاعي لقصيدة هجا بها الخلفاء العباسيين. وقتل الشاعر علي بن جبلة على يد الخليفة المأمون، وقتل الحسين بن منصور الحلاج على يد الخليفة الواثق. وهناك المئات من الشعراء والمفكرين والفلاسفة الذين قضوا على مذابح الحكام والطغاة لأنهم كانوا أهل صدق في الدفاع عن الحقيقة التي آمنوا بها والحق الذي عرفوه. فالتجربة النضالية للمثقف العربي تتصف بالغنى والثراء في مختلف العصور الإسلامية في مراحل الازدهار والانحطاط وهم يتجاوزن بتجاربهم الاستشهادية العظيمة كل ما قيل وسيقال في التاريخ عن “المثقف” العضوي أو الملتزم أو النضالي أو الرسولي.

علي اسعد وطفة – أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت

Post: #7
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-25-2016, 04:04 PM
Parent: #6

قراءة في تجــربة نصر حامد أبوزيد
_✍🏾 أحمـــد أخدوش_*
"نريد الإحتكام الي العقل الذي يردنا إلي البعد التاريخي للنصوص".
إشتهـــر المفكر ناصـــر حامد ابو زيد بمشروعــه الفكري النقدي الطمـــوح الذي يركز علي تأويل الفكر الديني الإسلامي من أجـــل فهمه و انتقاد الجـــوانب السلبية فيه، باعـــتباره خطابا مثله مثل باقي الخطابات التاريخيـــــــة الاخري : الأدب، الفلسفــة العلم ... الخ.
و لقد رام هذا المفكر الفذ من هذا المشــــروع إنجاز قراءة نظرية و منهجية نقدية لأصول هذا الخطاب لأجل تعريته و إعــــداده للفحص النقدي،وذلك عـبر
تسليط الضوء علي إبعــاده التاريخيةوالايديولجية النسبية التي غــــالبا ما يتغاضي عنها الكــثيرون.و قبل الشروع في ممارســة المنهجية النقدية عــلي هذا الخطاب، عمل هذا الاخير علي كشف آلــيات اشتغال هذا الخــطاب، ثم ابرز أهم منطلقاته الايديولجية الثاوية خـلف خلف لغته التي تزعــم الانتهال من النصـــوص الدينية المؤسسة للفكــر الديني برمّته. و في معرض نقده لهذا الخطاب، اعترف صاحب (نقد الخطاب الديني المعاصر) أنه لا خلاف حول أن الدين *كل الأديان التوحيدية*يجب أن يكون عنصرا أساسيا في أي مشروع نهضوي يروم التقدم و التطور،لكن ذلك لا يعني أن التعاطي مع نصوص كهذه الأديان يلزم البقاء و الجمود علي منهجيات الفقهاء و الاصوليين الأوائل أو محتكرا من طرف جماعات محددة بل يجب تفعيل منظورات عقلانية جديدة : حديثة و معاصرة،يكون بإمكانها أن تسمح بفهم جديد لتلك النصوص و لدلالاتها. غير ان الخلاف كل الخلاف بالنسبة إلي مثل هــــذا المشروع النقدي الطموح يتركز حول مقصود الناس بالدين و طبيعته و أشكال إستعماله.
لذا من المفيد أن يتساءل المرء منذ البداية حول ما اذا كان المقصود الناس بالدين مجرد تلك الطقوس و الشعائر التي يقومون بها كل يوم، ام أنه يتعدي ذلك لينغرس في قاعة الممارسة التاريخية و الاجتماعية و السياسية و الايديولوجيةالتي تسعي اليها كل فئة و كل طائفة لان تبرّر بها مصالـــحها الخاصة.
بالتالي هل يمكن للدين بعد تحليله و فهمــــه و تأويله تأويلا عقلانيا نظريا و علميا، أن ينفي عــــنه نفسه هذا الطابع الأسطوري الرمزي و الملحمي البطولي الذي تراكم عليه جـــراء مرور الوقت فغلف به عبـر التأريخ؟ ثم ما حــــدود إمكانية إحياء ما في الديـن من قوي و قيم إجابــــية دافعة نحو التقدم و العدل و الحرية و المساواة؟ في الحقيقة ليس الدين في حد ذاته ما كان يسعي الي نقده أبوزيد، بل فهم معين و طريقة محدده في التدين ، أي ذاك المعني الذي رسخته الممارسة التاريخية و الايديولوجية عبر العصور التأريخ الحضاري للشعوب الاسلامية ما يستهدفه بتأويلياته و انتقاداته تلك الممارسة التي ما فتئ الفكر الدين المعاصر ينافح من أجل تكريسها و الدفاع عنها كما لو كانت حقائق منزلة، حيث غالبا ما تجعل الدين إيديولوجيا فكــــرية و سياسية و ثقافية تبريرية تنزع نحو تكريس طريقة في النظر الي الحــــياة و العالم ،وهي نفسها الطريقة التي تغلف الدين بفهم تأريخي معين يكــــبله و يحرّفه عن معـــــــانيه الحقيقية السامية.
ﻟﻘﺪ ﻓﺤﺺ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻫـــﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻓﻲ ﺷﻜﻠﻪ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻱ
ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻓﻮﺟﺪﻩ ﻣﻨﻐﻤﺴًﺎ ﻓﻲﺗﺼﻮﺭﺍﺕﻛﻼﻣﻴﺔﻭﺃﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺑﺎﻟﻴﺔﻭﺑﻌﻴﺪﺓﻋﻦﻣﻌﺎﻧﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻧﻔﺴﻪ،ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺗﻜﺮّﺱ ﺍﻟﺠﻤﻮﺩ ﻭﺍﻟﺠـــــﻬﻞ ﻭﺍﻟﺘﺨﻠّﻒ ﺑﺎﺳﻢ ﻗﺪﺳـــﻴﺔ ﻣﺰﻋﻮﻣﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻮﺟﺐ ﺇﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻟﻠﺘﺄﻭﻳﻞ ﻭﺍﻟﻨﻘﺪ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ . ﻭﺑﺎﻟﻔﻌﻞ، ﻳﺪﺭﻙ
ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺃﻥّ ﺍﻻﺣﺘﻜﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ‏( ﺍﻟﻌﻘﻞ‏)ﻳﻔﻘﺪﻩ ﻛﻞ ﺃﺳﻠﺤﺘﻪ ﻭﻳﻜﺸﻒ ﻗﻨﺎﻋﻪ ﻭﺯﻳﻔﻪ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ، ﻟــﺬﺍ ﻳﺒﻘﻰ ﻋﺎﺟﺰًﺍ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻮﺍﺭ ﻋﻠﻰ
ﺃﺭﺿﻴﺔ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺍﻟﻤـــﺘﺠﺪّﺩ ﻭﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤـــﻨﻔﺘﺤﺔ . ‏
ﻭﺩﺭﺀًﺍ ﻷﻱ ﺗﺠﺪﻳﺪ، ﻳﻠﺠﺄ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﺇﺑﺪﺍﺀ ﺍﻟﺮﻓــﺾ ﻭﺍﻻﻋﺘﺮﺍﺽ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﺃﻱّ ﻣــﺤﺎﻭﻟﺔ ﺗﺮﻭﻡ ﺗﺄﺳـــﻴﺲ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺔ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓﻓﻲﺛﻘﺎﻓﺘﻨﺎ،ﻭﻳﺴﺘﺨﺪﻡ ﺿﺪ ﺫﻟﻚ ﺳﻼﺣﻪ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻱ :ﺍﻟﺘﻜﻔﻴﺮ . ﻭﻫﻮ ﺳﻼﺡ ﻓﻌّﺎﻝ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﺮﻭﻑ، ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻊ
ﻣﺘﺨﻠﻒ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﺃﻏﻠﺒﻴﺔ ﺃﻓﺮﺍﺩﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻴﺔ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ،ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﻣﺘﻌﻠّﻤﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻴﺔ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ،ﻭﻳﺴﺘﺴﻠﻢ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﻣﺜﻘﻔﻴﻪ ﻻﺑﺘﺰﺍﺯ ﺗﻬﻤــــﺔ ﺍﻟﺘﻜﻔﻴﺮ، ﻓﻴﻠﺠﺆﻭﻥ ﺇﻟﻰ ﻣﺒﺪﺃ ﺍﻟﺘﻘﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺤﺔ، ﻟﻴﺼﺒﺢ ﺑﺬﻟﻚ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻗﻮﻳًّﺎ ﺑﺎﻟﺨﻮﻑ ﻭﺍﻟﺮﻫــــﺒﺔ ﻭﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﺤﺠﺔ ﻭﺍﻟﺪﻟﻴﻞ .
ﻭﻣﻘﺎﺑﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ ﻓﻲﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﺍﺭﺗﺄﻯ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻧﻬﺞ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻞ ﺍﻟﻔﺎﺣــــﺺ ﻭﺍﻟﻨﺎﻗﺪ ﺗﺠﺎﻩ ﻣﻤـــــﻜﻨﺎﺕ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺷﻜﻠﻪ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ، ﻛﻤﺎ ﻳﺪﺍﻓﻊ ﻋﻨﻪ ﺭﻭﺍﺩ ﻭﻣﻨﻈّﺮﻭ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔﻭﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻠﻮﻗـــﻮﻑ ﻋــﻠﻰ ﻣﻨﻄﻠﻘﺎﺗﻪ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻭﻓﻀﺢ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﺄﻭﻳﻞ ﺭﻭﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨــﻄﺎﺏ ﻟﻬﺎ، ﻭﻛـــﺬﺍ ﺗﺰﻳﻴﻒ ﺁﻟﻴﺎﺕ ﺍﺷﺘﻐﺎﻟﻬﻢ ﻭﺍﺳﺘﺪﻻﻟﻬﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ . ﻭﻟﻌﺮﺽ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻠﻴــــﺔ ﺍﻟﻨﻘﺪﻳﺔ، ﻧﻘﺘﺮﺡ ﻫﻨﺎ ﺗﺴﻠﻴﻂ
ﺍﻟﻀﻮﺀﻋﻠﻰﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﻭﻛﺬﺍ ﺃﻓﻘﻬﺎ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ .
-1 ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻘﺎﺕ ﺍﻟﻔﻜــــﺮﻳﺔ ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻹﺳـــﻼﻣﻲ
ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﺑﺤﺴﺐ ﻃﺒﻴﻌـــﺔ ﺍﻟﻘﺮﺍﺀﺓ ‏ﺍﻟﺘﻲ ﻗﺮﺃ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﺃﺑﻮﺯﻳﺪﺍﻟﻔﻜﺮﺍﻟﺪﻳﻨﻲﺍﻹﺳﻼﻣﻲ، ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦﻣﻨﻄﻠﻘﻴﻦ ﺃﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﻴﻦ ﺃﺳﺎﺳﻴﻴﻦ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ، ﻫﻤﺎ :
*_ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﺺ_*
ﺃ - ﻣﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔﻳﻌـــﻮﺩ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ، ﺣﺴــﺐ ﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺎﺕ ﺃﺑﻲ ﺯﻳﺪ، ﺇﻟﻰﺣﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﺘﺤﻜﻴﻢ ﺑﻜﺘﺎﺏﺍﻟﻠﻪﻣﻦﺟﺎﻧﺐ ﺍﻷﻣﻮﻳﻴﻦ ﻓﻲﻣﻮﻗﻌﺔ " ﺻﻔّﻴﻦ " ، ﻭﻫﻲ ﺣﻴﻠﺔ ﺃﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺍﺳﺘﻄﺎﻋﺖ ﺃﻥ ﺗﺨﺘﺮﻕ، ﺑﺎﺳﻢ ﻗﺪﺳﻴﺔ ﺍﻟﻨﺺ، ﺻـــــﻔوف ﺍﻟﺨﺼﻮﻡﻟﺘﻮﻗﻊ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺧﻼﻓًﺎ ﺃﻓﻀﻰ ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﺼــــﺮﺍﻉ ﻟﺼﺎﻟﺢ ﺍﻷﻣﻮﻳﻴﻦ . ‏
ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺯﻳﺪ ﻓــﺈﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳــﺨﻴﺔ
ﺗُﺒﻴّﻦ ﺑﺎﻟﻤﻠﻤﻮﺱ ﻛﻴـــﻒ ﺗﻢ ﺗﺤﻮﻳﻞ ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﻣﻦ ﻣﺠــﺎﻟﻪ
ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤــﺎﻋﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺑﻤﺠﺮّﺩ ﺍﻻﻟﺘﺠﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺗﺤﻜﻴﻢ ﺍﻟﻨﺺ ﺍﻟﻤﻘﺪّﺱ ﻓﻲ ﺻﺮﺍﻉ ﺫﻱ ﻃﺎﺑﻊ ﺳﻴﺎﺳﻲ .
ﻟﻘﺪ ﻧﺠﻢ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ ﻋﻤــﻠﻴًّﺎ ﺗﺤﻮﻳﻞ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺇﻟﻰ ﺗﺎﺑــــﻊ
ﻟﻠﻨﺺ، ﻟﻴﺴﺘﻘﻴﻞ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻋﻦ ﺩﻭﺭﻩ ﻓﻲ ﻓﻬﻢ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ
ﻭﺷﺆﻭﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻻﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﺎﻡ ﺑــــﻬﺎ
ﺩﻋﺎﺓ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺍﻟﺤﻘﺐ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻟﻤﻮﺍﻟﻴﺔ . ﻭﻗــﺪ
ﻭﺟﺪﺕ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﻓﻲ ﻫــﺬﻩ ﺍﻻﺳﺘﻘﺎﻟﺔ ﻟﺪﻭﺭ ﺍﻟﻌﻘـــﻞ ﻓﻲ
ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﻣﻨﺎﺳـــﺒﺔ ﻟﻠﻬﺠﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻔﻜــــﻴﺮ
ﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻭﺭﻓﺾ ﺍﻟﺘﻌﺪﺩﻳﺔ ﻭﺍﻻﺧﺘﻼﻑ، ﻓﺘﻌﻤــــــﻘﺖ ﻣﺴﺎﺣﺎﺕ ﺍﻟﻨـــﺼﻮﺹ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺎﺏ ﺍﻻﺟﺘﻬﺎﺩﺍﺕ، ﻭﻏﻠﺐ
ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴـــــــﺪ ﻭﺍﻟﺠﻤﻮﺩ . ﻟﻜﻦ ﺍﻷﺧﻄﺮ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺫﻟﻚ، ﻫﻮ ﺃﻥّ ﻣﻨـــــﻄﻠﻖ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﻫﺬﺍ ﻗﺪ ﻋﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻭﺿﻊ ﺗﻘﺎﺑﻞ ﻣﻔﺘﺮﺽ ﺧﻄﻴﺮ ﺑﻴﻦ ﻣﻘﻮﻟﺘﻲ : " ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ " ﻭ " ﺍﻹﻟﻬﻲ " ؛ ﻟﺬﺍ ﻛﺮّﺳﺖ ﻫﺬﻩ
ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ، ﺑﺎﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺴﺘﻌﻴﺮﻩ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﺍﻟﻤﻘﺎﺭﻧﺔﺍﻟﺨﻄﻴﺮﺓ ﺑﻴﻦ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺑﺸﺮﻱ ﻭﻣﺎ ﻫـــﻮ ﺇﻟﻬﻲ، ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺰﻣﻨﻲ ﺍﻟﻤﺪﻧّﺲ ﻭﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﺍﻟﻤﻘﺪّﺱ . ﻭقـــﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺫﻟﻚ، ﺃﻥ ﺗﻢ ﺗﺪﻧﻴﺲ ﺍﻟﺘﺠــــﺮﺑﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﻭﻭﺻﻔﻬﺎ ﺑﺸﺘﻰﺃﻧﻮﺍﻉﺍﻷﺣﻜﺎﻡﺍﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﺍﻟﻮﺿﻴﻌﺔ، ﺣﻴﺚ ﺗﻢ ﺇﺿﻔﺎﺀ
ﻃﺎﺑﻊ ﺍﻻﺣﺘﻘﺎﺭ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻤﺎ ﺍﺳﺘﻮﺟﺐ ﺗﺤﻜﻴﻤًﺎﺇﻟﻬﻴًّﺎﻣﻘﺪّﺳًﺎ ﺑﺪﻳﻼً ﻳﻠﻐﻲ ﻛﻞ ﻓﻌﻞ ﺇﻧﺴﺎﻧﻲ .ﻭﻟﺘﻘﺪﻳﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﻋﻦ ﺭﻭﺍﺝ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ، ﺭﻛﺰّ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ،
ﻓﻲ ﻣﻌﺮﺽ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ، ﻋﻠﻰ ﺗﺠﺮﺑـــﺔ
ﺍﻟﻤﻮﺩﻭﺩﻱ ﺍﻟﺘﻲ ﺷﻜﻠﺖ ﺍﻷﺳﺎﺱ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ ﻟﺴﻴﺪ ﻗﻄﺐ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﺳــﻴﻌﻤﻖ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﻭﺍﻟﻘﻄﻴﻌﺔ ﺑﻴﻦ ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻹﻧﺴــــﺎﻥ ﺍﻟﻤﺪﻧّﺲ ﻭﻣﺎ ﻳﻨﺘــــﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﺍﻟﻤﻘﺪّﺱ،ﻭﺫﻟﻚﺍﻧﻄﻼﻗًﺎ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪاﻟﺨﺎﺻــــﺔ ﻓﻲ ﺗﺄﻭﻳﻞ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴـــــﻢ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ، ﻣﺜﻞ ﻣﻔﻬﻮﻡ " ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ " ﻭ "ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ " ﻭ " ﺍﻟﺪﻳﻦ " ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﺐّ ﻛﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺮﺍﻫﺎ ﻫﻮ .ﻓﻤﺜﻼً ﻳﻌﺮّﻑ ﺳﻴﺪ ﻗﻄﺐ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ ﺑﻜﻮﻧﻬﺎ " ﺣــــﻖ
ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺸﺄ ﻋﻨﻪ ﺣﻖ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳــــﻊ
ﻟﻠﻌﺒﺎﺩ، ﻭﺣﻖ ﻭﺿﻊ ﺍﻟﻤﻨﺎﻫﺞ ﻟﺤﻴﺎﺗﻬﻢ، ﻭﺣﻖ ﻭﺿﻊ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ... ﻭﻛﻞ ﻣﻦ ﺍﺩّﻋﻰ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﺣﻖ ﻭﺿﻊ ﻣﻨﻬﺞ ﻟﺤﻴﺎﺓ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻘﺪ ﺍﺩّﻋﻰ ﺣـــﻖ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﺑﺎﺩّﻋﺎﺋــﻪ ﺃﻛﺒﺮﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴـــﺔ، ﻭﻛﻞ ﻣﻦ ﺃﻗﺮّﻩ ﻣﻨﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ
ﺍﻻﺩّﻋﺎﺀ ﻓﻘﺪ ﺍﺗﺨﺬﻩ ﺇﻟﻬًﺎ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﻠﻪ، ﺑﺎﻻﻋﺘـــﺮﺍﻑ ﻟﻪ
ﺑﺄﻛﺒﺮ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ . ‏
ﻭﺑﺤﺴﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﺭﺍﻟﺨﺎﺹ ﻟﺴﻴﺪ ﻗﻄﺐ، ﻳﻐﺪﻭ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺩﻳﻨًﺎ ﻳﻮﺣّﺪ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ ﻭﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔﻭﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺨﺘﺰﻝ ﺍﻹﻧﺴــﺎﻥ ﻭﻳﺮﺩّﻩ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﺮّﺩﻋﺒﺪ ﺿﻌﻴﻒ ﻻ ﺣﻮﻝ ﻟﻪ ﻭﻻ ﻗﻮﺓ ﺇﻻّ ﻋﺒﺮ ﻫﺬﻩاﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺣﻴﺚ ﻳﺼﺒﺢ ﺟﻨﺪﻳًّﺎ ﻣﻦ ﺟﻨﻮﺩ ﺍﻟﻠﻪ .ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﻘﻄﺒﻲ، ﻫﻨﺎﻙ ﺣﺰﺏ ﻭﺍﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻫﻮ ﺣﺰﺏ ﻟﻠﻪ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻷﺣﺰﺍﺏ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﻨﺰﻝ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﺷﻐﻴﻠﺔ ﺍﻟﺸﻴـــــﻄﺎﻥ ﻭﺍﻟﻄﺎﻏﻮﺕ .
ﻳﺘﺮﺗﺐ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟتــــﺼﻮﺭ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻟﻠﺤﺎﻛﻤﻴﺔ،
ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺘﺒﻨﺎﻩ ﺑﻌﺾﻣﻦﺣﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ، ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﺨﻄــﻴﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎﺕ ﻋﺪﺓ :
*_ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ :_* ﻫﺠـــﺮﺍﻥ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﺍﻻﻧﻌﺰﺍﻝ ﻋﻨﻪ .
*_ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ :_* ﻭﺻﻒ ﺍﻟﺨﺼﻮﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﻴﻦ ﺑﺎﻟﻄﺎﻏـــﻮﺕ .
*_ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ :_* ﺗﻜﻔﻴﺮ ﺍﻟﻤﺨﺎﻟﻔﻴﻦ ﻭﺍﺳﺘﺒﺎﺣﺔ ﺩﻣﺎﺋﻬﻢ .
*_ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ :_* ﺇﻫﺪﺍﺭ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻌﻘﻞﻭﻣﺼﺎﺩﺭﺓ
ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺑﺪﻋﻮﻯ ﺍﻟﺒﺪﻉ ﻭﺍﻟﻀﻼﻝ .ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺗﻜﺮﻳﺲ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﺟﺘـــﻤﺎﻋﻲ
ﻭﺳﻴﺎﺳﻲ ﻭﺛﻘﺎﻓﻲ ﻣﻨﻐﻠـــﻖ ﻭﻣﺘﺴﻠﻂ، ﻳﺴﻮﺩﻩ ﺍﻟـــﻮﻻﺀ
ﺍﻷﻋﻤﻰ ﻟﻠﻘﻴﺎﺩﺍﺕ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ، ﻭﺗﺠﻨّﺐ ﺍﻟﺨﺼﻮﻡ ﻭﻫـــﺠﺮﺍﻥ
ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ . ﻭﺗﺒﻘﻰ ﺃﺧـــﻄﺮ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺆﺩّﻱ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻫﺬﺍ
ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ، ﻫﻲ ﺗﻜﻔﻴﺮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺪﻋﻮﻯﺗﺤﻜﻴﻢ ﺷﺮﻉ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ، ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ ﻋﻦ ﺍﻟـــﺪﻳﻦ ﻭﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ، ﺑﺎﻟﻨﺴـــﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻟﻤﻨﺘﺴﺒﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻜﺮ، ﺃﻣﺮًﺍ ﻳﺒﺮﺭ ﻛﻞ ﺍﻷﻓﻌﺎﻝ ﺍﻟﻤﺘﻄﺮﻓﺔ ﻓﻲﺣﻖ ﻣﻦ ﺗﺴﻮّﻝ ﻟﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺨﺎﻟﻔﺘﻬﻢ ﻫـــﺬﺍ ﺍﻟﻔﻬﻢ .
ﻳﺴﺘﺨﻠﺺ ﻧﺎﺻﺮ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻣﻦ ﺗﺄﻭﻳﻠﻪ ﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤيـــﺔ ﻭﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻓﻬﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﻃــﺮﻑ ﻣﻨﻈّﺮﻱﺍﻟﻔﻜﺮﺍﻟﺪﻳﻨﻲﻟﻠﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﻣﺪﻯ ﺧﻄﻮﺭﺓ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻔﻜـــﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺇﻟﻐﺎﺀ ﺩﻭﺭ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ ﻭﺇﻓﺮﺍﻍ ﻭﻋﻴﻪ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺇﻳﺠﺎﺑﻴﺎﺗـــﻬﺎ،
ﻓﻴﺼﻴﺮ ﺃﺗﺒﺎﻋﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﺭﻳﺸﺔ ﻓﻲ ﻣﻬﺐّ ﺍﻟﺮﻳﺢ، ﺗﺤــــﻮّﻟﻬﻢ
ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴــــــﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ
ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﺨﻄﺮﻳﻦ، ﺣــــﻴﺚ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﺴـــﻜﻴﻨﻬﻢ ﻓﻲ
" ﺟُﺐّ " ﻧﻮﻉ ﺟــــﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ . ‏
*ﺏ - ﻣﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﻨﺺ*
ﺃﻣّﺎ ﺑﺨﺼﻮﺹ ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻـــﺮ، ﻓﻴﻌﺘﺒﺮ ﻧﺼﺮ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ، ﻓﻲ ﻣﺪﺍﺭ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﻨﺺ، ‏ﺍﻟﻬﺪﻑ ﻣﻦ ﺇﺛﺎﺭﺗــــﻪ
ﻭﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺰ ﻋﻠﻴﻪ، ﻫﻮ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺃﻫﻤﻴّﺘﻪ ﻟﻔﻬﻢ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، ﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺟﺎﻧﺒﻬﺎ ﺍﻟﺘــﺮﺍﺛﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﻣﺠﻤﻠﻬﺎ ﻟﻤﺮﻛﺰﻳﺔ ﺍﻟﻨﺺ ﻭﻣﺪﻯ ﻗﻮﺓ ﺣــــﻀﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ . ‏
ﻓﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﺟﺪّﺍ ﺃﻥّ ﺍﻟﻨـــﺺ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻳﺤﺘﻞّ ﻣﻜﺎﻧﺔﻣﺮﻛﺰﻳﺔ ﻓﻲ ﺑﻨﻴﺔ ﺛﻘﺎﻓﺘﻨﺎﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، ﻭﻟﻌﻞ ﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﺩﻓﻊ ﺑﺄﺑﻲ ﺯﻳﺪ ﺇﻟﻰ ﺟﻌﻠﻪ ﻣﻨﻄﻠﻘًﺎ ﻣـــﺤﻮﺭﻳًّﺎ ﻓﻲ ﻓﻬﻢ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻟﺨــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺑﺸﻜﻞ ﻋــــﺎﻡ . ﻟﺬﺍ ﻳﺆﺍﺧﺬ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺃﻧّﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻳﻌﺘﺮﻑ
ﺑﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺘﻪ ﻭﺗﺎﺭﻳﺨﻴــــﺔ ﺍﻟﻨــــﺼﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢﻣﻦ ﻛﻞّ ﻣﺎ ﻳﻘﺮّ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻭﺍﻻﺟﺘﻬﺎﺩ .ﻓﺎﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻐﻨﻰ ﺑﻪ ﺭﻭّﺍﺩﻩ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﻮﻥ ﺇﻧّﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﻓﻘﻂ ﻓﻬﻢﺍﻟﻔﻘﻬﺎﺀﻭﺍﻷﺻﻮﻟﻴﻴﻦ ﺍﻷﻭﺍﺋﻞ ﻣﻦ ﺭﻭﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔــﻜﺮ، ﺑﻴﻨﻤﺎﻳﺠﺐﺍﻻﻋﺘﺮﺍﻑﺑﻀﺮﻭﺭﺓ ﺃﻥ ﻳﻄﻮﻝ ﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﺍﻟﻨﻈﺮﻱ ﻭﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻲ ﺣﺘﻰ ﺍﻟﻨـــﺼﻮﺹ
ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌـــــﻘﺪﻳﺔ . ﻭﻟﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﻔﺴّﺮ ﺭﻓﺾ ﻫﺆﻻﺀ
ﻷﻱ ﺗﺠﺪﻳﺪ ﺣـــﻘﻴﻘﻲ ﻓﻲ ﺑﻨﻴﺔ ﺍﻟﺨــــــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ
ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ، ﻫﻮ ﺃﻧّﻚ ﺗﺠﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻧﻔﺴﻪ ﻏــــﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ
ﻳﺼﺮّ ﻋﻠﻰ ﺃﻥّ ﺍﻟﺸـــــﺮﻳﻌﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻟﻜﻞ ﺯﻣﺎﻥ
ﻭﻣﻜﺎﻥ، ﻭﻣﻦ ﻳﻘﻮﻝ ﻋﻜﺲ ﺫﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻛﺎﻓﺮ ﻭﻣﻠﺤﺪ .
ﻳﻨﺘﻘﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﻈﺮﺓ ﺍﻟﻀﻴﻘﺔﻟﻤﻔﻬﻮﻡﺍﻟﻨﺺﻭﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﻌﺎﻃﻲ ﻣﻌﻪ، ﻣـــﻌﺘﺒﺮﺍ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ : ﺩﻳﻨﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﻡ ﺑﺸﺮﻳﺔ ﺇﻧّﻤﺎ ﻫﻲ ﻣﺤﻜﻮﻣﺔ ﺩﻭﻣًﺎ ﺑﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﻭﺍﻋﺘﺒـــــﺎﺭﺍﺕ ﻳﺘﻮﺟّﺐ ﺗﺄﻭﻳﻠﻬﺎ ﻭﺗـــﺠﺪﻳﺪ ﻓﻬﻤﻬﺎﻭﻓﻖﺍﻟﺸﺮﻭﻁﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤــــﺎﻭﺭ ﻣﻌﻬﺎ . ﺃﻣّﺎ ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻟﻬـــــﺬﻩ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ، ﻛﻤﺎ ﻳﺮﺍﻓﻊ ﻋـــﻨﻪ ﻫﺆﻻﺀ، ﻓﺈﻧّﻪ ﻻ ﻳﺨﺮﺟﻬﺎ ﺑﺘﺎﺗًﺎ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﻷﻧّﻬﺎ " ﺗﺄﻧﺴﻨﺖ"ﻭﺍﺻﻄﺒﻐﺖﺑﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳـﺨﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﺃﻥ ﺗﺠﺴّﺪﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳــــﺦ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻭﻟﻐﺘﻪ، ﻓﺘﻮﺟــﻬﺖ
ﺑﻤﻨﻄﻮﻗﻬﺎ ﻭﻣـــﺪﻟﻮﻟﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻌﻬﻢ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ
ﺍﻟﻤﺘﻐﻴّﺮ . ‏
ﻳﺮﻯ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﺃﻥّ ﺍﻟﺨـــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ، ﺑﻘﻔﺰﻩ ﻋﻠﻰﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﻭﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔﻭﺍﻟﺪﻻﻟﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴـــﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻨﺺ، ﻳﻜﻮﻥ ﻗﺪ ﺟﻤّﺪ ﻓﻬﻤﻪ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻨـﺼــــﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺍﻟﻤﺸﻜﻠّﺔ ﻟﻔﻬﻤﻪ . ﻟﺬﺍ ﻳﻠﺰﻡ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺇﻃﺎﺭ ﻓﻬﻤﻨﺎ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺴﻴﺎﻕ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴـــﺪﻱ ﺍﻟﺪﺍﻋﻲ ﺇﻟﻰ " ﻻ ﺍﺟﺘﻬﺎﺩ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﺺ ." ﻓﺈﻋﻼﻥ ﺍﻟﺨـــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﺟﻤﻮﺩ ﺍﻟﻨﺺ ﻭﺳﻌﻴﻪ ﺍﻟﺤﺜﻴﺚ ﺇﻟﻰ ﺗﺜﺒﻴﺖ ﺩﻻﻟﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﻓﻬﻢ ﻭﺍﺣﺪ ﻭﻗﺎﺻﺮ، ﺇﻧّﻤﺎ ﻫﻮ ﺩﻋﻮﺓ
ﺻــــﺮﻳﺤﺔ ﻟﻨﻔﻲ ﺍﻟﺘﻌﺪﺩ ﻭﺍﻻﺧﺘﻼﻑ ﻭﺗﺜﺒﻴﺖ ﻟﻠﻮﺍﻗﻊ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺟﻤﻮﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻐﻴّﺮ،ﻃﺒﻘًﺎ ﻟﻤﺎ ﻳﻨﺎﺻﺮﻩ ﺩﻋﺎﺓ ﺍﻟﻔﻜـــــﺮ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻱ ﻣﻦ ﺟﻤﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﻭﺣﺼﺮ ﻟﻼﺟــﺘﻬﺎﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺮﻭﻉﻭﺍﻟﺸﻜﻠﻴﺎﺕ.ﻭﻫﻜﺬﺍ، ﻓﺎﻟﺘﻤﺘﺮﺱ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﻨﺼــــﻮﺹ ﺩﻭﻥ ﺭﺑﻄﻬﺎ ﺑﺴﻴﺎﻗﺎﺗــــﻬﺎ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ،ﺑﺤﺴﺐ ﺃﺑﻲ ﺯﻳﺪ، ﻫﻮ ﻣــــﺎ ﺃﺩﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﺑﺘﻌﺎﺩ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﻭﺇﻟـــﻐﺎﺀ ﺍﻟﻌﻘﻞ . ﻭﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺬﻟﻚ، ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﺠﺪ ﺍﻟﺨـــ ﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳـــﻼﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻳﺮﻛﺰ ﻋﻠﻰﺣﺎﻛﻤﻴﺔ
ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻻﺕ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﻭﺍﻟﻔﻜﺮ . ﻓﺎﻟﻨﺺ ﺍﻟﺠﺎﻣــــﺪ
ﺍﻟﺜﺎﺑﺖﺍﻟﻤﻌﻨﻰﻭﺍﻟﺪﻻﻟﺔﺳﺮﻋﺎﻥ ﻣﺎ ﻳﺘﺤﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺃﺳـــﻄﻮﺭﺓ ﺗﻜﺒّﻞ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﻨﻔﺲ، ﻭﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﻜﺮّﺱ ﺳــــﻠﻄﺔ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﻭﺗﺠﻌﻠﻬﺎ ﻓﻮﻕ ﻛﻞ ﺍﻟﺴﻠﻂ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺑﻤﺎ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﺑﺬﻟﻚ ﺗﻜــﻮﻥ ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻫﻲ ﺍﺳﺘﺒﻌـــﺎﺩ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺍﻟﺤـــﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻮﺍﻗــــﻌﻴﺔ ﻭﻣﻦ ﺛﻢّ ﺳـﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻮﺍﺣـــــﺪ ﻭﺍﻟﺪﻻﻟﺔ ﺍﻷﺑﺪﻳﺔ ﻟﻠﻨﺺ؛ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﺟﺎﺀﺕ ﺩﻋﻮﺓ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺿﺮﻭﺭﺓ ﺗﺤـــﺮﻳﺮ ﺩﻻﻟﺔ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠــﻤﻮﺩ . ‏
ﺇﻥّ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺃﺑﻨﻴﺔ ﻟﻐﻮﻳﺔﻻﺗﻔﺎﺭﻕﺍﻟﻨﻈﺎﻡﺍﻟﺪﻻﻟﻲ ﻟﻠﻐﺘﻬﺎ ﺇﻻّ ﻓﻲ ﺣﺪﻭﺩ ﺧﺎﺻﺔ ﻣﺸﺮﻭﻃﺔﺑﻄﺒﻴﻌﺔ ﻭﻇﻴﻔﺘﻬﺎ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ، ﻟﺬﻟﻚ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺃﻥ ﺗﺼﻮﻍ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﻠﻪﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺜﻨﺎﺋﻴﺎﺕ ﺍﻟﻠﻐـﻮﻳﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .
ﻟﻜﻦ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺗﺘﻄــﻮﺭ ﺑﺘﻄﻮﺭ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻟﻤـــﺠﺘﻤﻊ
ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﺒﺸـــﺮﻳﻴﻦ، ﻓﺈﻧّﻬﺎ ﺗﺼــــﻮﻍ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﺟﺪﻳﺪﺓ
ﻭﺗﻄﻮﺭ ﺩﻻﻻﺕ ﺃﻟﻔﺎﻇــﻬﺎ ﻟﻠﺘﻌﺒﻴﺮ ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺎﺕ ﺃﻛـ ﺜﺮ
ﺗﻄﻮﺭﺍً؛ ﻟﺬﺍ ﻓﻤﻦ ﺍﻟﻄـﺒﻴﻌﻲ، ﺑﻞ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻱ، ﺃﻥ ﻳُﻌــﺎﺩ
ﻓﻬﻢﺍﻟﻨﺼﻮﺹﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔﻭﺗﺄﻭﻳﻠﻬﺎ ﺑﻨﻔﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴـــــﻢ
ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤـــﺎﻋﻴﺔ ﺍﻷﺻﻠﻴﺔ ﻭﺇﺣﻼﻝ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴــﻢ
ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ ﻣﺤـــﻠّﻬﺎ ﻣﻊ ﺛﺒﺎﺕ ﻣﻀﻤﻮﻥ ﺍﻟﻨﺺ ﻃﺒﻌًﺎ .
ﻟﻘﺪ ﺃﺩﻯ ﺗﻨﺼﻴﺐﺍﻟﻨﺺﺳﻠﻄﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ، ﺑﺤﺴﺐ ﻗﺮﺍﺀﺓ ﺃﺑﻲ ﺯﻳﺪ ﻫﺬﻩ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻤﺴــــﻚ ﺑﺎﻟﺪﻻﻻﺕ ﺍﻟﺤــــﺮﻓﻴﺔ ﻓﻲ
ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺍﻧﺤﺼﺎﺭ ﺍﻟﺘﻔﻜــــﻴﺮ ﺍﻹﺑﺪﺍﻋﻲ؛ ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻠﺰﻡ
ﺇﻧﺠﺎﺯ ﻧﻘﺪ ﺷﺎﻣﻞ ﻭﺗﻤﺤﻴﺺ ﺩﻗﻴﻖ ﻟﻠﺨــــﻄﺎﺏ ﺍﻟــﺪﻳﻨﻲ
ﻟﻜﺸﻒ ﺁﻟﻴﺎﺗﻪ ﻭﻃﺮﻳﻘﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻻﺷﺘﻐﺎﻝ ﻗﺼﺪ ﻧﻘﺪﻫﺎ .
ﻓﻤﺎ ﻫﻲ ﺃﻫﻢ ﺗﻠﻚ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﻛﻤﺎ ﺗﻮﺻّﻞ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻧﺼﺮ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ؟
*2 -ﺁﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻻﺳﻼﻣﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ*
ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋــﺔ ﻣﻦ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﻳﺸﺘﻐــــﻞ ﺑﻬﺎ،
ﻭﻗﺪ ﺃﺟﻤــــﻠﻬﺎ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻓﻲ ﺧﻤﺲ ﺁﻟﻴﺎﺕ، ﻭﺫﻟﻚ ﺑﻌــــﺪ
ﺗﻤﺤﻴﺺ ﻭﻓــﺤﺺ ﺩﻗﻴﻘﻴﻦ ﻟﺨﻄﺎﺑﻬﺎﺍﻟﺪﻳﻨﻲﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﺭﺩﺕ ﻓﻴﻪ، *ﻭﻫﻲ :*
ﺃ - ﺁﻟﻴﺔ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﻭﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﺇﻟﻐﺎﺀ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺔﺑﻴﻦ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻭﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻉ .
ﻭﺗﻌﻤﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻟﻴﺔ ﻋــــﻠﻰ ﺍﻟﺤﻴﻠﻮﻟﺔ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻦ
ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻳﺨﻠﻂ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺪﻳﻦﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﺪﺳﻬﺎﺑﺪﻭﺭﻫﺎ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻭﺣﻴًﺎ ﻣﻨﺰﻟًﺎ .
ﺏ - ﺁﻟﻴﺔ ﺭﺩ ﺍﻟـــﻈﻮﺍﻫﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺒﺪﺃ ﻭﺍﺣﺪ، ﻭﻫﻮ ﺗﻔــــﺴﻴﺮ
ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﻛﻠﻬﺎ ﺑﺮﺩﻫﺎ ﺟﻤﻴﻌًﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﺒﺪﺇ ﺃﻭ ﻋﻠﺔ ﺃﻭﻟﻰ،ﺗﺴﺘﻮﻱ ﻓﻲ ﺫﻟﻚﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .
ﺝ - ﺁﻟﻴﺔ ﺍﻻﻋﺘﻤﺎﺩ ﻋﻠﻰ ﺳﻠﻄﺔ " ﺍﻟﺴﻠﻒ " ﺃﻭ " ﺍﻟﺘﺮﺍﺙ " ،ﻭﺫﻟﻚ ﺑﻌﺪﺗﺤﻮﻳﻞﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﺍﻟﺘﺮﺍﺛﻴﺔ، ﻭﻫﻲ ﻧﺼــــﻮﺹ
ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ، ﺇﻟﻰ ﻧﺼﻮﺹ ﺃﻭﻟﻴﺔ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻘﺪﺭ ﻫﺎﺋﻞ ﻣـــــﻦ
ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ ﻻ ﺗﻘﻞ ﻓﻲ ﻛـــﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﺼـﻮﺹ
ﺍﻷﺻﻠﻴﺔ .
ﺩ - ﺁﻟﻴﺔ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ ﺍﻟـــﺬﻫﻨﻲ ﻭﺍﻟﺤﺴﻢ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ "ﺍﻟﻘﻄﻌﻲ " ،
ﻭﺭﻓﺾ ﺃﻱ ﺧﻼﻑ ﻓﻜﺮﻱ، ﺇﻻّ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺮﻭﻉ ﻭﺍﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ ﺩﻭﻥ ﺍﻷﺳﺲ ﻭﺍﻷﺻﻮﻝ .
ﻩ - ﺁﻟﻴﺔ ﺇﻫﺪﺍﺭﺍﻟﺒﻌﺪﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﻭﺗﺠﺎﻫﻠﻪ، ﻭﻳﺘﺠﻠﻰﻫــﺬﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻜﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ، ﻳﺴﺘﻮﻱ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺼـــﺮ ﺍﻟﺬﻫﺒﻲ ﻟﻠﺨﻼﻓﺔ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪﺓ، ﻭﻋﺼﺮ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ . ﻭﻳﺘﺠﻠﻰ ﺇﻫﺪﺍﺭ ﺍﻟﺒﻌــــــﺪ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻄﺎﺑﻖ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺍﻟﺤﺎﺿﺮ .
ﺗﺸﻜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﻣﺠﺘﻤﻌﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺍﺷﺘﻐﺎﻝ ﺍﻟﺨـــــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻــــــﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﺘﻮﺟﺐ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﻭﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻞ؛ ﻟﺬﺍ ﺳﻌﻰ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﺇﻟﻰ ﺇﻧﺠﺎﺯ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔﻟﺸﺎﻗﺔ ﺑﻜﻞ ﺭﻭﺡ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻭﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺔ، ﻣﺘﺴﻠــﺤًﺎ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺑﺸﺠﺎﻋﺘﻪ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻌﻬﻮﺩﺓ ﻭﺳﻌﺔ ﺍﻃﻼﻋﻪ ﻋﻠﻰ
ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ، ﻭﻣﻘﺎﻭﻣًﺎ ﺷﺮﺳًﺎ ﺿﺪ ﺳﻠــﻄﺔ
ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻭﺿﺪ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺰﻋﻤﻮﻥ ﺃﻧّﻬﻢﻭﺣﺪﻫﻢ ﻣﻦ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﺣﻖ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﺑﺎﺳﻢ ﺍﻟﺪﻳﻦ . ﻭﻗﺪﺍﻋﺘﺮﻑ ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﺑﺄﻥّ ﺗﺤﻠﻴﻠﻪ ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ
ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﻧﻘـــﺪﻩ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺘﻢ ﺇﻻّ ﻋﺒﺮ ﻛﺸـــﻒ
ﻣﻨﻄﻠﻘﺎﺗﻪ ﻭﺁﻟﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﻔﻜـﺮﻳﺔ ﻫﺬﻩ، ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻧّﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺼـﻌﺐ ﻓﻌﻼً ﺃﻥ ﻳﻔﺼﻞ ﺍﻟﻨﺎﻗﺪﺍﻟﻤﺆﻭّﻝ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻘﺎﺕ ﺍﻟﻔﻜـــﺮﻳﺔ ﻭﺍﻷﻳﺪﻳـﻮﻟــﻮﺟﻴﺔ ﻟﻬـــﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻭﺁﻟﻴﺎﺗﻪﺍﻟﺘﻲﻳﺘﻮﺳّﻠﻬﺎ ﻭﻳﺸﺘﻐﻞ ﺑﻬﺎ .
ﻳﻘﻮﻝ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﺑﻬﺬﺍﺍﻟﺨﺼﻮﺹ : " ﻫﻨﺎﻙ ﺧﻤــﺲ ﺁﻟﻴﺎﺕ ... ﺍﺳﺘﻄﻌﻨﺎ ﺭﺻﺪﻫﺎ ﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ،
ﻓﻤﻦ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺃﻻ ﻧﺰﻋﻢ ﺃﻧّﻬﺎ ﺗﺴﺘﻮﻋﺐ ﻛﻞ ﺁﻟﻴﺎﺕﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ، ﻓﻼ ﺷﻚ ﺃﻥّ ﻣــﺠﺎﻝ ﺍﻟﺮﺻﺪ ﻭﺍﻹﺿﺎﻓﺔ، ﺑﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻤﻖ ﻭﺍﻟﺪﻗﺔ ﻓﻲ ﺗﺤـــﻠﻴﻞ، ﺳﻴﻈﻞ ﻣﻔﺘﻮﺣـــًﺎ، ﺳـــﻮﺍﺀ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻶﻟﻴﺎﺕ ﺃﻭ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ
ﻟﻠﻤﻨﻄﻠﻘﺎﺕ . ﺇﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺨﻤﺲ ﺗﻤﺜﻞ، ﻓﻲ ﺗﻘﺪﻳﺮﻧﺎ، ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔﻭﺍﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ ﻣﺠﻤﻞ ﺍﻟﺨــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻭﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋـــﻠﻴﻪ ".
ﻳﺘﻀّﺢ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺼﺮﻳﺢ ﺃﻥّ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺷﺘﻐـــــﻞ
ﺑﻬﺎ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻭﺗﻮﺳﻠّﻬﺎ ﻣﻨﻬﺠًﺎ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ، ﻫﻲ ﺑﺤﻖ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺔ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻧﺎﺟﺤــﺔ، ﺣﺘﻰ ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﺗﺴﺘﻄﻊ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺗﺤﻴﻂ ﺑﻜﻞ ﺍﻵﻟﻴـــﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺷﺘﻐﻞ ﻭﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﻳﺸﺘﻐﻞ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ . ﺫﻟﻚ ﺃﻧّﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﻋﻠﻰ ﺁﻟﻴﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ ﻻ ﺗﻘﻞ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﺍﻟﺬﻛﺮ، ﻭﻣﻨﻬﺎ :
ﺍﻵﻟﻴﺔ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﻤﺜﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺰﻭﻉ ﺍﻟــﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻲ
ﺍﻟﻤﻔﻀﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﻏﺘﺮﺍﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ،ﻭﺍﻵﻟﻴﺔﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺍﻟﻜﺎﻣﻨﺔ ﻓﻲ ﺳﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻮﻫﻢ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﻲ ﻭﺍﻟﺤﺰﺑﻲ، ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻷﺧـــﺮﻯ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻟﻠـــﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ
ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺑﻤﺨﺘﻠﻒ ﺗﻴﺎﺭﺍﺗﻬﺎ .ﻟﻜﻦ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﻳﻤﻜﻦ ﻭﺻﻒ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻟﺔ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻠﻴﺔ ﺑﻜﻮﻧﻬﺎ ﺭﺍﺋـــﺪﺓ ﻭﺷﺠﺎﻋﺔ ﻓﻲ ﺳـــﺒﻴﻞ ﺇﺑﺮﺍﺯ ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻘﺎﺕ ﺍﻟــﻔﻜــــﺮﻳﺔ ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ،
ﻭﻛﺬﺍ ﺍﻟﻤﺴﺎﻟﻚ ﺍﻟﺘﺪﻟﻴﻠﻴﺔ ‏( ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ‏) ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺸﺘﻐـــﻞ ﺑﻬﺎ
ﻣﻨﻄﻖ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨــﻄﺎﺏ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﻄﻮﻱ ﻓﻲ ﺑﻨﻴﺘﻪ ﺍﻟﻔﻜـﺮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻐﻠﻘـــﺔ ﻭﺩﻭﻏﻤﺎﺋﻴﺔ ﺟﺎﻣﺪﺓ، ﺗﻤــﺜﻞ ﺗﺮﺑﺔ ﺧــﺼﺒﺔ ﻟﺘﻔﺮﻳـــﺦ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﺘﻌــــﺼّﺐ
ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻭﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﺍﻟــﻤﺬﻫﺒﻲ ﻭﺍﻟﻄﺎﺋﻔﻲ ﻭﻣﻈﺎﻫﺮﻫـــﻤﺎ .
ﻭﺍﻟﻈﺎﻫــﺮ، ﺑﺤﺴﺐ ﻫـــﺬﻩ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻟﺔ، ﺃﻥّ ﺍﻟﺴـــﺒﻴﻞ ﺇﻟﻰ
ﺗﺠﺪﻳﺪ ﻓﻬــــﻤﻨﺎ ﻟﻠﺪﻳﻦ ﻭﻗﻀﺎﻳﺎﻩ، ﻫﻮ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻣﻦ ﺃﺳﺮ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺍﻟﺠﺎﻣﺪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺸﺠﻴﻊ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳـــــﻞ
ﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﺍﻟﻤﻨﻔﺘﺢ ﻋـــــﻠﻰ ﺍﻟﻌﻠـــــﻮﻡ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻮﺳﻞ ﻓﻲ ﺍﺷﺘﻐﺎﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﻬﻴﺮﻣﻴﻨﻮﻃﻴﻘﻲ، ﻣﻤـــّﺎ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻭﻣـــﺮﻧﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﻞ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻋﺒﺮ
ﻗﺮﺍﺀﺓ ﺍﻟﻨﺼـــﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﻏﻴﺮ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﺗﺄﻭﻳﻠﻬــﺎ .
ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﺧﺘﻤًﺎ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻝ، ﻧﺨﻠﺺ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺇﻥّ ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ، ﻛﻤـــﺎ ﻣﺎﺭﺳﻪ ﻧﺎﺻﺮ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ، ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺘﻢ ﺩﻭﻥ ﻣﻤﺎﺭﺳــﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻞ ﻓﻲ ﺑﻌﺪﻳﻬﺎ :
ﺍﻟﻠﻐﻮﻱﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲﻣﻜــّﻨﺖ ﻗﺎﺭﺉ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ‏( ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ‏) ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﻋﻠﻰﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻘـﺎﺕ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻭﻛﺬﺍ ﺟﻤﻠـﺔ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﺳّﻠﻬﺎ ﺭﻭﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏﻓﻲﺗﺄﺳﻴﺲﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻬﻢﻭﺗﺼﻮﺭﺍﺗﻬﻢ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻟﻠﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ .
ﺑﺮﻫﻨﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤــــﺴﻠﻚ ﻓﻲ
ﺇﺑﺮﺍﺯ ﺗﻬﺎﻓﺖ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺍﻟﺴـــﻴﺎﺳﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﺳﻮﺍﺀ ﻓﻲ ﻛــﺸﻒ ﻣﺤﺪﻭﺩﻳﺔ ﻣــﻨﻄﻠﻘﺎﺗﻪ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻭﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ، ﻭﻛﺬﺍ ﻓﻲ ﻧﻘﺪ ﺁﻟﻴﺎﺕ ﺍﺷﺘﻐﺎﻝ ﺧﻄﺎﺑﻬﺎ ﻭﺇﺑﺮﺍﺯ ﻣﺤﺪﻭﺩﻳﺘﻬﺎ . ﻭﺗﺄﺳﻴﺴًﺎ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻧﻌﺘـﺒﺮ ﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺔ ﻧﺼﺮ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ
ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻــﺮ ﻣﺤﺎﻭﻟﺔ ﻫﻴﺮﻣﻨﻮﻃـــﻴﻘﻴﺔ
ﻧﻘﺪﻳﺔ ﺟﺎﺩّﺓ، ﺭﺍﻣﺖ ﺇﺯﺍﻟــﺔ ﺍﻟﻬﺎﻟﺔ ﻭﺍﻷﺳﻄﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻏﻠّﻒ
ﺑﻬﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻓﻀﺢ ﺃﻃﺮﻩ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻭﻣﻘﻮﻻﺗﻪ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟــﻮﺟﻴﺔ، ﻭﻣﻦ ﺛﻢ ﺇﻗﺮﺍﺭ ﻣـــﺤﺪﻭﺩﻳﺘﻪ ﻭﺍﻧﺤﺼﺎﺭ ﺃﻓﻘﻪ ﺍﻟﻨﻈــــﺮﻱ ﻭﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﻭﻣﺪﻯ ﺑﺆﺱ ﺧﻄﺎﺑﻪ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ .
ﻫﻜﺬﺍ ﺃﺻﺒﺢ ﻣﻦ ﺍﻟﻀـــﺮﻭﺭﻱ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺇﺗﻤﺎﻡ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤـــﺤﺎﻭﻟﺔ
ﻭﺗﻮﺳﻴﻌﻬﺎ ﻟﺘﺸﻤﻞ ﻣـــﺨﺘﻠﻒ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﺨﻄﺎﺑﺎﺕ ﺍﻟﺴــــﺎﺋﺪﺓ
ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻌﻨﺎ ﻭﺧﺎﺻــــﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﺫﻟﻚ ﺷﺮﻳﻄﺔ ﺍﻟﺘﺰﺍﻡ ﺍﻟﺠﺪّﺓ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔﻭﺍﻷﺻﺎﻟﺔﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﻬﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻤــــﻨﻬﺞ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻠﻲ ﺍﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻞ ﺍﻟﻠﻐﻮﻱ ﻭﺍﻟﻔـــــﻬﻢ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﻭﺍﻟـــﺴﻮﺳﻴــﻮﻟــﻮﺟﻲ ﻟﻠﻈﻮﺍﻫﺮﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔﻭﻟﻠﻨﺼﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ .

Post: #8
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-25-2016, 04:04 PM
Parent: #6

قراءة في تجــربة نصر حامد أبوزيد
_✍🏾 أحمـــد أخدوش_*
"نريد الإحتكام الي العقل الذي يردنا إلي البعد التاريخي للنصوص".
إشتهـــر المفكر ناصـــر حامد ابو زيد بمشروعــه الفكري النقدي الطمـــوح الذي يركز علي تأويل الفكر الديني الإسلامي من أجـــل فهمه و انتقاد الجـــوانب السلبية فيه، باعـــتباره خطابا مثله مثل باقي الخطابات التاريخيـــــــة الاخري : الأدب، الفلسفــة العلم ... الخ.
و لقد رام هذا المفكر الفذ من هذا المشــــروع إنجاز قراءة نظرية و منهجية نقدية لأصول هذا الخطاب لأجل تعريته و إعــــداده للفحص النقدي،وذلك عـبر
تسليط الضوء علي إبعــاده التاريخيةوالايديولجية النسبية التي غــــالبا ما يتغاضي عنها الكــثيرون.و قبل الشروع في ممارســة المنهجية النقدية عــلي هذا الخطاب، عمل هذا الاخير علي كشف آلــيات اشتغال هذا الخــطاب، ثم ابرز أهم منطلقاته الايديولجية الثاوية خـلف خلف لغته التي تزعــم الانتهال من النصـــوص الدينية المؤسسة للفكــر الديني برمّته. و في معرض نقده لهذا الخطاب، اعترف صاحب (نقد الخطاب الديني المعاصر) أنه لا خلاف حول أن الدين *كل الأديان التوحيدية*يجب أن يكون عنصرا أساسيا في أي مشروع نهضوي يروم التقدم و التطور،لكن ذلك لا يعني أن التعاطي مع نصوص كهذه الأديان يلزم البقاء و الجمود علي منهجيات الفقهاء و الاصوليين الأوائل أو محتكرا من طرف جماعات محددة بل يجب تفعيل منظورات عقلانية جديدة : حديثة و معاصرة،يكون بإمكانها أن تسمح بفهم جديد لتلك النصوص و لدلالاتها. غير ان الخلاف كل الخلاف بالنسبة إلي مثل هــــذا المشروع النقدي الطموح يتركز حول مقصود الناس بالدين و طبيعته و أشكال إستعماله.
لذا من المفيد أن يتساءل المرء منذ البداية حول ما اذا كان المقصود الناس بالدين مجرد تلك الطقوس و الشعائر التي يقومون بها كل يوم، ام أنه يتعدي ذلك لينغرس في قاعة الممارسة التاريخية و الاجتماعية و السياسية و الايديولوجيةالتي تسعي اليها كل فئة و كل طائفة لان تبرّر بها مصالـــحها الخاصة.
بالتالي هل يمكن للدين بعد تحليله و فهمــــه و تأويله تأويلا عقلانيا نظريا و علميا، أن ينفي عــــنه نفسه هذا الطابع الأسطوري الرمزي و الملحمي البطولي الذي تراكم عليه جـــراء مرور الوقت فغلف به عبـر التأريخ؟ ثم ما حــــدود إمكانية إحياء ما في الديـن من قوي و قيم إجابــــية دافعة نحو التقدم و العدل و الحرية و المساواة؟ في الحقيقة ليس الدين في حد ذاته ما كان يسعي الي نقده أبوزيد، بل فهم معين و طريقة محدده في التدين ، أي ذاك المعني الذي رسخته الممارسة التاريخية و الايديولوجية عبر العصور التأريخ الحضاري للشعوب الاسلامية ما يستهدفه بتأويلياته و انتقاداته تلك الممارسة التي ما فتئ الفكر الدين المعاصر ينافح من أجل تكريسها و الدفاع عنها كما لو كانت حقائق منزلة، حيث غالبا ما تجعل الدين إيديولوجيا فكــــرية و سياسية و ثقافية تبريرية تنزع نحو تكريس طريقة في النظر الي الحــــياة و العالم ،وهي نفسها الطريقة التي تغلف الدين بفهم تأريخي معين يكــــبله و يحرّفه عن معـــــــانيه الحقيقية السامية.
ﻟﻘﺪ ﻓﺤﺺ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻫـــﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻓﻲ ﺷﻜﻠﻪ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻱ
ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻓﻮﺟﺪﻩ ﻣﻨﻐﻤﺴًﺎ ﻓﻲﺗﺼﻮﺭﺍﺕﻛﻼﻣﻴﺔﻭﺃﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺑﺎﻟﻴﺔﻭﺑﻌﻴﺪﺓﻋﻦﻣﻌﺎﻧﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻧﻔﺴﻪ،ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺗﻜﺮّﺱ ﺍﻟﺠﻤﻮﺩ ﻭﺍﻟﺠـــــﻬﻞ ﻭﺍﻟﺘﺨﻠّﻒ ﺑﺎﺳﻢ ﻗﺪﺳـــﻴﺔ ﻣﺰﻋﻮﻣﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻮﺟﺐ ﺇﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻟﻠﺘﺄﻭﻳﻞ ﻭﺍﻟﻨﻘﺪ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ . ﻭﺑﺎﻟﻔﻌﻞ، ﻳﺪﺭﻙ
ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺃﻥّ ﺍﻻﺣﺘﻜﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ‏( ﺍﻟﻌﻘﻞ‏)ﻳﻔﻘﺪﻩ ﻛﻞ ﺃﺳﻠﺤﺘﻪ ﻭﻳﻜﺸﻒ ﻗﻨﺎﻋﻪ ﻭﺯﻳﻔﻪ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ، ﻟــﺬﺍ ﻳﺒﻘﻰ ﻋﺎﺟﺰًﺍ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻮﺍﺭ ﻋﻠﻰ
ﺃﺭﺿﻴﺔ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺍﻟﻤـــﺘﺠﺪّﺩ ﻭﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤـــﻨﻔﺘﺤﺔ . ‏
ﻭﺩﺭﺀًﺍ ﻷﻱ ﺗﺠﺪﻳﺪ، ﻳﻠﺠﺄ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﺇﺑﺪﺍﺀ ﺍﻟﺮﻓــﺾ ﻭﺍﻻﻋﺘﺮﺍﺽ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﺃﻱّ ﻣــﺤﺎﻭﻟﺔ ﺗﺮﻭﻡ ﺗﺄﺳـــﻴﺲ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺔ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓﻓﻲﺛﻘﺎﻓﺘﻨﺎ،ﻭﻳﺴﺘﺨﺪﻡ ﺿﺪ ﺫﻟﻚ ﺳﻼﺣﻪ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻱ :ﺍﻟﺘﻜﻔﻴﺮ . ﻭﻫﻮ ﺳﻼﺡ ﻓﻌّﺎﻝ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﺮﻭﻑ، ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻊ
ﻣﺘﺨﻠﻒ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﺃﻏﻠﺒﻴﺔ ﺃﻓﺮﺍﺩﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻴﺔ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ،ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﻣﺘﻌﻠّﻤﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻴﺔ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ،ﻭﻳﺴﺘﺴﻠﻢ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﻣﺜﻘﻔﻴﻪ ﻻﺑﺘﺰﺍﺯ ﺗﻬﻤــــﺔ ﺍﻟﺘﻜﻔﻴﺮ، ﻓﻴﻠﺠﺆﻭﻥ ﺇﻟﻰ ﻣﺒﺪﺃ ﺍﻟﺘﻘﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺤﺔ، ﻟﻴﺼﺒﺢ ﺑﺬﻟﻚ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻗﻮﻳًّﺎ ﺑﺎﻟﺨﻮﻑ ﻭﺍﻟﺮﻫــــﺒﺔ ﻭﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﺤﺠﺔ ﻭﺍﻟﺪﻟﻴﻞ .
ﻭﻣﻘﺎﺑﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ ﻓﻲﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﺍﺭﺗﺄﻯ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻧﻬﺞ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻞ ﺍﻟﻔﺎﺣــــﺺ ﻭﺍﻟﻨﺎﻗﺪ ﺗﺠﺎﻩ ﻣﻤـــــﻜﻨﺎﺕ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺷﻜﻠﻪ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ، ﻛﻤﺎ ﻳﺪﺍﻓﻊ ﻋﻨﻪ ﺭﻭﺍﺩ ﻭﻣﻨﻈّﺮﻭ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔﻭﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻠﻮﻗـــﻮﻑ ﻋــﻠﻰ ﻣﻨﻄﻠﻘﺎﺗﻪ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻭﻓﻀﺢ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﺄﻭﻳﻞ ﺭﻭﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨــﻄﺎﺏ ﻟﻬﺎ، ﻭﻛـــﺬﺍ ﺗﺰﻳﻴﻒ ﺁﻟﻴﺎﺕ ﺍﺷﺘﻐﺎﻟﻬﻢ ﻭﺍﺳﺘﺪﻻﻟﻬﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ . ﻭﻟﻌﺮﺽ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻠﻴــــﺔ ﺍﻟﻨﻘﺪﻳﺔ، ﻧﻘﺘﺮﺡ ﻫﻨﺎ ﺗﺴﻠﻴﻂ
ﺍﻟﻀﻮﺀﻋﻠﻰﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﻭﻛﺬﺍ ﺃﻓﻘﻬﺎ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ .
-1 ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻘﺎﺕ ﺍﻟﻔﻜــــﺮﻳﺔ ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻹﺳـــﻼﻣﻲ
ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﺑﺤﺴﺐ ﻃﺒﻴﻌـــﺔ ﺍﻟﻘﺮﺍﺀﺓ ‏ﺍﻟﺘﻲ ﻗﺮﺃ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﺃﺑﻮﺯﻳﺪﺍﻟﻔﻜﺮﺍﻟﺪﻳﻨﻲﺍﻹﺳﻼﻣﻲ، ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦﻣﻨﻄﻠﻘﻴﻦ ﺃﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﻴﻦ ﺃﺳﺎﺳﻴﻴﻦ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ، ﻫﻤﺎ :
*_ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﺺ_*
ﺃ - ﻣﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔﻳﻌـــﻮﺩ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ، ﺣﺴــﺐ ﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺎﺕ ﺃﺑﻲ ﺯﻳﺪ، ﺇﻟﻰﺣﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﺘﺤﻜﻴﻢ ﺑﻜﺘﺎﺏﺍﻟﻠﻪﻣﻦﺟﺎﻧﺐ ﺍﻷﻣﻮﻳﻴﻦ ﻓﻲﻣﻮﻗﻌﺔ " ﺻﻔّﻴﻦ " ، ﻭﻫﻲ ﺣﻴﻠﺔ ﺃﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺍﺳﺘﻄﺎﻋﺖ ﺃﻥ ﺗﺨﺘﺮﻕ، ﺑﺎﺳﻢ ﻗﺪﺳﻴﺔ ﺍﻟﻨﺺ، ﺻـــــﻔوف ﺍﻟﺨﺼﻮﻡﻟﺘﻮﻗﻊ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺧﻼﻓًﺎ ﺃﻓﻀﻰ ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﺼــــﺮﺍﻉ ﻟﺼﺎﻟﺢ ﺍﻷﻣﻮﻳﻴﻦ . ‏
ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺯﻳﺪ ﻓــﺈﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳــﺨﻴﺔ
ﺗُﺒﻴّﻦ ﺑﺎﻟﻤﻠﻤﻮﺱ ﻛﻴـــﻒ ﺗﻢ ﺗﺤﻮﻳﻞ ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﻣﻦ ﻣﺠــﺎﻟﻪ
ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤــﺎﻋﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺑﻤﺠﺮّﺩ ﺍﻻﻟﺘﺠﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺗﺤﻜﻴﻢ ﺍﻟﻨﺺ ﺍﻟﻤﻘﺪّﺱ ﻓﻲ ﺻﺮﺍﻉ ﺫﻱ ﻃﺎﺑﻊ ﺳﻴﺎﺳﻲ .
ﻟﻘﺪ ﻧﺠﻢ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ ﻋﻤــﻠﻴًّﺎ ﺗﺤﻮﻳﻞ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺇﻟﻰ ﺗﺎﺑــــﻊ
ﻟﻠﻨﺺ، ﻟﻴﺴﺘﻘﻴﻞ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻋﻦ ﺩﻭﺭﻩ ﻓﻲ ﻓﻬﻢ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ
ﻭﺷﺆﻭﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻻﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﺎﻡ ﺑــــﻬﺎ
ﺩﻋﺎﺓ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺍﻟﺤﻘﺐ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻟﻤﻮﺍﻟﻴﺔ . ﻭﻗــﺪ
ﻭﺟﺪﺕ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﻓﻲ ﻫــﺬﻩ ﺍﻻﺳﺘﻘﺎﻟﺔ ﻟﺪﻭﺭ ﺍﻟﻌﻘـــﻞ ﻓﻲ
ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﻣﻨﺎﺳـــﺒﺔ ﻟﻠﻬﺠﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻔﻜــــﻴﺮ
ﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻭﺭﻓﺾ ﺍﻟﺘﻌﺪﺩﻳﺔ ﻭﺍﻻﺧﺘﻼﻑ، ﻓﺘﻌﻤــــــﻘﺖ ﻣﺴﺎﺣﺎﺕ ﺍﻟﻨـــﺼﻮﺹ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺎﺏ ﺍﻻﺟﺘﻬﺎﺩﺍﺕ، ﻭﻏﻠﺐ
ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴـــــــﺪ ﻭﺍﻟﺠﻤﻮﺩ . ﻟﻜﻦ ﺍﻷﺧﻄﺮ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺫﻟﻚ، ﻫﻮ ﺃﻥّ ﻣﻨـــــﻄﻠﻖ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﻫﺬﺍ ﻗﺪ ﻋﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻭﺿﻊ ﺗﻘﺎﺑﻞ ﻣﻔﺘﺮﺽ ﺧﻄﻴﺮ ﺑﻴﻦ ﻣﻘﻮﻟﺘﻲ : " ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ " ﻭ " ﺍﻹﻟﻬﻲ " ؛ ﻟﺬﺍ ﻛﺮّﺳﺖ ﻫﺬﻩ
ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ، ﺑﺎﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺴﺘﻌﻴﺮﻩ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﺍﻟﻤﻘﺎﺭﻧﺔﺍﻟﺨﻄﻴﺮﺓ ﺑﻴﻦ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺑﺸﺮﻱ ﻭﻣﺎ ﻫـــﻮ ﺇﻟﻬﻲ، ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺰﻣﻨﻲ ﺍﻟﻤﺪﻧّﺲ ﻭﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﺍﻟﻤﻘﺪّﺱ . ﻭقـــﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺫﻟﻚ، ﺃﻥ ﺗﻢ ﺗﺪﻧﻴﺲ ﺍﻟﺘﺠــــﺮﺑﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﻭﻭﺻﻔﻬﺎ ﺑﺸﺘﻰﺃﻧﻮﺍﻉﺍﻷﺣﻜﺎﻡﺍﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﺍﻟﻮﺿﻴﻌﺔ، ﺣﻴﺚ ﺗﻢ ﺇﺿﻔﺎﺀ
ﻃﺎﺑﻊ ﺍﻻﺣﺘﻘﺎﺭ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻤﺎ ﺍﺳﺘﻮﺟﺐ ﺗﺤﻜﻴﻤًﺎﺇﻟﻬﻴًّﺎﻣﻘﺪّﺳًﺎ ﺑﺪﻳﻼً ﻳﻠﻐﻲ ﻛﻞ ﻓﻌﻞ ﺇﻧﺴﺎﻧﻲ .ﻭﻟﺘﻘﺪﻳﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﻋﻦ ﺭﻭﺍﺝ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ، ﺭﻛﺰّ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ،
ﻓﻲ ﻣﻌﺮﺽ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ، ﻋﻠﻰ ﺗﺠﺮﺑـــﺔ
ﺍﻟﻤﻮﺩﻭﺩﻱ ﺍﻟﺘﻲ ﺷﻜﻠﺖ ﺍﻷﺳﺎﺱ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ ﻟﺴﻴﺪ ﻗﻄﺐ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﺳــﻴﻌﻤﻖ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﻭﺍﻟﻘﻄﻴﻌﺔ ﺑﻴﻦ ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻹﻧﺴــــﺎﻥ ﺍﻟﻤﺪﻧّﺲ ﻭﻣﺎ ﻳﻨﺘــــﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﺍﻟﻤﻘﺪّﺱ،ﻭﺫﻟﻚﺍﻧﻄﻼﻗًﺎ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪاﻟﺨﺎﺻــــﺔ ﻓﻲ ﺗﺄﻭﻳﻞ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴـــــﻢ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ، ﻣﺜﻞ ﻣﻔﻬﻮﻡ " ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ " ﻭ "ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ " ﻭ " ﺍﻟﺪﻳﻦ " ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﺐّ ﻛﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺮﺍﻫﺎ ﻫﻮ .ﻓﻤﺜﻼً ﻳﻌﺮّﻑ ﺳﻴﺪ ﻗﻄﺐ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ ﺑﻜﻮﻧﻬﺎ " ﺣــــﻖ
ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺸﺄ ﻋﻨﻪ ﺣﻖ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳــــﻊ
ﻟﻠﻌﺒﺎﺩ، ﻭﺣﻖ ﻭﺿﻊ ﺍﻟﻤﻨﺎﻫﺞ ﻟﺤﻴﺎﺗﻬﻢ، ﻭﺣﻖ ﻭﺿﻊ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ... ﻭﻛﻞ ﻣﻦ ﺍﺩّﻋﻰ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﺣﻖ ﻭﺿﻊ ﻣﻨﻬﺞ ﻟﺤﻴﺎﺓ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻘﺪ ﺍﺩّﻋﻰ ﺣـــﻖ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﺑﺎﺩّﻋﺎﺋــﻪ ﺃﻛﺒﺮﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴـــﺔ، ﻭﻛﻞ ﻣﻦ ﺃﻗﺮّﻩ ﻣﻨﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ
ﺍﻻﺩّﻋﺎﺀ ﻓﻘﺪ ﺍﺗﺨﺬﻩ ﺇﻟﻬًﺎ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﻠﻪ، ﺑﺎﻻﻋﺘـــﺮﺍﻑ ﻟﻪ
ﺑﺄﻛﺒﺮ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ . ‏
ﻭﺑﺤﺴﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﺭﺍﻟﺨﺎﺹ ﻟﺴﻴﺪ ﻗﻄﺐ، ﻳﻐﺪﻭ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺩﻳﻨًﺎ ﻳﻮﺣّﺪ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﻟﻮﻫﻴﺔ ﻭﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔﻭﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺨﺘﺰﻝ ﺍﻹﻧﺴــﺎﻥ ﻭﻳﺮﺩّﻩ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﺮّﺩﻋﺒﺪ ﺿﻌﻴﻒ ﻻ ﺣﻮﻝ ﻟﻪ ﻭﻻ ﻗﻮﺓ ﺇﻻّ ﻋﺒﺮ ﻫﺬﻩاﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺣﻴﺚ ﻳﺼﺒﺢ ﺟﻨﺪﻳًّﺎ ﻣﻦ ﺟﻨﻮﺩ ﺍﻟﻠﻪ .ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﻘﻄﺒﻲ، ﻫﻨﺎﻙ ﺣﺰﺏ ﻭﺍﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻫﻮ ﺣﺰﺏ ﻟﻠﻪ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻷﺣﺰﺍﺏ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﻨﺰﻝ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﺷﻐﻴﻠﺔ ﺍﻟﺸﻴـــــﻄﺎﻥ ﻭﺍﻟﻄﺎﻏﻮﺕ .
ﻳﺘﺮﺗﺐ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟتــــﺼﻮﺭ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻟﻠﺤﺎﻛﻤﻴﺔ،
ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺘﺒﻨﺎﻩ ﺑﻌﺾﻣﻦﺣﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ، ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﺨﻄــﻴﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎﺕ ﻋﺪﺓ :
*_ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ :_* ﻫﺠـــﺮﺍﻥ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﺍﻻﻧﻌﺰﺍﻝ ﻋﻨﻪ .
*_ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ :_* ﻭﺻﻒ ﺍﻟﺨﺼﻮﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﻴﻦ ﺑﺎﻟﻄﺎﻏـــﻮﺕ .
*_ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ :_* ﺗﻜﻔﻴﺮ ﺍﻟﻤﺨﺎﻟﻔﻴﻦ ﻭﺍﺳﺘﺒﺎﺣﺔ ﺩﻣﺎﺋﻬﻢ .
*_ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ :_* ﺇﻫﺪﺍﺭ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻌﻘﻞﻭﻣﺼﺎﺩﺭﺓ
ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺑﺪﻋﻮﻯ ﺍﻟﺒﺪﻉ ﻭﺍﻟﻀﻼﻝ .ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺗﻜﺮﻳﺲ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﺟﺘـــﻤﺎﻋﻲ
ﻭﺳﻴﺎﺳﻲ ﻭﺛﻘﺎﻓﻲ ﻣﻨﻐﻠـــﻖ ﻭﻣﺘﺴﻠﻂ، ﻳﺴﻮﺩﻩ ﺍﻟـــﻮﻻﺀ
ﺍﻷﻋﻤﻰ ﻟﻠﻘﻴﺎﺩﺍﺕ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ، ﻭﺗﺠﻨّﺐ ﺍﻟﺨﺼﻮﻡ ﻭﻫـــﺠﺮﺍﻥ
ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ . ﻭﺗﺒﻘﻰ ﺃﺧـــﻄﺮ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺆﺩّﻱ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻫﺬﺍ
ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ، ﻫﻲ ﺗﻜﻔﻴﺮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺪﻋﻮﻯﺗﺤﻜﻴﻢ ﺷﺮﻉ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ، ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ ﻋﻦ ﺍﻟـــﺪﻳﻦ ﻭﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ، ﺑﺎﻟﻨﺴـــﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻟﻤﻨﺘﺴﺒﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻜﺮ، ﺃﻣﺮًﺍ ﻳﺒﺮﺭ ﻛﻞ ﺍﻷﻓﻌﺎﻝ ﺍﻟﻤﺘﻄﺮﻓﺔ ﻓﻲﺣﻖ ﻣﻦ ﺗﺴﻮّﻝ ﻟﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺨﺎﻟﻔﺘﻬﻢ ﻫـــﺬﺍ ﺍﻟﻔﻬﻢ .
ﻳﺴﺘﺨﻠﺺ ﻧﺎﺻﺮ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻣﻦ ﺗﺄﻭﻳﻠﻪ ﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤيـــﺔ ﻭﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻓﻬﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﻃــﺮﻑ ﻣﻨﻈّﺮﻱﺍﻟﻔﻜﺮﺍﻟﺪﻳﻨﻲﻟﻠﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﻣﺪﻯ ﺧﻄﻮﺭﺓ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻔﻜـــﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺇﻟﻐﺎﺀ ﺩﻭﺭ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ ﻭﺇﻓﺮﺍﻍ ﻭﻋﻴﻪ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺇﻳﺠﺎﺑﻴﺎﺗـــﻬﺎ،
ﻓﻴﺼﻴﺮ ﺃﺗﺒﺎﻋﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﺭﻳﺸﺔ ﻓﻲ ﻣﻬﺐّ ﺍﻟﺮﻳﺢ، ﺗﺤــــﻮّﻟﻬﻢ
ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴــــــﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ
ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﺨﻄﺮﻳﻦ، ﺣــــﻴﺚ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﺴـــﻜﻴﻨﻬﻢ ﻓﻲ
" ﺟُﺐّ " ﻧﻮﻉ ﺟــــﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ . ‏
*ﺏ - ﻣﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﻨﺺ*
ﺃﻣّﺎ ﺑﺨﺼﻮﺹ ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻖ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻـــﺮ، ﻓﻴﻌﺘﺒﺮ ﻧﺼﺮ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ، ﻓﻲ ﻣﺪﺍﺭ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﻨﺺ، ‏ﺍﻟﻬﺪﻑ ﻣﻦ ﺇﺛﺎﺭﺗــــﻪ
ﻭﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺰ ﻋﻠﻴﻪ، ﻫﻮ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺃﻫﻤﻴّﺘﻪ ﻟﻔﻬﻢ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، ﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺟﺎﻧﺒﻬﺎ ﺍﻟﺘــﺮﺍﺛﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﻣﺠﻤﻠﻬﺎ ﻟﻤﺮﻛﺰﻳﺔ ﺍﻟﻨﺺ ﻭﻣﺪﻯ ﻗﻮﺓ ﺣــــﻀﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ . ‏
ﻓﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﺟﺪّﺍ ﺃﻥّ ﺍﻟﻨـــﺺ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻳﺤﺘﻞّ ﻣﻜﺎﻧﺔﻣﺮﻛﺰﻳﺔ ﻓﻲ ﺑﻨﻴﺔ ﺛﻘﺎﻓﺘﻨﺎﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، ﻭﻟﻌﻞ ﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﺩﻓﻊ ﺑﺄﺑﻲ ﺯﻳﺪ ﺇﻟﻰ ﺟﻌﻠﻪ ﻣﻨﻄﻠﻘًﺎ ﻣـــﺤﻮﺭﻳًّﺎ ﻓﻲ ﻓﻬﻢ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻟﺨــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺑﺸﻜﻞ ﻋــــﺎﻡ . ﻟﺬﺍ ﻳﺆﺍﺧﺬ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺃﻧّﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻳﻌﺘﺮﻑ
ﺑﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺘﻪ ﻭﺗﺎﺭﻳﺨﻴــــﺔ ﺍﻟﻨــــﺼﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢﻣﻦ ﻛﻞّ ﻣﺎ ﻳﻘﺮّ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻭﺍﻻﺟﺘﻬﺎﺩ .ﻓﺎﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻐﻨﻰ ﺑﻪ ﺭﻭّﺍﺩﻩ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﻮﻥ ﺇﻧّﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﻓﻘﻂ ﻓﻬﻢﺍﻟﻔﻘﻬﺎﺀﻭﺍﻷﺻﻮﻟﻴﻴﻦ ﺍﻷﻭﺍﺋﻞ ﻣﻦ ﺭﻭﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔــﻜﺮ، ﺑﻴﻨﻤﺎﻳﺠﺐﺍﻻﻋﺘﺮﺍﻑﺑﻀﺮﻭﺭﺓ ﺃﻥ ﻳﻄﻮﻝ ﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﺍﻟﻨﻈﺮﻱ ﻭﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻲ ﺣﺘﻰ ﺍﻟﻨـــﺼﻮﺹ
ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌـــــﻘﺪﻳﺔ . ﻭﻟﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﻔﺴّﺮ ﺭﻓﺾ ﻫﺆﻻﺀ
ﻷﻱ ﺗﺠﺪﻳﺪ ﺣـــﻘﻴﻘﻲ ﻓﻲ ﺑﻨﻴﺔ ﺍﻟﺨــــــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ
ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ، ﻫﻮ ﺃﻧّﻚ ﺗﺠﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻧﻔﺴﻪ ﻏــــﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ
ﻳﺼﺮّ ﻋﻠﻰ ﺃﻥّ ﺍﻟﺸـــــﺮﻳﻌﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻟﻜﻞ ﺯﻣﺎﻥ
ﻭﻣﻜﺎﻥ، ﻭﻣﻦ ﻳﻘﻮﻝ ﻋﻜﺲ ﺫﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻛﺎﻓﺮ ﻭﻣﻠﺤﺪ .
ﻳﻨﺘﻘﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﻈﺮﺓ ﺍﻟﻀﻴﻘﺔﻟﻤﻔﻬﻮﻡﺍﻟﻨﺺﻭﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﻌﺎﻃﻲ ﻣﻌﻪ، ﻣـــﻌﺘﺒﺮﺍ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ : ﺩﻳﻨﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﻡ ﺑﺸﺮﻳﺔ ﺇﻧّﻤﺎ ﻫﻲ ﻣﺤﻜﻮﻣﺔ ﺩﻭﻣًﺎ ﺑﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﻭﺍﻋﺘﺒـــــﺎﺭﺍﺕ ﻳﺘﻮﺟّﺐ ﺗﺄﻭﻳﻠﻬﺎ ﻭﺗـــﺠﺪﻳﺪ ﻓﻬﻤﻬﺎﻭﻓﻖﺍﻟﺸﺮﻭﻁﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤــــﺎﻭﺭ ﻣﻌﻬﺎ . ﺃﻣّﺎ ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻟﻬـــــﺬﻩ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ، ﻛﻤﺎ ﻳﺮﺍﻓﻊ ﻋـــﻨﻪ ﻫﺆﻻﺀ، ﻓﺈﻧّﻪ ﻻ ﻳﺨﺮﺟﻬﺎ ﺑﺘﺎﺗًﺎ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﻷﻧّﻬﺎ " ﺗﺄﻧﺴﻨﺖ"ﻭﺍﺻﻄﺒﻐﺖﺑﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳـﺨﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﺃﻥ ﺗﺠﺴّﺪﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳــــﺦ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻭﻟﻐﺘﻪ، ﻓﺘﻮﺟــﻬﺖ
ﺑﻤﻨﻄﻮﻗﻬﺎ ﻭﻣـــﺪﻟﻮﻟﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻌﻬﻢ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ
ﺍﻟﻤﺘﻐﻴّﺮ . ‏
ﻳﺮﻯ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﺃﻥّ ﺍﻟﺨـــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ، ﺑﻘﻔﺰﻩ ﻋﻠﻰﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﻭﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔﻭﺍﻟﺪﻻﻟﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴـــﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻨﺺ، ﻳﻜﻮﻥ ﻗﺪ ﺟﻤّﺪ ﻓﻬﻤﻪ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻨـﺼــــﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺍﻟﻤﺸﻜﻠّﺔ ﻟﻔﻬﻤﻪ . ﻟﺬﺍ ﻳﻠﺰﻡ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺇﻃﺎﺭ ﻓﻬﻤﻨﺎ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺴﻴﺎﻕ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴـــﺪﻱ ﺍﻟﺪﺍﻋﻲ ﺇﻟﻰ " ﻻ ﺍﺟﺘﻬﺎﺩ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﺺ ." ﻓﺈﻋﻼﻥ ﺍﻟﺨـــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﺟﻤﻮﺩ ﺍﻟﻨﺺ ﻭﺳﻌﻴﻪ ﺍﻟﺤﺜﻴﺚ ﺇﻟﻰ ﺗﺜﺒﻴﺖ ﺩﻻﻟﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﻓﻬﻢ ﻭﺍﺣﺪ ﻭﻗﺎﺻﺮ، ﺇﻧّﻤﺎ ﻫﻮ ﺩﻋﻮﺓ
ﺻــــﺮﻳﺤﺔ ﻟﻨﻔﻲ ﺍﻟﺘﻌﺪﺩ ﻭﺍﻻﺧﺘﻼﻑ ﻭﺗﺜﺒﻴﺖ ﻟﻠﻮﺍﻗﻊ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺟﻤﻮﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻐﻴّﺮ،ﻃﺒﻘًﺎ ﻟﻤﺎ ﻳﻨﺎﺻﺮﻩ ﺩﻋﺎﺓ ﺍﻟﻔﻜـــــﺮ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻱ ﻣﻦ ﺟﻤﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﻭﺣﺼﺮ ﻟﻼﺟــﺘﻬﺎﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺮﻭﻉﻭﺍﻟﺸﻜﻠﻴﺎﺕ.ﻭﻫﻜﺬﺍ، ﻓﺎﻟﺘﻤﺘﺮﺱ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﻨﺼــــﻮﺹ ﺩﻭﻥ ﺭﺑﻄﻬﺎ ﺑﺴﻴﺎﻗﺎﺗــــﻬﺎ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ،ﺑﺤﺴﺐ ﺃﺑﻲ ﺯﻳﺪ، ﻫﻮ ﻣــــﺎ ﺃﺩﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﺑﺘﻌﺎﺩ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﻭﺇﻟـــﻐﺎﺀ ﺍﻟﻌﻘﻞ . ﻭﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺬﻟﻚ، ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﺠﺪ ﺍﻟﺨـــ ﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳـــﻼﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻳﺮﻛﺰ ﻋﻠﻰﺣﺎﻛﻤﻴﺔ
ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻻﺕ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﻭﺍﻟﻔﻜﺮ . ﻓﺎﻟﻨﺺ ﺍﻟﺠﺎﻣــــﺪ
ﺍﻟﺜﺎﺑﺖﺍﻟﻤﻌﻨﻰﻭﺍﻟﺪﻻﻟﺔﺳﺮﻋﺎﻥ ﻣﺎ ﻳﺘﺤﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺃﺳـــﻄﻮﺭﺓ ﺗﻜﺒّﻞ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﻨﻔﺲ، ﻭﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﻜﺮّﺱ ﺳــــﻠﻄﺔ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﻭﺗﺠﻌﻠﻬﺎ ﻓﻮﻕ ﻛﻞ ﺍﻟﺴﻠﻂ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺑﻤﺎ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﺑﺬﻟﻚ ﺗﻜــﻮﻥ ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻫﻲ ﺍﺳﺘﺒﻌـــﺎﺩ ﺩﻭﺭ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺍﻟﺤـــﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻮﺍﻗــــﻌﻴﺔ ﻭﻣﻦ ﺛﻢّ ﺳـﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻮﺍﺣـــــﺪ ﻭﺍﻟﺪﻻﻟﺔ ﺍﻷﺑﺪﻳﺔ ﻟﻠﻨﺺ؛ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﺟﺎﺀﺕ ﺩﻋﻮﺓ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺿﺮﻭﺭﺓ ﺗﺤـــﺮﻳﺮ ﺩﻻﻟﺔ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠــﻤﻮﺩ . ‏
ﺇﻥّ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺃﺑﻨﻴﺔ ﻟﻐﻮﻳﺔﻻﺗﻔﺎﺭﻕﺍﻟﻨﻈﺎﻡﺍﻟﺪﻻﻟﻲ ﻟﻠﻐﺘﻬﺎ ﺇﻻّ ﻓﻲ ﺣﺪﻭﺩ ﺧﺎﺻﺔ ﻣﺸﺮﻭﻃﺔﺑﻄﺒﻴﻌﺔ ﻭﻇﻴﻔﺘﻬﺎ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ، ﻟﺬﻟﻚ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺃﻥ ﺗﺼﻮﻍ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﻠﻪﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺜﻨﺎﺋﻴﺎﺕ ﺍﻟﻠﻐـﻮﻳﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .
ﻟﻜﻦ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺗﺘﻄــﻮﺭ ﺑﺘﻄﻮﺭ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻟﻤـــﺠﺘﻤﻊ
ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﺒﺸـــﺮﻳﻴﻦ، ﻓﺈﻧّﻬﺎ ﺗﺼــــﻮﻍ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﺟﺪﻳﺪﺓ
ﻭﺗﻄﻮﺭ ﺩﻻﻻﺕ ﺃﻟﻔﺎﻇــﻬﺎ ﻟﻠﺘﻌﺒﻴﺮ ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺎﺕ ﺃﻛـ ﺜﺮ
ﺗﻄﻮﺭﺍً؛ ﻟﺬﺍ ﻓﻤﻦ ﺍﻟﻄـﺒﻴﻌﻲ، ﺑﻞ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻱ، ﺃﻥ ﻳُﻌــﺎﺩ
ﻓﻬﻢﺍﻟﻨﺼﻮﺹﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔﻭﺗﺄﻭﻳﻠﻬﺎ ﺑﻨﻔﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴـــــﻢ
ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤـــﺎﻋﻴﺔ ﺍﻷﺻﻠﻴﺔ ﻭﺇﺣﻼﻝ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴــﻢ
ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ ﻣﺤـــﻠّﻬﺎ ﻣﻊ ﺛﺒﺎﺕ ﻣﻀﻤﻮﻥ ﺍﻟﻨﺺ ﻃﺒﻌًﺎ .
ﻟﻘﺪ ﺃﺩﻯ ﺗﻨﺼﻴﺐﺍﻟﻨﺺﺳﻠﻄﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ، ﺑﺤﺴﺐ ﻗﺮﺍﺀﺓ ﺃﺑﻲ ﺯﻳﺪ ﻫﺬﻩ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻤﺴــــﻚ ﺑﺎﻟﺪﻻﻻﺕ ﺍﻟﺤــــﺮﻓﻴﺔ ﻓﻲ
ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺍﻧﺤﺼﺎﺭ ﺍﻟﺘﻔﻜــــﻴﺮ ﺍﻹﺑﺪﺍﻋﻲ؛ ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻠﺰﻡ
ﺇﻧﺠﺎﺯ ﻧﻘﺪ ﺷﺎﻣﻞ ﻭﺗﻤﺤﻴﺺ ﺩﻗﻴﻖ ﻟﻠﺨــــﻄﺎﺏ ﺍﻟــﺪﻳﻨﻲ
ﻟﻜﺸﻒ ﺁﻟﻴﺎﺗﻪ ﻭﻃﺮﻳﻘﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻻﺷﺘﻐﺎﻝ ﻗﺼﺪ ﻧﻘﺪﻫﺎ .
ﻓﻤﺎ ﻫﻲ ﺃﻫﻢ ﺗﻠﻚ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﻛﻤﺎ ﺗﻮﺻّﻞ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻧﺼﺮ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ؟
*2 -ﺁﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻻﺳﻼﻣﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ*
ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋــﺔ ﻣﻦ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﻳﺸﺘﻐــــﻞ ﺑﻬﺎ،
ﻭﻗﺪ ﺃﺟﻤــــﻠﻬﺎ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻓﻲ ﺧﻤﺲ ﺁﻟﻴﺎﺕ، ﻭﺫﻟﻚ ﺑﻌــــﺪ
ﺗﻤﺤﻴﺺ ﻭﻓــﺤﺺ ﺩﻗﻴﻘﻴﻦ ﻟﺨﻄﺎﺑﻬﺎﺍﻟﺪﻳﻨﻲﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﺭﺩﺕ ﻓﻴﻪ، *ﻭﻫﻲ :*
ﺃ - ﺁﻟﻴﺔ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﻭﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﺇﻟﻐﺎﺀ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺔﺑﻴﻦ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻭﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻉ .
ﻭﺗﻌﻤﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻟﻴﺔ ﻋــــﻠﻰ ﺍﻟﺤﻴﻠﻮﻟﺔ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻦ
ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻳﺨﻠﻂ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺪﻳﻦﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﺪﺳﻬﺎﺑﺪﻭﺭﻫﺎ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻭﺣﻴًﺎ ﻣﻨﺰﻟًﺎ .
ﺏ - ﺁﻟﻴﺔ ﺭﺩ ﺍﻟـــﻈﻮﺍﻫﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺒﺪﺃ ﻭﺍﺣﺪ، ﻭﻫﻮ ﺗﻔــــﺴﻴﺮ
ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﻛﻠﻬﺎ ﺑﺮﺩﻫﺎ ﺟﻤﻴﻌًﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﺒﺪﺇ ﺃﻭ ﻋﻠﺔ ﺃﻭﻟﻰ،ﺗﺴﺘﻮﻱ ﻓﻲ ﺫﻟﻚﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .
ﺝ - ﺁﻟﻴﺔ ﺍﻻﻋﺘﻤﺎﺩ ﻋﻠﻰ ﺳﻠﻄﺔ " ﺍﻟﺴﻠﻒ " ﺃﻭ " ﺍﻟﺘﺮﺍﺙ " ،ﻭﺫﻟﻚ ﺑﻌﺪﺗﺤﻮﻳﻞﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﺍﻟﺘﺮﺍﺛﻴﺔ، ﻭﻫﻲ ﻧﺼــــﻮﺹ
ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ، ﺇﻟﻰ ﻧﺼﻮﺹ ﺃﻭﻟﻴﺔ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻘﺪﺭ ﻫﺎﺋﻞ ﻣـــــﻦ
ﺍﻟﻘﺪﺍﺳﺔ ﻻ ﺗﻘﻞ ﻓﻲ ﻛـــﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﺼـﻮﺹ
ﺍﻷﺻﻠﻴﺔ .
ﺩ - ﺁﻟﻴﺔ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ ﺍﻟـــﺬﻫﻨﻲ ﻭﺍﻟﺤﺴﻢ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ "ﺍﻟﻘﻄﻌﻲ " ،
ﻭﺭﻓﺾ ﺃﻱ ﺧﻼﻑ ﻓﻜﺮﻱ، ﺇﻻّ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺮﻭﻉ ﻭﺍﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ ﺩﻭﻥ ﺍﻷﺳﺲ ﻭﺍﻷﺻﻮﻝ .
ﻩ - ﺁﻟﻴﺔ ﺇﻫﺪﺍﺭﺍﻟﺒﻌﺪﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﻭﺗﺠﺎﻫﻠﻪ، ﻭﻳﺘﺠﻠﻰﻫــﺬﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻜﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ، ﻳﺴﺘﻮﻱ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺼـــﺮ ﺍﻟﺬﻫﺒﻲ ﻟﻠﺨﻼﻓﺔ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪﺓ، ﻭﻋﺼﺮ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ . ﻭﻳﺘﺠﻠﻰ ﺇﻫﺪﺍﺭ ﺍﻟﺒﻌــــــﺪ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻄﺎﺑﻖ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺍﻟﺤﺎﺿﺮ .
ﺗﺸﻜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﻣﺠﺘﻤﻌﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺍﺷﺘﻐﺎﻝ ﺍﻟﺨـــــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻــــــﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﺘﻮﺟﺐ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﻭﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻞ؛ ﻟﺬﺍ ﺳﻌﻰ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﺇﻟﻰ ﺇﻧﺠﺎﺯ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔﻟﺸﺎﻗﺔ ﺑﻜﻞ ﺭﻭﺡ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻭﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺔ، ﻣﺘﺴﻠــﺤًﺎ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺑﺸﺠﺎﻋﺘﻪ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻌﻬﻮﺩﺓ ﻭﺳﻌﺔ ﺍﻃﻼﻋﻪ ﻋﻠﻰ
ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ، ﻭﻣﻘﺎﻭﻣًﺎ ﺷﺮﺳًﺎ ﺿﺪ ﺳﻠــﻄﺔ
ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻭﺿﺪ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺰﻋﻤﻮﻥ ﺃﻧّﻬﻢﻭﺣﺪﻫﻢ ﻣﻦ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﺣﻖ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﺑﺎﺳﻢ ﺍﻟﺪﻳﻦ . ﻭﻗﺪﺍﻋﺘﺮﻑ ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﺑﺄﻥّ ﺗﺤﻠﻴﻠﻪ ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ
ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﻧﻘـــﺪﻩ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺘﻢ ﺇﻻّ ﻋﺒﺮ ﻛﺸـــﻒ
ﻣﻨﻄﻠﻘﺎﺗﻪ ﻭﺁﻟﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﻔﻜـﺮﻳﺔ ﻫﺬﻩ، ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻧّﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺼـﻌﺐ ﻓﻌﻼً ﺃﻥ ﻳﻔﺼﻞ ﺍﻟﻨﺎﻗﺪﺍﻟﻤﺆﻭّﻝ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻘﺎﺕ ﺍﻟﻔﻜـــﺮﻳﺔ ﻭﺍﻷﻳﺪﻳـﻮﻟــﻮﺟﻴﺔ ﻟﻬـــﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻭﺁﻟﻴﺎﺗﻪﺍﻟﺘﻲﻳﺘﻮﺳّﻠﻬﺎ ﻭﻳﺸﺘﻐﻞ ﺑﻬﺎ .
ﻳﻘﻮﻝ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﺑﻬﺬﺍﺍﻟﺨﺼﻮﺹ : " ﻫﻨﺎﻙ ﺧﻤــﺲ ﺁﻟﻴﺎﺕ ... ﺍﺳﺘﻄﻌﻨﺎ ﺭﺻﺪﻫﺎ ﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ،
ﻓﻤﻦ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺃﻻ ﻧﺰﻋﻢ ﺃﻧّﻬﺎ ﺗﺴﺘﻮﻋﺐ ﻛﻞ ﺁﻟﻴﺎﺕﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ، ﻓﻼ ﺷﻚ ﺃﻥّ ﻣــﺠﺎﻝ ﺍﻟﺮﺻﺪ ﻭﺍﻹﺿﺎﻓﺔ، ﺑﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻤﻖ ﻭﺍﻟﺪﻗﺔ ﻓﻲ ﺗﺤـــﻠﻴﻞ، ﺳﻴﻈﻞ ﻣﻔﺘﻮﺣـــًﺎ، ﺳـــﻮﺍﺀ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻶﻟﻴﺎﺕ ﺃﻭ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ
ﻟﻠﻤﻨﻄﻠﻘﺎﺕ . ﺇﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺨﻤﺲ ﺗﻤﺜﻞ، ﻓﻲ ﺗﻘﺪﻳﺮﻧﺎ، ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔﻭﺍﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ ﻣﺠﻤﻞ ﺍﻟﺨــﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻭﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋـــﻠﻴﻪ ".
ﻳﺘﻀّﺢ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺼﺮﻳﺢ ﺃﻥّ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺷﺘﻐـــــﻞ
ﺑﻬﺎ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ ﻭﺗﻮﺳﻠّﻬﺎ ﻣﻨﻬﺠًﺎ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ، ﻫﻲ ﺑﺤﻖ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺔ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻧﺎﺟﺤــﺔ، ﺣﺘﻰ ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﺗﺴﺘﻄﻊ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺗﺤﻴﻂ ﺑﻜﻞ ﺍﻵﻟﻴـــﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺷﺘﻐﻞ ﻭﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﻳﺸﺘﻐﻞ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ . ﺫﻟﻚ ﺃﻧّﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﻋﻠﻰ ﺁﻟﻴﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ ﻻ ﺗﻘﻞ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﺍﻟﺬﻛﺮ، ﻭﻣﻨﻬﺎ :
ﺍﻵﻟﻴﺔ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﻤﺜﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺰﻭﻉ ﺍﻟــﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻲ
ﺍﻟﻤﻔﻀﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﻏﺘﺮﺍﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ،ﻭﺍﻵﻟﻴﺔﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺍﻟﻜﺎﻣﻨﺔ ﻓﻲ ﺳﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻮﻫﻢ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﻲ ﻭﺍﻟﺤﺰﺑﻲ، ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻷﺧـــﺮﻯ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻟﻠـــﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ
ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺑﻤﺨﺘﻠﻒ ﺗﻴﺎﺭﺍﺗﻬﺎ .ﻟﻜﻦ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﻳﻤﻜﻦ ﻭﺻﻒ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻟﺔ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻠﻴﺔ ﺑﻜﻮﻧﻬﺎ ﺭﺍﺋـــﺪﺓ ﻭﺷﺠﺎﻋﺔ ﻓﻲ ﺳـــﺒﻴﻞ ﺇﺑﺮﺍﺯ ﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻘﺎﺕ ﺍﻟــﻔﻜــــﺮﻳﺔ ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ،
ﻭﻛﺬﺍ ﺍﻟﻤﺴﺎﻟﻚ ﺍﻟﺘﺪﻟﻴﻠﻴﺔ ‏( ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ‏) ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺸﺘﻐـــﻞ ﺑﻬﺎ
ﻣﻨﻄﻖ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨــﻄﺎﺏ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﻄﻮﻱ ﻓﻲ ﺑﻨﻴﺘﻪ ﺍﻟﻔﻜـﺮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﻐﻠﻘـــﺔ ﻭﺩﻭﻏﻤﺎﺋﻴﺔ ﺟﺎﻣﺪﺓ، ﺗﻤــﺜﻞ ﺗﺮﺑﺔ ﺧــﺼﺒﺔ ﻟﺘﻔﺮﻳـــﺦ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﺘﻌــــﺼّﺐ
ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻭﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﺍﻟــﻤﺬﻫﺒﻲ ﻭﺍﻟﻄﺎﺋﻔﻲ ﻭﻣﻈﺎﻫﺮﻫـــﻤﺎ .
ﻭﺍﻟﻈﺎﻫــﺮ، ﺑﺤﺴﺐ ﻫـــﺬﻩ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻟﺔ، ﺃﻥّ ﺍﻟﺴـــﺒﻴﻞ ﺇﻟﻰ
ﺗﺠﺪﻳﺪ ﻓﻬــــﻤﻨﺎ ﻟﻠﺪﻳﻦ ﻭﻗﻀﺎﻳﺎﻩ، ﻫﻮ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻣﻦ ﺃﺳﺮ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺍﻟﺠﺎﻣﺪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺸﺠﻴﻊ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳـــــﻞ
ﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﺍﻟﻤﻨﻔﺘﺢ ﻋـــــﻠﻰ ﺍﻟﻌﻠـــــﻮﻡ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻮﺳﻞ ﻓﻲ ﺍﺷﺘﻐﺎﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﻬﻴﺮﻣﻴﻨﻮﻃﻴﻘﻲ، ﻣﻤـــّﺎ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻭﻣـــﺮﻧﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﻞ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻋﺒﺮ
ﻗﺮﺍﺀﺓ ﺍﻟﻨﺼـــﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﻏﻴﺮ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﺗﺄﻭﻳﻠﻬــﺎ .
ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﺧﺘﻤًﺎ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻝ، ﻧﺨﻠﺺ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺇﻥّ ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ، ﻛﻤـــﺎ ﻣﺎﺭﺳﻪ ﻧﺎﺻﺮ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ، ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺘﻢ ﺩﻭﻥ ﻣﻤﺎﺭﺳــﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻞ ﻓﻲ ﺑﻌﺪﻳﻬﺎ :
ﺍﻟﻠﻐﻮﻱﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲﻣﻜــّﻨﺖ ﻗﺎﺭﺉ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ‏( ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ‏) ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﻋﻠﻰﺍﻟﻤﻨﻄﻠﻘـﺎﺕ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻭﻛﺬﺍ ﺟﻤﻠـﺔ ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﺳّﻠﻬﺎ ﺭﻭﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏﻓﻲﺗﺄﺳﻴﺲﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻬﻢﻭﺗﺼﻮﺭﺍﺗﻬﻢ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻟﻠﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ .
ﺑﺮﻫﻨﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤــــﺴﻠﻚ ﻓﻲ
ﺇﺑﺮﺍﺯ ﺗﻬﺎﻓﺖ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺍﻟﺴـــﻴﺎﺳﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ، ﺳﻮﺍﺀ ﻓﻲ ﻛــﺸﻒ ﻣﺤﺪﻭﺩﻳﺔ ﻣــﻨﻄﻠﻘﺎﺗﻪ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻭﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ، ﻭﻛﺬﺍ ﻓﻲ ﻧﻘﺪ ﺁﻟﻴﺎﺕ ﺍﺷﺘﻐﺎﻝ ﺧﻄﺎﺑﻬﺎ ﻭﺇﺑﺮﺍﺯ ﻣﺤﺪﻭﺩﻳﺘﻬﺎ . ﻭﺗﺄﺳﻴﺴًﺎ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻧﻌﺘـﺒﺮ ﺗﺄﻭﻳﻠﻴﺔ ﻧﺼﺮ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺑﻮ ﺯﻳﺪ
ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻــﺮ ﻣﺤﺎﻭﻟﺔ ﻫﻴﺮﻣﻨﻮﻃـــﻴﻘﻴﺔ
ﻧﻘﺪﻳﺔ ﺟﺎﺩّﺓ، ﺭﺍﻣﺖ ﺇﺯﺍﻟــﺔ ﺍﻟﻬﺎﻟﺔ ﻭﺍﻷﺳﻄﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻏﻠّﻒ
ﺑﻬﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻓﻀﺢ ﺃﻃﺮﻩ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻭﻣﻘﻮﻻﺗﻪ ﺍﻷﻳﺪﻳﻮﻟــﻮﺟﻴﺔ، ﻭﻣﻦ ﺛﻢ ﺇﻗﺮﺍﺭ ﻣـــﺤﺪﻭﺩﻳﺘﻪ ﻭﺍﻧﺤﺼﺎﺭ ﺃﻓﻘﻪ ﺍﻟﻨﻈــــﺮﻱ ﻭﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﻭﻣﺪﻯ ﺑﺆﺱ ﺧﻄﺎﺑﻪ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ .
ﻫﻜﺬﺍ ﺃﺻﺒﺢ ﻣﻦ ﺍﻟﻀـــﺮﻭﺭﻱ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺇﺗﻤﺎﻡ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤـــﺤﺎﻭﻟﺔ
ﻭﺗﻮﺳﻴﻌﻬﺎ ﻟﺘﺸﻤﻞ ﻣـــﺨﺘﻠﻒ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﺨﻄﺎﺑﺎﺕ ﺍﻟﺴــــﺎﺋﺪﺓ
ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻌﻨﺎ ﻭﺧﺎﺻــــﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﺫﻟﻚ ﺷﺮﻳﻄﺔ ﺍﻟﺘﺰﺍﻡ ﺍﻟﺠﺪّﺓ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔﻭﺍﻷﺻﺎﻟﺔﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﻬﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻤــــﻨﻬﺞ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻠﻲ ﺍﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺄﻭﻳﻞ ﺍﻟﻠﻐﻮﻱ ﻭﺍﻟﻔـــــﻬﻢ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﻭﺍﻟـــﺴﻮﺳﻴــﻮﻟــﻮﺟﻲ ﻟﻠﻈﻮﺍﻫﺮﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔﻭﻟﻠﻨﺼﻮﺹ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ .

Post: #9
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-26-2016, 08:46 PM
Parent: #8

أزمة الماركسية العربية وفخ الصراع الديني



يعاني اليسار العربي بشكل عام والتيار الماركسي تحديداً من عدد من الأزمات الفكرية منذ نشأته الأولى في المجتمعات العربية والتي لم تكن البيئة الخصبة لنشأته، أو البيئة كاملة الظروف التاريخية والإجتماعية لنشأته كالتي رافقت ظروف نشأته الأولى في أوروبا فصعد وفرض نفسه بسرعة فائقة، وبدأت هذه الأزمات تطور في داخل التيار اليساري بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي الذي عكس إنهياره أزمة لليسار العالمي ككل، وأخذت هذه الأزمات تأخذ أشكالاً متنوعة إنعكست سلباً على الماركسيين العرب في فهم ماهية الماركسية من ناحية، ومن ناحية أخرى على طريقة تطبيقها وكيفية دخولها وإدخالها للمجتمعات و على كيفية جعلها فاعلة في عملية التغيير الإجتماعي الذي يترافق كما قال ماركس مع عملية التغير الإقتصادي.
ومن أشكال أزمات الماركسية العربية التي وقعت فيها، مسألة النقد الديني الذي أخذ في بعض مستوياته الطابع العدائي للدين، وكما هو معروف ضمناً بأن الماركسية هي منهجية علمانية تبدأ مما بعد الدين، فهذا بالفعل يوقع الماركسيين بإشكالية التناقض من حيث نقض ما سبق، فالماركسيون يعرفون بالتيار التقدمي والذي يسعى للتغير المستقبلي دوماً، ولكن سوء فهم هذه النظرة لدى البعض منهم جعلهم ينصبون في نقض أثار وتاريخ الواقع الحالي ومعتقداته.
البعض من الماركسيين وقع بمأزق عدم وعي مرحلة اليسار الحقيقي، فشرعوا ينظرون للماركسية نفسها كما ينظر لها الآخرون سواء من الأبعاد الدينية أو الرأسمالية، فوقع بخطأ تحليل الإسلاميين للماركسية التي يشاع فهمهم عنها بأنهم تقوم على أساس فكرة " لا إله والحياة مادة" كمقدمة للكفر والإلحاد، على الرغم من أننا لو رجعنا لكل الكتب الماركسية بشروحاتها لن نجد لهذه العبارة أصل واقعي، لأن ذات الماركسية لم تأت لتنقض الدين، بل بدأت من بعده وبالذات بعد مرحلة الصراع الدامي بين البرجوازيات الرأسمالية والإقطاع والكنيسة،فهي نقيض الدين من حيث التشكيل والنشأة والموضوع، لا نقيض عدائي، فالماركسية إنطلقت لتصلح الواقع الذي بين أيديها وغدا حتى المفهوم الفكري لدى الماركسيين هو أن الفكر الماركسي كأيدولوجيا ظهر بكل جوانبه لفرض نفسه على الواقع لإحداث حالة التغيير اللازمة كرد فعل على ظهور البرجوازيات التي إنتصرت على المنظومة الاقطاعية والدينية في أوروبا، وكان الطرح المادي مبني على أساس التحليل العلمي أولاً وأخيراً لمجريات الحياة وعلى أسس العدالة والمساواة، لذلك نوه المفكر اللبناني الماركسي حسين مروة إلى مسألة وقوع الماركسيون العرب بسوء فهم لهذا المنطق الفكري ودعا الماركسيين إلى عدم التصدي أو الهجوم على الدين أو محاولة نقده منطلقاً من الثورة العلمانية التي تسببت بإخراج كل أوروبا من غيبوبتها وظلاميتها إلى مرحلة النهضة في القرن السابع والثامن عشر الميلادي، وكان هذا من أهم أسباب نجاح الحزب الشيوعي اللبناني الذي لم يتصدى للدين كونه دين وإنما تصدى لمسألة التشتت التي أوجدها التنوع الديني بالمجتمع موجداً ما يعرف بالحالة الطائفية فكانت معظم كتب الحزب ومفكريه من أمثال المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل في نقض الطائفية ذاتها والدولة الطائفية.


فإن عدنا للبيان الشيوعي نفسه الذي كتبه كارل ماركس وفريدرك إنجلز في محاولة لتحليل وتفنيد ما ذكرته سابقاً حيث يبدأ البيان الشيوعي بهذه العبارة : "إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية" ما يعني أن التحليل الماركسي لا يؤمن أصلاً بفكرة صراع الحضارات أو الصراع الديني الفكري، بل ينطلق من مبدأ صراع الطبقات المتفاوتة، وهذا ما يدلل على أن الماركسية بدأت فعلاً متجاوزة فترة الصراع مع الدين بشكل مباشر، وتركت مهمة هذا الصراع للرأسمالية نفسها التي هي في الأصل تقوم على مبدأ إلغاء الاخر كما الدين فتصتدم الرأسمالية مع الدين بعدائيتهما للأخر وكلاهما في الأصل نقيض للأخر فيعني هذا التضاد نشوء الصراع ضمناً .

وإن بحثنا أكثر حول محور ذات الفكرة نجد أن الماركسية تبدأ من مرحلة إنتهاء الصراع الرأسمالي الديني أو كما أسماه البيان الشيوعي " البرجوازي الإقطاعي " لتبدأ بعده مرحلة الصراع الطبقي بين البرجوازية والبوليتاريا وهذا ما يفصله النص التالي من البيان " و المجتمع البرجوازي العصري، الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي، لم يلغ التناحرات الطبقية، بل أحل فقط محل الطبقات القديمة طبقات جديدة، و حالات اضطهاد جديدة، و أشكالا جديدة للنضال.
غير أن عصرنا، عصر البرجوازية، يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين، إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة: البرجوازية و البروليتاريا.
ومن خلال هذا النص إتضح جلياً مدى الفكرة التي إنطلق منها ماركس وإنجلز وجاء من بعدهم مفكري الماركسية كلينين وماو لإخراج النظرية من طور النظرية إلى أرض الواقع، ولو أخذنا مثلاً التجربة اللينينية مثالاً على توضيح فكرة الإشكالية الدينية ، نجد أن لينين رغم عراقة الكنيسة الارثوذكسية في روسيا إلا أنه لم يصتدم فيها بشكل مباشر بل تجاوزها وإستطاع أن يوصل الشعب الروسي بأكمله لتجاوز الكنيسة دون الإصتدام بها، وهذا ما فسر عودة الكثيرون من الروس للكنيسة ذاتها وإزدهارها من جديد بعد تفكك جمهوريات الإتحاد السوفيتي.
بإختصار أن النقد الديني ومرحلة الثورة على الدين ليست من لبْ الفكرة الماركسية رغم تعارض الفكرتين، فالأولى الدينية تقوم على أساس النقل الديني والكتاب والتشريع والثانية تقوم على أسس فكرية علمية منطلقة من منطلق الإشتراكية العلمية، وهذا ما على الماركسيون العرب أن يعوه، والذين هم في الوقت الحالي يقفون بخط المواجهة مع الحركات الدينية وفلسفتها غير مبالين أو واعين لأساس مهمتهم التي حددها الفكر الماركسي لهم والتي تبدأ من دخول المجتمع من أبوابه لا صنع حلقات فراغ بينها وبينه على شاكلة ما يحدث الأن في المجتمعات العربية، فالأصل أن الحركات الأسلامية والدينية والقوى الإقطاعية بشكل عام كما يقول ماركس قد تحالفت جميعها في التصدي للقوة الشيوعية التي فرضت نفسها وليس العكس، فيقول البيان الشيوعي في مقدمته : " شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدت في حلف مقدس قوى أوروبا القديمة كلها : البابا و القيصر، مترنيخ و غيزو، الراديكاليون الفرنسيون و البوليس الألماني. "
بمعنى أن القوى الإقطاعية والرجعية كما يصفها ماركس قد إتحدت في حلف واحد ولا يزال هذا الحلف يتجدد في سبيل التصدي للشيوعية التي تتسع وليس العكس، ولكن الماركسيون العرب فهموا الفكرة معكوسة فشرعوا بتبني العديد من الأبحاث والدراسات لبعض الباحثين في أصول الأديان ونقضها وفتحوا باب معركة مع القوى الرجعية والإقطاعية والدينية، على الرغم من أن العديد من الدراسات التي تبناها هؤلاء الماركسيون العرب لا تمثل مذهب فكري أو أيدولوجي محدد بل تعكس شخصية الباحث أو المفكر نفسه.

إذا فالماركسيون يعانون في الوقت الحالي من سوء تقدير للحالة فإستبقوا الحدث والمرحلة، فبدلاً من إنتظار مرحلة الإصتدام الديني الرأسمالي شرعوا نيابة عن الرأسمالية بهذا الصدام فاوقعهم بين عدوين تسببا في إخفاقهم أولاً كماركسيين في مجتمع عربي، وفي هلاك الفكرة الإشتراكية وتخلخلها في هذه المجتمعات، وهي كانت بالأصل مسألة توريط من قبل الرأسمالين الذين تجنبوا دخول المعركة بشكل مباشر فورطوا فيها الماركسيين على شاكلة توريط الأمريكان الإتحاد السوفيتي السابق في دخول أفغانستان.
إستباق الماركسيون المرحلة والنقد الديني ساعد في إفشال نظرية دخول المجتمع الماركسية لأنهم لم يعوا بعد بأن المنطقة العربية تعاني من سلسلة ضخمة من الأزمات، وهي بشكلها الحالي أشبه ما تكون أوروبا في مرحلة العصور الوسطى، لذلك فهم بدلاً من الإستعداد لما بعد مرحلة الثورة البرجوازية على الدين والإقطاع والرجعية دخلوا المعركة بدلاً عن البرجوازية فخسروها قبل أن يبدأوها وأخفقوا إخفاقاً ذريعاً، لأن الرأسمالية بأدواتها من سياسية السوق وغيرها الأقدر على المواجهة مع التيار الديني والإقطاعي من الإشتراكيين.
يجب أن يعي الماركسيون أكثر أنهم قد إستبقوا مرحلة الصدام، وأن عليهم التريث والإنتظار فمهمتهم هي التصدي للرأسمالية وليس للدين، فالصدام الرأسمالي الديني هو من صالحهم أولاً وأخيراً، وليس من صالحهم أبداً أن يقع بين الاثنين، حتى يعيدوا صفوفهم من جديد بعد إخفاقهم الكبير.

Post: #10
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-28-2016, 00:44 AM
Parent: #9

هل الرفاق علي الدرب سائرون ! أشواق وخوف#!

قد يتذكر معي بعض أبناء أمدرمان القديمة من ذ ات الحقبة التاريخية التي كنا فيها علي مقاعدالدراسة وهي بالتحديد من منتصف العقد السابع الي قيام الديمقراطية الثالثة كان جل مثقفي البقعه من أهل اليسار أو اللبيراليين ولهم حضور في كل مناحي الابداع والحياة العامة من هنا جاء أهتمام اليافعيين منا بهذا الحزب ومواقفه وتاريخه الذي كان يعيش بين حواري هذه المدنية كنت من الذين لهم حب وأجلال لهذه التجربة في مرحلة ثانوني تم تجنيدي داخل خلية المدرسة بدأت بالقراءة عن تاريخ السودان المعاصر بمساعدة أعضاء الخلية ومنها دلفت الي تاريخ هذا الحزب أنه تاريخ مجيد كنا نري فيه قداسة الفكرة الماركسية ونبل الرجال وحكمة مثقفي تلك الفترة وفهمهم العميق للعلوم والتجارب الانسانية من هنا جاء التعلق الفكري والولاء بل كنا نحمل الرايات الحمراء في كل مناسبات الحزب والوطن بكل فخرا نرفع الصوت بالنشيد وسط الرفاق عن أمجاد شعبنا وأمانيات الطبقة العاملة ققد يقول قائل أني ربيب بيت ماركسي كان في صدر غرفة الضيافة (الصالون )صورة كبيرة لجيفارا ولومببا وكم مرة كانت أمي لها الرحمة تقول لي أن بيت الزعيم الخالد عبدالخالق هنا وبعدها عاصرت رفاقا عظام حملوا الفكرة والمبدأ لكم كانوا أصحاب علم وخلق رفيع من جاء وا التزاما لهذا الفكر ولكن بعد قيام الديمقراطية دخل الحزب مجموعة من المتطفليين الذين لا يؤمنون بالفكرة ولم يتم لهم تأهيل تنظيمي وكنت دوما أنادي بأن هؤلاء القادمين الجدد ليسوا أهل ثقة أو أصحاب ولاء ماركسي وحتي بعضهم لايعرفون لو اليسير عن هذا الكيان الذي تحلقوا حول قياداته زعما بأنهم أهل فكر وتجربة بدأت مشاكلي مع هؤلاء حتي تم فصلي بحجة عدم الانضباط التنظيمي والمجاهرة بالهجوم علي زملائي قد يكون عدم نضوج فكري أو نزق شباب ولكنهم طردوني
أشر طردة من الحزب وذهبت الي الرفاق في ( حق )وكانوا خير عون لي في تجاوز أزمتي مع الحزب وبعدها تفرق بي الامر الي العمل في الصحافة التي لاتعرف غير الحق والحقيقة وكان لابد من أسقاط الحزب من حساباتي كصحفي عامل والالتزام بالمهنية وقواعد المهنة الاخلاقية ولكن يظل ما في القلب في القلب يافعا كنت يساري الهوي والتنشئه وفي صدر الشباب كنت عضوعامل وهل يمكن أن يغسل الوجدان بين ليلة وضحها !
محزونون أنا وغيري من أهل اليسار الذين غادروا الحزب لأسباب عديدة ونحن نري ما يحدث في أروقته ونطيل الشكوي والتحليل في مواقف الحزب وحاله الان كيف كان لرجال جهابذة يقودون حزب عملاق وكان نموذجا لكافة الاحزاب الشيوعية الافريقية لم أكون أعلم أن تجربة الحزب الشيوعي السوداني مادة للدرسة والتحليل ألا عندما كنت في بيروت وكان لقائي كوكبة من شباب الحزب الشيوعي اللبناني و قبلها بالصحفيين الشيوعيين في دمشق بمخيم اليرموك وكنت قد نزلت ضيفا عليهم وأنا مشردا أبحث عن بلد للعيش والمأوي سمعت وما أفخر به عن حزبنا العظيم وتاريخه الناصع ورجاله الاوفياء المفكرين ووجدت بعض كتب الحزب في مكتبات هذه التنظيمات أعترافا بعمق التجربة وفهم من كانوا علي سدة القيادة الحزبية للفكر الماركسي يطول الكلام في هذا المنحي
بالرغم من تجربة ربع قرن من التهميش والاقصاء لنا كيساريين والقمع والتنكيل لازال لهذا الحزب حضور وهذا ما حافظ عليه الكل منذ أنقلاب 1971 الي يومنا هذا بالرغم من الاصوات التي تنادي بتغيير أسم الحزب وأصلاح منهجه كنت أقول للرفاق الذين ينادون بهذا الطرح أن من أعظم الدورس السياسية التي كشفت عنها تجارب الشعوب علي مر التاريخ أن الشرعية السياسية والرضي المجتمعي صنوان لا يفتراقان وأننا علينا أن نعمل علي نيل الرضا من الطبقة العاملة لكي نحقق الرضا المجتمعي والذي يحتاج الى سياسة اقتصادية تضع حدّاً للتمايز الاجتماعي والجهوي وتكون فيها للدولة مهمات اساسية في الرعاية الاجتماعية بحيث لا تقتصر على الدولة الحارس
واكثر ما يسعى اليه اليسار في السودان الان وخلال عقود مضت يكمن في ايجاد الصيغة الملائمة لتجاوز الطائفية والاسلام السياسي وتأسيس دولة القانون على اساس الولاء اولاً للوطن لا للطائفة او الجماعة والعمل لاقرار دستور مدني ما يستدعي، بطبيعة الحال استنهاض قوى التغيير في المجتمع للعمل عليه
لو كنت متابع جيد لبرامج قوى اليسار من دون أن يتشكل اطار وطني يساري شامل يحقق القدرة على الضغط في اتجاه تحقيق المطالب وتزامنت هذه المرحلة مع تراجع الطروح اليسارية عالمياً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وصعود الخصخصة والخيارات الليبرالية التي تسببت بالأزمة المالية العالمية وأرى ان المشروع الحقيقي الذي يحمله اليسار في السودان بكل فصائله هو اصلاح النظام السياسي وكتابة دستور مدني يراعي حقوق الجميع وتحسين شروط عيش الطبقات الفقيرة والفئات الشعبية والتنمية المتوازنة في كل السودان ودعم القطاعات الانتاجية وتطوير دور الدولة الراعية ويعرّف عن اليساريين في السودان بأنهم القوى والشخصيات التي تتبنى رؤيا اصلاحية على المستويين السياسي والاقتصادي وهم الذين انحازوا تاريخياً الى مصالح الطبقات الفقيرة وعملوا الى جانب القطاعات النقابية والعمال والمزارعيين في نضالهم من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة
نهاية القول لا نريد أن نري ما حدث في كافة الاحزاب التقليدية من أنقسام وتمزيق أن يحدث لهذا الحزب العريق صاحب السجل الناصع في مناصرة قضايا الجماهير ومن هنا نؤيد الدعوة بأقامة مؤتمر الحزب بأسرع ما يمكن حماية له من قوي الشر وعناصر التمزيق التي تسيدت الموقف وهل يسمع الرفاق قولي ! ولسنا يا رفاق بروتاريا حقيرة بل أهل بصيرة فينا ما فيكم من ولاء وقناعات أعتناق هذا الفكر .

Post: #11
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-28-2016, 01:08 PM
Parent: #10

عند ما تلفظ خارج رحم التنظيم !
قول لينين (النظربة رمادية والتجربة خضراء ) أنا المطرود ذات فجرا من الحزب الشيوعي تنظميا لاني كنت أري هذا الحزب يمثل الاداء الكلاسيكي للاحزاب الشيوعية في أفريقيا السمراء وارفع الصوت بالنقد للكبار وأقول أنهم يمثلون اللجنة المركزية للحزب في الشيوعي في عصر برنجنيف في حقبة نهاية الستنيات كهول في منتهي العجز وحرمتهم معاناة المرض القدرة علي الابداع من القيام بالدور المهم في قيادة الحزب والمفصول من حركة حق بسبب كثرة التساؤل والحنين للثورة أو بالاحري الكفاح المسلح
كنت أقول بذات نفسي أي مناضل انت تريد ممارسة الفكر كرسالة وعصف ذهني وسجال صالونات والتناضل في لحظة واحدة
أي ماركسي أنت ؟
ولم تؤمن بعقيدة الولاء المطلق للحزب الانصياع للكبار في قمة الهرم الحزبي كلها كانت ذكريات قد تكون ساهمت في وعي ما ولكنه جنوح الشباب الي الارقي والافضل في الممارسة اليوميةللحياة الشيوعية كفكرة ومضمون وأسلوب حياة متكامل وعند ما تسقط الدين من حياتك تبدو كأنسان أو قل حيوان تنظيمي بكل معني الكلمة المجرد
أعلم ويعلم عباقرة النهج اليساري ليس هنالك لعنة تنظميية ولكن ما يحل بك عندما يقرر الكبار من قادة العمل العام أنك غير أهلا للشرف الماركسي تسقط مابين أنسانية الانسان وقيم الجماعة المجحفة في كل الاوقات بلا أستثناء أو تبرير يطفيء دواخل المطرود من رحم التنظيم نذكر كلنا حكاية السر بابو وكيف تمت أزاحته من قيادة الحزب مجموعة عبد الوهاب زين العابدين سكرتير الحزب
أن وجع المطرود ليس فقط في فقدان حزب أو كيان تتمترس داخله عقود من الزمان أو قل أعوام قليلة ولكن أين الملجأ والشفاء من هذا الايمان الصميم الذي يهيمن عليك بأنك ماركسي أحمر تحمل فكر لينين وتقدس أقوال عبد الخالق ونقد وتبكي علي شهداء انقلاب 19 يوليو وتحزن وانت تقرأ سيرة الجنيد علي عمر ذاك العبقري وتنشد أناشيد الثورة وتقول أشعار محجوب شريف أومحمدسالم حميد وبعض أشعار الرفاق في المعتقل
( او ترجع للمصانع .. فيها السير يدور .. وفي هسي المضارع
بدل نمﻷ الكنانة سهام مسمومة لينا .. نرجع تاني نفخر نضوق العزة سكر من مصنع كنانة
وبدل نملا الحظيرة ..بي كلابا" حقيرة ..تهوهو في ولادنا
احسن نملا ارضا فيها الخير ممحن كمشروع الجزيرة
وما نحتاج إضافة من اسلحة الخرافة النارها بتبيدنا وفينا بقت مخافة
بدل سرب الابابيل نستورد معاصر .. ونملاها البراميل بالخير البسيل
وسرب الميج تونتي نبدلو بالكفاية من غرف العناية .. وندي الصيدلية تملا رفوفها أنتي وللدكتور هدية يشيلها مع الجونتي
ومن الأنتينوف مايكون تاني خوف تشيل فرقة اساتذة توديهم سريعا لبلادا بعيدة يبردو ليها جوف.)
-نظام الدين-
لقد أصبح بدواخلي فراغ عريض كنت خلال ثلاث سنوات خلت أجادل بعض القيادات القابعة بلندن في مسائل كتيرة وكان وقتها أيضا بعضهم طريح الفراش واخرون يرون أن دورهم التاريخي داخل الحزب وحركة حق قد أنتهي لهذا الوضع بعضهم كان يبكي من حال الحزب وهجمة العابرين عليه ولديهم أعتقاد أن كل المدن في السودان شيوعية من أمدرمان الي عطبرة ورومبيك وكسلا وكل جزيرة وسط النيل هي شيوعية بالفطرة والسلوك الانساني ولكن نحن شيوعيون بالقراءة والمظهر المثقفاتي
كنت في غاية الدهشة يومها من هذا الاعتقاد وأقول ربما لاننا كسودانيين لنا سلوك أشتراكي بالفطرة ولكن أين منا شراكة الفكر رحابة الفكر وعنف النقاش ومدونات الرفاق التي تحكي عمق التجارب وقسوة المراحل الي الانقشاق وميلاد الشرعي وأحتضان الابن البديل كنت أصرخ من الرفاق في لحطة ضعف أنساني عظيمة( الشيوعية اقوى من الموت واعلى من اعواد المشانق )
وهل يظل هذا الصراخ هو منتهي حياتي ومائل الكثيرين منا في نهاية المطاف عندما يلفظنا رحم التظنيم ونحن نحاول الاصلاح ونبني حزبا تليد بمعايير سياسية وتنظيمة معاصرة دون السقوط في الشلية والانا وكأبة الضعف الانساني
أنهض يا رفيقي أنها الثور ولدت فينا
أحمل يا رفيق كل أوجاع الضفاء وأمينا
أنها ميلاد أمة وعهود شعب عشق الضياء
ولكم ولكل الدنيا أقول عصي هذا الفكر علي علي الاقصاء أو أن تؤمن بها وتحاول أن تهزم الفكرة بدواخلك نعم هي الشيوعية اقوى من الموت واعلى من اعواد المشانق
نحو فضاءات حرية بلا حدود يا رفاق.

Post: #12
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: عبدالحفيظ ابوسن
Date: 12-28-2016, 02:59 PM
Parent: #11

تشكر زهير
مقال ممتاز وجيد
وبه مجهود وتنظير اعادنا لايام غابرات زمان عهد مجلة النهج
المقال يعبر حتي علي حال الصراع السياسي السوداني

Post: #13
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-28-2016, 10:09 PM
Parent: #12

النقي الصفي أخي ود أبو سن
تحياتي وعام سعيد عليك والاسرة والاهل
شكرا للمرور و أبدا الراي
تعرف أنا في نهاية السنة دي مزنق شغال في كتاب وكمان سلطات البلد اللي أنحنا فيهو قالوا الكتابة في المنبر تحريض ضد الدولة السودانية
أنا محاول المغادرة الليلة أو بكرة لجنوب أفريقيا عسي أن يتسهل الامر
ولكن الان أشعر بالغربة واليتم بشدة مع برد الشتاء
لك كل الود

Post: #14
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-28-2016, 11:34 PM
Parent: #13

حرية سقفها السماء ولا حجر علي العمل العام هن بدايات الاصلاح!


كنت أتحث مع مجموعة من الشباب في تجمع اليسار الجديد داخل عرينهم وهي من الكيانات الجديدة التي تكونت في الجامعة الاهلية بأمدرمان وأصبح لها حضور قوي علي الساحة الطلابية وهم بالرغم من عدم مشاركتهم للاحزاب في الحوار الوطني الا أنهم كانوا في غاية الحرص علي سماع صوت صحافي عن حقيقة وكنه الحوار وما سيفضي اليه ويتسألون ماذا بعد الحوار في البداية قلت أيها الرفاق سلام من أخا ورفيق ظل يحمل حلم مجتمع الكفاية والعدل وحرية الرأي والتعبير ولا يري قداسة علي الارض غير مقام الوطن والدفاع عنه والانتصار له مع الايمان القوي بأن القوي العاملة هي التي سوف ترث الارض وتبني وتعمر وتحقق كل أحلام البسطاء الاطهار في ربوع بلادنا أننا بالرغم من التزمنا الصارم بقرار الحزب الشيوعي بمقاطعة الحوار الا أن المعاصرة والعيش علي هذه الارض يفرض علينا مسئولية الرصد والتحليل وقول الرأي الحر دون الركون للحزبية أو الولاء للتنظيم بل أن الوطن هو القيم الاعلي في كل عمل عام وهذا ما تربي عليه جل القيادات اليسارية أيمانا بها ومن أهم هذه القيم التي نتعايش معها بالرغم من صعوبة الاوضاع والتنكيل والاقصاء وتجربة ربع القرن الفائت من حكم الاسلام السياسي في بلادنا في هذه العجلة دعوني أترحم علي دهاقنة الفكر الماركسي الذين قدموا دورا متمزا في الحياة العامة وكانوا القدوة التي عرفت بكل مكارم الاخلاق وعفة اليد واللسان من الزعيم الخالد عبد الخالق والشفيع ونقد والجنيد علي عمر وشيبون وتحية أجلال لاستاذي كبج والحبيب صدقي كبلو وكل الفقراء من من قبيلة اليسار الانقياء في بلادي
قد أكون عاطفي جدا عند ما نتكلم عن الوطنية أرمي بعباءة الحزب وأرفع كل الحواس لانها لحظة وطنية خالصة وأقول بالرغم من أن الحوار الوطني خطوةنحو مزيد من الاقصاء للقوي الجديدة علي الساحة السياسية و تحمل بين طياتها التجريد للذين ظلوا دوما مع البسطاء أقول عنها محاولة لمعرفة كيفية التفكير والهموم السياسية للطبقة التي تشتغل بالسياسية وحصرها ومعرفة مواقفها وتحديد وزنها في ممارسة قد تكون عفوية من البعض ولكنها مدروسة من الحزب الحاكم الذي أري أن نجمه الي أفول ولكن يظل الحاكم الحقيقي ببلدنا وهم صفوة رجالات الامن والمخابرات يرون أن العمل السري خلال الفترات التي أعقبت هبة سبتمبر المجيدة غير واضحة المعالم ولا يعرفون ملامحها ولم تتم دارسة هذه التيارات من خلال البحث القريب لكل الفصائل والاتجاهات الفكرية التي هي الان أصبحت جزء أصيل من الحراك الطلابي والسياسي لكافة ألوان الطيف السياسي ولكي نراهم علي حقيقتهم لابد من أفعال حوار وطني تحت رعاية مركزية بأمانة عامة مع غالبية أسلامية نصارع هذه القوي الجديدة وتتصارع معها لكي يعرف من هو الاقوي والذي عليه راهان شعبنا وأظن هذا هو التفسير الاقرب للحقيقة في أعتقادي
شباب اليسار الرايات الحمراء في هذا الزمان ليست بالحلول السحرية لمشاكل الوطن ونحن شركاء مع غيرنا من أبناء السودان في هذا الوطن علينا أن نتساجل ونتبادل الافكار أن عصر الحرية والفضاءات المفتوحة والعالم أصبح قرية صغيرة نعلم مايجري في كل أقصاعه بنقرة علي هاتف ذكي من خلال التعقيد للحياة العصرية ومعاناة شعبنا علينا أن نمارس الحرية الفكرية مع بعضنا البعض في بداية الامر ونقول أن تجارب الحزب خلال فترة أمتدت قرابة السبعين عاما قد تكون غير ناضجة لقيام كيان يحقق لنا الفوز بالدولة وأرساء القيم الماركسية وتحقيق حلم الطبقة العاملة ولكن نستطيع أن نحقق الحضور الفكري وممارسة الضغط المطلوبة لكي نصبح دولة حرية سقفها السماء نمارس فيها كل ما يمكن أن يجعل من الحياة ذات قيمة أنسانيةوبناء نهضة مع شركاءنا في الوطن نعم هنالك أقصاء واضح وتمجيد للطائفية ومنح فرص أكبر للجماعات الاسلامية والمتصوفة وهذا لايعني أننا في حالة سبات بل نعي مايدور حولنا ونحلل ونقدم الحلول لقيادات العمل التنظميي لكل نستطع المواكبة والعمل بروح الفريق والعصر لذلك أن قضيتنا المركزية ليست الاصلاح الحزبي الداخلي فقط بل تعزيز مفهوم الحرية بكل المعاني وفي كافة مناحي الحياة من خلال الحرية يكون للعلم دور وللعلماء قيمة ونسير في راكب عصرنا ونكون من الامم التي تحل أغلب قضاياها بالعلم لا بالسلاح والاقتتال لذلك أيها الرفاق الشبا ب علينا بأعلان أن الحرية من أهم روافد الطريق لاصلاح مستدام وتننزع الحرية وليست منحة و لا منال بدر جة أنسانية ما !
الحرية يا رفاق قدتكون غير متاحة اليوم ولكن تحقيقها لا يتم الابمهر عظيم ونحن له اهل وأصحاب تجربة عملاقة في هذا المضمار
تعلمون أن هنالك دعوات متكررة من قبل كل القوي الوطنية للإصلاح موجهة الى السياسيين عامة والمسؤولين خاصة بدءا من مكاتبهم الخاصة الى وزارتهم ومؤسساتهم حزبهم الي كل شيء يمس حياتنا العامة والوطن
أن حراك الجماهيرالذي يطالب بمحاسبة الفاسدين وتقديمهم للقضاء كان محدودا فهو مطروح وموجود بقوة وان تقلص حاليا بفعل كيكة ما سوف يفضي اليه الحضور من مكاسب فانه قابل للزيادة والعودة مستقبلا بشكل اوسع مثلما هو الان شيء هام لابد من وضعه في راس قائمة ما نريد لان الفساد أصبح ظاهرة تستحق الاهتمام والمحاسبة واجراءات حكومية ترشيدية وتقشفية تتناسب ودعوات الاصلاح تنادي مجمل الوزارات وتخفيض في رواتب كبار المسؤولين تماشيا مع تقليص الانفاق الحكومي بسبب تدهور الوضع الاقتصادي للدولة أن فشل السلطتين التشريعية والتنفيذية في تقديم المسؤولين الحقيقيين في كل القضايا التي كشفت ولان مطروحة للقصاص و للمحاسبة يفتح الباب أمام العنف والحرب الاهلية الشاملة وتدويل الشأن الداخلي بصورة أكبر وهذا الذي نري نذره قريبة جدا من بلادنا
أن الحرب علي الوطنيين وتراجع ادوار المؤسسات المستقلة او اندثارها خلال هذه الفترة بسبب التأثيرات السياسية التي تدفع بالذين هم ضد الاصلاح او بسبب ضعف هذه المؤسسات وهشاشة تركيباتها وهياكلها هذا هو هلاك الدولة بحق
واذا كنا مع كل ما تقدم نقف امام جبهتين متقابلتين واحدة تدعو للإصلاح وتصر عليه ويتصدرها الحزب الحاكم بخطاب اعلامي فطير وفئات واسعة من الشعب وأخرى تقف مع الاصلاح او معرقلة له خوفا على مصالحها وتتصدرها جمعات المصالح
بينما تقف السلطة التنفيذية في الوسط عاجزة عن القيام بأي شيء ملموس يرجح احدى الكفتين لاسباب معلومة منها الحصانات الكثيرة لقيادات الخدمة المدنية وهنا مكمن الخطر فلا توفيق بين الشعب صاحب المصلحة وبين سارقيه او المتجاورين
على حقوقه ، فقد آن الأوان لحسم هذا الامر لصالح الشعب والانتصار له فأما إصلاح حقيقي لا يعرف في الحق ومصلحة الوطن لومة لائم أو أفسح الحريات لنا لكي نقول لشعبنا من هم سارقيه وبالاضافة الي المزيد من السماح لمنظمات المجتمع المدني
للقيام بدورها ولا حجر علي العمل العام وهذ ه مقدمات الاصلاح العام كما أري ولابد أن كل قرار تتولاه وتخطط له لجان من الخبراء والمختصين وأما إقرار بالعجز عن مواكبة حزم الاصلاح او الاستمرار على المنوال الحالي وعند ذاك نترك
الشعب ليقرر الاصلاح على طريقته الخاصة وانتظارالثورة التي نعمل لاجلها سنوات طوال وهل هم يعون ذلك
شبابنا الاحرار أننا نري أن الحكومة والمعارضة الخارجية ذاهبون لتسوية دولية تبقي قيادات للنظام بعينها علي سدة السلطة وتقاسم المعارضة الخارجية السلطة لكي يحدث استقرار لو لاعوام التسوية التي يجري وراءها الاتحاد الافريقي والاوربي
وساكن البيت الابيض أن كلمة لانريد تدويل الشأن السوداني كلمة حق اريد بها باطل علينا نعي ذلك جيدا
أنتم صناع المستقبل بيكم يكون لهذا الوطن مقام وقيمة عليكم العمل من أجل الوطن الالتزام الصارم بقرار قياداتنا والمشاركة في وضع خطة سودان 2020 نصبو أعيانكم والعمل تحقيقها حتي لو فقدنا الامل في أن نصل الي السلطة فدورنا بناء الوطن مع الشركاء الوطنيين ونعلم لماذا لايريدون الاصنات لنا ونحن نحمل عشق التراب ورؤية واعية لمستقبل هذا التراب
عاش كفاح الطبقة العاملة وعاش الحزب الشيوعي مدخلا لحياة أفضل للطبقة العاملة وشعبنا العظيم .

Post: #15
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-30-2016, 01:05 PM

الوطن هو الحضن الّذي يحتوي جميع أبنائه؛ بحيث يكون الملجأ والمسكن لهم في جميع الأوقات؛ فهو كالأم الرؤوم التي تحمي أبناءها من أيّة مخاطر تلمّ بهم، ولذلك يجب المحافظة على حبّ الوطن، وبذل الروح من أجله. كلمات حزينة عن الوطن متى من طول نزفك تستريح ؟ سلاماً ايها الوطن الجريح !. - عبد الرزاق عبد الواحد أكبر نكتة: حينما تعيش في مكان وتتجرأ بتسميته (وطن) أثناء كون حياتك وقيمتها بالنسبة لمواطنين هذا الوطن لا تعادل أكثر من قيمة الرصاصة التي يقتلوك بها حينما يقرر احدهم ذلك. - مصطفى الصوفي سوف لن يهدأ العالم حتى ينفذ حب الوطن من نفوس البشر. - جورج برنارد شو كل أم، وكل أخت، وكل بنت في هذا الوطن هي أمنا وأختنا وبنتنا جميعاً. - حنا مينه أتجوّل في الوطن العربي وليس معي إلّا دفتر.. يرسلني المخفر للمخفر.. يرسلني العسكر للعسكر.. وأنا لا أحمل في جيبي إلّا عصفور.. لكن الضابط يوقفني.. ويريد جوازاً للعصفور.. تحتاج الكلمة في وطني لجواز مرور.. أبقى مرميّاً ساعاتٍ منتظراً فرمان المأمور.. أتأمّل في أكياس الرمل ودمعي في عينيّ بحور.. وأمامي ارتفعت لافتةٌ تتحدّث عن وطن واحد.. تتحدّث عن شعب واحد.. وأنا كال############ هنا قاعد.. أتقيّأ أحزاني وأدوس جميع شعارات الطبشور.. وأظلّ على باب بلادي مرميّاً كالقدح المكسور. - نزار قباني الفئة الوحيدة التي تتمتع بحرية النشر في الوطن العربي هي فئة " النجارين ". - أحمد مطر الإعدام أخف عقاب يتلقاه الفرد العربي.. أهنالك أقسى من هذا؟ طبعاً.. فالأقسى من هذا أن يحيا في الوطن العربي. - أحمد مطر آه، أي وطن رائع يمكن أن يكون هذا الوطن، لو صدق العزم وطابت النفوس وقل الكلام وزاد العمل. - الطيب صالح قد نختلف مع النظام لكننا لا نختلف مع الوطن ونصيحة أخ لا تقف مع (ميليشيا) ضد وطنك، حتى لو كان الوطن مجرد مكان ننام على رصيفه ليلاً. - جلال عامر إنّك إذا قتلت بأسم شيء تراه طيباً.. كالعقيدة، أو المذهب، أو الوطن.. أو الدفاع عن العدل أو الحرية.. لا يجعلك قاتلاً فقط.. بل قاتلاً مادحاً لقتلك. - عبد الله القصيمي هل مطلوب منا نحن الصغار أن نقول أمين على كل كلام يقوله الكبار، حتى ولو كان كلاماً فارغاً لا يتفق مع ضمائرنا ومعلوماتنا، وإلا نكون خونة وعملاء ؟ - مصطفى أمين النظام الدكتاتوري، قد يبني التماثيل في الوطن، لكنه يهدم الإنسان في المواطن. - سميح القاسم علمني وطني بأنّ دماء الشهداء هي التي ترسم حدود الوطن. - تشي جيفارا ( ثوري كوبي ماركسي أرجينتيني المولد ) نموت كي يحيا الوطن.. يحيا لمن ؟ نحن الوطن.. إن لم يكن بنا كريماً آمنا ولم يكن محترماً ولم يكن حراً.. فلا عشنا ولا عاش الوطن. - أحمد مطر الوطن هو هذا المكان المقدس بالنصوص والمكدس باللصوص. - جلال عامر لم أكن أعرف أن للذاكرة عطراً أيضاً.. هو عطر الوطن. - احلام مستغانمي سيحل الناس القتل والإيذاء بدعوى الدفاع عن الدين وحماية العقيدة حيناً وبدعوى الدفاع عن الوطن والنفس حيناً آخر.. آلا فاحذروا الأمرين إن من حمل السلاح أو أذى الناس دفاعاً عن الدين فقد وضع الدين فوق الله الذي يأمر بالحب لا بالقتل والله كفيل بحفظ دينه وليس بحاجة إلى عبيد خاطئين ينقذونه وليس لأحد من العصمة ما يجعل رأيه في زيغ العقيدة صواباً لا يأتيه الباطل إلى حد يسوغ فيه القتل.. إنّ الذين يدافعون عن الدين بإيذاء الناس إنّما يدافعون عن رأيهم وحدهم بل أكثرهم إنّما يدافع عن حقوقه ومزاياه ويتخذ من الدفاع عن العقيدة عذرا يعتذر به. - محمد كامل حسين ( أستاذ جراحة عظام مصري وأديب ) جميل أن يموت الإنسان من اجل وطنه، ولكن الاجمل أن يحيا من اجل هذا الوطن. - توماس كارليل من بين جميع أنواع الطغيان، يتميز الطغيان الذي يُمارس من أجل مصلحة ضحاياه بأنه الأشد قمعاً، فربما من الأفضل أن تعيش في نظام لأباطرة الفساد على أن تعيش تحت حكم السلطة المطلقة لمدعي الفضيلة الذين يتدخلون فيما لا يعنيهم.. فالظلم الذي يمارسه أباطرة الفساد قد يخمد أحياناً، وقد يصل جشعهم إلى مرحلة الإشباع، لكن الذين يقمعوننا من أجل مصلحتنا كما يدعون، سيستمرون في قمعهم إلى ما لا نهاية، لأنهم يفعلون ذلك بضمير مستريح. - سي. إس. لويس نعيش في عالم خطير فالإنسان حكم الطبيعة قبل أن يتعلم كيف يحكم نفسه. - ألبرت شفايتزر من يقرأ الماضي بطريقة خاطئة سوف يرى الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة أيضاً ولذلك لا بد أن نعرف ما حصل كي نتجنب وقوع الأخطاء مرة أخرى ومن الغباء أن يدفع الإنسان ثمن الخطأ الواحد مرتين. - عبد الرحمن المنيف إن مصر ليست منقسمة إلى أحزاب ولكنها منقسمة إلى غرز كل غرزة لها أعضاء يخدمون بعضهم بعضا في سبيل بناء الوطن. - إحسان عبد القدوس أي ثورة عربية بدون حركة علمية وتنويرية مرافقة لن تكون سوى إنفجار عصبي تتنفس به الأمة عن كبتها الطويل بدون تغيير الواقع. - عبد الواحد مفتاح ما لنا ألفنا مع الكبير ولو داس رقابنا! ألفنا ثبات الأوتاد تحت المطارق! ألفنا الانقياد ولو إلى المهالك! ألفنا اعتبار التصاغر أدبًا! والتذلل لطفًا! والتملّق فصاحة! واللكنة رزانة! وترك الحقوق سماحة! وقبول الإهانة تواضعًا! والرضى بالظلم طاعة! ودعوى الاستحقاق غرورًا! والبحث عن العموميّات فضولًا! ومدّ النظر إلى الغد أملًا طويلًا! والإقدام تهورًا! والحميّة حماقة! والشهامة شراسة! وحرية القول وقاحة! وحرية الفكر كفرًا! وحب الوطن جنونًا - عبد الرحمن الكواكبي لماذا أكون أنا ضالاً وفاسداً ومدمراً إذا خالفتك ياصاحبي ولا تكون أنت كذاك إذا خالفتني ؟. - عبد الله القصيمي إننا لا نعادي المخالفين لنا لأنهم ضد الفضيلة أو ضد الإيمان والحق، ولكن لأنهم ضدنا. - عبد الله القصيمي الشهوات هي التي تغير الأفكار، هي التي تخلقها. - عبد الله القصيمي الفضيلة قدرة، لا فكرة. - عبد الله القصيمي تحريم العقل أشنع أنواع التحريم. - عبد الله القصيمي إذا وجد الإرهاب الفكري فقد وجد كل إرهاب، كما أنّه إذا وجدت الحرية الفكرية زال الإرهاب كله.. فلا حرية إذا لم توجد الحرية الفكرية وإذا وجدت فقد وجدت كل حرية، ومن المستحيل أن نكون أحرار ما لم نكن أحرارا في تفكيرنا وفي التعبير عنه. - عبد الله القصيمي حدوث التقدم ليس مرتبطاً بالثورة حتى ولو حدث بعدها، بل أن أكثر البلاد ثورات هي أبطؤها تقدماً، كما أن أكثرها تقدماً هي أقلها ثورات أو لا ثورات فيها.. واذن فالثورات لا تعني شيئاً وإنّما هي أسلوب من أساليب الوصول إلى الحكم بوسيلة عنيفة، أو هي شعار جديد لحالة غير جديدة.. قد تكون الثورة نتيجة للتطور الاجتماعي أو الحضاري أو الفكري، غير أنها لا تكون سبباً له.. والثورة لا تحدث لأنها وسيلة للتقدم أو شرط فيه ولكن تحدث كما تحدث الأشياء السخيفة مثل الحزن والعداوة والسباب والحسد وأمثاله.. تحدث بالانفعال لا بالفكرة. - عبد الله القصيمي لقد طمس الطغاه والمستبدين عقول الناس حتى جعلوهم ينسوا لذة الإستقلال، وعِزّة الحريه ؛ بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر. - عبد الرحمن الكواكبي قد نرى في تماثيل الزعماء تذكيراً دائماً للإنسان بأنه صانع أوثان وعابد أوثان، وأنه لا يعبد الصنم حياً فقط بل ويعبده ميتاً، وأنه لا يعبده فقط بل ويدفع ثمنه وثمن عبادته له. - عبد الله القصيمي إنّك تقتل الحيوان، فلا تجد في ذلك وحشية ولكنك ترى أن الحيوان الذي يفعل ذلك يصبح وحشًا، ذلك لأنك تمارس القتل تحت شعارات وباسم الآلهة والأديان والمذاهب.. إنّ ما تفعله أنت كميزة، يفعله الحيوان كوحشية لأنه افتراض افترضته لنفسك وتشريع حابيت به سلوكك، حابيت به حاجتك إلى الإثم. - عبد الله القصيمي الإنسان يُُساق من باطنه، لا من ظاهره. - محمد عبد الله دراز الشعوب العظيمة.. فاسقة الأفكار متدينة الأفعال.. والشعوب المتخلفة.. فاسقة الأفعال متدينة الأفكار. - عبد الله القصيمي إن الإنسان العربي لينتصر بالقول أقوى مما ينتصر المنتصرون بالفعل. - عبد الله القصيمي لماذا أيها النفط العربي جئت بديلاً عن الإنسان العربي؟ لماذا جئت بهذه الضخامة والقوة والانتصارات وجاء الإنسان العربي بهذه الضآلة والعجز والهزائم؟. - عبد الله القصيمي العلم في الغربة وطن والجهل في الوطن غربة.
- ابن رشد
منقول

Post: #16
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 12-31-2016, 09:01 PM


عباس بيضون، لقاء حول نار ..أم هروب من نا ر سورية
لقـــاء حـــول النـــار


كان هناك كثير من النبيذ. حيث يوجد عمر وبسام وحسن والبقيّة يحضر مشروب كثير. جلسوا في الطرف عند المدخل، هكذا لن يختلطوا بأحد. ظهرت فجأة القناني. لم أنتبه من أين خرجت. جلسوا، البعض نصف مستلقِ والبعض مصرور في جلسته، لكنهم تقاطعوا أو تراصوا في الحلقة الضيقة. بدأت الأيدي تتداول الكؤوس بالإيقاع نفسه الذي تذهب فيه وتأتي أنصاف الجمل بينهم، اختلطت حركة الأيدي بالعبارات المقطعة. كنت واقفاً فوقهم، نسوني تقريباً وأنا لم أتابعهم. أخذت أنظر إلى الجمعات المنتشرة على أطراف الدائرة. كان الغروب بدأ وكالعادة هجم بسرعة ودخلنا بالتدريج في الظلام. في الوسط فتيان يعمّرون رجمة من الحطب ويتصايحون وهم يدورون من حولها. أضيئت الكهرباء، بضع لمبات معلقة على شريط، كان الضوء مريضاً وذاب في الظلمة التي باتت معه ذات لون ماصل وشبه وسخ. كان هناك جنبنا فتيان يتجادلون بأصوات عالية وأكواع تروح وتجيء، بعدهم فتيات وشبان مع آلات موسيقية، فرقة للغناء السياسي من الكثيرات التي ازدهرت ذلك الحين. كانوا يتداولون بدون ضجة شيئاً بينهم، آلاتهم طرف فيه، ينقلون العود من واحد إلى واحد وأحياناً يجذبون الكمنجة. من مكاني بدأت أتلصص عليهم، الكأس في يدي أيضاً فيما كشف الضوء وجوه أصحابي المخمَّرة بلون مختنق. من الواضح أنهم شربوا كثيراً في وقت قصير، أما أنا الذي لا ألحقهم في العادة فشعرت بصحو في عقلي ونفسي، لا بدَّ أني أيضاً شربت ما يكفي. لا أعرف ما هو لوني الآن، لم أغرق في نفسي. شعرت فقط كأن تشويشاً زال، كأن أطرافاً حادة كسرت. أنا الآن بدون غيمة في الداخل. انظر إلى الفرقة الغنائية، إلى الفتيات، إحداهن بوجه خاص. نجحوا أخيراً في إشعال النار. رجمة كاملة من الحطب بدأت تُصَوْصي تحت النار. أصواتها المحطمة لم تدم طويلاً، أخمد اللهب أنفاسها.
كنا هنا في مخيم أنشأه التنظيم الشبابي للحزب الشيوعي. مخيم، قيل، للمثقفين والفنانين. نصبت الخيام في غابة وعلى مرتفع نصبت خيمة واسعة للاجتماعات. لم يعرِّفنا أحد على بعضنا لكننا كنا زمراً. وكنا ننام ونأكل ونسهر، كل مع زمرته. أدباء ورسامون وموسيقيون جاؤوا كثراً فالعام 1977 والحرب لا تزال في نصفها السعيد. الشعراء الموسيقيون والفنانون ينبتون كالفطر. لم تكن هناك بعد شروط كثيرة، متحذلق وغير موهوب يدخل بدون حاجة إلى بطاقة. كنت ابتعدت عن الحزب لكن أمراً كهذا يحتاج إلى وقت قبل أن يتحول إلى شقاق.
النار تتحرك بقوة كأخطبوط ضخم، أذرعه العمياء المجنونة تندلع في كل مكان. أضيء المكان لكن بأشعة حمراء دبغت الوجوه. انكشف ضوء الكهرباء الضئيل، بدا وكأنه تعلق بالسقف. فيما النار المعربدة لا تضخ فقط ضوءاً دموياً ولكن حزماً من الظل الداكن. كانت الوجوه تظل أرجوانية مسحورة من داخل الظلال الكبيرة، بل يبدو الحاضرون ظلالاً تتلامح وتتحرك كألسنة تائهة على الأرض القمراء الساخنة المشوية باللهب. كنت لا أزال أنظر فقط إلى الفرقة، إلى الفتاة التي تشبه الآن فتاة عبرت معها لحظة حب واحدة. كان لها عيناها الخضراوان وسمرتها المحروقة وقامتها الصغيرة النحيلة. كانت هي، لا أعرف ماذا اخترعت النار، لكنها هي. من بعيد هي، السمرة المحروقة ذاتها وخضرة العيون قريبتان إلى حدّ اللمس، كنت الآن أراها وحدها. كما في السينما اختفى الجميع، كما في السينما اختفى الصوت وبقينا وحدنا. كنت ما زلت أدرك الفرق بالطبع. بالطبع لم يخطر لي التقمّص، بالطبع لم أفكّر بعودة ما لـ «ـي». لم أفكِّر حتى بالقدر. لكن لي فقط هذه اللحظة وكنت أريدها أن لا تختفي، أريد فقط أن لا أفقدها. كانت لي القوة لأفعل ذلك. الثقة في أن لي الحق البسيط بأن أفعله. الآن وأنا وحدي أنظر إلى شبه المرأة، التي لم يكن بيننا سوى لحظة وداع لم تخرج مني، أريد فقط أن أنظر. أنا صافٍ وصاحٍ ولن يمنعني شيء من أن أنظر. هذه اللحظة ولن يحرجني شيء. مع ذلك فكرت كم أنا بائس، مجرد نظرة بالنيابة، بالواسطة. ما أريده قليل، لكني لن أرفع بصري. أنظر وتنتبه الفتاة إليّ، لكني لا أتراجع. ليس في عيني أي طلب بل أي سوء. إنها نظرة أخيرة قبل أن أنصرف. انظر الفتاة وتلاحظ بالتأكيد أنني ما زلت أنظر ولم أتوقف عن النظر.
أرى الفتاة حقيقة بقربي، جاءت تطلب نبيذاً وعملت على أن أسكب لها في كأسها، ومضت. رأيت نفسي حقيقة معها. لم أكن سكران بدليل أني تابعت غلطتي المعتادة معها. في هذه اللحظة لم أجد كلاماً سوى رأيي الشنيع في الغناء الوطني. كانت مغنية الفرقة وقلت لها إنني لا أطيق هذه الفِرق، لا أعرف كيف نبتت، وبالتأكيد أنها ليست سوى انحطاط فني. لم أستفزها لكني كنت قابلاً لأن أقول أشياء أتفه. حين توجّب عليّ أن أتكلم لم أجد شيئاً من هضمنتي ولا ذكائي. فقط مواضيع على الرف وكلام ممضوغ. كان يمكن أن أفسد هذه اللحظة لولا أن النار كانت تخمد، وكان الحطب تحوّل جمراً وبات ظله قانياً على الأرض حينما انطفأت الكهرباء. عند ذلك خطر لي الشيء الوحيد الذكي، أن أقبّلها لكني لم أجسر. أضيئت الكهرباء فوجدت مجدداً شيئاً ذكياً آخر، أن أخبرها بأني فكرت في تقبيلها. ما إن أنهيتُ جملتي حتى انطفأت الكهرباء ثانية فترددت قليلاً قبل أن آخذها بين يدي.
عادت الكهرباء، كنا معاً وكما يحدث دائماً للعشاق الجدد تصرفنا كما لو أننا غير مرئيين. كما يحصل في الأحلام كان بوسعنا أن نتعانق وربما أن نتعرّى بدون أن يرانا أحد. استمرينا في تقبيل بعضنا فيما أخذ الآخرون ينسحبون. أخيراً خلت الساحة لنا. جلسنا على شيء في وسطها. عندئذ عرفت اسمها. علمت هي أنني خاطب. كنا معاً تحت الضوء وبين الخيم وجنب النار المنطفئة، لكننا حسبنا أن رغبتنا قادرة على أن تخفينا، فالرغبة هي أيضاً غيمة أو عاصفة تخفي. الرغبة تحيطنا وتغلفنا كما لو كانت مخدعاً خيالياً. شددتها إليّ. أكلنا شفتيْ بعضنا فيما الناس يمرون من جنبنا عائدين إلى خيمهم. كان لسانها يفتح شفتيّ ويشق إلى فمي ناقلاً القبلة إلى الداخل، هناك تأكل فمي من جذوره وتولد القبلات من حطام بعضها حتى ينفتح الفم تماماً ويمتلئ بماء أشبه بماء الجسد، يصل المرء إلى نشوته في الفم، يرتعش من الفم. أثناء ذلك كنت أنحت جسدي فيها وأشعر بحلمتيها الواقفتين ترجفان وبطنها يتدفّق ما بين فخذيها. كان الناس خرجوا لكننا بالطبع لم نفكّر بأن نتعرى. كانت ترتدي زياً شبه عسكري فهذا ذلك الوقت يلائم مناضلة. لم أجرؤ حتى أن أدخل يدي تحت قميصها لكني فعلت ووصلت إلى حلمتها. أما أنا فقد لمع ظهري مراراً وسقطت رغبتي إلى حوضي. نحتُّ انتفاخ بنطلوني في جسدها، شعرت وتلاشت وضمتني بفخذيها. كان تنفسنا ودمدماتنا المتبقية من صرخاتنا المبتلعة مسموعة بين الخيم، وسمعتُ أنينها قبل أن أشعر بكل وجودي يدفق في بنطلوني. قالت لي إنها ستغادر غداً وتريد أن يكون هذا آخر ما بيننا. في الصباح ونحن في انتظار الفطور رأيتها مع فرقتها يغادرون في صف شبه عسكري، سلّمت من بعيد. رديت التحية ولم أرها بعد ذلك.
لماذا صدّقتها ولم أحاول الاتصال بها. كان اسمها لديّ واسم فرقتها ومن السهل الوصول إليها. أكانت فعلاً بقيت على كلمتها ورفضت لقائي، في ظني أن الأمور لا تحدث هكذا إلاّ في القصص، ما من عهود من هذا النوع تحترم فعلاً، وإن قيلت فالناس يدوسونها ويفضلون عليها علاقات مطاطة لا يمكن إمساكها بكلمة. أعرف كم تفضّل العلاقات الجرجرة على احترام النهايات الفعلية. أنا أيضاً لا أعرف كيف يمكن للواحد أن يخرج من حبّ. كان يمكنني أن أتصل بها بعد أسبوع. استبعد أن أكون فعلتُ ذلك لأني خاطب، لم يمنعني هذا في يوم من قبول علاقات لمجرد الإحساس بأنها اختارتني، أن شيئاً لا يرد اختارني لها. لماذا إذاً قبلتُ تلك الأسطورة التي اخترعَتْها عن الليلة الأخيرة بيروت يومذاك مدينة كالعلبة وأي أسطورة يمكن أن تحدث في علبة. لماذا وافقت على أن أكون شخصاً في قصة فيما أشخاص القصص لا يتأذون ولا يخسرون. كنت في الأرجح جباناً. اكتفيت بليلة واحدة مع العينين الخضراوين والسمرة المحروقة. كان هذا تعويضاً رمزياً وربما نهاية مطلوبة لقصّة معلقة. هل خفت أن أُطرد ثانية؟ وهي هل صدقت فعلاً هذه الحكاية؟ هل تكفي النار والنبيذ لاختراع هذا العهد. كيف يمكن لليلة حب كاملة في هذا العلن أن تكون موضوعاً لخرافة كهذه. يومها لم أفكِّر هكذا لم أعرف أنني بهذا السلوك الطقسي قتلت حقاً القصّة الحقيقيّة.
كنا في مطعم البيتزا، أربعة كما أذكر. حلّ مقابلنا على طاولة أكبر شبان وفتيات ومعهم آلاتهم الموسيقية ولم نتابعهم أكثر، ما أن جلسوا حتى بدأوا يتحدثون بالإنكليزية. استرسلنا نحن أيضاً في أحاديثنا، فجأة التفتت فتاة وسألتني أنت عباس بيضون. قالت إنها حنان. السؤال الوحيد الذي سألتْه: كان «كنت خاطب. تجوّزت». هل أفهم أن هذا هو الأساس التقليدي لتلك القصة الرومانطيقية، أن العهد لم يكن أكثر من ذلك. أن الفتاة التي قبلت أن تنام تقريباً معي وسط عشرات الأشخاص، ولم تخف، لم ترد أن تكمل مع خاطب وزوج مستقبلي. هل أفهم أن القصّة الفعلية كانت في الليلة نفسها، القصة التي تركتها لتهرب لا في ذلك العهد الركيك. نظرت إليها الآن كانت فتاة حنطية ضئيلة الجسم ومثل الأول لم تكن متألقة ولا مزينة، بلوز وتنورة قريبتان من البيج وسكربينة زحف، لا ماكياج ولا حلي، لكنها بالتأكيد لم تكن ذات عينين خضراوين ولا سمرة محروقة

Post: #17
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-01-2017, 08:24 PM
Parent: #16

أين نرسو في عوالم الخيال والتحديق باللامعقول أم نحن الهائمون
زهير عثمان حمد نشر في الراكوبة يوم 31 - 07 - 2016

تجدني في صبيحة يوم أنعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي أناجي نفسي وأخرون بهذه الابيات فيها ما فيها من الرمزية وأحباط العمر ومرارات الخلاف وبؤس الاقصاء ولعنة الصراعات ترفرف بيننا والعمر في محطاته الاخيرة يعلن أنه لا سلوي غير الانزواء حماية لبقي أيام العمر
(الشاربون دموعهم في حرها
نار تمزقهم أسي وهمودا
الكادحون المجهدون هوي بهم
لهب الحقول علي الحقول حصيدا
النامون علي التراب قعودا
كم من شقي بات قيد دموعه
ومشرد عبر الحياة شهيدا )
في هذه اللحظة أشد علي كل رفيق وأبارك لهم واحد من أعراس المجد والنضوج للتجربة الشيوعية السودانية بالرغم من كأبة ذكري مضت بنا خلال أقل من أيام هي ذكري يوليو 1971 ولكن كان العزاء أن يتعلم صغار الماركسيين من تجارب الحزب العتيق وأن يناهلوا من علم الكبار منا وأعلاء قيم الحزب والتنظيم وتقديس الولاء للحزب وللرفاق لا لست حالما لاخيالي أنها قيم الحزب التي كنت أتعايش معها صبي وشاب وفي هذا العمر نقاء طهارة وعفة لسان بالإضافة الي ان الدم السوداني عليك حرم حرمة الدم الماركسي أو الشيوعي لا أعلم أن كانوا مثاليين بالفعل ولكن تركوا أرث عظيم وتاريخ مجيد نفخر به نحن والاجيال القادمة من قبائل اليسار
لازالت وبعض الرفاق الذين تركوا الوطن لأسباب مختلفة ننادي ونؤكد علي برنامج التغيير من أجل بناء الاشتراكية، ودعوة القوى الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير وفي مقدمتها الطبقة العاملة إلى الانتقال من الدفاع عن مكتسباتها إلى الانطلاق في عملية التغيير وهذا كان محور عمل الحزب خلال السنوات التي مضت ماذا كان الحصاد رفاقي الاجلاء
لقد كان العهد بكم هو الاهتمام في هذه المرحلة بالصراع السياسي والسير به الي الامام بمكاسب سياسية للطبقة العاملة ولكن سقط الجميع في دوامة الصراع مع الحزب الحاكم والصراع علي السلطة ومن المؤسف كذلك ذهبوا معهم في خط الصراع اللا أخلاقي الذي هو المقصد منه أشانة تاريخ هذا الحزب العريق وأيضا من المحزن أن هنالك بعض الزملاء الذين لايعون خطر نقل الصراع التنظيمي خارج اسوار الحزب أصبحوا أسلحة ضد الحزب يحركهم أعلام الأعداء ضد الحزب
علينا الان في هذه المرحلة بالتحديد التعويل علي أهمية المنظمات الجماهيرية في الصراع الدائر اليوم مع الحزب الحاكم ومؤسساته التي قتلت الالاف من أبناء شعبنا الصامد من الشباب وعلينا أن نعلن ونسعي بكل قوة من أجل الانتفاض ضد هذا المجازر والعنف وهضم حقوق الأقليات في الوطن
أن أهم أهداف هذا المؤتمر هو توحيد الطبقة العاملة لبناء جماعات ضغط أجتماعية جماهرية من الطبقات الفقيرة في المركز والاقاليم وأعادة الحياة للطبقة الوسطي التي هي مفتاح التغيير في كل المجتمعات
علينا أعداد كوادر جديدة لتحمل قيادة الحزب بعد ثبوت أن القيادات التاريخية الحالية صراعها علي نيل عضوية اللجنة المركزية
وعلينا وعلي كل من حمل راية حمراء الدفاع عن الحزب الشيوعي ضد الهجمة الشرسة علي مؤسسات الحزب من قبل النظام وخلال الاعوام الثلاثة التي مضت أغلق النظام كل منارات الراي ومساحات التفكير الحر في كل من العاصمة والاقاليم وكان أخطر هو أغلق دار أتحاد الكتاب الذي كنت ردة فعل الطبقة المثقفة في غاية الإحباط للجميع والحزب خاصة
لا أريد أن أطيل ولكن أيضا بين كل الأوراق ورقة واحدة تشفي جراحات كثيرة أهمها جروح الذين فصلوا بقرار من اللجنة المركزية
عليكم أن تمعنوا النظر في سجل كل واحد منهم لا أقول كانوا غاية الانضباط التنظيمي ولكن حاولوا أن يكونوا كما كان الكبار من الرعيل الأول في الحزب الشيوعي
وعلتنا جميعا هي السجال وكثرة المقارنات بيننا والاخرين
نريده حزب بمعايير عصرية وروح وعقل سوداني صميم
وعسي جهدهم يفضي لنهضة حزب جدير بالولاء
عاش كفاح الطبقة العاملة والي المجد أيها الحزب التليد .

Post: #18
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-02-2017, 09:40 PM

من دفتر ثائرة مصرية
*هي دي الثورة

أنا إسمي رشا العزب، أنا صحفيه وبشتغل في السياسه من سنة ٢٠٠٠ وعمري ٢٩ سنه.

في تمانيه وتسعين كنت أنا في ثانويه عامه وكان في حرب أمريكا على العراق وأنا كنت طالبة ثانوي، فقررنا نعمل مظاهره داخل المدرسه ووزعنا منشورات وعملنا علم أمريكا وحرقناه. وبعد كده أنا تأبض عليا في المدرسه ودي تبأى أول مره يتئبض عليا في حياتي، ودخلوني الكنتين وكنت مبسوطه طبعًا. وبعد كده دخلت الجامعه وكانت بداية الانتفاضه الفلسطينيه وطبعًا كانت دي أول مظاهرات تحصل في مصر من التمانينات. في ٢٠٠٣ نزلت من البيت، أصحابي تجمعوا عندي، ونزلنا مع بعض وركبنا المترو، وبئينا بننزل في كل عربية مترو نقول فيها إن إحنا رايحين التحرير. كل محطه بنغير عربيه وبنقول نفس الكلام وكل محطه بنغير العربيه بنقول نفس الكلام لحد ما نزلنا التحرير. وكان عشرين مارس ودا كان أول احتلال للتحرير من السبعينات.

كان في شوية حاجات بتتعمل حوالي, التحضير لكيان موحد، يضم كل الناس اللي طلعت من الشغل بتاع الانتفاضه وضرب العراق، فكان الكلام على فكرة «كفايه». كان التعامل أول اجتماع «كفايه» كان في «جمعية الصعيد» كان في رمضان اعتقد. أنا حضرتو، ناس كتير كتير اتفقت على ان يبأى في كيان موحد يضم الناس دي ويشتغل على الأوضاع الداخليه ودي كانت أول مره الناس تتكلم على مصر. إبتدت مظاهرات «كفايه» في ٢٠٠٥ بعد المظاهره الاولى التي نشأت في ٢٠٠٤، كانت بتتكلم بشكل واضح وصريح «لا للتمديد. لا للتوريث» ... بشكل قاطع. «كفايه» كانت حركه فيها ميزه رئيسية جدًا، انها كانت حركه واسعه وفي نفس الوقت مفيهاش المركزيه وقويه عشان ما كانش في فالحقيقه قيادات.



وكان كمان في حركه في المحافظات واسعه حوالي, مشاكل الاصلاح الزراعي، ودي كانت لافته جدًا في الفتره دي. في الفتره دي كان في تلات قرى عملوا انتفاضات شبه كامله ضد عودة الاقطاع اللي تحالف مره اخرى مع الشرطه علشان يسرق أرض الفلاحين اللي داروا المصلحه الزراعيه من الخمسينات. «الستوري» (القصه) الرئيسيه اللي كانت رمز للمرحله دي هي «سيرندو» في (محافظة) «البحيره». «سيرندو» في «البحيره» كانت انتفاضه ضخمه جدًا جدًا ضد الاقطاع ونزلت الشرطه قبضت على كل الناس وبقية الرجاله هربوا. إحنا رحنا المدينه، قصدي القريه، بلا رجال، كل الي كان باقي منا ستات. لما الشرطه جات مره تانيه علشان تقبض على الناس اللي في القريه ما لئتش رجّاله فراحت قابضه على الستات، وقبضت على عدد كبير من الستات ومنهم «مركبي». «مركبي» إتقال كتير عن تعذيبها في قسم الشرطه وانها علّقت من ضفايرها وماتت واتدفنت بالسر باليل كمان! فالحادثه دي كانت حادثه ضخمه جدًا جدًا جدًا اشتغلنا عليها بكل ما نملك من قوى.

بعد السجن مش زي قبله

السجن كان عالم مختلف تمامًا عن الحاجات الي بنشوفها في الأفلام والتلفزيون وفالحقيقه السجن حاله خاصه، حاله انسانيه خاصه جدًا واعتقد اننا يمكن بأرّخ لتجربتي السياسيه قبل وبعد السجن، لأن قبل السجن كانت الامور شويه فيها أحلام وفيها تجاوز لفكرة العقبات اللي ممكن تحصلك وانت في السجن. أنا ما كنتش خايفه من السجن ليه؟ كنت قلقانه من الممكن يحصل في السجن، بس احنا تعاملنا معامله خاصه في الحقيقه، مش من ادارة السجن، من الساجنات... الساجنات كانوا مستقدعينا جدًا، ففي واحده ضحت لنا بالبكيه بتعتها، فنيمتنا أنا وأسماء على سرير ونيّمت ندى على سرير وظبّطنا الحال وكان في حالة كده إحتضان من العنبر مش طبيعيه. الفكره انو في أول اسبوع كان في أول محوّله لسجينه جنائيه للاعتصام، طلعت فوق مبنى المستشفى وقالت أنا لو ما تعالجت كويس في المستشفى، لأن المستشفى ما كانت مستشفى، كانت يعني ساخنه يعني زي القسم يعني، كانت الدكتوره بتجري ورا المرضى والله العظيم.

كنت ماشيه بقول للناس في الشارع «بن علي هرب! يعني أول رئيس عربي يهرب بعد ثوره شعبيه في بلدو!» فالناس بتبُصلّي كده، ببلاهه شديده جدًاانا حبدأ شويه من قبل ٢٥ يناير من ٢٠ يعني، يوم ١٤ يناير، يوم ما بن علي هرب، كنت أنا في الشارع مشتريه حاجات انا وصحابي وأنا ماعرفتش الخبر. حدّ من صحابي كلمني وقللي الخبر فمكنتش مسدئه وكنت ماشيه بقول للناس في الشارع «بن علي هرب! يعني أول رئيس عربي يهرب بعد ثوره شعبيه في بلدو!» فالناس بتبُصلّي كده، ببلاهه شديده جدًا يعني. فواحد بسألني «مين بن علي؟» فأنا بَقُلّو، فراح قايل: «بس دا الي عندنا عمرو ما حيمشي يعني.» كان في خطاب مبارك التاني اللي هو [يوم] التلات إلهو إللي قسّم الناس. وفي ناس شافت انو الراجل عمل اللي عليه وكده كويس أوي وبعد كده لازم يروح. وانا كنت شايفه انو لو روّحنا حيدبحنا، فلازم نكمل... لازم نكمل لحد ما مبارك يمشي والنظام يسقط يعني مش بس مبارك يمشي يعني. بالليل في ناس كتير مشيت من الميدان، اللي هو [يوم] التلات. دا في ناس من صحابنا كمان مشيوا. في بعض الكتاب المثقفين والمنظرين مشيوا. المجلس العسكري بيحارب الثوره من أول يوم، وفشل... هي دي الفكره بس يعني، الفكره انو كان بيحارب جاهدًا... جاهدًا انو يقضي على الثوره دي بأكتر من طريقه، بالاعتقالات وانو ياخد ناس ويعذبها والتعذيب كان بشع جدًا على فكره أثناء 18 يوم كمان. فتره ٩ مارس اعتقد انوا عمل نقطة تحول في نشاط المجموعات السياسيه ثم كمان عمل تحول في مواجهة الناس للحقيقه الصادمه انو المؤسسه العسكريه في مصر هي بتعبّر عن مبارك وهي استكمال واضح لحكم مبارك وانو تم التخلص من حكم مبارك بحكم هو كان عقبه لبقاء المؤسسه العسكريه الفاسده ولبقاء العسكر في الحكم.

يعني إيه سلمية؟

اللي حصلي اني اتخدت واتضربت وودّونا للمنطقه العسكريه وشفت بعيني التعزيب الي بيتعمل وانا نفسي إتضربت وبنات اتضربوا وتم الاعتداء عليا وانا داخله المتحف وتم ربطي، بس ده كله تفاصيل لا تُذكر بالمقارنه مع الذي حصل لبقية الشباب جوه. ولولا انو احنا بس اجتهدنا وعملنا الفِديوهات ونشرناها ونزّلنا وحاجات ومش عارفه ايه وعملنا اجتماع واسع لكل الناس المهتمه باللي حصل وأساسًا كتير ناس جات وأسسنا لا للمحاكمات العسكريه للمدنيين الي هي حركه المجموعه الي إشتغلت على انتهاكات العسكر طول فترة الثوره وبصراحه المجموعه ساهمت بشكل ضخم جدًا وانضم اليها عدد كبير جدًا من المتطوعين، ساهمت في تحريك احداث السنه كلها في رأيي وساهمت كمان في كشف معلومات كانت الناس محتاجه تعرفها.

الناس وصلت الميدان ازاي؟ هو دا السؤال اللي المفروض يتسأل. الناس وصلت ميدان التحرير بعد معارك في الشارع إستمرت تمنيه واربعين ساعهيعني ايه سلميه؟ يعني لما تتضرب بالرصاص وانت ترد بالطوب، وبيقولو عليك ان انت بلطجي. وسلميه يعني لما تتدهس بالمدرعات بالجيش وتطلع تضرب حد من اللي بيقتلوك وقتلوا اخواتك وبيتهموك إن انت الي بتضرب؟ سلميه يعني لما تتصاوب بالرصاص في عينك فتضرب بالمولوتوف وبيقولوا عليك برضو انو انت بلطجي وان دي مش اخلاق الثوره؟ قللي ايه هي اخلاق الثوره؟ اللي هي عامله ازاي دي؟ أخلاق الثوره يعني ان الناس وصلت، الناس فاكره انو الثوره ميدان التحرير وده مش صحيح. كل الناس اللي بتتكلم انو اعتصام ١٨ يوم هو الي وّقع حسني مبارك مش صحيح على فكره. مش صحيح. الناس وصلت الميدان ازاي؟ هو دا السؤال اللي المفروض يتسأل. الناس وصلت ميدان التحرير بعد معارك في الشارع إستمرت تمنيه واربعين ساعه متواصل والمظاهرات دي بتيجي على الميدان، الميدان ماكنش عمرو حيتفتح لو الأحياء ما قررتش انها تعمل معركتها في الحي. الكلام دا كلو ما طلعش الا مع مواجهتنا للعسكر، بعد ما واجهنا العسكر وده في مسج [رسالة] مهمه: انو عايزك طول الوقت تتضرب وتروح تنام زي ما كان بيحصل ايام مبارك. ما هو إحنا عشنا في تلاتين سنه سلميه على فكره. انك ترد على القتل والعنف بعنف حتى لو عنف أقل منو بكتير يعني حتى مش عنف بيساوي عنف الدوله، عنف الدوله المنظم إجرام.

لا أملك من المهارات اللي تخليني اعمل حاجه عنيفه، يعني انا أكتر حاجه بعملها كنت بعملها في حياتي هو انّنا كنت بضرب طوب في [موقعة] الجمل او [شارع] محمد محمود ولا اي حاجه وأنا ده حقي وحفضل متمسكه بيه لحد اخر لحظه وأي مؤسسه في الدوله ظالمه بتسحق الناس وبتهينهم وتذلّهم وتعذبهم هي مؤسسه تستحق الحرق بلا نقاش.

العيله مقسومه زي اي عيله في مصر، أسره عاديه متوسطه، أبويه راجل مش متعلم ما بيعرفش يقرا ولا يكتب وأمي كذلك. أنا أمي تقدر تميز شكل اسمي لأنها حافظه شكل اسمي من الجرايد. الوعي صراحه ملوش علاقه خالص بأديه معاك شهاده عليا، بدليل انو اللي خربوها هم كلهم معاهم شهادات عليا يعني. وفكره كمان يوم ما جا [ابوي] السجن زارني هو وماما كان عظيم جدًا وكان أداؤه رائع جدًا. أمي كانت بتعيط [تبكي] طبعًا بس أبويا كان أداؤه رائع في الحقيقه، ولما أنا عيّطت كان شايف انو ليه انا عيّطت أساسًا، انّو انا اللي بعملوا دا صح وانو اللي بعملوا ده حاجه مهمه جدًا ولازم أبقى متماسكه. أبويه مع الاسف ما شفش الثوره، مالحقش الثوره يعني، أعتقد كان حيبقى فارق معاه جدا موضوع الثوره.

نموذج «سمبو»

مفيش ثوره قامت علشان «تويتر» أو علشان «فيس بوك» فالحقيقه يعني، الثوره بتقوم لما الناس بتنزل وتقاوم وتموت وتضحيانبهار العالم بثورة مصر انبهار مفتعل وليه أهداف سياسيه أخرى يعني. أحنا عملنا حاجه عظيمه لكن المبالغه فيها ده ضرّها لأن أقنع الناس وأدى لهم تصوّر انو خلاص خلصت، فالناس بأ تروح البيت وده مش صحيح والعالم كلو تأملوا ده عشان المعنى ده يوصل. لكن أنا شايفه انو العالم من مصلحتو انو ميكونش في ثوره جذريه. العالم من مصلحتو يكون في حاجات ظريفه كده شكلها ثورات. والعالم من مصلحتو انو مايبقاش في حركه اجتماعيه واسعه بتطالب بالحقوق، قلبها العداله الاجتماعيه مش الحريه ونقطه. يعني طول الوقت والناس بتقولك الناس دي خرجت علشان الحريه. لأ الناس دي خرجت علشان مش معاها تاكل! والأكل ما جا لحد دلوقتي ومش حييجي لأن النظام في مصر من مصلحتو إنو يبقى في إفقار المهمشه أكتر بالدليل انو الـ١٢ الف معتقل اللي إحنا ما بنعرفش عنهم حاجه اللي في السجون دلوقتي كلها طبقات شعبيه. «الاكتِفِستْ» [لهم] دور مهم يعني انا انو الدور اللي لعبوه وأنا منهم ونحنا عملنا ما يسمى بإعلام الثوره، بنكتب، بنقول، بنصوّر، بنوثّق، ولكن مش كلنا بنبقى واقفين في المعارك في اول صف. دي حقيقه موضوعيه يعني، ومش مطلوب انو كلنا نبقى واقفين في الصف الأولاني ولكن الفَرْق الصوره النمطيه اللي عايزين يصدروها للميديا وللاعلام وللتسويق الدولي يعني والاكتفست اللي بيحرك العالم وراء الـ«كي بورد»، مفيش إعلام بيتحرك وراء «الكي بورد» أساسًا يعني، يعني مفيش ثوره قامت علشان «تويتر» أو علشان «فيس بوك» فالحقيقه يعني، الثوره بتقوم لما الناس بتنزل وتقاوم وتموت وتضحي بحاجات مهمه جدًا في حياتها، النموذج اللي عايز يصدرو الغرب ويصدرو الميديا العالميه انو النموذج بتاع [وائل] غُنِيم على سبيل المثال هو النموذج للثوره في مصر، لأ... ده النموذج الاصلاحي في مصر. ده نموذج الشخص الي حيرضى بكل حلول وباي حلول طالما هي مش حلول جذريه أساسًا. لأنو هو أصلًا شايف انو الثوره آخرها بالنسبالو مظاهره. لكن الثوره مش مظاهره في الحقيقه، الثوره عمل جماهيري، منظّم، قاعدي، الناس بتخرج بتجيب حقها بإديها وبترجع.. يا اما ما بترجعش، وعلشان كده احنا شايفين انو نموذج «سمبو» يللي محبوس بقضية إنو شايل سلاح انو هو خطف سلاح، الي كنا بنأضرب بيه يوم ٢٨ يونيو، يعني واحد خطف سلاح من ايد قاتل بيتحاسب انو شال سلاح من ايد قاتل، «سمبو» عشان من «الشرفيه» وسمبو علشان من بيئه فقيره، مابقاش رمز للثوره دي رغم انو انا شايفه انو بلد اكتر من نص سكانو تحت خط الفقر لازم يكون «الهِيرو» بتاعو واحد فقير زي «سامبو»، في الاخر...



خالد سعيد؟ الاتنين اصحاب حق، الاتنين أصحاب الثوره، ولكن التعمّد في انو ده يبقى رمز الثوره المصريه وانو «سامبو» يبقى مجرم وبلطجي هو ده الموضوع. رمز الثوره المصريه في الحقيقه هو «سامبو» والي زيو كتير جدًا جدًا جدًا اللي احنا ما نعرفهمش.

Post: #19
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-02-2017, 09:40 PM

من دفتر ثائرة مصرية
*هي دي الثورة

أنا إسمي رشا العزب، أنا صحفيه وبشتغل في السياسه من سنة ٢٠٠٠ وعمري ٢٩ سنه.

في تمانيه وتسعين كنت أنا في ثانويه عامه وكان في حرب أمريكا على العراق وأنا كنت طالبة ثانوي، فقررنا نعمل مظاهره داخل المدرسه ووزعنا منشورات وعملنا علم أمريكا وحرقناه. وبعد كده أنا تأبض عليا في المدرسه ودي تبأى أول مره يتئبض عليا في حياتي، ودخلوني الكنتين وكنت مبسوطه طبعًا. وبعد كده دخلت الجامعه وكانت بداية الانتفاضه الفلسطينيه وطبعًا كانت دي أول مظاهرات تحصل في مصر من التمانينات. في ٢٠٠٣ نزلت من البيت، أصحابي تجمعوا عندي، ونزلنا مع بعض وركبنا المترو، وبئينا بننزل في كل عربية مترو نقول فيها إن إحنا رايحين التحرير. كل محطه بنغير عربيه وبنقول نفس الكلام وكل محطه بنغير العربيه بنقول نفس الكلام لحد ما نزلنا التحرير. وكان عشرين مارس ودا كان أول احتلال للتحرير من السبعينات.

كان في شوية حاجات بتتعمل حوالي, التحضير لكيان موحد، يضم كل الناس اللي طلعت من الشغل بتاع الانتفاضه وضرب العراق، فكان الكلام على فكرة «كفايه». كان التعامل أول اجتماع «كفايه» كان في «جمعية الصعيد» كان في رمضان اعتقد. أنا حضرتو، ناس كتير كتير اتفقت على ان يبأى في كيان موحد يضم الناس دي ويشتغل على الأوضاع الداخليه ودي كانت أول مره الناس تتكلم على مصر. إبتدت مظاهرات «كفايه» في ٢٠٠٥ بعد المظاهره الاولى التي نشأت في ٢٠٠٤، كانت بتتكلم بشكل واضح وصريح «لا للتمديد. لا للتوريث» ... بشكل قاطع. «كفايه» كانت حركه فيها ميزه رئيسية جدًا، انها كانت حركه واسعه وفي نفس الوقت مفيهاش المركزيه وقويه عشان ما كانش في فالحقيقه قيادات.



وكان كمان في حركه في المحافظات واسعه حوالي, مشاكل الاصلاح الزراعي، ودي كانت لافته جدًا في الفتره دي. في الفتره دي كان في تلات قرى عملوا انتفاضات شبه كامله ضد عودة الاقطاع اللي تحالف مره اخرى مع الشرطه علشان يسرق أرض الفلاحين اللي داروا المصلحه الزراعيه من الخمسينات. «الستوري» (القصه) الرئيسيه اللي كانت رمز للمرحله دي هي «سيرندو» في (محافظة) «البحيره». «سيرندو» في «البحيره» كانت انتفاضه ضخمه جدًا جدًا ضد الاقطاع ونزلت الشرطه قبضت على كل الناس وبقية الرجاله هربوا. إحنا رحنا المدينه، قصدي القريه، بلا رجال، كل الي كان باقي منا ستات. لما الشرطه جات مره تانيه علشان تقبض على الناس اللي في القريه ما لئتش رجّاله فراحت قابضه على الستات، وقبضت على عدد كبير من الستات ومنهم «مركبي». «مركبي» إتقال كتير عن تعذيبها في قسم الشرطه وانها علّقت من ضفايرها وماتت واتدفنت بالسر باليل كمان! فالحادثه دي كانت حادثه ضخمه جدًا جدًا جدًا اشتغلنا عليها بكل ما نملك من قوى.

بعد السجن مش زي قبله

السجن كان عالم مختلف تمامًا عن الحاجات الي بنشوفها في الأفلام والتلفزيون وفالحقيقه السجن حاله خاصه، حاله انسانيه خاصه جدًا واعتقد اننا يمكن بأرّخ لتجربتي السياسيه قبل وبعد السجن، لأن قبل السجن كانت الامور شويه فيها أحلام وفيها تجاوز لفكرة العقبات اللي ممكن تحصلك وانت في السجن. أنا ما كنتش خايفه من السجن ليه؟ كنت قلقانه من الممكن يحصل في السجن، بس احنا تعاملنا معامله خاصه في الحقيقه، مش من ادارة السجن، من الساجنات... الساجنات كانوا مستقدعينا جدًا، ففي واحده ضحت لنا بالبكيه بتعتها، فنيمتنا أنا وأسماء على سرير ونيّمت ندى على سرير وظبّطنا الحال وكان في حالة كده إحتضان من العنبر مش طبيعيه. الفكره انو في أول اسبوع كان في أول محوّله لسجينه جنائيه للاعتصام، طلعت فوق مبنى المستشفى وقالت أنا لو ما تعالجت كويس في المستشفى، لأن المستشفى ما كانت مستشفى، كانت يعني ساخنه يعني زي القسم يعني، كانت الدكتوره بتجري ورا المرضى والله العظيم.

كنت ماشيه بقول للناس في الشارع «بن علي هرب! يعني أول رئيس عربي يهرب بعد ثوره شعبيه في بلدو!» فالناس بتبُصلّي كده، ببلاهه شديده جدًاانا حبدأ شويه من قبل ٢٥ يناير من ٢٠ يعني، يوم ١٤ يناير، يوم ما بن علي هرب، كنت أنا في الشارع مشتريه حاجات انا وصحابي وأنا ماعرفتش الخبر. حدّ من صحابي كلمني وقللي الخبر فمكنتش مسدئه وكنت ماشيه بقول للناس في الشارع «بن علي هرب! يعني أول رئيس عربي يهرب بعد ثوره شعبيه في بلدو!» فالناس بتبُصلّي كده، ببلاهه شديده جدًا يعني. فواحد بسألني «مين بن علي؟» فأنا بَقُلّو، فراح قايل: «بس دا الي عندنا عمرو ما حيمشي يعني.» كان في خطاب مبارك التاني اللي هو [يوم] التلات إلهو إللي قسّم الناس. وفي ناس شافت انو الراجل عمل اللي عليه وكده كويس أوي وبعد كده لازم يروح. وانا كنت شايفه انو لو روّحنا حيدبحنا، فلازم نكمل... لازم نكمل لحد ما مبارك يمشي والنظام يسقط يعني مش بس مبارك يمشي يعني. بالليل في ناس كتير مشيت من الميدان، اللي هو [يوم] التلات. دا في ناس من صحابنا كمان مشيوا. في بعض الكتاب المثقفين والمنظرين مشيوا. المجلس العسكري بيحارب الثوره من أول يوم، وفشل... هي دي الفكره بس يعني، الفكره انو كان بيحارب جاهدًا... جاهدًا انو يقضي على الثوره دي بأكتر من طريقه، بالاعتقالات وانو ياخد ناس ويعذبها والتعذيب كان بشع جدًا على فكره أثناء 18 يوم كمان. فتره ٩ مارس اعتقد انوا عمل نقطة تحول في نشاط المجموعات السياسيه ثم كمان عمل تحول في مواجهة الناس للحقيقه الصادمه انو المؤسسه العسكريه في مصر هي بتعبّر عن مبارك وهي استكمال واضح لحكم مبارك وانو تم التخلص من حكم مبارك بحكم هو كان عقبه لبقاء المؤسسه العسكريه الفاسده ولبقاء العسكر في الحكم.

يعني إيه سلمية؟

اللي حصلي اني اتخدت واتضربت وودّونا للمنطقه العسكريه وشفت بعيني التعزيب الي بيتعمل وانا نفسي إتضربت وبنات اتضربوا وتم الاعتداء عليا وانا داخله المتحف وتم ربطي، بس ده كله تفاصيل لا تُذكر بالمقارنه مع الذي حصل لبقية الشباب جوه. ولولا انو احنا بس اجتهدنا وعملنا الفِديوهات ونشرناها ونزّلنا وحاجات ومش عارفه ايه وعملنا اجتماع واسع لكل الناس المهتمه باللي حصل وأساسًا كتير ناس جات وأسسنا لا للمحاكمات العسكريه للمدنيين الي هي حركه المجموعه الي إشتغلت على انتهاكات العسكر طول فترة الثوره وبصراحه المجموعه ساهمت بشكل ضخم جدًا وانضم اليها عدد كبير جدًا من المتطوعين، ساهمت في تحريك احداث السنه كلها في رأيي وساهمت كمان في كشف معلومات كانت الناس محتاجه تعرفها.

الناس وصلت الميدان ازاي؟ هو دا السؤال اللي المفروض يتسأل. الناس وصلت ميدان التحرير بعد معارك في الشارع إستمرت تمنيه واربعين ساعهيعني ايه سلميه؟ يعني لما تتضرب بالرصاص وانت ترد بالطوب، وبيقولو عليك ان انت بلطجي. وسلميه يعني لما تتدهس بالمدرعات بالجيش وتطلع تضرب حد من اللي بيقتلوك وقتلوا اخواتك وبيتهموك إن انت الي بتضرب؟ سلميه يعني لما تتصاوب بالرصاص في عينك فتضرب بالمولوتوف وبيقولوا عليك برضو انو انت بلطجي وان دي مش اخلاق الثوره؟ قللي ايه هي اخلاق الثوره؟ اللي هي عامله ازاي دي؟ أخلاق الثوره يعني ان الناس وصلت، الناس فاكره انو الثوره ميدان التحرير وده مش صحيح. كل الناس اللي بتتكلم انو اعتصام ١٨ يوم هو الي وّقع حسني مبارك مش صحيح على فكره. مش صحيح. الناس وصلت الميدان ازاي؟ هو دا السؤال اللي المفروض يتسأل. الناس وصلت ميدان التحرير بعد معارك في الشارع إستمرت تمنيه واربعين ساعه متواصل والمظاهرات دي بتيجي على الميدان، الميدان ماكنش عمرو حيتفتح لو الأحياء ما قررتش انها تعمل معركتها في الحي. الكلام دا كلو ما طلعش الا مع مواجهتنا للعسكر، بعد ما واجهنا العسكر وده في مسج [رسالة] مهمه: انو عايزك طول الوقت تتضرب وتروح تنام زي ما كان بيحصل ايام مبارك. ما هو إحنا عشنا في تلاتين سنه سلميه على فكره. انك ترد على القتل والعنف بعنف حتى لو عنف أقل منو بكتير يعني حتى مش عنف بيساوي عنف الدوله، عنف الدوله المنظم إجرام.

لا أملك من المهارات اللي تخليني اعمل حاجه عنيفه، يعني انا أكتر حاجه بعملها كنت بعملها في حياتي هو انّنا كنت بضرب طوب في [موقعة] الجمل او [شارع] محمد محمود ولا اي حاجه وأنا ده حقي وحفضل متمسكه بيه لحد اخر لحظه وأي مؤسسه في الدوله ظالمه بتسحق الناس وبتهينهم وتذلّهم وتعذبهم هي مؤسسه تستحق الحرق بلا نقاش.

العيله مقسومه زي اي عيله في مصر، أسره عاديه متوسطه، أبويه راجل مش متعلم ما بيعرفش يقرا ولا يكتب وأمي كذلك. أنا أمي تقدر تميز شكل اسمي لأنها حافظه شكل اسمي من الجرايد. الوعي صراحه ملوش علاقه خالص بأديه معاك شهاده عليا، بدليل انو اللي خربوها هم كلهم معاهم شهادات عليا يعني. وفكره كمان يوم ما جا [ابوي] السجن زارني هو وماما كان عظيم جدًا وكان أداؤه رائع جدًا. أمي كانت بتعيط [تبكي] طبعًا بس أبويا كان أداؤه رائع في الحقيقه، ولما أنا عيّطت كان شايف انو ليه انا عيّطت أساسًا، انّو انا اللي بعملوا دا صح وانو اللي بعملوا ده حاجه مهمه جدًا ولازم أبقى متماسكه. أبويه مع الاسف ما شفش الثوره، مالحقش الثوره يعني، أعتقد كان حيبقى فارق معاه جدا موضوع الثوره.

نموذج «سمبو»

مفيش ثوره قامت علشان «تويتر» أو علشان «فيس بوك» فالحقيقه يعني، الثوره بتقوم لما الناس بتنزل وتقاوم وتموت وتضحيانبهار العالم بثورة مصر انبهار مفتعل وليه أهداف سياسيه أخرى يعني. أحنا عملنا حاجه عظيمه لكن المبالغه فيها ده ضرّها لأن أقنع الناس وأدى لهم تصوّر انو خلاص خلصت، فالناس بأ تروح البيت وده مش صحيح والعالم كلو تأملوا ده عشان المعنى ده يوصل. لكن أنا شايفه انو العالم من مصلحتو انو ميكونش في ثوره جذريه. العالم من مصلحتو يكون في حاجات ظريفه كده شكلها ثورات. والعالم من مصلحتو انو مايبقاش في حركه اجتماعيه واسعه بتطالب بالحقوق، قلبها العداله الاجتماعيه مش الحريه ونقطه. يعني طول الوقت والناس بتقولك الناس دي خرجت علشان الحريه. لأ الناس دي خرجت علشان مش معاها تاكل! والأكل ما جا لحد دلوقتي ومش حييجي لأن النظام في مصر من مصلحتو إنو يبقى في إفقار المهمشه أكتر بالدليل انو الـ١٢ الف معتقل اللي إحنا ما بنعرفش عنهم حاجه اللي في السجون دلوقتي كلها طبقات شعبيه. «الاكتِفِستْ» [لهم] دور مهم يعني انا انو الدور اللي لعبوه وأنا منهم ونحنا عملنا ما يسمى بإعلام الثوره، بنكتب، بنقول، بنصوّر، بنوثّق، ولكن مش كلنا بنبقى واقفين في المعارك في اول صف. دي حقيقه موضوعيه يعني، ومش مطلوب انو كلنا نبقى واقفين في الصف الأولاني ولكن الفَرْق الصوره النمطيه اللي عايزين يصدروها للميديا وللاعلام وللتسويق الدولي يعني والاكتفست اللي بيحرك العالم وراء الـ«كي بورد»، مفيش إعلام بيتحرك وراء «الكي بورد» أساسًا يعني، يعني مفيش ثوره قامت علشان «تويتر» أو علشان «فيس بوك» فالحقيقه يعني، الثوره بتقوم لما الناس بتنزل وتقاوم وتموت وتضحي بحاجات مهمه جدًا في حياتها، النموذج اللي عايز يصدرو الغرب ويصدرو الميديا العالميه انو النموذج بتاع [وائل] غُنِيم على سبيل المثال هو النموذج للثوره في مصر، لأ... ده النموذج الاصلاحي في مصر. ده نموذج الشخص الي حيرضى بكل حلول وباي حلول طالما هي مش حلول جذريه أساسًا. لأنو هو أصلًا شايف انو الثوره آخرها بالنسبالو مظاهره. لكن الثوره مش مظاهره في الحقيقه، الثوره عمل جماهيري، منظّم، قاعدي، الناس بتخرج بتجيب حقها بإديها وبترجع.. يا اما ما بترجعش، وعلشان كده احنا شايفين انو نموذج «سمبو» يللي محبوس بقضية إنو شايل سلاح انو هو خطف سلاح، الي كنا بنأضرب بيه يوم ٢٨ يونيو، يعني واحد خطف سلاح من ايد قاتل بيتحاسب انو شال سلاح من ايد قاتل، «سمبو» عشان من «الشرفيه» وسمبو علشان من بيئه فقيره، مابقاش رمز للثوره دي رغم انو انا شايفه انو بلد اكتر من نص سكانو تحت خط الفقر لازم يكون «الهِيرو» بتاعو واحد فقير زي «سامبو»، في الاخر...



خالد سعيد؟ الاتنين اصحاب حق، الاتنين أصحاب الثوره، ولكن التعمّد في انو ده يبقى رمز الثوره المصريه وانو «سامبو» يبقى مجرم وبلطجي هو ده الموضوع. رمز الثوره المصريه في الحقيقه هو «سامبو» والي زيو كتير جدًا جدًا جدًا اللي احنا ما نعرفهمش.

Post: #20
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-03-2017, 09:42 PM
Parent: #19

اليدا غيفارا تحمل الكثير من «تشي»: الحرية هي الكلمة الأجمل على وجه الأرض

وسام متى

كانت اليدا غيفارا في الرابعة من عمرها عندما غادر والدها كوبا إلى الكونغو ليستكمل مسيرة تحقيق أحلامه الثورية التي «لا تعرف الحدود». بعدها بثلاثة أعوام، أَعدم عملاء الاستخبارات الأميركية إرنستو «تشي» غيفارا، بعدما وقع في الأسر خلال إحدى جولات القتال في غابات بوليفيا، ليتحوّل إلى أيقونة ومصدرَ إلهامٍ لملايين المناضلين اليساريين حول العالم.

وتتخّذ الذكرى الثالثة والأربعين لاستشهاد غيفارا هذا العام طابعاً مميزاً في بيروت، حيث تشارك اليدا في إحيائها، من خلال المشاركة في «منتدى التضامن عن الثورة الكوبية»، التي أسهم «تشي» في انتصارها عام 1959.

«ذكرياتي مع والدي قليلة للغاية»، تقول اليدا في إحدى مقابلاتها الصحافية. لم تره سوى مرّة واحدة بعدما غادر إلى الكونغو، حين قام بزيارة سرية إلى هافانا… وهي لم تعلم يومها أنه أبوها. تروي اليدا تلك اللحظات لصحيفة «غارديان» البريطانية قائلةً:

«بعدما تناولنا العشاء، وقعت على الأرض، وأصيب رأسي. نهض الرجل من مقعده على أساس أنه طبيب. أشرف على علاجي. ثم حملني وضمني إلى صدره بحنان فائق…. كنتُ متأكدة أن هذا الرجل يحبّني بشكل خاص، ولم أكن أعلم أنه والدي، لأنه لم يتمكن من إخباري بذلك».

برغم ذلك، ثمة بعض من شخصية «تشي» متجسد في اليدا: طبيبة هي مثل أبيها، ماركسية في أفكارها، تحمل الكثير من ملامحه الفيزيولوجية… والأهم، أن أحلامهما تبدو متشابهة.

تسعى اليدا إلى الحفاظ على الإرث النضالي لـ«تشي» ونقله إلى أصقاع العالم، من خلال إشرافها، إلى جانب أخيها ارنستو، على مركز للدراسات يحمل اسم غيفارا، و«يدرّس كل شيء عن حياته، بكل تفاصيلها، الشخصية والسياسية والاجتماعية».

ولعل إصرار اليدا على العمل شخصياً للحفاظ على إرث والدها ـ بالرغم من أن اسم «تشي» وحده ظل كافياً خلال العقود الأربعة الماضية لاستنفار المناضلين اليساريين حول العالم ـ مردّه إلى سببين: الأول شخصي، حرّكته أمّها اليدا مارش، الزوجة الثانية لـ«تشي»، التي «نقلت إلينا حبّها الكبير لزوجها»، و«استطاعت أن تربّينا نحن الأبناء الخمسة على أفكاره». أما الثاني، فهو محاولة قوى السوق الرأسمالي تشويه تلك الصورة الشهيرة التي التقطها يوما المصوّر الشهير البيرتو كوردا لـ«تشي»، وتحوّلت بعد استشهاده إلى أيقونة ثورية، عبر تحويلها إلى مجرّد «ماركة» ترويجية لسلع اقتحمت المجتمعات الفقيرة لكي تبقيها أسيرة للنزعة الاستهلاكية المُعولمة، وهو أمر دفع بأليدا قبل سنوات إلى رفع الصوت عالياً للتعبير عن رفضها «استثمار صورة تشي لتحقيق الربح التجاري».

ما زالت اليدا ملتزمة العمل على تحقيق أحلام «تشي». بعض هذه الأحلام أصبح قريباً من الواقع، لا سيما حلم توحيد أميركا اللاتينية. ومن هنا حماس اليدا الدائم للرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، الذي نجح في وضع الحجر الأساس لمشروع التكامل الأميركي اللاتيني المعروف باسم «ألبا»، وهو أمر يمكن تلمّسه في كتابها «تشافيز، فنزويلا، وأميركا اللاتينية الجديدة».

أما أحلام «تشي» الأخرى، فما زالت اليدا تسعى لتحقيقها، حاملة «كل الحب لقضايا الشعوب العادلة»، ومحدّدة قضية أساسية لنشاطها تتمثل في «محاربة الجوع والفقر والمرض والأمية».

القيم الإنسانية لـ«تشي» ماثلة دوماً في كل ما تقوله اليدا. أجمل تلك القيم، بحسب رأيها، كانت «قدرته على الحب»، فـ«لكي تكون ثورياً حقيقياً عليك أن تكون رومانسياً». وانطلاقاً من هذا المفهوم كان «تشي» يتمتع بالقدرة على أن يضحي بنفسه لتحرير الانسانية. أما الحرية والثقافة فرديفتان عندها: «الحرية هي أجمل كلمة ينطقها كائن بشري على وجه الأرض، لكن لا يمكن أن تستمتع بها إلا الشعوب المثقفة».

تتبنى اليدا مفهوماً خاصاً للعمل السياسي، وهو مغاير تماماً عن المفهوم المتداول: «كلنا منخرطون في السياسة. لا نمتهنها. لكننا نعيشها». هكذا، يبدو نشاطها بعيداً عن الإطار الرسمي. فقد عملت طبيبة في مستشفى «وليم سولير» في هافانا، ثم التحقت ببعثات طبية في كل من أنغولا والإكوادور ونيكاراغوا. كما تنشط في مجال حقوق الإنسان والمساعدة في تحقيق التنمية في الدول الفقيرة.

*تعالوا يا رفاق أبحثوا عن تشي لتوقظ الثورة فينا #

Post: #21
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-04-2017, 06:41 PM

2016: الفِكر الفايسبوكي
كتب محمد حجيري

في نهاية الستينيات، أطلق المفكر الراحل صادق جلال العظم كتابه "نقد الفكر الديني"، وأحدث ضجيجاً ونقاشاً وسجالاً ما زالت تداعياته حتى اليوم، وصار "أيقونة" في الثقافة مع أن الكتاب في جوهره ضد الأوثان الإسلامية. وفي بداية التسعينيات صدر للمفكر اللبناني مهدي عامل(حسن حمدان) بعد اغتياله، كتاب "نقد الفكر اليومي"، يساجل فيه بطريقته، بعض الكتّاب اللبنانيين والعرب في الصحف والمجلات اللبنانية، سواء مقالة موسى وهبه عن الحرب أو مقالة عباس بيضون عن "موت السياسة" أو أفكار بعض المتأسلمين في الزمن الخميني. لم يكن كتاب مهدي عامل أيقونة، بل شخصيته، فاغتياله جعل صورته الأيقونية تغلب أفكاره بالنسبة إلى اليساريين... واليوم إذا أراد مفكر أن يختار عنواناً لكتاب، ربما يكون "نقد الفكر الفايسبوكي"، خصوصاً أن بعض الكتّاب باتوا يمتعضون من ثقافة الفايسبوك، رغم أنهم الأكثر حماسة للنشر فيه، والأكثر اندفاعاً للقول، وتسمية ما يكتبونه في الفايسبوك فكراً، ويطلقون المصطلحات والمفاهيم كأنهم يصنعون فتحاً لغوياً. لكن أجمل ما في الفايسبوك أنه كسر الاحتكار والإدعاء وفتح المجال لقول كل شيء. جزء مما يقال تعسفي، وجزء منه تعرية للواقع والأفكار وتفكيك هالة الأيقونات بأسلوب، ربما ديموقراطي وربما همجي وربما غوغائي وربما مثالي.

معيار القضايا الثقافية بات مرتبطاً بوسائل الميديا والفايسبوك تحديداً. الضجيج الثقافي الفايسبوكي تركز العام 2016 حول بعض القضايا، تبدأ من مقابلة أمين معلوف مع تلفزيون إسرائيلي، وتمر بالتعليقات حول انتشار اسم الروائية السورية سمر يزبك في أوروبا، من دون أن ننسى فوز المغني بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب، وهذيان التعليقات حول رسائل أنسي الحاج الى غادة السمان، ومراسلات إدوارد سعيد وصادق جلال العظم، ومعرض يوسف عبدلكي في "دمشق الأسد". ويمكن اختصار المشهدية بأن الضجيج الفايسبوكي يحصل حول أيقونات وأسماء لها وقعها، لكن الكلام في الفايسبوك أشبه ببخار يطير في الهواء، فقاعة تتلاشي خلال ساعات أو أيام، ويبحث الجمهور عن فقاعة أخرى...

أمين معلوف: الأيقونة المتكسرة
لنتذكر الضجيج حول الروائي اللبناني الفرنسي، أمين معلوف، ومقابلته مع تلفزيون إسرائيلي... قَبِل معلوف المقابلة كأنه ابن الهوية الكونية أو ابن الهوية الفرنسية وغير معني بهويته اللبنانية التي على عداء مع إسرائيل. لكن بعض المعترضين على مقابلته الثقافية مع القناة الإسرائيلية اعتبروه أيقونة ثقافية، رفع اسم لبنان عالياً. وتعاطت معه بعض الأقلام وكأنه "المثقف العضوي"، وهو في الواقع ليس أكثر من روائي يسرد وقائع التاريخ والهويات بطريقة تجذب الأوروبيين والغربيين وحتى العرب، ويتناول الشأن الثقافي والروائي بطريقة فينيقية. قلّما قدم معلوف نفسه كمثقف، أو أدلى برأيه في القضايا الحساسة، من فلسطين الى آخره، يبحث عن إرضاء الجميع... صار معلوف قضية فايسبوكية وأدلى الفسابكة بدلوهم و"هايد باركهم" ونبشوا في كواليس أبطال روايته وترؤسه الوفد اللبناني أثناء مفاوضات 17 أيار مع إسرائيل (وكان برفقته "الرفيق" جوزيف سماحة). بعض ممن هاجموا معلوف ليسوا أكثر من تجار بالقضية الفلسطينية، وبعضهم الآخر حاول الدفاع عنه من خلال الاختباء وراء كلام لإدوارد سعيد. كل ما قيل حول معلوف لم يكن أكثر من مراوحة في قضية، كل مرة يتكرر كلامها من دون جدوى.

سمر يزبك: ثقافة الموجة
أيضا سمر يزبك كانت ضجة فايسبوكية. الثورات والحروب، في جزء منها، استثمار أدبي وثقافي. كثيرون، عن قصد أو عن غير قصد، يدخلون في الاستثمار بحثاً عن أفق ما، بعضهم لديه ما يكتبه بــ"أخلاقية" ما، إذ اجاز التعبير، وبعضهم يمارس انتهازية الوصول. بعضهم ينجح وبعضهم الآخر يتوهن، بعضهم يستحق وبعضهم ثمرة "لوبيات" ثقافية و"أخويّات" وعلاقات دولية ومحافل أدبية ومنابر إعلامية. بالطبع، الثورات تساهم في نجاح أسماء، لكن النجاح نفسه رهن بصاحب الاسم. أفرزت القضية الفلسطينية عشرات الشعراء، وفي النهاية ربما لم نعد نسمع الا بمحمود درويش. القضية، أو الأزمة، السورية، أفرزت مئات المشاريع، والأيام تقرر الجدير بالاستمرار. حتى الآن، وبرغم الضجيج الفايسبوكي حول سمر يزبك، لم أقرأ نقداً أدبياً جدياً لنصوصها، بقدر ما قرأت عصبيات وعواطف فايسبوكية حولها، لا سيما بعدما تناولها الشاعر عبده وازن بمقالة رأي تناولت "ظاهرتها": من مقابلاتها في الإعلام الفرنسي إلى شعرها الأشقر. معظم المدافعين عن سمر يزبك، بسبب أنها تحت غطاء "أيقونة الثورة" ومناصرة للمعارضة السورية ضد النظام الأسدي، يرون أن موقفها المعارض كافٍ ليتضامن كثيرون معها، بغض النظر عما تقدمه وما تكتبه وما تقوله. وباختصار، كل ما قيل حول سمر كان جزءاً من ثقافات الموجة التي تتبدل من زمن إلى آخر.

بوب ديلان: ثقافة الفرجة
ولم تنج جائزة نوبل، من ضجيج الفايسبوك أيضاً. بالطبع، شماتة بعض الفسابكة العرب بعدم فوز أدونيس بالجائزة بات موضة مملّة ورتيبة. وهذه السنة، أضاف فوز مغني الروك، بوب ديلان بالجائزة، مشهداً جديداً. فذلك الشاعر التاريخي (أدونيس) ينتظرها منذ سنوات ولم يحصل عليها، برغم التصريحات والمواقف والتقديمات وجَلد الذات، بينما يربحها كاتب الأغاني والموسيقي، والأنكى أن ديلان يزدريها وبالكاد يعترف بها، ولم يحضر شخصياً لتسلمها، وهذا جزء من شخصيته. عبّر الروائي البيروفي، ماريو فارغاس يوسا، عن استيائه من فوز ديلان، وقال إن منحه الجائزة "تعبير عن تزايد الاستخفاف بالثقافة في هذا العصر"، وتساءل متهكماً: "هل ستمنح جائزة نوبل للآداب في العام المقبل إلى لاعب كرة قدم؟!". فوز بوب ديلان حطم أيقونة الجائزة، إذا جاز التعبير، وكان محور الفسابكة بين "مع" و"ضد"، بين من يعتبره أديباً لامعاً بكتاباته الشعرية، ومَن يعتبره موسيقياً وليس أديباً...

غادة السمان: ثقافة النميمة
ضمن ضجيج الفايسبوك أيضاً، رسائل أنسي الحاج الى غادة السمان، وهي صورة باقية من زمن المراسلة وألق الرسالة والحبر وإيقاع الصوت المكتوب. ويزيد في وقعها أنها بين أديبة اشتهرت بأكثر من قصة حب جامحة، وشاعر سيقال الكثير عن كتاباته للأديبات والنجمات اللبنانيات، من حنان الشيخ الى فيروز الى "داناي"... قالوا فسبكات وكتابات في رسائل أنسي الى غادة أكثر مما قال مالك في الخمر، تأويلات لا تعد ولا تحصى. بعض مما قيل وضيع، وبعضه الآخر مُحتمَل ويستأهل النقاش حول الشخصيات العامة ومعنى الفردية... غادة السمان في زمن الفايسبوك تنبش جزءاً من أرشيف رسائلها القديمة التي تثير الكثير من النميمة، وهي مزهوة بنفسها وتكيل المديح لأول من كتب عنها باعتباره يفهمها، وتستأنف كتابة تعليقات حول نفسها وأسباب نشرها الرسائل، وكان يمكنها أن تكتبها ضمن مقدمة الرسائل، ولم تفعل... وبعض الفسابكة أصابهم الهول من رسائل غرامية لشاعر تعود لأكثر من خمسين عاماً، ما زال نقاشهم حول حق صاحبة "كوابيس بيروت" في نشر الرسائل من دون إذن صاحبها الراحل. كأنهم لا يقرأون أو لا يعرفون أنسي الحاج. من دون شك هي محنة النظر إلى بعض الشخصيات الأدبية كأيقونات...

سعيد والعظم
رسائل من نوع آخر انتشرت في صفحات فايسبوك، بين المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد والمفكر السوري صادق جلال العظم. كتب العظم مراجعة لكتاب "الاستشراق" لسعيد، بعنوان "الاستشراق والاستشراق معكوسًا"، وأرسلها إلى مجلة "الدراسات العربية" الفصلية، التي كان يقوم على تحريرها في ذلك الوقت سعيد وفؤاد المغربي. وعلى إثرها كانت هذه المراسلات. ثلاث رسائل كافية لتعرية ذاتٍ لطالما نُظر إليها نظرة مثالية أيقونية فوق الشبهات وترفع شعارات كبيرة. وبمجرد أن انتقد العظم، صاحب "الاستشراق"، حتى انفجر غضب الأخير... وبدأت الفسبكات و"شطارة" الكتّاب. بعضهم لاحظ بقوة، نرجسية إدوارد سعيد وفوقيّته وعنجهيته في تعاطيه مع الآخر، كأن كلامه لا يُمسّ ومُنزل من السماء. بعضهم انتبه الى ماركسية العظم الجامدة، من دون الانتباه أيضاً إلى أنه بدّل كثيراً في مساره الفكري خلال السنوات الأخيرة، ولم تتم قراءة الرسائل انطلاقاً من زمنها، ولا حتى انطلاقاً من خلفيات أصحابها... قراءة الرسائل كانت بحجم ما يحتمل فايسبوك، أي سريعة وأحياناً اعتباطية... ومع ذلك، فإن ما قيل كشف جانباً من فجور أن يكون المثقف أيقونة.

عاريات عبدلكي
الضجيج حول معرض عاريات يوسف عبدلكي في دمشق، بدأ بتعليقات فايسبوكية تمجيدية، ووصل الى اعترافات بعض المرتبطين بنظام الأسد. عبدلكي "أيقونة" في ثقافة المعارضين السوريين ومن البديهي أن يحدث سجالاً، لكن السجال هذه المرة كان من نوع آخر، وفي ملعب آخر. معرض العاريات كان أشبه بتعرية للذات و"الأيقونة". مَن يتابع بعض التفاصيل التي كتبت في صفحات فايسبوك، ينتبه للقصد بكلمة تعرية... بعض مناصري الأسد وجدوا في المعرض فرصة للدفاع عن ولائهم للنظام السوري بطريقة هلامية، واللافت أن هؤلاء ضد الاستبداد لكنهم يؤيدون بشار الأسد، مع الوطنية ويهللون لجوقة من الاحتلالات والاستعمارات والبراميل والبوارج والميليشيات، مع الحرية لكنهم يدعون الى تحسس الرقاب والقمع، بل إنهم ينظرون إلى الاستبداد والمقاومة والحرية نظرة ميتافزيقية... مع الإنسانية، لكنهم يصفقون لتدمير المدن...

هكذا بات فايسبوك هو الميدان، هو المقهى الفاضح والواضح والمسموم والتافه والجميل والقاتل والواشي والمدمر والسخيف والصانع والحر والسوقي

تعالوا نري السودان بعيوننا لا الاخرين !#

Post: #22
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-06-2017, 12:54 PM
Parent: #21

قراءة كتاب سطوة خطاب الأزهر وأزمة الحكم
لبسمة عبد العزيز

لم تكن العلاقة بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الحكم في مصر ذات طابع ثابت طوال الوقت، بل كانت تمرّ بمنعطفات وتعرجات يفرضها السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي دائم التغير، والذي يحيط بالمؤسستين ويفرض عليهما التفاعل معه بأشكال مختلفة. ولعل ذلك السياق قد بلغ في فترة زمنية بعينها ذروة من التعقّد والتأزم في الفترة من يونيو/حزيران إلى أغسطس/آب 2013، حيث عاشت مصر أزمة حكم حادّة، فرضت على جميع الأطراف الفاعلة في المجتمع التدخل (أو التورّط) في الأزمة. وكتاب "سطوة النص" يدرس تلك الفترة في تجلياتها الخطابية من خلال دراسة خطاب الأزهر إبّان أزمة الحكم في مصر.

ودراسة خطاب مؤسسةٍ ما إبان أزمة تكشف عن أشياء عديدة، منها: اختبار الأداء الخطابي للمؤسسة وقدرتها على توظيف الخطاب في التعامل مع الأزمة، والعلاقات المتشابكة للمؤسسة مع أطراف الأزمة، ومَواطن التأثير والتأثر وتبادل الأدوار والصراعات الخطابية التي تخوضها المؤسسة في ساحة الصراع الخطابي، كما تمثل دراسة خطاب المؤسسة في الأزمة فرصة للكشف عن التحيّزات الخطابية وأفعال الإقصاء والتهميش التي يمكن أن يمارسها الخطاب أو تمارس عليه.

وترجع أهمية كتاب "سطوة النص" إلى كونه محاولة للنزول بالمعرفة الأكاديمية إلى الواقع المعيش بغية فهمه، خصوصاً إذا كان ذلك الواقع يمثّل فترة كان الصراع، بكل مستوياته، عنوانها، ابتداءً من الصراع اللفظي، انتهاءً إلى الصراع الدموي العنيف، بالإضافة إلى كونها فترة راهنة يعيش المجتمع المصري تداعياتها وأصداءها حتى الآن.

اعتمدت الكاتبة في كتابها على أدوات منهجية تنتمي إلى التحليل النقدي للخطاب. وبدت الأدوات مناسبة إلى حد كبير لأسئلة الكتاب من جهة، ولطبيعة المادة المدروسة من جهة أخرى، وللاحتياجات المعرفية للواقع من جهة ثالثة. والكتاب بذلك يعدّ بحثاً تطبيقياً نموذجياً في تحليل الخطاب، يصلح كمثال أكاديمي يُحتذى من حيث الاستيعاب النظري، والتتبع المتأنّي للظواهر، ودقّة التحليلات، كما يعدّ مثالاً يحتذى في اشتباكه مع الواقع الاجتماعي المصري الذي كُتب فيه وعنه.

ويظهر في الكتاب فهم عميق للتحليل النقدي للخطاب، سواء على مستوى المفاهيم النظرية، أو على مستوى الأدوات المنهجية والإجراءات. "ويشير مصطلح الخطاب في الكتاب، وتبعاً لمدرسة التحليل النقدي للخطاب، إلى شكل من أشكال الممارسة الاجتماعية، تُستخدم فيه اللغة بنوعيها المقروء والمكتوب، حيث تتولّد علاقة جدلية بين حدث خطابي معيّن من ناحية، والمواقف والمؤسسات والهياكل الاجتماعية التي تعدّ إطاراً له من ناحية أخرى، وحيث يتشكل الحدث الخطابي من خلالها ويسهم أيضاً في تشكيلها"١.

التحليل النقدي للخطاب: مفهومه وغايته

في واقعنا المصري يتعرّض المواطن، كغيره في كافة المجتمعات، إلى العديد من الخطابات في حياته اليومية. وتزداد الخطابات كثافة في أوقات الأزمات. ولا نستطيع الجزم ببراءة الخطابات من أغراض الهيمنة على وعي متلقّيها، لاسيما إذا كان منتج الخطاب من حائزي السلطة أو ممّن يسعون إلى حيازتها، وخصوصاً إذا كان سياق إنتاج الخطاب وتداوله سياق أزمة يبلغ فيها الاستقطاب بين الأطراف ذروته.

ما يسعى "سطوة النص" إلى إنجازه هو المساهمة في الحدّ من تأثيرات الهيمنة التي تسعى الخطابات إلى فرضها على المتلقّي. وذلك من خلال استخدام أدوات منهجيّة ناجزة تنتمي إلى حقل التحليل النقدي للخطاب، وتعتمد في الأساس على التحليل التفصيلي للظواهر اللغوية، استناداً إلى مسلّمة مفادها أنّ اللغة بإمكانها، إذا استُعملت على نحو معيّن، أن تكون أداة للسيطرة. إنّ التحليل النقدي للخطاب بهذا المفهوم ينتمي إلى دائرة العلوم النقدية التي أشار إليها عالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس، والتي تأتي في الترتيب الثالث بعد العلوم الطبيعية والعلوم التأويلية؛ "وكل تلك العلوم هي نتاج اهتمامات معرفية مشتركة لدى جميع البشر. الاهتمام الأول تقنيّ فنيّ يتمثّل في معرفة البيئة المحيطة وفي السيطرة عليها والتحكّم فيها. وقد أدّى هذا الاهتمام إلى قيام العلوم الطبيعية. والاهتمام الثاني عمليّ يتمثل في قدرة كلّ منّا على فهم الآخرين، وعلى العمل المشترك والتعاون في مناشط الحياة. وهذا هو الاهتمام المسؤول عن قيام العلوم التأويلية. أمّا الاهتمام الثالث فهو اهتمام تحرّري ينطوي على الرغبة في تخليص أنفسنا من كلّ ما يعمل على تشويه عمليّات الاتصال والفهم. وهو الاهتمام المسؤول عن قيام العلوم النقدية"٢.

ولقد ظهر التحليل النقديّ للخطاب (critical discourse analysis) منذ تسعينيات القرن العشرين بوصفه توجّهاً جديداً في تحليل الخطاب في الأوساط الأكاديميّة في أوروبا الغربية. ومع نهاية القرن كان يمثّل أحد أكثر توجّهات تحليل الخطاب استقطاباً للباحثين. "ويحدّد فان دايك (أحد مؤسسي التحليل النقدي للخطاب) موضوع التحليل النقدي للخطاب بأنّه دراسة الكيفيّة التي يقوم بها النصّ والكلام بتقنين وإنتاج ومقاومة اعتداءات السلطة الاجتماعية وهيمنتها ولا مساواتها. وأنّ المحلّل النقديّ للخطاب يسعى إلى فهم اللامساواة الاجتماعية والكشف عنها تمهيداً لمقاومتها. ومن ثَمّ فإنّ التحليل النقديّ للخطاب له توجّه عامّ يستهدف توعية البشر بالتأثيرات المتبادلة بين اللغة والبُنى الاجتماعّية، تلك التأثيرات التي لا يعيها البشر غالباً.

ويقدّم نورمان فايركلوف تفصيلاً أكبر لأهداف التحليل النقدي للخطاب. ففي مقدّمة كتابه التأسيسي "اللغة والسلطة" الصادر في 1989، يحدّد أهداف الكتاب في هدفين: الأوّل هو المساعدة في تصحيح التبخيس الشائع لأهمية اللغة في إنتاج علاقات السلطة وترسيخها. أمّا الثاني فهو المساعدة في زيادة الوعي بالكيفية التي تسهم بها اللغة في إنجاز هيمنة بعض البشر على بعض، لأن الوعي هو الخطوة الأولى نحو التحرّر. هذا الوعي يُمكّن من مساعدة البشر على إدراك المدى الذي تعتمد فيه لغتهم على الخاصة على المسلّمات الشائعة، والطرائق التي يمكن لعلاقات السلطة أن تشكل بواسطتها هذه المسلمات الشائعة. ويرى فايركلوف أنّ الوعي الذي يحقّقه الاطّلاع على نماذج من استخدام اللغة أداة للقهر والهيمنة يمكن أن يكون حافزاً على المقاومة والتغيير... ويتحقّق الوعي عن طريق التحليل النقدي للظواهر اللغوية والسيميوطيقية للخطاب، مثل المفردات والنحو والعلاقات النصية واللون والصورة... إلخ٣.

"الديني" و"السياسي" في براح التاريخ: الدلالة والدولة

يمكن اعتبار كتاب "سطوة النص" دراسة لعلاقات التفاعل الخطابيّة بين كيانات حائزة للسلطة أو تسعى لحيازتها. ويمكن تمييز كيانين رئيسيين من بين هذه الكيانات هما: الأزهر، المؤسسة الدينية الرسمية صاحبة سلطة التمثيل الديني، والتي لديها أيضاً سلطة توجيه اجتماعيّ، ومؤسسة الحكم، صاحبة السلطة الفعليّة في الدولة على اختلاف ممثليها من مرحلة إلى أخرى في نطاق الفترة الزمنية المدروسة.

وفي خطوة ضرورية قامت الكاتبة بتأسيس السياق العام المحيط بالخطاب المدروس، حيث "لا يمكن تجاهل الأثر المتراكم للظرف السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ على مُنتِج الخطاب، ولا يمكن النظر إلى النصوص بمعزل عن الظروف التي مهّدت لها، والمعطيات التي تفاعلت معها، وأسهمت في تشكيلها، وأدّت إلى إخراجها على النحو الذي وصلت فيه إلى المتلقّي"٤. ورغم اهتمام الكتاب بالراهن، إلّا أّن الوعي بتاريخية العلاقة بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الحكم كان متوفراً، وكان طابع تلك العلاقة التاريخية هو التقارب في أغلب الأحيان، ذلك التقارب الذي – بعبارة الكاتبة – يجد لنفسه "براحاً عبر التاريخ". وإلى جانب الإشارات عن العلاقة التاريخية بين الأزهر ومؤسسة الحكم في مصر، بإمكاننا الذهاب في تتبع علاقة الدين بالحكم إلى أبعد من ذلك، منذ أدرك رجل الحكم (صاحب السلطة الفعلية) حيازة رجل الدين سلطةً مناوئةً له، لكنّها من نوع آخر، وهي السلطة المعرفيّة الدينيّة. ولم يكن من الممكن ألّا تتقاطع السلطتان وكلتاهما تستهدف الفضاء السلطوي ذاته، وهو الجماهير.

أدرك رجل السلطة أنّ ثمّة مُنازعاً ينازعه سلطته (في سيطرته على الجماهير) ويمنعها من الاكتمال، فكان الحلّ في اجتذاب تلك السلطة (المعرفيّة) إلى مجال السلطة السياسيّة وإدماجها فيه، بل وجعلها غطاءً أيديولوجيّاً لها، تضفي عليها الشرعيّة والصدقيّة. غير أنّ مهمّة السلطة السياسية لم تكن سهلة في ظلّ وعي رجل الدين بسلطته المعرفيّة وعدم موافقته على التخلّي عنها لصالح سلطة أخرى. فالمحكّ في النهاية هو الجماهير، هم مانحو السلطة ومصدر شرعيتها. من هنا ظهر في التاريخ الإسلامي اتجاهان أو طائفتان من رجال الدين (أو علماء الدين): طائفة استجابت لنداءات رجل السلطة وإغراءاته وصارت تمثّل دعماً له يُضفي على حكمه الشرعية والقبول لدى الجماهير في مقابل العطايا وبذل المال والتقريب في المجالس الخاصة ومناصب القضاء، (وكلّها إمّا كانت إغراءات للاستمالة أو مكافآت على الولاء) وطائفة أخرى تأبى التخلّي عن سلطتها المعرفيّة وتقف في مواجهة السلطة أو تفضّل أن تكون بمعزل عنها.

ويذكر التاريخ محاولات عديدة من الحكام لاستمالة العلماء، منذ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان والتابعي الشهير سعيد بن المسيّب "الذي تمثّل في رفض ابن المسيب مصاهرة الخليفة عبد الملك بن مروان الذي رغب في أن يزوّج وليّ عهده من ابنة ابن المسيّب مستغلّا في ذلك مكانة هذا الأخير ونفوذه "العلمي" بين الناس، خصوصاً في مجتمع المدينة. فأبى ابن المسيّب هذا الجاه، بل وأسرع من يومه إلى تزويج ابنته لأحد تلامذته الفقراء، فحنق عليه الخليفة. وقد بلغ الأمر بالفقيه أن صار يستعيذ بالله من هذا الاستغلال مفاضلاً بين سلطته المعرفيّة وبين صولة صاحب السلطة الفعليّة والسياسيّة. وقد نجم عن ذلك الموقف الممتدّ عبر التاريخ أدبيّات خُصّصت للحديث عن محَن العلماء في رفضهم الرضوخ لأصحاب السلطان مثل "كتاب المحن" لأبي العرب التميمي، وكذلك الحديث عن العلماء الذين رفضوا تولّي منصب القضاء مخافة أن يتحوّلوا إلى أدوات في يد السلطة الحاكمة، مما جعل أبو عبد الله الخشني القيرواني يخصّص باباً في كتابه "قضاة قرطبة" عنوانه: "باب من عرض عليه القضاء فأبى". وكان من العلماء من يستعيذ بالله من "مذهب لا ينتصر إلّا بصولة، إنما المذهب ما نصره دليله، والدّيّن من خلص الدلالة من الدولة"٥.

ولعل العبارة الأخيرة، المنسوبة لابن عقيل الحنبلي، تُكثّف طبيعة العلاقة بين السلطة الدينية (صاحبة الدلالة) والسلطة السياسيّة (صاحبة الدولة). فالسلطة السياسيّة تريد حيازة "الدلالة" لتُكسِبها الشرعية والقبول لدى الجماهير، غير أنّ كثيراً من رجال الدين الواعين بسلطتهم المعرفية دافعوا عن "الدلالة" ضدّ "الدولة"، وآخرين قبلوا الصفقة وجعلوا "الدلالة" في خدمة "الدولة" داعمة لها، ما عرّض أولئك المتعاونين مع السلطة إلى هجوم شديد وتشكيك في نزاهتهم العلميّة والدينيّة من قِبل العلماء الرافضين، وظهرت عبارات "علماء السلطان" و"فقهاء السلطان"، بل وصل الأمر إلى ما يمكن أن يكون "مقاطعة علمية" لأولئك العلماء، فلم يكن رواة الحديث يأخذون برواية أبي يوسف القاضي، من أصحاب أبي حنيفة، وذلك "لغلبة الرأي عليه مع صحبة السلطان، وتولّيه القضاء".

واستمر الاتجاهان (الرافض والمتعاون) في التواجد عبر التاريخ حتى اللحظة الراهنة. ذلك الاستمرار، بجذوره التاريخيّة، هو ما جعل الكثيرين يصنّفون مؤسسة الأزهر ضمن "علماء السلطان"، بل ويدفع في اتجاه إقامة مؤسسات دينية مناوئة تعلن في بياناتها الافتتاحية أن الدافع من وراء إنشائها خلْق جبهة علمية حرّة لا تخضع لإملاءات سياسية، وأبرز مثال على ذلك مؤسسة "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"٦.

الهوية والخطاب: سؤال الهويّة في زمن الأزمة

استقرّت العلاقة بين الأزهر والدولة على أن يكون ثمّة تقاسم للسلطة بينهما، فللدولة سلطة التمثيل السياسي والحكم، وللأزهر سلطة التمثيل الديني، وترسيخه باعتباره المرجعية الدينية، والممثّل الشرعيّ والوحيد لدين الدولة. عكست تلك القسمة إدراك مؤسسة الحكم قوّة الأزهر كمؤسسة دينية لديها سلطة التوجيه الاجتماعي المستمدّة من الدين، كما عكس إدراك الأزهر ضرورة احتياجه إلى مؤسسة الحكم لتضمن بقاءه في سدّة التمثيل الديني بلا منازع. وفي عمق المؤسستين بنية ذهنية تنبني على السلطة الأبوية، تلك البنية التي تعرّضت لاهتزاز عنيف في مطلع عام 2011 مع الحراك الثوري، الذي وضع مُنتجي الخِطاب الدينيّ (الأزهري) شبه الجامد في حال مِن الارتباك، وقد انعكست تلك الحال على ما أُنتِجَ مِن نصوصٍ، ولأن الخطابَ الدينيّ هو الأكثر تأثراً بفكرةِ السُلطةِ الأبويّة التي يجب أن تحظى بالطاعة والاحترام والتقدير، ولأن المؤسسة الدينيّة تمَثّل في حَدّ ذاتها أحد وجوه السُلطة الأبويّة، ولأن علاقات السُلطة لا تُشجّع بطبيعة الحال مِثلَ هذا الحِراك، فقد استجابت له المؤسسة الدينيّة بالرفض في البداية، ثم بالقبول الاضطراريّ وعلى استحياء، ثم بالارتداد ومُعاوَدة الرفض مع كلِّ هزّة جديدة. لقد بدا في فترة مِن الفترات أنّ حماسة الجماهير يُقابلها تمَسُّك المؤسسة الدينيّة بما دَرَجَت عليه مِن تبجيل لأوجه السُلطة، وربما باتت خائفة مِن ثورة مُتَجَدِّدَة قد تعني انهيار سلطتها الاجتماعية تمامًا٧.

باتت المؤسسة الدينية في حاجة إلى استنفار قدراتها الخطابية لمواجهة التغيّرات المتلاحقة بعد عقود من الركود. وكانت الأزمة الجوهرية وراء كل التغيرات هي الحكم، والحكم يستدعي بالضرورة، كما يتطلّب، الحديث عن الشرعية، والشرعية مفهوم ينتقل متسرباً من الدين إلى السياسة وينجم عن تحققاته الواقعية آثار اجتماعية فارقة. عادت ثنائية "الدولة والدلالة" لتصبح هي عمق أزمة الحكم في علاقتها بمؤسسة الأزهر. والسؤال الآن: كيف تمّت صياغة خطاب الأزهر إبان الأزمة؟ وكيف تمّ استخدام اللغة لتحقيق أغراض الخطاب ووظائفه؟ وكيف تفاعلت الخطابات المتصارعة على ساح الصراع الخطابي في الأزمة؟

ثمّة تساؤل لافت يطرحه كتاب "سطوة النص" عن هوية المتحدّث في خطاب الأزهر، هل هو شخص شيخ الأزهر، أم الأزهر كمؤسسة؟ وهو ما سيترتب عليه حسابات كثير من المواقف، خصوصاً في أوقات الأزمات. هل يُحسب هذا الموقف أو ذاك على شيخ الأزهر (بصفته وشخصه) أم على المؤسسة كلّها بما تمثّله من ثقل رمزيّ لدى الجماهير؟

يكشف تحليل خطاب الأزهر أنّ العلاقة بين الشيخ والمشيخة لم تسر على منوال واحد، بل إن الهويّتين كانتا تنفصلان وتتّصلان وفق مواقف خطابيّة عديدة، فقد كان التماهي بين الهويات سمة خطابية بارزة في خطاب الأزهر، كما ظهر الفصل بين الهويات كسمة أخرى مضادة. وقد تتبعت الكاتبة الآليات اللغوية المستخدمة في صنع ذلك التماهي، وقدّمت تحليلات وتفسيرات لا يعوزها الإقناع في الغرض من وراء ذلك التماهي، فآليات مثل الاستعارة وإعادة بناء السياق، واستخدام الضمائر والتسميات والتورية والحذف والتعريف والتنكير والأفعال والأساليب وغيرها أدّت وظائف بلاغيّة بالغة التأثير تصبّ في تحقيق أغراض الخطاب، والتي كان جزء كبير منها هو إنشاء الهوية.

وإنشاء الهوية خطوة تأسيسيّة ضرورية لممارسة السلطة، فالهوية هي "من أكون؟" والسلطة هي "ماذا من حقي أن أفعل؟". ولعلّ غرض إنشاء الهوية بما ينطوي عليه من تثبيت لهوية قائمة وتمييز للهوية عن هويات أخرى، يعدّ غرضاً منطقياً جداً في وقت عنوانه الأزمة، فالأزمة تُخلخل الهوية، كما تهدّد الوجود. وقد مثّل إنشاء الهوية دفاعاً خطابياً ضرورياً من أجل الدفاع عن الوجود.


دمج الهويات: تنازع أم استيعاب؟

أداة الخطاب هي اللغة، وهي مجلى ممارساته، وتساهم اللغة بشكل كبير في إكساب الخطاب هويته، وخطاب المؤسسة يمثّل هويتها. ويستثمر الخطاب ذخيرة لغوية تراكمت مع الوقت وصنعت مجالاً لغوياً خطابياً يحدّد هوية الخطاب ويميّزه عن غيره. ورغم وضوح الهوية الخطابية لمؤسسة الأزهر، وهي الهويّة الدينيّة، فإنّ خطاب الأزهر إبان أزمة الحكم دخل في علاقات تفاعليّة مع غيره من الخطابات كالخطابات السياسيّة والقوميّة والحقوقيّة. وفي الكتاب تتبّع دقيق لتداخل الخطابات، الذي يعكس بدوره تداخل الهويات، ممّا جعل هويّة الأزهر متعدّدة الأوجه. فلقد ظهر مِن خلال تحليل مُقتطفات الخطب والبيانات مَحَلَّ الدراسة أنّ ثمّة أدواراً متنوّعة أدّتها المؤسّسة الدينيّة في فترة قصيرة، تراوحت ما بين دور اللاعب السياسيّ، ودور المرجعيّة الدينيّة، وكذلك دور القائد القوميّ، والأخير يمثل دوراً لافتاً للانتباه كونه يأتي مُتجاوزاً للانتماء الدينيّ، وهو انتماء أصيل استحال في بعض المرّات تجاوزُه. طَرَحَت هذه الأدوار وجود هُوِيات ثلاث مُتمايزة، أمكن البحث عنها وتتبُّعها عبر الخطاب، واستخلاص الشواهد الدالّة عليها، والأدوات التي أسهمت في بلورتها وتأكيدها، وقد لاحظت أن الإشارات الزمنية على سبيل المثال، لعبت دوراً بارزاً في إنشاء هُوِية اللاعب السياسيّ، بينما جاءت الإشارات الجامعة وإشارات الوطن لتعكس مُحاولة إنشاء وإرساء هُوِية قومية صريحة، فيما أبرزت بعض الحُجَج وطريقة استخدام أدوات التعريف، مَلامِحَ الهُوِية الدينية٨.

ويطرح الكتاب سؤالاً عن الغرض من تعدّد أوجه الهوية. وعمّا إذا كانت الهويات في حالة تكاتف أم تنازع. ويكشف التحليل أن العلاقة بين الهويات تراوحت بين التكاتف والتنازع، غير أنّ الضرر الناتج من وجود هويات متنازعة في الخطاب (لاسيما الهويتين، القومية التي تعترف بحدود جغرافية ووطن وشركاء في الوطن، والهوية الدينية التي لا تعترف بالحدود الجغرافية وترى الرابط الأوحد بين أبنائها هو العقيدة) أوقع الخطاب في تناقض وارتباك شديدين.

وبمواصلة البحث في أسباب الهوية متعددة الأوجه، يمكن اعتبار مصدرها، ليس فقط الاستجابة لتحديات اللحظة، وسعي المؤسسة إلى صنع تحالفات غير تقليدية، وإنما اعتقاد راسخ بأن خطاب الأزهر قادر على استيعاب أي خطاب ودمجه، فالدين يشمل كل شيء، والأزهر مؤسسة الدين، وربما هذا ما يفسر، على مستوى الممارسة الفعلية، الاحتكام إلى الأزهر كمرجعية في العديد من المسائل غير الدينية، أو التي لا علاقة واضحة لها ومباشرة بالدين، وذلك كالرجوع إلى الأزهر بشأن نشر كتاب أو عرض فيلم سينمائي أو ما شابه.

الصراع على التمثيل: من يتحدث باسم الدين؟

بالرغم من وقوع مؤسسة الأزهر في أزمات خطابية عديدة منذ الحراك الثوري في مطلع عام 2011، فإن دعمه للسلطة السياسية لم يتوقف سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ذلك أن السلطة السياسية لم تنازع الأزهر يوماً في سلطة التمثيل الديني، أمّا حين آلت السلطة إلى جهة تسعى، وفق قابلية جماهيرية معيّنة، إلى أن تكون سلطة تمثيل ديني بديلة (ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين)، هنا أصبحت مؤسسة الأزهر العريقة أمام معركة وجود، وهو ما انعكس على خطابها الذي خاضت فيه صراعاً خطابياً عبر آليات التسمية وإطلاق النعوت والحذف.

يبدو البيان الصادر عن مشيخة الأزهر في التاسع عشر مِن يونيو/حزيران بمثابة نموذج قابل للتناول في هذا الصدد، إذ تقوم المؤسسة الدينية خلاله بالدفاع عن دورها باعتبارها المتحدّث الرسميّ باسم الدين، وفي مَعرِض الصراع تُوَجِّه الانتقاد لجماعات دينية ترى نفسها على الجانب الآخر الأحقّ، والأولى بهذا الأمر. لقد جاء البيان داعماً لخطاب جماعات المُعارضة الساعية إلى إنهاء حُكم الرئيس محمد مرسي، والداعية في هذا الإطار إلى الحشد ضدّه، وقد استخدم مؤيّدو الرئيس الحُجَّة الدينية في مُحاولة لإجهاض هذه الدعوة، وأعلن بعضهم تكفير مَن يعتزمون التظاهر، ومِن ثمّ رد الأزهر عليهم بفتوى مُضادة تبيح التظاهر والخروج على الحاكم.

يَصِفُ بيان الأزهر جماعات التأييد الدينية بالفرق المُنحرفة، وبالقِلَّة الطارئة على ساحة العلوم الشرعية والفتوى، مستخدماً الأدوات والأساليب اللغوية المتاحة للتحقير مِن شأنها، ويلاحظ أن الأزهر لا يسمي مَن يُشير إليهم، رغم تداول فتاواهم وأسمائهم عبر وسائل الإعلام المختلفة، ورغم أن أغلبهم دعاة أو رجال دين ينتمون إلى جماعات وأحزاب وتيارات دينية معروفة، وهو ما يبدو وسيلة للإيحاء بأن الأشخاص المقصودين أقل شأناً مِن أن تقوم المؤسسة الدينية بتسميتهم، كذلك يبدو الانتقاد الموجّه إليهم عنيفاً بصورة غير معهودة، بما قد يعكس حال التوتر الشديد على الساحة السياسيّة، وبما قد يشير أيضاً إلى أنّ سعي مُنتِج الخطاب لتأكيد مكانته جعل توصيفاته حادّة صادمة، وهو ما يشكل عن جدارة أحد شواهد الصراع على التمثيل بين المؤسسة الدينية الرسمية مِن ناحية، والتيارات الدينية التي لا تتمتع بالمكانة والسُلطوية نفسها مِن ناحية أخرى٩.

ثمة شاهد آخر يمكن الحديث حوله في مسألة الصراع على التمثيل، ويتعلق بغياب التسميات المُباشرة للجماعات الدينية في غالبية النصوص الصادرة عن شيخ ومشيخة الأزهر، ويمكن القول إنه لم يأت ذِكرٌ صريح لجماعة الإخوان المسلمين في أي مِن البيانات والخُطب سواء حين كانت في موقع السُلطة، أو حين انتقلت إلى موقع جماعات المعارضة، رغم أنها لعبت الدور الرئيس في أزمة الحُكم، ومثلت طرفاً فاعلا في المشهد السياسيّ فيما بعد، وقد اقتصر الأمر على تمثيل أعضائها بمفردات مِن قبيل (البعض)، أو (الضحايا)، و(القتلى والمصابين) في المناسبات التي كلّلتها أحداث عنف، ويُستثنى مِن هذه الملاحظة نصّان هما البيان الذي أشير فيه صراحة إلى (حزب الحرية والعدالة) الذي يُعَدّ الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، دون أن يُسمي الجماعة نفسها، وكذلك الخطبة التي أشار فيها الشيخ الطيب إلى (أبناء مصر من جماعة الإخوان والمتحالفين معهم)، ويلفت الانتباه هنا أنه أجرى تعديلا على التسمية بحيث استبعَد منها لفظة (المسلمين)، وربما جاء هذا التعديل حِرصًا منه على عدم تكريس الرابطة الكائنة بين الدين مِن ناحية، والجماعة مِن ناحية أخرى، وكذلك على عدم توطيد خطابها المصبوغ في مُجمله وفي مُختلف جوانبه بالهُوية (الإسلامية)، ومِن ثمّ إضعاف موقفها خطابياً في مسألة الصراع الجاري على قدم وساق.

بدا أن لامتناع المؤسسة الدينية عن تقديم الدعم إلى السُلطة السياسية في فترة حُكم الرئيس محمد مرسي أسباباً مُتعدِّدَة، ربما كان مِن بينها تلك المواقف المُتعاقِبة التي أظهرت السُلطة مِن خلالها الرغبة في خَوض الصراع لتقتنص وحدُها حَقَّ التمثيل الدينيّ، وربما أمكن الاستشهاد هنا بمحاولاتها تهميش دور الأزهر على مستويات عِدة، منها على سبيل المثال تجاوُز الحكومة التي شكلها الرئيس مرسي لهيئة كبار العلماء في عدد مِن القرارات والقوانين التي كان مُفترضاً أن تُعرَضَ عليها قبل إقرارها، وربما انعكس التوتر بين الطرفين، السُلطة والأزهر، في بعض المظاهر الشكلية والبروتوكولية أيضاً، والتي امتدّت إلى عدم تخصيص مَقاعد مُلائمةٍ لمسؤولي الأزهر في المناسبات الرسمية الكبرى وإلى تجاهُل الرئيس مُصافحة شيخ الأزهر في إحداها، وقد عدَّ كثيرون الأزماتِ التي أحاطت بالأزهر منذ تولّي جماعة الإخوان المُسلمين للحكم -والتي تناولتها في الجزء الخاص بالأوضاع الداخلية للمؤسسة الدينية- بمثابة مؤامرات هدفها إضعاف شيخ الأزهر وإبعاده عن دوره ومكانته، وقد مَثَّل هذا الطرح في حدّ ذاته تأكيداً واضحاً على وجود صراع بين الطرفين١٠.

استجابات الخطاب: التنوّع الكاشف

يناقش كتاب "سطوة النص" علاقات السلطة بين مؤسسة الأزهر ومؤسسة الحكم من جهة، وبين مؤسسة الأزهر وجماعات المعارضة الدينية من جهة أخرى. تلك العلاقات التي تكشف عبر تحليل الخطاب سلوك المؤسسة الدينية إبان أزمة الحكم من خلال ما سمّاه الكتاب: "استجابات الخطاب". فالخطابات تتفاعل فيما بينها، وكل خطاب يحوي نقيضه في بنيته العميقة، وكان خطاب الأزهر في كثير من الأحيان استجابة لخطاب السلطة، ولخطاب جماعات المعارضة الدينية.

وتنوعت الاستجابات، فكانت استجابة "الدعم" هي الأبرز، حيث دعم خطاب الأزهر خطاب السلطة في قرار عزل الرئيس محمد مرسي، وإن جاء خطاب شيخ الأزهر وقتها بصيغة المتكلّم المفرد، ممّا يعيد طرح إشكالية هوية منتج الخطاب بين الشيخ والمشيخة. وكانت استجابة "الرضوخ" لخطاب السلطة بطلب تفويض الشعب في محاربة الإرهاب المحتمل، والرضوخ هنا يعني استحداث الموقف أو تغييره وفقاً لضغط السلطة الحاكمة، مما جعل خطاب الأزهر يبدو مُرتبكاً ومفاجأً، كما كشفت استجابة الرضوخ عن التهميش والإقصاء اللذين مارسهما خطاب السلطة على خطاب الأزهر، حيث افتتح شيخ الأزهر الخطبة التي ألقاها عقب خطبة وزير الدفاع بيوم واحد بالعبارة التالية: (إن الأزهر الشريف وقد استمع إلى دعوة المصريين...)، وهي عبارة احتوت على شاهدٍ خطابيٍّ مؤثرٍ، عكس عملية تهميش واضحة. تَمَثَّلت في استخدام الفعل (استمع)، الذي أوضح أن الأزهر بكامل عُلمائه ورجاله قد علم بالقرار المُتعلّق بدعوة المصريين إلى تفويض وزير الدفاع مثله مِثل الُمتلقّي العاديّ، عن طريق القنوات الإعلامية، وهو ما عنى أن السُلطة السياسية اختارت عدم التشاور مع المؤسسة الدينيّة بشأن هذا القرار رغم ما له مِن وقْع وأهميّة، ورغم وجودها الفاعل على الساحة السياسيّة، كما عنى أيضاً استبعاد الشيخ الطيب خارج دائرة السُلطة واتخاذ القرار، وقد تأكدت فكرة التهميش والإقصاء خلال الُمقابلة التي أجريتها مع أحد مستشاري شيخ الأزهر، والتي ذكر خلالها أن الشيخ الطيب لم يعلم مُسبَقًا بأمر التفويض ولم يُؤخذ رأيه فيه، ولم يَجر إخباره بما اعتزم وزير الدفاع١١.

والإقصاء نفسه مارسه خطاب الأزهر ضد خطاب جماعات المعارضة الدينية، فقد عَمَدَ خطابُ المؤسسة الدينيّة مِن خلال بعض النصوص إلى رسمِ صورةٍ سلبيةٍ لآخرين، ووصمِهم وتشويه خِطابهم، ومِن ثمّ خضعَ هؤلاء الآخرون بشكلٍ أو آخر إلى عملية نبذ وإقصاء، لا على مستوى المَوقِف الخطابيّ فقط بل وعلى المستوى الاجتماعيّ أيضاً، وعلى سبيل المثالِ احتوى البيان الصادر عن مَشيخة الأزهر في التاسع عشر مِن يونيو/حزيران على شواهِد خطابيّة مُتعدّدة استجاب فيها الأزهر إلى خطاب بعض الجماعات الدينيّة بالإساءة، حيث وَجَّه إليها انتقاداً مُباشراً حَطّ فيه مِن شأنها، واعتبر أفرادها غير مؤهلين للإدلاء بآرائهم، وقد أكد على رفضِ خطابهم مِن كافة المسلمين لا مِن الأزهر فقط، باعتباره انحرافاً عن الدين: (هذا هو رأي الفرق المنحرفة عن الطريق الصحيح للإسلام، وهو كلام يرفضه صحيح الدين ويأباه المسلمون جميعاً...). ويُلاحَظُ استخدام أداة التعريف (ال) في (يأباه المسلمون) وهو استخدام يحمل عنفاً لغوياً ظاهراً، فأداة التعريف تنجز وظيفة مُهمّةً عبر استبعاد أصحاب الرأي المرفوض مِن الإطار الذي يضمّ جُموع المسلمين، بحيث تنزع عنهم انتماءهم الدينيّ، وتُضافُ إليها مُفردة (جميعاً) التي لا تترك فرصة لخروج أي شخص عن رأي المؤسسة الدينيّة طالما رغب في الاحتفاظ بهُويته كمُسلم، ويُلاحَظ أن خطاب المؤسسة الدينيّة يُقدّم المُسلمين على أنهم كتلة واحدة توافَقَ أعضاؤها على الأفكار والأحكام والصفات والمواقف ذاتها، وهو الأمر الذي يُيسّر إبعاد الخارجين على هذا التوافُق ونبذَهم، وربما أسهم هذا التهديد المُبطَن في حَفز المُتلقي على الأخذ بالفتوى الدينيّة التي تبنّاها الأزهر في خطابه، ونبذ الفتاوى التي حوتها الخطابات الأخرى. إنّ قيام المؤسسة الدينيّة بتقرير مَوقِف المُسلمين جميعهم، وإعلانها عن رفضِهم للرأي المُضاد لرأيها دون أن تأتي بسندٍ يدعم استئثارها بالحديث باسمهم، أو بدليلٍ على كونِ هذا الرفض هو موقفهم الفعليّ، لهو بمثابة شاهد خطابيّ لافت للانتباه، يشير إلى هيمنتها المُفرِطة، ويؤكد في الوقت ذاته انتهاجها مُمارسات الإقصاء، والنبذ، والاستبعاد تجاه الآخرين الذين يقعون منها مَوقع الخصوم١٢.

غير أن ثمة استجابات تتسم باختلاف نوعي عن الاستجابات السابقة، حيث نجد استجابة "الممانعة"، وهي استجابة امتنع فيها خطاب الأزهر عن دعمه وتأييده المعتادين للسلطة، بل انتقل إلى مساءلتها ومهاجمتها ولو بشكل مستتر، ولكن ملحوظ، وذلك مع أحداث العنف المعروفة بأحداث "النصب التذكاري" وكذلك ما عُرف بأحداث "الحرس الجمهوري" استنكر الأزهر عبر إصداره بياناً في السابع والعشرين مِن يوليو/تموز، سقوطَ أعدادٍ مِن الضحايا في أحداث النُصُب التذكاريّ، لكنّ المَوقف اشتمل على ما هو أبعد مِن الاستنكار، فثمّة تعريض وتوبيخ، وانتقاد مُوَجَّه ضِمناً إلى السُلطة مِن خلال الحديث عن القانون: (مقاومة العنف والخروج على القانون لا يكون إلا في حدود القانون...) ، حيث يفهم المتلقّي أنّ ثمّة خرقاً للقانون قد حدث خلال مواجهة أشخاص لجأوا إلى العنف، وهم بطبيعة الحال أعضاء جماعات المعارضة الدينيّة، ومِن المُتفق عليه أن الُمكَلّف بالتصدي لمرتكبي العنف والخارجين على القانون هو السُلطة بأجهزتها الأمنيّة، وعليه، تشير العبارة في سياقها وفي إطار الحدث، إلى أنّ قوّات الأمن قد تجاوزت حدود القانون في مواجهتها مع الأشخاص المتظاهرين أمام النُصُب التذكاريّ، ويتعزز التوبيخ والانتقاد باستخدام أسلوب النفي والاستثناء، حيث يقصر الأزهر الأساليب المباح للسُلطة استخدامها على تلك التي أقرّها القانون، لتصل رسالة مُباشِرة بأن ارتكاب العنف مِن قِبل بعض جماعات المُعارضة، لا يبيح للسُلطة الردّ بعنف مكافئ عير مُلتزم بالأطر القانونية وغير مُقيَّد بها. يلاحظ أيضاً أنّ ثمّة مَطلباً مُباشراً بعدم التغاضي عن مُعاقبة المسؤولين: (إنزال العقوبة الفورية بالمجرمين المسؤولين عنه أياً كانت انتماءاتهم أو مواقعهم)، ويلاحظ هنا استخدام الأزهر لتوصيف المجرمين أشار إلى إدانة صريحة، تقف في مواجهة خطاب السُلطة الذي راح يبرِّر الواقعة. لقد أبرزت العبارتان استياء الأزهر مِن ملابسات الحدث، كما عكستا استجابة مُمانعة واضحة، أفصحت المؤسسة الدينية مِن خلالها عن رفضها لخطاب السُلطة الساعي مرة أخرى إلى تحميل الخصوم مسؤولية تفاقم الأوضاع، وسقوط مزيد من القتلى١٣.

ومن الممكن فهم استجابة الممانعة في ضوء ما تقدّم عن تاريخ العلاقة بين الدين والحكم أو بين السلطة المعرفية والسلطة الدينية باعتبار تلك الاستجابة وسيلة دفاعية لجأ إليها الخطاب إنقاذاً لصورة المؤسسة أمام الجماهير (الفضاء الحقيقي للصراع على السلطة)، فلم يكن بمقدور المؤسسة الدينية العريقة بما لها من سلطة اجتماعية راسخة أن تدعم السلطة السياسية حتى مع احتمال تورّطها في أحداث عنف أدّت إلى سقوط ضحايا، هنا اختارت المؤسسة الحفاظ على سلطتها المعرفية وإعلان الرفض والوقوف من السلطة موقف المسائِل.

تكشف الاستجابات المتنوّعة لخطاب الأزهر عن دور يمكن وصفه بأنّه دور سياسيّ إلى حدّ كبير. كما تكشف عن أن خطاب الأزهر لم يكن سوى ممارسة لدور المؤسسة في حيازة السلطة والدفاع عنها، وهو ما يطرح تساؤلات عن الهوية الدينية للمؤسسة، وهل ثمّة هويّة دينيّة خالصة؟ وهل ثمّة هوية دينية يمكن أن تحتفظ بنفسها كما هي في أوقات الأزمات؟ كما يطرح تساؤلات عن الاستخدام النفعي للدين ودور الأزهر فيه، وغيرها من التساؤلات التي يثيرها كتاب "سطوة النص". وفي تقديري أنّ قيمة العمل البحثي الحقيقي أن يثير من الأسئلة أكثر مما يقدّم من الإجابات، فـ"الأسئلة مبصرة، والإجابات عمياء"، كما أنّ الأسئلة تمثّل أفقاً مفتوحاً لمزيد من جهود البحث، خصوصاً إذا كانت هذه الجهود منضبطة بضوابط علميّة ومنهجيّة كما في كتاب "سطوة النص".


*تعالو نفهم المؤسسة الدينية السودانية

Post: #23
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-07-2017, 10:35 PM
Parent: #22

الفكر الراديكالي لبودريار.. غاية الغايات أن تتلاشى الفكرة(1)
روجيه عوطة |
في العام 1994، نشر جان بودريار (1929-2007) كتيباً بنص واحد، عنونه "الفكر الراديكالي"، وقد صدر عن دار "Sens et Tonka". يوطئ الفيلسوف المتنقل بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية نصه مقتبساً عبارة من عبارات الروائي والشاعر روبرت لويس استفنسون (1850-1849): "لا تعد الرواية عملاً فنياً على أساس تشابهاتها الحتمية مع الحياة، بل انطلاقاً من الاختلافات اللامتقايس، التي تفصلها عنها". على هذا المنوال، يستبدل بودريار الرواية بالفكر، ويشرع في الحديث عنه، والقول في علاقته مع الواقع، الذي لم يعد على وجوده ذاته أو مثلما يصوره المؤمنين به أو كُهانه.
لقد انتهى الواقع بفعل الإصطناع، الذي يكفل استمراريته المضغوطة والمموهة، وذلك، بلا أن يحذو المصطنع حذو الإيديولوجي عبر اخفاء الموجود، بل أنه يستر غير الموجود فعلياً. من هنا، يلح بودريار على الحاجة إلى فكر آخر، متنبهاً إلى الفراغ الحاضر في الواقعي، أي تحت المصطنع، فيُدمغ به، ويعبث بهما. إذ لا ينتج فرضيات ونظريات تبغي التحقق، أو الحصول على شرعيتها من الواقع، بل أنه يدافع عنها كأفكار أو أفخاخ، تؤلفها وتحملها لغةٌ، سمتها الأساس هي الفرح... هنا، ترجمة للحلقة الأولى من النص، وغدا حلقة ثانية واخيرة...


لا يحوز الفكر على قيمة في التقاءاته الحتمية مع الحقيقة، بل في تباعداته اللامتقايسة معها.

ليس صحيحاً أن المرء كي يحيا، عليه أن يؤمن بوجوده الخاص، لا ضرورة لذلك. وعينا لم يكن مرةً صدى واقعنا، أي صدى الوجود في "الزمن الواقعي"، إلا أنه صداه في الزمن المؤجل، شاشة تفرق الذات وهويتها-ففي النوم فقط، يتجانس لاوعينا مع موتنا. هذا الوعي، المغاير للإيمان، ينتج تلقائياً من تحدي الواقع، في موقف مأخوذ من الخيال الموضوعي أكثر مما هو متعلق بموضوعية الواقع. هذا التحدي أكثر حيوية لأجل دوامنا، ودوام صنفنا، من الإيمان بالواقع والوجود، الذي يقدم تعازيه الروحية على اعتقاد بعالم آخر. هذا العالم، ومثلما هي حاله، لا يستطيع أن يكون واقعياً أكثر. "الغريزة الأكثر قدرةً لدى الإنسان هي دخوله في صراع مع الحقيقة، إذاً مع الواقع".

يُرد الإيمان بالواقع إلى الأشكال الأولية للحياة الدينية. إنه ضعف في الفهم، ضعف في المعنى السائد، كما أنه، في الوقت عينه، الحصن الأخير للمتحمسين للأخلاق، للرُسل المبشرين بمشروعية الواقعي والعقلاني، فبالنسبة لهم، لا يمكن الإعتراض على مبدأ الواقع، أو التشكيك فيه. من حسن الحظ، لا أحد، ولا حتى المجاهرون به، يعيشون بحسب هذا المبدأ، أو من أجله. لا أحد يؤمن من البداية بالواقع، أو بوضوح حياته الواقعية. وهذا الأمر محزن للغاية.
لكن، في النهاية، هؤلاء الرُسل الطيبون يقولون أنه ما علينا أن ندفع المعذبين في عيشهم إلى فقدان الثقة بالواقع، فهم يتمتعون بالحق في الواقعي والعقلاني مثلنا جميعاً. اعتراضهم الماكر هذا، يستخدمه الُرسل في الحديث عن العالم النامي أيضاً: ما عليكم أن تدفعوا الجائعين إلى فقدان الثقة بالرفاهية. أو: ما عليكم أن تدفعوا الشعوب، التي لم يحق لها أن تخوض ثورتها البرجوازية، إلى فقدان الثقة بالصراع الطبقي. أو: ما عليكم أن تدفعوا الناس، الذين لم يسمعوا أي كلام عن حقوق المرأة، إلى فقدان الثقة بالمطالبة النسوية والمساواتية... إذا كنتم لا تحبون الواقع، لا تنفروا الآخرين منه! إنه استفهام الأخلاق الديموقراطية: لا يجوز إحباط بيانكور، لا يجوز إحباط أحد.

ثمة احتقار عميق وراء كل هذه الأمنيات العطوفة. ذلك، نتيجة تأسيس الواقع كأنه نوع من التأمين على الحياة، أو من الإيهاب الدائم، مثل آخر حق من حقوق الإنسان أو أول ممتلك من ممتلكات الإستهلاك الرائج. لكن، عند تأميل الناس في الواقع وفي قرائنه المرئية فقط، وعند تقييدهم بواقعيةِ، قدسيتها معَذِبة، يستوي التعامل معهم على أساس أنهم سُذج وأغبياء. هذا الإحتقار، يجب التخلص منه بالقول إن متزلفي الواقعية يمارسونه بالأصل اتجاه أنفسهم، من خلال اختزال حياتهم الخاصة بتكديس الأفعال والبراهين، الأسباب والنتائج. فالحقد المنظم ينطلق في أكثر الأوقات من الذات، ويُزاول فيها.

قُل: أنا واقعي، وهذا واقعي، والعالم واقعي-لا أحد يضحك. قُل: هذا مُصطنع، وأنتم مصطنعون، وهذه الحرب مصطنعة-الجميع يقهقه، وعلى وجههم تظهر ضحكة إما صفراء، أو لينة، أو متشنجة، كأن أصحابها يستمعون إلى نُكتة طفيلية أو عبارة بذيئة. فكل ما يلامس المصطنع هو بمثابة رجس أو فحش، تماماً مثلما هي الحال بالنسبة للجنس أو الموت. بيد أن الواقع والوضوح هما الإذعان، وعلى الحقيقة وحدها أن تثير الضحك. بمقدورنا أن نحلم بثقافة، جميع المنتسبين إليها يضحكون عفوياً حين يسمعون أحدهم يقول: هذا حقيقي، هذا واقعي.

كل ذلك يحدد العلاقة العسيرة بين الفكر والواقع. فهناك شكل من أشكال الفكر متلاحم معه. ينطلق من فرضية وجود مرجع واقعي للفكرة، وإمكان افتكاري للواقع. منظور مؤاس يستند إلى المعنى وفك الترميز. تقاطب الحلول الديالكتيكية والفلسفية بطريقة مدروسة. على عكس الفكر الآخر الذي يشذ عن الواقع، منحرفاً عن مركزية عالمه-إذاً هو غريب عن الديالكتيك، الذي يلعب على قطبين متناقضين، وغريب عن الفكر النقدي حتى، الذي يعزو نفسه أمام الواقع إلى مرجع مثالي. ففي مطافه النهائي، لا يستقر الفكر الآخر على إنكار مفهوم الواقع. إنه خيال، أي لعب مع الواقع، مثل الإثارة باعتبارها لعب مع الرغبة (تقحمها في اللعب)، ومثل الاستعارة بوصفها لعب مع الحقيقة.

هذا الفكر الراديكالي لا ينتجه شك فلسفي، أو تحويل يوتوبي (الذي يستلزم تحويلاً مثالياً للواقع على الدوام)، أو تعال مثالي. إنه إقحام العالم في اللعب، إنه إيهام مادي، محايث للعالم، الذي يوصف بالـ "واقعي"-إنه فكر لا نقدي، فكر لاديالكتيكي. لوهلة، يبدو أنه يجيء من مكان مختلف. في كل حال، ثمة تضارب بين الفكر والواقع، فليس هناك بين الإثنين أي نوع من الإنتقال الضروري أو الطبيعي. لا تتابع، ولا تعاقب: وحدها المغايرة تبقيهما على توتر. فقط، هذا الإنكسار، هذه المسافة، هذه الغرابة، توفر للفكر فرادته، توفر له أن يكون حدثاً منقطع النظير، وبفرادته نفسها، يشبه العالم، الذي يأتي على حدث داخله.

لم تكن العلاقة بين الفكر والواقع على هذه الحال باستمرار. بمقدورنا أن نحلم باتصال فالح بين الفكرة والواقع في ظل عصر الأنوار والحداثة، في الزمن البطولي للفكر النقدي. إلا أن الأخير، الذي كان يُزاول ضد نوع من الوهم، الخرافي أو الديني أو الإيديولوجي، انتهى حقيقةً، حتى لو ظل على قيد الممارسة في دَنيوة كارثية، طبعت سياسات القرن العشرين. فهذه الصلة المثالية، الضرورية، بين المفهوم والواقع، بين العلامة والمرجع، أصبحت اليوم ركاماً.

لقد انفكت بفعل اصطناع ضخم وضاغط، تقني وذهني، وبفعل مداورة النماذج والأدلة لتفيد أوتونوميا الإفتراضي، الذي تفلت، في ذلك الحين، من الواقعي، متمتعاً باستقلالية متزامنة عن الواقع. واليوم، نراه يعمل بنفسه، لصالحه الخاص، في منظور هذياني، أي أن مرجعيته ذاتية. إذ يُرجع ذاته إلى ذاته حتى اللانهاية. بعد طرده من إطاره، من مبدأه، وبعد تغريبه، صار الواقع ظاهرة قُصوى، أي لم يعد بالمقدور التفكير فيه باعتباره واقعيا، بل بوصفه ناتئا، كأنه يُشاهد من عالم آخر-كأنه وهم.

لنعتقد بأن اكتشاف مبهر قد حدث، وهو اماطة اللثام عن عالم واقعي غير عالمنا. فالعالم، الذي نعيش فيه، اكتشفناه ذات يوم. موضوعية العالم، اكتشفناها أيضاً، مثل أميركا، في الحقبة نفسها تقريباً: بيد أن ما نكتشفه، لا يمكننا ابداعه. وهكذا، كنا قد اكتشفنا الواقع، ويبقى أن نبدعه (وبصيغة بديلة: هكذا، كنا قد أبدعنا الواقع، ويبقى أن نكتشفه). لماذا هناك عوالم خيالية أكثر من الواقعية؟ لماذا هناك عالم واقعي واحد؟ لماذا هذا الإستثناء؟ الحق، أن العالم الواقعي، بين كل العوالم الممكنة، هو عالم لا يمكن تخيله، لا يمكن التفكر فيه سوى كخرافة خطيرة. علينا أن ننفصل عنه مثلما فعل الفكر النقدي حيال الخرافة الدينية في السابق. أيها المفكرون، ابذلوا ما في وسعكم!

في كل حال، هذان النظامان الفكريان لا يتجانسان. كل واحد منهما يسير في سبيله بلا أن يختلط بالثاني، أفضل ما يمكن أن يحصل بينهما هو التزحلق المتبادل مثل صفائح تكتونية، ومن وقت إلى آخر، ارتطامهما أو إنخفاضهما يخلق خطوط انفلاق، تودي بالواقع إلى ابتلاع نفسه. والحتمية تقع دائماً عند تقاطع خطين من خطوط القوة. الفعل نفسه ينسحب على الفكر الراديكالي، بحيث أنه يقع عند التقاطع العنيف بين المعنى واللا-معنى، بين الحقيقة واللا-حقيقة، بين استمرارية العالم واستمرارية الفراغ.

على عكس خطاب الواقعي والعقلاني، الذي يراهن على فعل وجود شيء ما (المعنى) أكثر من وجود الفراغ، وبذلك، يريد أن يتأسس، في هيئته الأخيرة، على ضمان العالم الموضوعي وغير المُشَفَر. يراهن الفكر الراديكالي على إيهام العالم، إذ يطمح إلى الوهم، مستعيداً لا صحة الأفعال، ولا-دلالة العالم، متبعاً فرضية مقلوبة، تفيد أن الفراغ موجود أكثر من أي شيء، ومطارداً هذا الفراغ الذي يسير تحت الإستمرارية الظاهرة للمعنى.

التنبؤ الراديكالي يتعلق دائماً بلا-واقع الأفعال، بوهم حدوث الوقائع ووضعها. لا يبدأ سوى بإحساس هذا الوهم، بالإستشعار به، ولا يختلط أبداً بحالة الأشياء الموضوعية. فكل اختلاط من هذا النوع يُعد قريباً من الإختلاط بين الرسول ورسالته، وهو اختلاط يبغي إزالة كل رسول يحمل أخباراً سيئة (أخبار عن تفاهة قيّمنا، عن اللايقين من الواقع، عن لامكان بعض الأحداث). كل اختلاط من اختلاطات الفكر (الكتابة، اللغة) مع نظام الواقع، بحجة الإخلاص له، و البزوغ منه، هو ضرب من الهلوسة. كما ينم عن تفسير خاطئ للغة، والإعتقاد بكونها ليست وهما في حركتها، وليست حاملة لإستمرارية الفراغ في قلب المقال، وأنها، في ماديتها، ليس تفكيك للدال.

فمثلما أن الصورة، الفوتوغرافية أو غيرها، تدل ضمنياً على محو وموت مُتَمثِلها، الذي يمدها بالشدة، كذلك، الكتابة، أكانت الخيالية أو الخيالية النظرية، تستمد شدتها من الفراغ، من بصمة العدم داخلها، من وهم المعنى، من مساحة لغتها التهكمية، التي تتساوى مع المساحة التهكمية للوقائع نفسها. بحيث أنها ليست ما هي عليه-إذ ليست الوقائع أكثر مما عليه، وليست أبداً ما عليه فقط- إنه الإزدواج الملتبس والتام.

فهزء الأفعال، في واقعها البائس، يُرد إلى أنها هي ما هي، إلى أننا نقول على إثرها: "الواقع هو الواقع"، لكنها، بهذا القول، تقع قسراً في ما بعد واقعها، لأن وجود الفعل مستحيل: كل شيء يكون واضحاً جداً، يصير غامضاً. الواقع على العموم كثير الوضوح كي يكون حقيقياً. هذا التحول التهكمي لغوياً يشكل حدث اللغة. بالتالي، على الفكر أن يستعيد الوهم الأساس للعالم واللغة، دون أن يمارس ذلك بغباوة حَرفيّة-خلط الرسول مع رسالته، والتضحية به سلفاً.

إذاً، لكل واحد من النظامين الفكريين غاية متعارضة جذرياً مع الأخرى: الأول يهدف إلى إبراز الواقع الموضوعي للعالم، لكنه، وبالفعل نفسه، يحافظ على اختلافه كفكر، والثاني، يهدف إلى إسترجاع الوهم، وبالفعل نفسه، يريد أن يكون الجزء الفاتن منه. الأول يهدف إلى نوع من الإنجذاب العام، من الأثر المركز للمعنى. الثاني، يهدف إلى اللا-إنجذاب، إلى لامركزية الواقع، إلى شد الفراغ نحو المحيط (ألفريد جاري).

الحاجة إلى الفكر غالباً ما تكون مضاعفة ومتناقضة. ليست تحليل العالم لإستنتاج حقيقة بعيدة الوقوع. وليست التآلف مع الوقائع، واستخلاص بعض البناءات المنطقية منها. إنها أكثر دقة ً، وانحرافاً من ذلك. فهي تشكيل، أو قولبة الوهم وفقدانه، الذي يغذيه الواقع المُثار عفوياً، وبالتالي، يتحقق بعنف من تلقاء ذاته (يكفي تحريك الهدف من وقت إلى آخر). إذ أن الواقع لا يطالب سوى بإحالته إلى الفرضيات، فيحققها، وفي هذا الفعل، يكمن احتياله وانتقامه. فالمثال النظري يستوي على وضع طُرح، يقدر الواقع على إنكارها، فلا منفذ آخر لديه، نتيجة يأس قضيته، سوى أن يعارضها عنفياً، وبذلك، ينزع قناعه.

الواقع وهم، وكل فكر يبحث عن كشفه، وإظهاره غير مقنع. لهذا السبب، عليه أن يتقدم متقنعاً، وأن يتشكل كحيلة، بلا أن يبجل حقيقته. يتحتم عليه، وبفعل كبريائه، أن لا يكون أداة تحليل، أداة نقد، لأن العالم يحلل نفسه بنفسه. العالم يتبدى، لا كحقيقة، بل كوهمٍ.

لا بد من دفع الواقع نحو الفخ، من الذهاب أسرع منه. الفكرة أيضاً، عليها أن تكون أسرع من ظلها. لكن، إذا أسرعت كثيراً، تفقد ظلها. أن يُفقد ظل الفكرة... أن تذهب الكلمات أسرع من المعنى، وعند حصول ذلك، يحل الجنون: إنكساف المعنى يؤدي إلى فقدان طعم العلامة. بماذا نبادل حصة الظل والعمل، حصة الإقتصاد الفكري والصبر، من أجل ماذا نتخلى عنهم؟ الإجابة صعبة للغاية. فعلياً، نحن أيتام واقع يأتي متأخراً، ذاك، أنه، كالحقيقة، ليس سوى محضَر إبطاء.

غاية الغايات، أن تتلاشى الفكرة كفكرة لتصير شيئاً بين الأشياء. في ذلك، تجد نهايتها. فعندما تتحد مع العالم من حولها، لا يمكنها أن تظهر، أو يُدافع عن حالها الأساس. الفكرة تتضمحل بتبدد صامت، بتفرق متعارض مع أي إحتفال فكري. ليس مصير الفكرة أن تنفجر، بل، على العكس، أن تنطفئ في العالم، في ما بعد بيانها في العالم، وما بعد بيان العالم فيها. الكتاب لا يتوقف سوى عند زوال موضوعه. يتوجب على مادته أن لا تترك أي أثر خلفها. هذا يعادل الجريمة الممتازة والكاملة.
*الابحار غربا الي مدي الغيوب

Post: #24
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-10-2017, 01:54 AM
Parent: #23

بالمناسبة: من" نحن"؟
هدى بركات

نحن جميعاً خسرنا كثيراً حين سكتنا على فتوى الخميني ضدّ سلمان رشدي".
آنذاك قلت لجوزيف: من "نحن" يا جوزيف؟ فاستنكر سؤالي الذي كرّرته مراراً، معتبراً أنّه سؤال استنكاري للسخرية ولعبث الاعتراض.

ظلّ جوزيف كذلك لفترة طويلة قبل أن يذهب إلى أولويّات أخرى. قبل أن يخفّف من ندمه على فشل(نا) وغيابنا التام عن الردّ على فتوى الخميني. وقبل أن يرى جوزيف الشعوب من جحافل الأصوليين من باكستان إلى البسطة وحيّ السلّم تصرخ مطالبة بإعدام الكاتب رافعة السواطير لقطع رأسه. أعني الشعوب التي كان جوزيف يقيس على إرادتها.

أواخر الثمانينات بقي كثيرون مدهوشين من فتوى الخميني، الثوري الكامل والأصيل غير المستورد، جامع طرفي الحريّة والإيمان. بقيت فتواه كأنّها صدفة، حدثٌ عابر في مسيرة مجيدة سوف يصار إلى تصحيحها. وآنذاك لم يكن لذلك الإسلام بعد بُعده الداعشي، وكنّا مشغولين جداً بحروبنا الداخلية التي أتت على جزء معتبر من أدمغتنا، الجزء المشدود دوماً إلى بوصلة "إرادة الشعوب".

مناسبة الحديث هي في الواقع مناسبتان. الأولى – ومرّة إضافية – هي في صعوبة إلتفاتنا إلى الخلف ووزن "الأخطاء الشائعة" في تلك السنوات. والثانية هي مناسبة صدور رواية رائعة لسلمان رشدي تُرجمت مؤخراً إلى الفرنسية بعنوان "سنتان وثمانية أشهر وثماني وعشرون ليلة"*.

أمّا صعوبة الالتفات إلى الخلف فقد أصبحت اليوم ومع مرور هذا الزمن الطويل تشبه الوحي بنظم الأشعار، تلك الأشعار العاطفية التي تقف على أطلال الماضي بحنين لا يفيد إلّا بقدر ما تصدره اللغة من طنين. والأريحيّة الشعرية تأتي طبعاً من أوهامنا ومن إحساسنا المفبرك بأهميّتنا. بما معناه أنّنا كنّا "الزير" شديد البأس الذي لم يوفّق بالخروج من "البير". وإلّا لكان التاريخ، كلّ التاريخ، قد تغيّر.

لم تفلت منّا أو تقع سهواً فتوى الخميني. فطرف عباءته كان مبلولاَ بـ"إرادة الشعوب" إيّاها. وفي ذهننا مشاهد الزحف الثوري للقائه عائداً إلى الوطن من المنفى، محطّماً واحدة من أعتى الدكتاتوريات. كنّا، وما زلنا، أسرى الإستيتيكا. فنّانون وشعراء كلّنا، بشكل من الأشكال. وقلوبنا لا تستنظف كلّ ما يبعد الشعب عن إرادة الشعب...

هكذا أبعدت الثورة الإسلامية الأصيلة قراءة سلمان رشدي كأديب كبير. والجريء منّا تناول بالمديح روايته "أبناء منتصف الليل" لأنها بريئة من "التعرض" للإسلام. بعد ذلك الجميع يعرف الحكاية...

المهمّ راهناً أن رواية رشدي الأخيرة – في نسخة حديثة لألف ليلة وليلة – إن قرأناها اليوم من المنطق القديم إيّاه: "مع أو ضدّ الإسلام والمسلمين" سنجد أنفسنا أمام السؤال: مع أيّ إسلام أو مسلمين، وضدّ أيّهما تقع هذه الرواية؟ اليوم وقد سبقتنا الأيّام وصار الإسلام الإيراني نفسه يتعاطى "الريل بوليتيك" فاختلفت حروبُه. أعني بحسب حروب اليوم لن يتّفق المسلمون حول أفضلية إبن رشد على الغزالي، كما يفعل رشدي وربما قتلوا ابن رشد ثانية، أو أقلّه أصدروا فتوى بقتله. فالشعوب المسلمة ما "زالت" في ذلك الصراع بين العقلانية والظلامية، بين المخيلة والإبداع من جهة والتزمّت المتطرّف الدافع إلى الإرهاب من جهة أخرى. وفي أية جهة إذاً يقع الملحمي والأسطوري والفكاهي اللذيذ من الفلسفي والفقهي المرجعي؟


"نحن" يا جوريف أبناء ابن رشد صرنا اليوم في الألفية الثالثة، أقلّ عدداً وأضعف فعلاً أمام عفاريت الغزالي الجديد.
ينبغي أن نقول ما هو أهمّ من كلّ ما تقدّم: متعتة قراءة هذه الرواية المذهلة...

Post: #25
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-11-2017, 00:12 AM
Parent: #24

اليسار والقيمة والفراغ
ماهر مسعود كاتب سوري، حاصل على جائزة سمير قصير لحرية الإعلام 2016.
أعاد موت كاسترو قبل مدّة طرح مشكلة اليسار من جديد، ولأننا في مرحلة تاريخية يجتاحها اليمين كجراد نهم لأرض جديدة، بحيث يلتهم الغرب ليأتي على شرقه، ويتحالف مع المجرم برأس مرفوعة وفارغة، وعنصرية تتفاخر بنفسها؛ لابد لنا من أن نرى ونقوِّم أزمة اليسار، بوصفه إشكالية واقعية في منطقتنا والعالم، يتجلى المُحدَّد اليساري منها بطريقة “مِرآوية” تعكس أبشع أنواع اليمين، وتبزّه في الفاشية والتحالف مع الفاشيات “العلمانية” العسكرية والطائفية، بينما يظل اليسار غير المحدد وغير المؤدلج، أو المُعبأ، تائهًا بلا شكلٍ ولا تأثيرٍ ولا حاملٍ سياسي ذي قيمة. في الثورة السورية ثمة جماعات وأفراد متباينة جيليًا، لا تجد موقعها ضمن اليسار المهزوم والفاشي المتبقي من انهيار إمبراطوريته السوفياتية، لكن لا يمكن أن يعرِّفوا أنفسهم، في الوقت ذاته، إلا يساريًا، وإلا بالضد من اليمين الصاعد، سواء أكان بوجهه الديني الإسلامي الذي تلبَّس الثورات بقوة الأمر الواقع والحرب الطويلة، أم بوجهه ما بعد الحداثي الغربي الذي يختلط فيه الديني بالقومي، والإتجار بالعنصرية، والشعور بالتفوق، مع الخوف والتخويف من المهاجرين و”البرابرة”. لا بد من القول -بدايةً- أن اليسار في أصله المفهوميّ، كثَّف معنى التحرر والكرامة الإنسانية العامة، مثلما كثّف اليمين في أصله المفهوميّ معنى القيود والكرامة الامتيازية الخاصة، وتجلى ذلك في النمطين “المفهوميين”: الشيوعي والرأسمالي، أما في التاريخ، فقد انطلق اليسار من أهمية الحرية بما تعنيه من تحرر وتحرير، ليصل إلى العبودية والدولة الشمولية، بينما انطلق اليمين من أهمية القيود والاستعباد والاستغلال؛ ليصل إلى تحرير بشري كبير، ودول ديمقراطية غنية وحرة. مع الثورة البلشفية تشكَّل اليسار دينًا أرضيًا بديلًا عن الأديان السماوية، تلك الأديان التي تعلَّق بها اليمين إرثًا محافظًا يُعبر عن مصالحه المتوارثة، ويتشابك ضمنها الدين والسلطة والمُلك. لذلك؛ بات اليساري هو من يؤمن بقضية؛ وهي بالأصل قضية إنسانية، وأصبح إيمانه مرتبط بقدرته على التضحية بذاته الخاصة؛ فداء للقضية العامة. وبعد انهيار امبراطورية اليسار العظمى واندماج “رأسمالية الدولة” في الدولة الرأسمالية؛ مثلما حدث -وما يزال- مع روسيا والصين، لم يعد لليساري قضية يؤمن بها، ويدفع حياته ثمنًا لها ويرى العالم من خلالها (كان تشي غيفارا أنموذجًا)، بل تحوَّل اليسار العالمي نحو قضايا المجتمع المدني والفن وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والنساء والمثليين، وغير ذلك مما سمَّاه صادق العظم “خط الدفاع الثاني”، وكان هيربرت ماركوزه قد عوَّل منذ كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد” في الستينيات، على تلك الفئات المذكورة، بوصفها المؤهلة التي ستقود ثورات المستقبل. في الثورة السورية كان اليسار -بمجمل تنويعاته وفئاته المؤدلجة و”الحزبية”- يسارًا قديمًا ومفوَّتًا بالقياس على حركة المجتمع وقيم وثقافة الأجيال الشابة، وإن كانت ثقافة وقيم الحرية والكرامة والمساواة والعدالة والخلاص من الاستبداد وبناء الديمقراطية التي أخرجت الشباب إلى الشوارع، ليست بعيدة عن اليسار، بوصفه مفهومًا واسعًا، إلا أنها كانت قيمًا مرتبطة بالحياة المعاصرة بما تعنيه من ارتباط بالرأسمالية والليبرالية والعولمة، وأما قيم اليسار التاريخي المرتبطة بالتضحية الفردية والايمان المطلق بالقضية، والتشابك العضوي، والهرمية، ومركزية القرار، فلم تكن موجودة، وهذا بالمجمل أفرغ اليسار من محتواه الأيديولوجي؛ ليصنع -في المقابل- مشكلة مركّبة لم تشفَ منها الثورة السورية إلى اليوم، فمن جهة أولى كان ما ملأ مكان الفراغ اليساري هو أيديولوجيا إسلامية أكثر تماسكًا وشعبية، حيث أسهم العنف المتصاعد في زيادة تماسكها وانتقالها إلى أطوار أكثر تطرفًا وعدوانية، وابتعادًا عن مسار الثورة وأهدافها الديمقراطية، ومن جهة ثانية، شكّل اليسار المؤدلج المتبقي عقبة مثلَّثة أمام الثورة، فهو إما انخرط في مشروعات إصلاحية سياسية مع النظام، مثّلت طعنةً في ظهر الثورة، وإما انخرط في الثورة ضمن جبهات وهيئات مستقلة، أسهم انعدام حاملها الاجتماعي الواسع في شرذمة القيادة السياسية للثورة، وإما انخرط مع الإسلاميين في جبهات مشتركة، دون وزن ودون تأثير على الأرض، ودون محاسبة أو صدقية نحو الداخل أو نحو المجتمع الدولي. الكتلة الأكبر من النساء والرجال والشباب التي يمكن حسابها ضمن اليسار غير المؤدلج، المؤمنة بالثورة والمعادية -تكوينيًا وقيميًا- للنظام والإسلاميين معًا، تحوّلت؛ نتيجة لتراكب عنف النظام وغياب التحزّب والتنسيق المركزي، من النضال الثوري والسياسي (مظاهرات، اعتصامات، حمل سلاح) إلى النضال الإنساني الإغاثي بداية 2012، ثم تتابعت في الخروج من البلد، لتتحول إلى نضال ثقافي أو “فيسبوكي” أو إغاثي خارجي، أو كتابي صحافي وبحثي.. إلخ. لتترك ساحة المعركة؛ كليًا أو جزئيًا، للنظام والإسلاميين والطبقات المُفقرة وغير المتعلمة وغير القادرة -بحكم الواقع- على ترك البلد. الفراغ اليساري تشابك مع قيم حب الحياة والفردية وانعدام التأدلج ومعاداة التحزّب، وهي قيم معاصرة لا يمكن نفي أهميتها، لكنها قيم بلا حامل سياسي، لا على الصعيد الدولي؛ كما أثبت الأصدقاء قبل الأعداء، ولا على الصعيد المحلي، مثلما أثبت النظام الطائفي والميليشيات الإسلامية الطائفية. وبالتالي؛ كان المصير المُحتَّم لذلك الفراغ وتلك القيم هو الفوضى، وخسارة الثورة لأي بديل سياسي متماسك ممكن. الآن، ليس لدينا أي آمال بعودة اليسار المذهبي إلى الحياة، فليس سوى الله من “يحيي العظام وهي رميم”، لكن يبقى السؤال المفتوح والمشروع والإشكالي: من يملأ هذا الفراغ؟ وكيف يمكن اختراق ذلك “التحالف الموضوعي” بين يمين غربي ما بعد حداثي، غير معني بكل قيم الغرب ومنجزات الحداثة في إطار الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات العامة والخاصة، وتطرّف ديني إجرامي ما قبل حداثي يُظهر إلى السطح كل أنواع الطائفيات السنية والشيعية والأقلياتية؛ ليرسم مستقبلًا مكللًا بالسواد لسورية والمنطقة بأسرها؟

Post: #26
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-13-2017, 00:28 AM
Parent: #25

عودة الى الماركسية
في نقض بعض مفاهيم اليسار المعاصر

"إن فتح الأرض الذي غالبا ما يعني انتزاعها من أولئك الذين لهم بشرة مختلفة عن بشرتنا وأنوف أكثر تسطيحا بقليل من أنوفنا ، ليس عملا جميلا حين تتأمله بإمعان. وليس ثمة ما يشفع له ويمنحه الخلاص سوى الفكرة ذاتها ، فكرة كامنة وراءه ، لا ذريعة عاطفية بل فكرة وإيمان لا تشوبه الأنانية بالفكرة – التي هي شيء بوسعك أن تقيمه نصبا ، و تنحني امامه مبجلا وتقدم له القرابين"
رواية قلب الظلام، جوزيف كونراد

بقلم :عـــزيــز قـــنجاع

إن المسالة الأساس في عملية تجديد إنتاج اليسار لفكره السياسي الراهن، لا بد أن ينطلق من إعادة النظر في الأسس والمفاهيم التي انطلق منها هذا اليسار في توصيف هذا الواقع .وأي مقاربة لهذا الواقع لا تعود لتساءل الأصول المؤسسة للقول اليساري لن يكون في إمكانها أن تتبين لنفسها ولن يكون في إمكانها العودة لتملك واقعها ووجودها كقوة تود أن تكون دافعة للتقدم، لذا سيحاول هذا المقال أن يقارب المفاهيم الأساس التي انبنى عليها الفكر اليساري، ونقصد بالمفاهيم الأساس, المفاهيم التي شكلت الأس بالمعنى المنطقي والزمني اللذان تحكما في الرؤية والفكر السياسي اليساري. وهي المفاهيم التي تولدت عن قراءة خاصة لإشكالية مركزية داخل النسق الماركسي ظلت مقاربتها تشكل الأرضية التي من رحمها تولدت جميع التيارات اليسارية والحركات الانشقاقية عموما, ألا وهي إشكالية التراكم الرأسمالي .
I-في معنى التراكم.
1- فالرشتاين: التراكم والنظم.
لقد صاغ ايمانويل فالرشتاين ما سماه "الحركات المعادية للنظم" بالإشارة إلى أن الملمح الرئيسي للتوسع الامبريالي تاريخيا كان هو التراكم. أن منظومة فالرشتاين تقوم على اعتبار " إن التراكم الرأسمالي هو في العمق عقلاني فمكاسبه الإضافية الشرهة المولعة بالاكتساب تستمر دون ضابط رغم ان تكاليفه في الحفاظ على هذه العملية وفي دفع تكاليف الحروب لحمايتها وفي شراء ولاء الأطر الوسطية باهظة جدا لا تسوغها المكاسب ". تتضمن عملية التراكم الرأسمالي إذن الأساس الواقعي الذي يتيح لنا معرفة الميكانيزمات التي على أساسها تقوم عملية الانزياح الرأسمالي وميله العام نحو التوسع، دافعا بذلك الفئات الاجتماعية والقوى الحاملة له الى الخروج من مراكزها الجغرافية للبحث عن قيم إضافية جديدة.وهي عملية معقدة في التاريخ نجد صداها المبكر في الادب الغربي كرواية روبنسون كريزويه او لدى جين اوستن او ديكنز او كونراد. ان العودة ال نقاش هذه المسالة من داخل الأدبيات الماركسية يبدو الآن مفيدا نظرا لكون هذه الأدبيات ربطت مسالة الاستعمار بالمسالة الاقتصادية. ونقاش إشكالية التراكم الرأسمالي من داخل المنظومة الاقتصادية الماركسية لمن الأهمية بمكان لتوضيح الأسس التي ينهض عليها الواقع الراهن والقوانين المتحكمة في مساراته. وقبل الانطلاق في نقاش تاثير موضوعة التراكم في الفكر السياسي الراهن لا بد من إطلالة مقتضبة لفهم آليات هذه العملية.
2-التراكم عند ماركس.
بالعودة الى تصفح كتاب الرأسمال لماركس سنجد ان هذا الأخير لاحظ أن الرأسمالية تجنح في تطورها الى التوسع اللانهائي ان عن طريق الاستعمار المباشر او عن طريق السوق الخارجية كسوق عالمية ، رغم ان كتاب الراسمال لم يجد اكتمالاته العملية في الارتباط بمسالة الاستعمار نظرا لكونها ظاهرة لم تكن لتجد مكانها في الخط الذي فكر به المؤلف موضوعة الراسمال، بسب كونه كان يرصد المنطق الداخلي لعملية التراكم الراسمالي في صيغتها الفزيائية العلمية، الا ان عملية الربط هذه ستجد صداها على مستوى كتابات ماركس السياسية، حيث سيعتبر هذا الأخير الاستعمار تحقيقا تاريخيا للإمكانيات الواقعية لصيرورة الرأسمالية و على هذا الأساس فهم ماركس الاستعمار البريطاني للهند حيث قال عن بريطانيا "هي الاداة غير الواعية للتاريخ". ان اعتبار خروج بريطانيا للاستعمار باعتبارها أداة لاواعية للتاريخ المحكوم في قوانينه و بناه بمنطق التطور الراسمالي كأفق متزايد الاتساع ينتج التجارة الخارجية بسبب ضرورات تطوره الداخلي، والتجارة الخارجية تستدعي فيما تستدعيه الاستعمار كحلقة مكملة للسيطرة على الأسواق ومصادر فائض القيم.
3-الانعكاس السياسي لموضوعة التراكم بين لينين وروزا ليكسمبورغ.
بعد وفاة كارل ماركس أصبحت عملية التراكم وفهمها يشكل عصى الرحى الذي تخرجت من طاحونته أفواج من الانشقاقيين داخل الحركة الشيوعية العالمية، والبداية كانت بين لينين وروزا لكسمبورغ فالاثنان رغم أنهما اتفقا على ربط الاستعمار بتطور نمط الإنتاج الرأسمالي الا ان الاثنين اختلفا في صيغ المقاربة تراكم الراسمال . الا انه لا بد من تسجيل ملاحظة عرضية وهي ان لينين اختلف مع روزا لكسمبورغ لا لاعتبارات علمية، ولكن للاستتباعات السياسية لموضوعة التراكم .ففي الوقت الذي اعتبرت فيه روزا لكسمبورغ ان الفعل الانساني يبقى خارج امكانية التحكم في مسار التاريخ باعتبار قاهرية قوانين التراكم داخل نمط الانتاج الراسمالي في التحكم في صيرورة الحركية التاريخية ، رأى لينين في الأمر تأسيسا سياسيا لرؤية لا تعطي للفعل الواعي المنظم اعتبارات أساسية أو هي تأسيس للعدمية كوجه آخر للفوضوية، وهو المسار الذي ميز أنصار حركة اسبارطاكوس، في الوقت الذي شدد لينين على دور الحزب في التوجيه و التحريض والتأطير السياسي قاطعا الطريق أمام أي عمل عفوي، من هنا يتبين ان الاستتباعات العملية لفهم موضوعة التراكم لها تاثير مباشر على الممارسة السياسية اليسارية في فهم طبيعة التنظيم والفعل الانساني ودوره في الثورة .
4-روزا ليكسمبورغ وموضوعة التراكم
تقول روزا في كتابها "تراكم الراسمال" " تظهر الراسمالية في بدايتها و تنمو تاريخيا في وسط اجتماعي لارأسمالي ففي اوروبا الغربية تمتد الرأسمالية بادئ ذي بدء داخل الوسط الإقطاعي الذي انبثقت عنه اقتصاد الاستعباد في الريف ، وحرفية الفرق المهنية في المدينة ثم بعد القضاء على الإقطاعية ، تمتد داخل وسط فلاحي وحرفي معا ، حيث يسود بالتالي الاقتصاد السلعي البسيط في الزراعة كما في الحرف، وخارج اوروبا تحاط الرأسمالية الأوروبية بأراضي شاسعة، حيث تتواجد جميع الأشكال الاجتماعية وفي كل درجات التطور ، بدء بقبائل الصيادين الرحل الشيوعية حتى الإنتاج السلعي الفلاحي و الحرفي .ففي هذا الوسط تتم إيوالية التراكم الرأسمالي". وتميز روزا بين ثلاث مراحل في التراكم : اولا صراع الرأسمال ضد الاقتصاد الطبيعي ، صراعه ضد الاقتصاد السلعي و صراعه على المسرح العالمي حول ما تبقى من شروط التراكم " من هنا يبدو ان مسالة توسع نمط الانتاج الراسمالي عند روزا ليكسمبورغ ارتبطت تاريخيا بخروج أوروبا عن مركزها الجغرافي للبحث عن شروط ارقى للتراكم وهي ليست عملية إرادية بل مرتبطة بصلب تطور نمط الإنتاج الرأسمالي. اين تختلف روزا عن ماركس في فهم عملية التراكم ؟.
5- عودة إلى ماركس
فبالنسبة لماركس التمركز القوي للراسمال الثابت عبر التكنولوجيا يستدعي في المعادلة انتاج فائض قيمة نسبية كل ذلك يدفع الراسمالي الى التفتيش عن مصادر اكثر ثباتا لفائض القيمة وذلك عن طريق تثوير سلكة الانتاج وتطوير المكننة و التقنية المتطورة و تقسيم العمل ...مما يؤدي الى زيادة الراسمال الثابت وانخفاض الراسمال المتحول ومردود هذه العملية ياتي مناقضا لطموحات الراسمالي في الربح اذ ان الزيادة المطردة في الراسمال الثابت يقابلها انخفاض اتجاهي في نسبة الربح..وسعي الراسمالي خارج حدود النمط الراسمالي والتفتيش عن مصادر ثابتة للربح ضمن مجتمعات لاراسمالية " ان هذه المعادلة التي تحكم عملية التراكم الراسمالي مرتبطة بتفكيك التشكيلات اللارأسمالية بشكل لا يمكن ان نتناول معه هذه التشكيلات بمعزل عن الراسمال نظرا لكون هذه البنى لم تعد مطابقة لنموذجها الماقبل راسمالي ومرتبطة في نفس الوقت بحدود تاريخية تمنع هذه التشكيلات من ان تتحول الى نمط راسمال ناجز وربما باليات انتاج نقيضة حسب ما ذهبت اليه الدراسة المنجزة من قبل مهدي عامل في موضوعة نمط الانتاج الكولونيالي. واذا كان لينين قد اعتبر المرحلة الامبريالية كاحدى المراحل الحاسمة والنهائية في تطور نمط الإنتاج الراسمالي باعتبارها مرحلة التناقض الحاسم بين قوى الإنتاج وعلاقات الانتاج ضمن خطية غائية موجهة دون الاهتمام بالمسالة المركزية في صيرورة الرأسمالية والمبنية أساسا على العلاقة التقابلية القائمة بين فائض القيمة المطلق و فائض القيمة النسبي والراسمال الثابت والراسمال المتحول.
- II التراكم و دول العالم الثالث
لقد ارتبطت عملية التراكم في صيرورتها الواقعية الى دفع اوروبا اولا ثم باقي البلدان الراسمالية الاخرى، الى الخروج عن مراكزها الجغرافية لتملك باقي المناطق اللاراسمالية، في حركة سميت تاريخيا بالاستعمار واتخدت بعد ذلك اشكالا سياسية متعددة وتحت أسماء مختلفة، لكن ما يهمنا هنا هو كيفية فهم اليسار الثالثي للتحويلات التي احدثتها عمليات التراكم على بنية مجتماعتنا.
1- تنبيه منهجي
دائما ما اعتبر التحليل الماركسي تحليلا لا ينسجم وخصوصية واقعنا التاريخي واعتبرت مفاهيم الماركسية واعمالها في فهم مجتمعاتنا، سمة على تيار تغريبي يسقط مقولات غريبة على واقعنا القائم ، الا ان تحليل اشكالية التراكم تضعنا عند تحليل مجتمعاتنا في صلب التحليل الماركسي، على اعتبار أن بنية مجتمعاتنا الحديثة تشكل جزءا من منظومة نسقية تولدت عن الاستعمار كوجه مباشر لحركة تطور النمط الرأسمالي للإنتاج, وبالتالي فالرأسمالية كبنية إنتاجية أصبحت محركا لمجتمعاتنا في تميز يطال شكل تكونها كبنية تابعة، او كبنية تمتاح دورها من تقسيم العمل على الصعيد الدولي. وبالتالي يتم على مستوى التناول إمكانية إعمال مفاهيم المنظومة الماركسية باجتهادات ومقاييس قد تكون مختلفة، لكن متفق حول منطلقاتها.

2- الصراع الايديولوجي الدولي و التعتيم المعرفي
شهد العقدان اللذان تليا انهيار المنظومة السياسية الاشتراكية و سقوط جدار برلين عملية توضيب إيديولوجي وخلط مفاهيمي مورس على مستوى واسع في حقل الصراع السياسي على المستوى العالمي، لإيجاد صيغ تبريرية لهيمنة أحادية على الصعيد الدولي، وضعت مجمل الفكر اليساري ضمن مسارات جديدة وتوفيقات جعلت مجمل إنتاجياته النظرية والفكرية التي راكمها طيلة المدة ما بعد الحرب العالمية الثانية موضع تحوير شامل، وذلك ضمن استراتيجية توفيقية أعادت رسم أفق جديد للحدود المعرفية للمفاهيم التي دأب اليسار على نحتها في عمليات القراءة المتكررة لواقعه، وجعلت الطرف المهيمن عليه في هذه العملية دون إمكانية إنتاج فكر يستطيع من خلاله رسم مساره وتميزه . تولد عن هذه العملية إمكانيات جديدة لم تكن متاحة في الماضي حيث أصبحت قوى غارقة في المحافظة قادرة على توظيف مفاهيم غاية في التقدم حتى بدون حرج علمي ومعرفي مثل حشر مفهوم التقدم ضمن باقة فضائل خطاب الحركات النكوصية للإسلام السياسي.

3- التخلف والعولمة في أدبيات اليسار الراهن
مفهوم العولمة أصبح بمثابة المفتاح السحري للجواب على معضلات المرحلة ، لكن تناوله يؤدي الى طرح مع ذلك مجموعة من المساءل على بساط النقد والتحليل. فهل العولمة وليدة المرحلة المتأخرة للرأسمالية؟ هل العولمة ارتبطت تاريخيا بسقوط جدار برلين وانهيار النظم السياسية الاشتراكية.؟ هل القبض على مفهوم العولمة من قبل مجموعات اليسار عموما والمغربي على وجه الخصوص، وتبنيه كصيغة أكثر تطورا في عملية استعادة الوجه الآخر للنضال ضد الامبريالية حيث تم على أرضيتها تشكيل مجموعات صغيرة تخصصت في مجابهة ظواهر العولمة كاطاك وجيل التروتسكيين، و تبدو المجموعات المناهضة للعولمة ببلادنا أكثر جدية في التعاطي النضالي مع موضوعها يصل الى حد تحريم أكل الهمبورغر، الشيء الذي أسس لتبني صيغة المواجهة دون مناقشة أصول المفهوم و مترتباته الإستراتيجية على العمل السياسي اليساري. ويبقى بالمقابل السؤال مطروحا حول تخلي المفكرين اليساريين والتنظيمات العربية السياسية عن الصيغة التي راكموها في قراءة واقعهم السياسي انطلاقا من مفهوم التخلف إلى منطق آخر لم يتم التأسيس له داخل الفكر السياسي ونعني به منطق العولمة، في الوقت الذي شكلت الكتابات العربية في موضوعة التخلف ريادة عالمية كما نجدها عند فرانز فانون في الجزائر والوثيقة الإيديولوجية المقدمة للمؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالمغرب ودراسات رفعت السعيد وسمير أمين بمصر، كما قدم الحزب الشيوعي اللبناني قراءات متقدمة في الموضوع كما هو الحال عند كريم مروة و مهدي عامل وقد وجدت هذه القراءات متوازيات لها عبر العالم ككتابات جوندر فراند و سلسو فورطادو بامريكا اللاتينية وعند بتلهايم و ايف لاكوست باوروبا.

4- التخلف و العولمة وجهتا نظر متناقضة في فهم عملية التراكم وإنتاج البرامج السياسية.
لقد غطى مفهوم "التخلف" كل الكتابات اليسارية ما قبل مرحلة انهيار المنظومة الاشتراكية، وشكل المعنى الكامن لكل كتابات اليسار في المسألة السياسية، واستدعى هذا المفهوم كشعار بالمقابل مفهوم "التقدم" كنقيض مباشر و أساس للبرنامج السياسي والنضالي العام، اما مفهوم "العولمة" الذي اكتسح مجال الفكر بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وانتعش بشكل كبير في الدراسات الاستراتيجية سواء على المستوى الرسمي او لدى الأحزاب اليسارية فقد استحث بالضرورة استجداء مفهوم التنمية كصيغة تندرج ضمن الرؤية التي يطرحها المفهوم بالاستتباع الحتمي والتولد الضروري. فكما تولد مفهوم "التقدم" معرفيا عن مفهوم "التخلف" ضمن سياق من المتولدات الدلالية والمعرفية، تولد مفهوم "التنمية" عن مفهوم "العولمة" ، ولا بد من الاشارة هنا الى ان المسالة ليست عملية استبدال مفاهيمي او تمرين لغوي بل ان لكل مفهوم مستتبعاته العملية في انتاج البرامج السياسية. فالعولمة تعالج اشكالية التراكم من وجهة نظر راسمالية أي بتحليل يستند الى معطيات تطور التراكم الرأسمالي، وليس الأمر كالتخلف الذي يرى اشكالية التراكم من حيث آثارها على البلدان التي تم لي مسارها التاريخي لحشرها ضمن منظومة الإنتاج الرأسمالي. وبالتالي فان وجهة نظر العولمة ترى توسع الرأسمالية وتحققها ببلداننا تحققا لإمكانياتها في تطورها الذاتي، في حين فان وجهة نظر "التخلف" ترى التوسع الراسمالي في بلداننا من حيث آثاره وفعله التاريخي في بلداننا و ليس بما تحققه الراسمالية من تراكم على هذا الصعيد. ويصير الفرق بينها على مستوى القراءة السياسية هو الفرق بين انتاج برامج سياسية تقارب الموضوع من وجهة نظر ممانعة عندما تستند الى واقع التخلف كبنية قائمة تعيد انتاج نفسها ضمن منظومة رأسمالية واحدة. وبين العولمة كصيغة تصوغ القبول بالاندماج اللامتكافئ ضمن نسقية أحادية الاتجاه تجد حلها في مسار التاريخ. تستدعي قراءة التخلف معالجة شمولية للظاهرة أي يستدعي الحل شكلا سياسيا بكسر ميكانيزماته الواقعية المولدة له، في حين تكتفي العولمة باستدعاء الحلول الجزئية لمشكلات آنية في تمظهراتها، كالفقر والتهميش والهشاشة ومنظومة وصف طويلة لاثار شكل محدد في انتاج الثروات والتي قد تصبح جزء من عمل الأحزاب وتضمنها برامجها السياسية، كما يمكن أن تصبح في سياق التخصيص والتخصص إلى مشكل جمعوي بسيط ، يقوم بادوار في سياق العولمة تقوم على تفتيت المجتمع تحت اثر نمط من التنمية يعتمد على مقاربات طفيلية غير منفكة عن الدولة، حيث تغدو السلطة أداة لإدارة تفتيت المجتمع وفتحه أمام الأنماط الجديدة للانخراط داخل النظام الاقتصادي العالمي. إن عدم الوعي بسياق توطين مفهوم العولمة داخل أوطاننا ضمن رؤية ممنهجة للصراع الاستراتيجي الدولي ينتج لا محالة رؤية تنبني على التقابل بين طرفي المعادلة – المركز و المحيط - كاختلاف طبيعي يؤكد الهوية والتماثل والتصالح الأبدي، وهي أطروحات أخدت أشكال مختلفة وتحت عناوين "شمال افريقيا والشرق الاوسط" بشكله الامريكي الى "تكتل حوض البحر الأبيض المتوسط" بالصيغة الأوروبية. هذا بالإضافة الى ما تتضمنه صيغة "العولمة" من وعد بالمساواة الوهمية خارج العلاقات الفعلية وهي الصيغة الأمثل للعصر في سياق تطور الايديولجية المهيمنة. فهي و إن لم تكن كمقولة تنفي واقع التفاوت والتمايز بل تقره و تعترف به، الا أنها لا تعلن طابعه الجوهري ومن ثمة تطرح في صلبها إمكانية المساواة التي هي مبدأ الوجود حسب هذا المنطق، لكن لا في العلاقات الواقعية بل في سجل الحضور أمام القدر، أمام الله، أمام صناديق الاقتراع، أو أمام حضارة العصر في الأمد البعيد باستصلاح أثار حضورها القطاعي كما هو الحال بالنسبة لموضوعنا، مبشرة بالوفاق كحل للتناقضات بين الدول المهيمنة والدول التابعة بتعميم نعم العصر في آجال غير مسماة على مجموع الإنسانية.

Post: #27
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-15-2017, 04:50 AM
Parent: #26

إعادة البناء بعد النزاعات


اليوم، يبدو الشعار الثوري "الخبز، الكرامة، والعدالة الاجتماعية" الذي أسَر آمال الملايين في العالم العربي، أشبه بذكرى بعيدة.

العالم العربي وثوراته في أتون أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة: مصر، وليبيا، والعراق، وسورية واليمن في حالاتٍ ناشطة مختلفة من التفكّك والحرب الأهليّة. أمّا الدول التي لا تشهد ثوراتٍ صريحة فتسعى يائسة إلى أن تنأى بنفسها عنها وتحاول نيل هدوء شعوبها من خلال سياسات تراوح بين تعزيز الدولة الأمنيّة، وخططٍ ترسي حكماً تدريجياً وتقدّم إصلاحاتٍ اقتصادّية بغية نزع فتيل التوتر الداخلي الذي يكاد أن ينفجر. لطّخت نتانة السياسات الطائفية جزءاً كبيراً من الخطاب السياسي، إذ إنّ الأطراف الإقليميّة والدولية تساهم إلى حدّ كبير في الأوضاع العامة المتمثّلة في الاستقطاب والتفكّك. تنظر أعداد هائلة من المواطنين إلى إمكانيّة الهجرة باعتبارها الحلّ الوحيد لمحنتهم، فالظروف التي يواجهونها بموضوعيّة تتلخّص في خيارٍ ما بين التواجد المستمرّ ضمن دول المافيا الباتريمونياليّة والنيو-باتريمونياليّة التي تعتمد التهميش والإخضاع السياسي والاقتصادي، أو مقاومة هذه الظروف، ممّا يفضي إلى إجراءات سريعة في سبيل سحق أيّ برعم تمرّد من شأنه تصوير أيّ بديل واحتوائه. ويبدو أنّ ما من دولة عربية لا تنطبق عليها هذه الظروف العامة بشكلٍ أو بآخر.

بالإقرار أنّ الظروف العامّة والخاصة التي ساهمت في هذا الوضع المزري كانت قيد التحضير منذ سنوات، يمكننا أن نتوقّع أيضاً أنّ حلّها سيستلزم سنواتٍ، إن لم يكن أجيالاً.

بيد أنّه، بقدر ما تظلّ الحياة القائمة على الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة هدفاً مرجوّاً وضروريّاً للعالم العربيّ وشعوبه وتطوّرهم، تتمثّل ضرورات السنوات المقبلة في كيفيّة تعبئة الحركات السياسيّة التي تستطيع تحقيق هذه الأهداف وبناءها والحفاظ عليها. وبالنظر إلى الموارد المحدودة للأطراف الفاعلة السياسيّة والاجتماعيّة، وصلاحيّات خصومها وحلفائها الدوليّين، ستبرز في واجهة هذا التحدّي مسائل أيديولوجيّة، وتكتيكيّة، واستراتيجيّة، ومؤسساتيّة، وماديّة. في هذا السياق، إنّ الاستعداد في ما يتعلّق بالقدرة على تقديم التوجيه الأيديولوجي، والوضوح السياسي، وآليّات التعبئة السياسيّة والاجتماعيّة، وإضفاء الطابع المؤسساتي، وأساليب التأكد من استدامة هذه الحركات على المستوى المادّيّ والدفاع عنها، تبقى جميعها جوانب أساسيّة ستؤدّي دوراً كبيراً في تحديد الفائزين والخاسرين في الصراعات المقبلة. ويبدو أنّ النضال من أجل العدالة الاجتماعيّة كعنصر ضروري للرفاهة الاقتصاديّة والحريّة السياسيّة، يكمن في التوازن.

في ضوء ما تقدّم، يحدّد هذا المقال الهدف من محاولة المساهمة في عمليّة التحضير هذه من خلال إجراء بحثٍ بشأن البنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ. ويهتمّ هذا المقال بشكلٍ خاص في بمعرفة إلى أيّ مدى تقدّم أفكار هاتين المنظّمتين وسياساتهما وأموالهما مجموعة من الموارد لأطراف عرب في نضالهم في سبيل العدالة الاجتماعية.

تنبثق الحاجة إلى استكشاف هذا الدور المحدّد وتعيينه من حاجات وحوافز متعدّدة.

على الرغم من سلطة هاتين المؤسستين ونفوذهما الهائل على صعيد وضع وصْفات سياسيّة معياريّة على المستوى العالمي وعلى أساسٍ ثنائيّ حتى في دولٍ عربية متعدّدة، تفتقر نوعاً ما الأطراف السياسيّة والاجتماعيّة في العالم العربي إلى فهمٍ وتحليلٍ أوضح لأدوارهما المحدّدة. غير أنّ هاتين المنظمتين تبقيان فاعلتين في اقتراح إصلاحاتٍ اقتصاديّة واجتماعيّة مختلفة في الدول العربيّة التي تسعى كما يُفترَض إلى المساهمة في التنمية الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة، سواء كان ذلك في دولٍ لم تختبر بعد اضطرابات ثوريّة (على غرار المغرب والأردن)، أو تلك التي تعصف بها الثورات (كتونس ومصر). والواقع أنّ هذه الاقتراحات هي غالباً امتداد لسياساتٍ سابقة لم تخضع للمحاسبة بعد. من يستطيع أن ينسى الموافقة البهيجة التي منحها صندوق النقد الدولي على وضع الاقتصاد التونسيّ قبل أسابيع قليلة فقط من انفجار الثورة التونسيّة؟

يُذكر في هذا السياق أنّه منذ عام 2012 خصّص البنك الدولي لتونس ما لا يقلّ عن 1.3 مليار دولار أميركي، فيما شهدت مصر زيادة بمعدّل أربعة أضعاف في التزامات البنك – من 408 ملايين دولار أميركي عام 2014 إلى 1.4 مليار عام 2015 (الموقع الإلكتروني للبنك الدولي). تشير هذه الإحصاءات إلى أنّ هاتين المنظّمتين لا تقفان أبداً على الحياد في خضمّ الاضطرابات الإقليميّة. فضلاً عن ذلك، يدلّ استعدادهما للالتزام بالترتيبات السياسيّة "القديمة" (يرمز إليها المجلس العسكري في مصر في ظلّ حكم السيسي، أو في الأردن والمغرب) أو تلك الجديدة (تونس ما بعد الثورة)، على قناعتهما البراغماتية بضرورة المضيّ قدماً أيّاً كان الإطار المحليّ، في مسعى لطرح أجنداتهما التنظيميّة.

ما الذي نعرفه عن هذه الأجندة؟ وإلى أيّ مدى توفّر مصدراً أو منبراً للجهات الفاعلة السياسيّة لطرح قضايا العدالة الاجتماعيّة كبديلٍ عن الترتيبات السابقة؟

للإجابة عن هذه الأسئلة أهميّة كبيرة في إطارٍ حيث أدّت هذه القوى أدواراً بارزة في بناء الحاضر العربي، فيما لا تزال ناشطة في محاولة التأثير في مستقبل العالم العربي وتوجيهه. في هذا الصدد، من شأن الوضوح حول هذه المسائل أن يكشف إلى حدٍّ كبير كيف أنّ الجهات الفاعلة السياسيّة والاجتماعيّة تستطيع أن تحدّد بشكلٍ أكثر فاعليّة رؤيتها البديلة وترسمها وتطبّقها مع الاحتفاظ بتقييمٍ واقعيّ للقوى والأفكار المختلفة التي تحاول التأثير في هذه العمليّات أيضاً.

لطالما كان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي رديفاً للهيمنة الإمبرياليّة الأميركيّة وسيطرة الدول الرأسماليّة الغربيّة المتطوّرة، الاقتصاديّة والسياسيّة، على اقتصادات العالم الثالث أو عالم الجنوب.تأريخ وتسييس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي

ينبغي أن يبدأ تقييم دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية بفهمٍ لما تقوم به هاتان المنظّمتان، ومَنشئهما، وطريقة عملهما، ولصالح من. إنّ فهم منشأ هاتين المنظّمتين ومسارهما التاريخي، والأسس الأيديولوجيّة والنظريّة لوصفاتهما التاريخيّة، وممارساتهما الفعلية المعيشة مهمٌّ لكشف كيفية تأدية هذه المنظمات دوراً في تنظيم النشاط الاقتصادي والسياسي لمجتمع معيّن والتأثير فيه، وما إذا كان هذا الترتيب يوفّر توزيعاً عادلاً للثروة والفرص والامتيازات.

يعود تأسيس هاتين المنظّمين إلى مؤتمر الأمم المتحدة النقدي والمالي (مؤتمر بريتون وودز) الذي انعقد عام 1944 والذي هدف إلى وضع مجموعة جديدة من القواعد التي تحكم النظام النقدي الدولي بعد الحرب العالميّة الثانية في الدول الـ44 المشاركة.

وكان من بين الخلاصات التي توصّل إليها هذا المؤتمر تأسيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير للمساعدة في إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، والذي يقدّم اليوم قروضاً للدول النامية متوسطة الدخل، وصندوق النقد الدولي الذي تأسّس لضمان استقرار النظام النقدي الدولي من خلال تتبّع التوجّهات الاقتصاديّة الوطنيّة والعالميّة، وإقراض الدول التي تواجه صعوبات في ميزان المدفوعات، وتقديم المساعدة "التقنيّة" إلى الدول الأعضاء. مع الوقت، أسس البنك مؤسّسة أخرى، المؤسّسة الدوليّة للتنميّة (عام 1960) لمنح القروض للدول الفقيرة والنامية، ومؤسسة التمويل الدوليّة، التي تأسسّت عام 1956، لتقديم المساعدة الإقراضّية مباشرة إلى العناصر التي هي ضمن القطاع الخاص. مجتمعة، يُطلق على مجموعة البنك الدولي١ إلى جانب صندوق النقد الدولي بشكلٍ أعمّ اسم "المؤسسات المالية الدولية" أو عندما تُضمّ إليها منظّمة التجارة العالميّة، تُعرَف بمنظّمات بريتون وودز.

لطالما كان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي رديفاً للهيمنة الإمبرياليّة الأميركيّة وسيطرة الدول الرأسماليّة الغربيّة المتطوّرة، الاقتصاديّة والسياسيّة، على اقتصادات العالم الثالث أو عالم الجنوب. وبحسب المؤرّخ الأميركيّ تشارلز ماير، "مُعفاة من الخسائر التي تكبّدها المتحاربون الآخرون، ورثت الولايات المتحدة فرصة لترسيخ القواعد الاقتصاديّة الغربيّة الأساسيّة وفقاً لاحتياجاتها ورؤيتها الخاصة" (ماير، 1978). وعلى سُلَّم أولويّاتها، الحرص على ألّا تُنشِئ إعادة إعمار أوروبا فرصاً لنزاعٍ متجدّد مع الدول الأوروبيّة أو في ما بينها، والعمل بالتوازي على درء خطر الإغراء الشيوعي. تاريخياًّ، باتت هذه الجهود تُعرَف بـ"الليبرالية المدمجة" حيث عملت الولايات المتّحدة، من خلال مشروع مارشال والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، على توجيه الدول الأوروبيّة واليابان سياسيّاً على امتداد تدخّلاتهما التنمويّة. من خلال توفير الدعم لبيروقراطيّة فعّالة مموّلة جيّداً ضمن هذه الدول التي تدور في فلكها، عملت الولايات المتّحدة على استبعاد الأحزاب الشيوعيّة من المشاركة في الحكومات وعلى إثباط الترتيبات الجماعية حيثما أمكن، أو على الأقلّ احتوائها ضمن الحدود المقبولة لليسار الوسط (راغي، 1983).

في حين شكّلت مصالح الولايات المتحدة الدعامة الأساسيّة لهذا الترتيب، مع الوقت، توصّلت منظّمات بريتون وودز إلى حماية المصالح الجماعيّة للاقتصادات المتقدّمة لدول أوروبا الغربيّة واليابان، من خلال البنية التنظيميّة وآليّات صنع القرار ضمن البنك.

وعلى الرغم من أنّ هياكل البنك وسياساته يُفترَض أن تعكس إرادة الدول الـ188 الأعضاء فيه، عمليّاً، السلطة رهنٌ بصيغة معقّدة تربط تصويت الهيئة الأساسية لصنع القرار في البنك – مجلس المحافظين – بحجم اقتصاد الدولة كما هو مُحدَّد بحسب قياس الدخل القومي، والاحتياطات الأجنبيّة، والمساهمة في التجارة الدوليّة. وقد عنى ذلك تهميشاً تاريخياً للاقتصادات النامية على حساب صنع القرار ديمقراطياًّ استناداً إلى العضويّة (عضو واحد، صوت واحد).

باتت هذه الدفعة الثالثة من سياسات البنك التي طَبَعَت الحقبة النيوليبرالية وقد بدأت في ظلّ سياسة حافّة الهاوية التي اعتمدها كلٌّ من ثاتشر وريغان، مشهورة بسبب حجم التخفيضات المقتطعة للخدمات الحكوميّة في مجال الصحّة والتعليم والرعاية الاجتماعيّة، وخصخصة الأصول التي تملكها الدولة.الوصفات السياسية

بعد تحديد التوجّه التاريخي والسياسي العام لهذه المنظّمات، لنَعُد الآن إلى وصفاتها السياسية، التي ظهرت وتطوّرت في ظلّ تبدّل المصالح والأولويّات الأميركيّة مع الوقت.

لقد تبدّل التوجّه التنموي العام للبنك مع الوقت ليتماشى مع الأهداف السياسيّة لمؤيّديه الغربيّين البارزين، إلى جانب التوجّهات الاقتصاديّة السائدة والرائجة في ذلك الوقت – رائجة بمقدارٍ ليس بضئيلٍ أبداً لأّنّ هذه التوجّهات الاقتصاديّة توافقت أيضاً مع التوجّهات السياسيّة نفسها.

تكشف قراءة لعمليّات الإقراض التي قام بها البنك الدولي بحسب القطاع أنّ الفترات السابقة (خمسينيات القرن الماضي وستينيّاته) شهدت تركيزاً كبيراً على البنية التحتيّة (وذلك على نطاقٍ واسع في أوروبا). بيد أنّ ذلك أفسح في المجال تدريجيّاً أمام التركيز على الزراعة، والإنفاق الاجتماعي والصناعة في أجزاء من العالم النامي. وقد بدأت الدفعة الثانية خلال رئاسة روبرت ماكنمارا (التي بدأت عام 1968)، مع هذه التدخّلات التي اعتُبِرَت مهمّة "للحدّ من الفقر" وتلبية "الاحتياجات الأساسيّة". في ذلك الوقت، مثّلت الهند وباكستان أكبر متلقّي مساعدات من البنك، إذ إنّ هاتين الدولتين كانتا تُعتبَران دولتين رئيسيّتين تحتاجان إلى أن تكونا بمنأى عن تأثير القناعات الروسيّة أو الصينيّة.

مع انهيار معظم النماذج التنمويّة التي تقودها الدولة في مختلف أنحاء العالم النامي بحلول منتصف سبعينيّات القرن الماضي، وارتفاع تدفّق الدَّين العام، خرج البنك في مطلع الثمانينيّات بأجندته الرئيسيّة الثالثة على شكل "التكيّف الهيكلي". وقد تمّت المصادقة بموجبه على تطبيق تعديلاتٍ عامّة في الاقتصاد الكلّيّ على الاقتصادات النامية كافّة من خلال عشر أدوات سياسيّة أساسيّة باتت تُعرَف بـ "إجماع واشنطن" (انظر ويليامسون، عام 1990). وقد شملت هذه الأدوات الانضباط في السياسة الماليّة (أي ما من عجزٍ ماليّ في ما يتعلق بالناتج المحلّي الإجمالي)، وإعادة توجيه الإنفاق العام (ما من إعانات)، وإصلاح النظام الضريبي لصالح رأس المال، ومعدّلات فائدة عائمة (تحدّدها السوق)، وأسعار صرف تنافسيّة، وتحرير التجارة، وتحرير الاستثمار الأجنبي المباشر الموجّه إلى الداخل، وخصخصة المؤسسات الحكوميّة، ورفع القيود التنظيميّة: وتوفير الضمانات القانونيّة لحقوق الملكيّة.

اعتُبِر تبنّي هذه الإصلاحات ضرورياً من أجل منح القروض، وبالتالي فُرضت شروط صارمة أعادت توجيه أولويّات هذه الاقتصادات، وملكيّتها وتوجّهها، وعلاقة المواطنين فيها بعمليّات صنع القرار التي تحكم اقتصاداتهم ورفاههم الاجتماعي.

انطوت التعديلات الهيكليّة في صلبها على اعتقادٍ بأنّ استقرار الاقتصادات المثقلة بالديون وتحريرها وخصخصتها سيؤدي إلى النموّ والتطوّر. وقد سُوِّغَ كلٌ من عناصرها في إطار النظرة العالميّة إلى الاقتصاد الكلاسيكي الجديد كحلٍّ تقنيّ "للحدّ من التضخّم"، و"التخلّص من العجز"، و"القضاء على التشوّهات في الأسعار" واستنباط "الكفاءة". والواقع أنّ هذه السياسات ألغت أدواتٍ سياسة مختلفة كانت بيد الحكومات لحماية اقتصاداتها وتنظيمها وتوجيهها، مؤمّنة تدخّلات مختلفة، وتدابير حماية ومعايير ضدّ الأسواق وفشلها. من خلال نزع هذه الأدوات من قبضة الحكومة، وتوحيد الوصفات السياسيّة عبر الدول، نصَّبَ البنك الدولي بدعمٍ من صندوق النقد الدولي، جهات فاعلة وأصحاب مصالح اقتصاديّة، محليّين ودوليّين رئيسيّين للتمكّن من الاستفادة من هذه السياسات مالياً على حساب الفقراء. ومن شأن ذلك حتماً أن يسرّع وتيرة تشكّل الطبقات فضلاً عن انتقال الثروة والتفاوت في الثروة.

باتت هذه الدفعة الثالثة من سياسات البنك التي طَبَعَت الحقبة النيوليبرالية وقد بدأت في ظلّ سياسة حافّة الهاوية التي اعتمدها كلٌّ من ثاتشر وريغان، مشهورة بسبب حجم التخفيضات المقتطعة للخدمات الحكوميّة في مجال الصحّة والتعليم والرعاية الاجتماعيّة، وخصخصة الأصول التي تملكها الدولة. وكان من المفترض بالحدّ من تدخّل الدولة في الاقتصاد والحدّ من سلطاتها التنظيميّة أن يدفع بالجهات الفاعلة في القطاع الخاص إلى ملء الفراغ في هذا المجال. غير أنّه في معظم الأحيان، أدّت هذه السياسات إلى تدمير الرعاية الاجتماعيّة، وإثراء النُخَب، والتمييز الطبقي، وتنظيم المجتمع على مبادئ الربح والجشع، لا على مبادئ خدمة الحاجات الإنسانيّة.

حتماً، سيحصد التحوّل النيوليبرالي الشديد للبنك الدولي في ثمانينيّات القرن الماضي في ظلّ التكيّف الهيكلي نتائج مخيّبة للآمال، ويجبر في نهاية المطاف المؤسّسات الماليّة الدوليّة على تكييف مقارباتها ومحطّ تركيزها مرّة أخرى (انظر سعد-فيلهو، عام 2005، ص.116-117). بيد أنّه عوضاً عن إعادة النظر بشكلٍ أساسيّ في التكيّف الهيكلي، تمسّكت منظّمات بريتون وودز بشدّة بهذه المبادئ، لكن اعتبرت أنّ الدول تفتقر إلى القوام المؤسساتي المناسب اللازم لضمان التآزر والانطلاق. إذا كان الشعار في ظلّ التكيّف الهيكليّ الحاجة إلى "إصلاح الأسعار"، فإنّ شعار محطّ تركيز البنك الرابع والحالي هو "إصلاح المؤسّسات". بالتالي، ولِد "ما بعد إجماع واشنطن"، الذي شدّد على "بناء المؤسّسات" و"الحوكمة الجيّدة"، مع هذه السياسات الهادفة إلى دعم المبادئ الأساسيّة للتكيّف الهيكلي. وإذا أمكن تطبيق ترتيبات الحوكمة الملائمة التي تضمن معاملات سلسة وفعّالة في السوق، وإذا كانت تلك مدعومة بترتيبات الاقتصاد الكلّيّ الليبرالية التي شجّعت الاستثمار الخاص، والتجارة، والخصخصة، والتقشّف مع الدفاع عن الملكيّة الخاصّة، يمكن في نهاية المطاف تحقيق النموّ والتنمية.

منذ التوقيع على اتفاقيّات أوسلو عام 1993، أدّت المؤسّسات الماليّة الدوليّة دوراً مركزيّاً إنّما غير معترفٍ به إلى حدّ كبير في عمليّة السلام الفلسطينيّة-الإسرائيليّة.النيوليبرالية والعدالة الاجتماعيّة

إذا كان الأساس النظريّ لوصفات البنك الدولي السياسيّة يستند إلى الأجندة النيوليبرالية، التي تستند بدورها إلى الاقتصادات الكلاسيكيّة الجديدة، مدموجة بفرعٍ في الاقتصاد يُعرَف بـ "الاقتصاد المؤسّساتي الجديد" (الذي ساهم في إطار عمل "الحوكمة الجيّدة")، ومن الجدير استكشاف المزيد بشأن هذه الأسس النظريّة لفهم كيفيّة التعامل بوضوح مع المسائل الاجتماعيّة.

في حين تطوّرت الأبعاد النظريّة كما التطبيقيّة للنيوليبراليّة على مرّ السنين، تبقى مجموعة جوهريّة من التكهّنات والافتراضات الأساسية متّسقة دوماً. وهذه الأفكار الجوهريّة هي التي تضفي على النيوليبراليّة طابعها المثالي، إذ إنّها تفترض أشكالاً متشدّدة وأدواتيّة.

يصف عالم الاقتصاد هاورد شتاين خمسة عناصر فرعيّة تأسيسيّة صغرى يُفترَض صراحة أو ضمنيّاً توافرها في كلّ نظريّة كلاسيكيّة جديدة ألا وهي:

- أنّ الانسان فردٌ يقوم بحساباتٍ عقلانيّة ويسعى بطبيعته إلى تحقيق المنفعة الأكبر لنفسه (كائن اقتصادي)،

- أنّ خيارات المرء تُحدَّد فرديّاً، وتهدف إلى تعظيم الذات (الفرديّة المنهجيّة)،

- الأسواق تطهّر نفسها لبلوغ "أمثلية باريتو" – وضعٌ حيث لا يمكن لأحد أن يكون أفضل حالاً من دون أن يضرّ بشخصٍ آخر" – (قبول التوازن كحالة طبيعيّة)،

- يُحدّد سلوك العميل مسبقاً من خلال مجموعة محدّدة من القواعد (التفكير الاستنباطي العقلاني) و،

- ينطلق سلوك العميل تلقائيّاً من مجموعة من مؤشّرات السوق (التفكير البديهي) (شتاين، عام 2008، ص. 60-61).

من هذه العناصر التأسيسيّة الجوهريّة الصغرى، تُوضع مجموعة من الافتراضات الملموسة المرتبطة بطبيعة الأسواق، والسلع، والمعاملات، والأسعار. باختصار، تحمل هذه الافتراضات معها مفاهيم مثاليّة مشابهة عن الفعاليّة المُثلى، والتفاعل العفوي والتعاملات، والعمى حيال الاختلافات في قوّة العملاء في ظلّ شروط السوق الحرّة "البحتة".

من هذه المفاهيم الجماعيّة، تبدأ الوصفات السياسيّة العامّة والتحيّزات بالبروز بهدف إرساء الظروف المثاليّة لحدوث التراكم. ويشمل ذلك الحاجة إلى عدم تدخّل الحكومات في أداء الأسواق، والحاجة إلى إزالة التنظيمات التي تعيق تراكم الأرباح وتولّد "تشوهّات في الأسعار"، وبخاصةٍّ في ما يتعلّق بالتجارة، والحاجة إلى خصخصة المؤسّسات التي تملكها الدولة، ممّا يعزّز، كما يُقال، الكفاءة والحاجة إلى خفض الرعاية الاجتماعيّة الحكوميّة وتقديم الخدمات كي يتمكّن القطاع الخاصّ من ملء هذه الأدوار، فيظهر التوازن "بطبيعة الحال". إذا لبّت الأسواق بدلاً من الحكومات المجموعة الكاملة من احتياجات الإنسان، يتلاشى الشرط الأساسي لمعظم الممارسات السياسيّة وصنع القرار. تُقسَّم المسائل السياسيّة والحاجات الاجتماعيّة إلى مسائل صغرى يمكن تسليعها ومعالجتها تقنياً من خلال مخصّصات السوق. فتصبح الحريّة عبارة عن القدرة على اتخاذ قرار فردي يُطبَّق في السوق من خلال القدرة على الشراء أو البيع، عوضاً من أن تجسّد مفهوماً مرتبطاً بأشكال الظلم الهيكلي والحقوق الفرديّة أو الجماعيّة، فتصبح قضايا العدالة الاجتماعيّة محصورة بالمسائل المرتبطة بوكالة الإنسان عن نفسه، والولوج إلى الأسواق، والقدرة الاستهلاكيّة. وتصبح أساليب الحماية الاجتماعيّة مؤطّرة باعتبارها "التزامات" لا حقوقاً، فيما تمحو العمليّة بكاملها أبعاد التقسيم الطبقيّ والسلطة.

في حين أنّ النقد الأدبي لهذه الجدالات مُسهَب، من المهمّ البدء بتحديد الانتقادات الموضوعيّة واسعة النطاق التي تنبع من النظريّة نفسها.

وبحسب عالم الاقتصاد الماركسي دايفيد هارفي، لطالما كان للنيوليبرالية هويّة مزدوجة:

يمكننا بالتالي تفسير النيوليبرالية إما باعتبارها مشروعاً مثالياً يهدف إلى تحقيق مخطّطٍ نظريّ من أجل إعادة تنظيم الرأسماليّة الدوليّة، أو مشروعاً سياسيّاً يهدف إلى إعادة توطيد الشروط الملائمة لتراكم رأس المال واستعادة سلطة النخب الاقتصاديّة (هارفي، عام 2005، ص. 19).

بنظر هارفي، إنّ التأكيد (السياسي) الأخير على السلطة الطبقيّة هو الذي يكمن حقيقة وراء العمليّات الليبراليّة بطابعها النظري المثالي وهو بمثابة "نظامٍ لتبرير وتشريع كلّ ما ينبغي القيام به من أجل تحقيق هذا الهدف (المرجع نفسه، ص. 19). وهو يذهب إلى أبعد من ذلك مؤكّداً أنّه: "عندما تصطدم المبادئ النيوليبرالية بالحاجة إلى استعادة سلطة النخبة أو الحفاظ عليها، فإمّا أن يتمّ التخلّي عن هذه المبادئ وإمّا أن تصبح ملتوية جداً لدرجة أنّه يصبح من الصعب التعرّف عليها".

كذلك، تنعكس ملاحظة هارفي بشأن طابع النيوليبراليّة المزدوج من خلال التناقضات والتوتّر الذي يكمن بين نظريّة النيوليبراليّة والبراغماتيّة الفعليّة الناجمة عن إرساء النيوليبراليّة كما هي مطبّقة من خلال منظّمات بريتون وودز.

ممّا لا شكّ فيه أنّ النيوليبراليّة قد اتجهت نحو إنتاج كوكبة من المشاكل في طور تنفيذها بما في ذلك زيادة في تركّز الثروة وعدم المساواة فيها، والزيادة في البطالة والبطالة الجزئيّة، والأجور الراكدة، وتراجع قوّة العمل المنظّم، وتزايد الجرائم، ورجال الشرطة، والسجون، والتشرّد والتسوّل، تآكل الحريّات المدنيّة، وتجريد الشركات الصغيرة والمزارعين من حقوقهم، وازدياد الهجرة، وأشكال العصيان المسلّح والمقاومة، وتدمير العمليّات الديمقراطيّة، والانخفاض المقلق في أشكال التضامن الاجتماعي (مقتبس عن لوني، عام 2003).

النيوليبراليّة تفترض أنّ أسس الاقتصاد الكلّي (المثاليّة) الخاصّة بها خالية من أيّ صبغة سياسيّة، وترتكز حصراً على رغبتها في إنتاج الكفاءة، والمساواة في الفرص والثروة، مع الحفاظ على "الحريات" في آن.

باختصار، ما من شيء موضوعي، أو غير شخصي، أو علمي أو لا سياسي بشأن نظامٍ سوقي يحمي حقوق الملكيّة الخاصة، مع كون هذه المسائل محدّدة سياسيّاً وتاريخيّاً بدقّة كبيرة، ومع وجود مسائل متعلّقة بالنفوذ السياسي والطبقي كامنة في صلب تحديدها. يذهب تشانغ (عام 2000) إلى أبعد من ذلك معتبراً أنّ "عقلانيّة" السوق التي يحاول النيوليبراليّون حمايتها من خلال تركيزهم على اقتصادٍ غير مسيّس ونظامٍ اجتماعي "هي في الواقع كناية عن ديمقراطية مخصيّة"، و"ليست منطقيّة إلّا في ما يتعلّق ببنية الحقوق/ الواجبات التي تقوم عليها، والتي هي في الأساس بنية سياسيّة".



النيوليبرالية كتعبير ملطّف

يستحقّ الطابع "التلطيفي" للنيوليبراليّة، ولمجمل سياسات البنك الدولي أن يتمّ التشديد عليه هنا، لأنّه موضوعٌ متكرّر في الأدب النقدي وعلى أرض الواقع عند تقييم العوامل الاقتصاديّة والسياسيّة في نهاية المطاف.

باتت إعادة تأطير المواضيع السياسيّة التقليديّة مثال إدارة القطاع العام، والمحاسبة، وشفافية القطاع العام، وأطر العمل القانونيّة، والفساد، والإنفاق العسكري، وطرحها كمسائل تقنيّة من قبل منظّمات بريتون وودز أكثر تعقيداً إذ إنّه في ظلّ المنطق النيوليبرالي، يُترجَم قدرٌ كبير من التطبيق العمليّ للتنمية ويُدار بقبضة القطاع الخاص. في هذا السياق، تحتاج مركزيّة القطاع الخاص باعتباره المحرّك الرئيسي للتغيير في نموذج التنمية النيوليبرالي إلى أن تُطرَح كإشكاليّة من الناحية النظريّة والتطبيقيّة، فمن هنا تنشأ الديناميكيّات الاجتماعيّة والسياسيّة التغييريّة.

يتطرّق سمير أمين (عام 2012) إلى الطابع المفهومي لهذه المركزيّة، من خلال تفسيره لهذا الميل النيوليبرالي ("النموّ الذي يقوده القطاع الخاص")، مشيراً إلى أنّه "[في ظل النيوليبراليّة] ينبغي أن تدير الشركات الخاصة الاقتصاد إذ إنها وحدها تتصرّف بشكلٍ طبيعي كوكيلة تعمل بموجب متطلّبات المنافسة المفتوحة". ما يعنيه ضمنيّاً أنّ منطق تنافسيّة السوق وجني الأرباح هو في الواقع منطق مختلف تماماً عن المنطق الذي يتبنّى أو يدمج مفاهيم أخرى كجزء من حساباته ــــــ مثال، منطق تقرير المصير الوطني، والحركات التي تدافع عن الحقوق السياسيّة والنضالات من أجل العدالة الاجتماعيّة. باختصار، إنّ الترتيبات الجماعيّة التي كانت ممكنة تاريخيّاً من خلال أشكال النضال الجماعي والتضامن وحسب قد تمّت تصفيتها عن طريق الممارسات الفرديّة النيوليبراليّة، مع اعتبار هذه العمليّة وبشكلٍ مثير للسخرية ضروريّة من أجل منع "الإكراه"، وفي وقتٍ لاحق، "القضاء على الفساد".

من خلال تأطير المسائل السياسيّة والاجتماعيّة بأساليب إنسانيّة وتقنيّة ولا سياسيّة، ثمّ تخصيص هذه الوظائف لقوى السوق، يُنزَع فتيل هذه القضايا بفعل أنّها محكومة ومسيّرة الآن بحسب منطق جني الربح الخاصّ وذلك على الطرف النقيض من الاحتياجات والهواجس المرتبطة بالتحرير الوطني وحقّ تقرير المصير والعدالة الاجتماعيّة. بهذه الطريقة، تُقسَّم المسائل المتعلّقة بالحقوق السياسيّة وتُغيَّب، فيتلاشى التأثير المُخثِّر للحقوق الجماعيّة والنضال، وتتشكّل طبقات جديدة – نخبويّة ومحرومة على حدّ سواء.

بهذه الطريقة، تعيد الأجندة التنمويّة النيوليبراليّة تحديد "قواعد" المنافسة بين المحليّة، راسمة "المقاييس عينها التي تُقاس استناداً إليها التنافسيّة الإقليميّة، أو السياسة العامّة، أو أداء الشركات، أو الإنتاجيّة الاجتماعيّة" (بيك وتيكل، عام 2002). يُعاد تشكيل العلاقات الاجتماعيّة "على شكل قراءة صارمة لمتطلّبات السوق التنافسيّة" ممّا يؤدّي إلى تمايز اجتماعي وسياسي، وتجزئة وشذوذ.



النيوليبراليّة والعالم العربي

تتضاعف مشاكل تبنّي المنطق النيوليبرالي في الأطر غير الديمقراطيّة، أو ما بعد الاستعماريّة، أو الاستعماريّة.

تجذب أعمال تيموثي ميتشيل الانتباه إلى كيفية تأثير الوصفات السياسيّة النيوليبراليّة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي على مناطق كالشرق الأوسط بشكلٍ خاص، وذلك تحديداً لأنّ تركيبة السلطة الاقتصاديّة والسياسيّة متشابكة بشكلٍ وثيق. وبحسب ميتشيل، تربك سياسات المؤسّسات الماليّة الدوليّة والحكومات الغربيّة وإرشاداتهما وممارساتهما "حلقة ريع" القطاع الخاصّ وعلاقتهما بالنخب العسكريّة والسياسيّة وتتجاهلها. من الناحية العمليّة، الإصلاح الاقتصاديّ للسوق الحرّة هو في الواقع أشبه بـ "تعديل معقّد للشبكات التي تربط وتدمج مجموعة متنوّعة من الأصول العقاريّة، والصلاحيّات القانونيّة، ومصادر المعلومات وتدفّقات الدخل"، لصالح النخب. (ميتشيل، عام 2002، ص. 281). ويساهم ذلك في رأس المال والتشكيلات الاجتماعيّة النيو-بطريركيّة المرتبطة به التي تلتمس سبلاً لتدوير الأرباح السريعة، مع تركيز الاقتصادات على قطاعاتٍ كالسياحة، والعقارات، والأطعمة والمشروبات – ضربٌ من التنمية شبيه بـ"رأسماليّة الكازينو" (ستراينج، عام 1986).

تجدر الإشارة إلى أنّه وبخاصةٍ في مناطق كالشرق الأوسط حيث صمّمت الدولة عن عمد طبيعة العقد الاجتماعي الموجود بغية تحقيق التوازن والتعويض عن طبيعة الأنظمة غير الديمقراطيّة، يفتح إطلاق العنان للممارسات النيوليبراليّة الباب أمام ممارساتٍ واسعة النطاق لما يسمّيه هارفي "التراكم بنزع الحيازة" (هارفي، عام 2003؛ عام 2006). ويمثّل التراكم بنزع الحيازة مفهوم هارفي للأنماط الماركسيّة التقليديّة للتراكم "البدائيّ" أو "الأصليّ" التي تكيّفت مع أنماط الرأسماليّة المعاصرة المتطوّرة. بالتالي فإنّ تسليع الأصول العامّة، والموارد واليد العاملة وخصخصتها، وإضفاء الطابع النقدي على التبادل، وفرض الضرائب، وتعزيز نظام الائتمان، و"إضفاء الطابع المالي"، تندرج ضمن هذه الوسائل كتطبيقٍ للممارسة النيوليبراليّة المعاصرة. وبذلك فإنّ التركيبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وحتى السياسيّة القائمة مقموعة بشدّة أو مختارة من أجل تهيئة ميادين جديدة للتطوّر الرأسمالي واستغلالها ودمجها في عمليّة تراكم رأس المال. هنا تؤدّي الدولة دوراً تأديبيّاً وتنظيميّاً ومؤسساتياً حاسماً، يدعمه "احتكارها العنف وتعريفها للشرعيّة" (هارفي، عام 2003، ص. 145).

يصف تحليل هارفي عمليّة قسريّة بشكلٍ خاصّ، وجشعة وحتى مثيرة للسخرية لتراكم رأس المال في ظلّ النيوليبراليّة. الأشكال الثقافيّة والتواريخ والإبداع الفكري جميعها خاضعة للتسليع ونزع الحيازة مع تطبيق موجاتٍ جديدة من "تسييج المشاعات". وبذلك، تراجعت الإنجازات السابقة للنضال الشعبي وتفكّكت لصالح الربح من خلال رفع القيود التنظيميّة والخصخصة. (المرجع نفسه، ص. 136).


Post: #28
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-22-2017, 06:14 PM
Parent: #27

يسارية

تعبير عن الطبقات الثلاث في المجتمع الفرنسى قبل الثورة الفرنسية رجال الدين و النبلاء و عامة الشعب او اليسار حامل العبء الرئيسي
اليسارية عبارة عن مصطلح يمثل تيارا فكريا و سياسيا يتراوح من الليبرالية و الإشتراكية إلى الشيوعية مرورا بالديمقراطية الإجتماعية و الليبرالية الإشتراكية . يرجع اصل هذا المصطلح إلى الثورة الفرنسية عندما جلس النواب الليبراليون الممثلون لطبقة العامة او الشعب على يسار الملك لويس السادس عشر في إجتماع لممثلي الطبقات الثلاث للشعب الفرنسي عام 1789 وكان النواب الممثلون لطبقة النبلاء ورجال الدين على يمين الملك في ذلك الإجتماع المهم الذي ادى إلى سلسلة من الإضرابات والمطالبات من قبل عامة الشعب وإنتهى إلى قيام الثورة الفرنسية. من الجدير بالذكر ان هذا الترتيب في الجلوس لايزال متبعا إلى هذا اليوم في البرلمان الفرنسي.

بمرور الوقت تغير و تعقد وتشعب إستعمالات مصطلح اليسارية بحيث اصبح من الصعوبة بل من المستحيل إستعمالها كمصطلح موحد لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مضلة اليسارية ، فاليسارية في الغرب تشير إلى الإشتراكية او الديمقراطية الإجتماعية (في اوروبا) و الليبرالية (في الولايات المتحدة) ، من جهة اخرى فإن اليسارية في الأنظمة الشيوعية تطلق على الحركات التي لاتتبع المسار المركزي للحزب الشيوعي وتطالب بالديمقراطية في جميع مجالات الحياة. هناك مصطلح آخر ضمن السياق العام لليسارية وتسمى اللاسلطوية والتي يمكن إعتبارها بأقصى اليسار او اليسارية الراديكالية .

هناك جدل بين اليساريين انفسهم حول معنى اليساري فالبعض يرفض رفضا قاطعا اي صلة بالماركسية و الشيوعية و اللاسلطوية بينما يرى البعض الآخر ان اليساري الحقيقي يجب ان يكون شيوعيا او اشتراكيا, بصورة عامة يختلف اليسار السياسي عن اليمين بتبنيها للحريات الشخصية والعلمانية والعدالة الإجتماعية وفي معظم دول الشرق الأوسط تاتي اليسارية مرادفة للعلمانية علما ان بعض الحركات اليسارية التاريخية كانت تتبنى المعتقدات الدينية ومن ابرزها حركة إنهاء التمييز العنصري في الولايات المتحدة على يد القس مارتن لوثر كنج .
في فترة حكم أسرة ڤالوا Valois Dynasty في فرنسا والتي إمتدت من 1328 إلى 1589 والعائلة المالكة التي تلتهم، عائلة بوربون (1589 - 1792) شهدت فرنسا نظاما إقطاعيا وسلطة مطلقة للملك بمباركة الكنيسة وكان الشعب مقسما إلى 3 طبقات رئيسية ليست في فرنسا وحدها بل ي معظم اوروبا.:

طبقة الملك و رجال الدين وكانوا بمثابة الرقيب الأخلاقي ومدراء المدارس و المستشفيات وكانوا يجمعون ضرائب قدرها 10% ويملكون 15% من ارض فرنسا وكان هناك تقسيمات طبقية ثانوية بين رجال الدين انفسهم ، بحلول عام 1789 وصل عدد افراد هذه الطبقة إلى 100,000 .
طبقة النبلاء وكانوا إقطاعيين معفيين من دفع الضرائب ويحق لهم الصيد و حمل السيف وكانوا قادة الجيش و مستشاري الملك وكان هناك ايضا ترتيبات طبقية ثانوية في هذه الطبقة بحول عام 1789 كان هناك مايقارب 14,000 شخصا من هذه الطبقة ولم تكن هذه الطبقة مغلقة بصورة كاملة فكان لقب النبيل يمنح من قبل الملك كمكافأة لخدماتهم او بواسطة شراء اراضي او قلاع.
طبقة العامة الغير ارستقراطيين الذين لم يكونوا رجال دين او نبلاء وكان هذه الطبقة يشمل ايضاالطبقة المتوسطة البرجوازيين الذين بدورهم كانوا طبقة واقعة بين النبلاء و البروليتاريا ، هذه الطبقة كانت تكون 98% من الشعب الفرنسي
كانت هذه الطبقات الثلاثة تجتمع بين حين وآخر في إجتماعات كان الغرض الرئيسي منها محاولة الملك التقارب من الطبقة الإقطاعية وحل الإشكالات او الصعوبات التي كانت تواجه سلطة الملك بسبب طبيعة النظام الإقطاعي وحق النبلاء في فرض ضرائب لا علاقة لها بضرائب الملك ورجال الدين ولم يكن هذه الإجتماعات باي شكل مشابها للبرلمانات في الوقت الحاضر ومن المفارقات التاريخية ان ممثل طبقة العامة فقط كان يتم إختياره بنوع من التصويت او الإجماع .

كان أفراد الطبقة المتوسطة في معظمهم متعلمين الحال، وبدءوا يشعرون بعدم الرضا عن المكانة الدنيا التي يحتلونها بالقياس إلى طبقة النبلاء، وأصحاب المقام الرفيع في الكنيسة. فكان تذمرهم وتمردهم على هذه الأوضاع من العوامل التي أشعلت فتيل الثورة بالتحالف مع العامة أو من يسمونهم بالطبقة الثالثة التي كانت ترزح في أوضاع سيئة في ظل النظام الإقطاعي السائد آنذاك . بعد أن ساءت الأحوال الاقتصادية، وزادت الضرائب المفروضة قرر الملك لويس السادس عشر عقد مجلس الطبقات في 5 مايو 1789 وكان امل الملك ان يحصل على اغلبية الأصوات من طبقتي النبلاء و رجال الدين كما جرت العادة في السابق ليتحمل أبناء الطبقة الثالثة –الشعب- بتحمل عبء الضرائب المفروضة.

جلس النواب الليبراليون الممثلون لطبقة العامة او الشعب على يسار الملك لويس السادس عشر في إجتماع ممثلي الطبقات الثلاث للشعب الفرنسي عام 1789 وكان النواب الممثلون لطبقة النبلاء ورجال الدين على يمين الملك في ذلك الإجتماع ، ولكن أبناء هذه الطبقة في هذه المرة طالبوا بأن يكون التصويت في المجلس طبقًا لعدد الأعضاء لا طبقًا للطبقة، ثم طالبوا بأن يكون للمجلس السلطة في تنفيذ المشاريع وقبل ذلك كان المجلس يجتمع ويعرض الملك عليه آراءه ثم ينصرف أعضاؤه إلى مدنهم قانعين ولكن هذا المجلس طالب بأن المسائل التي تعرض عليهم يجب تنفيذها وألا يُفضّ المجلس بل يبقى بجانب الملك. أصر نواب العامة على تنفيذ مطالبهم التي رفضها الملك؛ فأضربوا عن دفع الضرائب، وكلما مر الوقت ازداد رجال العامة قوة بمن ينضم إليهم من أشراف ورجال الدين، وكلما زادت قوتهم تشددوا في مطالبهم.

في ذلك الوقت يظهر بين طبقة العامة نائب يدعى ايمانويل جوزيف سييس (1748 - 1836) وأعلن أنه إذا رفضت طبقة الأشراف ورجال الدين الانضمام إليهم فسيعلنون أنفسهم نوابًا للشعب ويطلقون على أنفسهم الجمعية الوطنية ولكن الملك لم يوافق وأصر نواب العامة على مطلبهم فاضطر الملك مرغمًا إلى الموافقة ، ورأى رجال الجمعية الوطنية أن يضعوا دستورًا للدولة وتوالت بعد ذلك الأحداث حتى نجح الثوار في إسقاط سجن الباستيل في 14 يوليو 1789 وبسقوطه زادت قوة الثوار حتى أصدروا الدستور الجديد الذي اتخذ من الحرية والإخاء والمساواة قواعد انطلق منها إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26 أغسطس 1789 ثم إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية في 22 سبتمبر 1792 .

اليسارية في العصر الحديث

الاتجاهات اليسارية تقوم في مجملها على أساس افتراض أن الملكية الخاصة شر اجتماعي، وأن تراكم الثروات الشخصية خطر أخلاقي، يتعين التقليل منه إلى أدنى حد وبأسرع ما يمكن، لذلك يجب صوغ الحياة الاقتصادية في إطار البعد الاجتماعي المتناسب معها، وذلك عن طريق التخطيط العقلاني الذي تنهض به الدولة ذاتها مما ينظم في النهاية المدخلات والمخرجات الاقتصادية، ويحقق فرضية العمالة الكاملة.

ويمكن تمييز اتجاهين واضحين لليسارية، حيث توجد اليسارية الثورية التي تمثل اليسار المتطرف من جهة، واليسارية الوسطى التي تمثل اليسار المعتدل من جهة أخرى، ويلاحظ أن اليسارية الثورية تنادي بالقضاء على الديمقراطية بصورتها البرجوازية[ر]، حيث تعدّها ضرباً من الزيف بحسبان أن الحقوق الديمقراطية لا تتوافر لكل فرد، إنما هي متاحة للقلة المتميزة فقط، ومن ثم فإنه لا يمكن إنجاز تعميم شامل للامتيازات الديمقراطية داخل المجتمع الرأسمالي. وإضافة إلى ما تقدم فإن اليساريين الثوريين لا يؤمنون بالإصلاح منهجاً وطريقاً لتغيير البنى الاجتماعية القائمة، بل ينظرون إلى الإصلاح على أنه نوع من المسكنات التي تقف عائقاً دون تحقيق النقلات الاجتماعية.

أما اليسارية المعتدلة فتلائم البعد الاشتراكي مع الحقوق الديمقراطية المعترف بها في كل المجتمع الرأسمالي، وذلك انطلاقاً من أن التحولات العضوية المهمة لايمكن أن تكون إلا على نحو ديمقراطي، ومن ثم مقبولة من غالبية الشعب، ومن ضرورة إعطاء الحقوق الديمقراطية القائمة للأفراد بعداً اجتماعياً، وبذلك فإنها تؤمن بالإصلاح والتعديلات الاجتماعية الاقتصادية الجزئية والتدريجية منهجاً وطريقاً.

ويلاحظ أن الأفكار اليسارية - ولاسيما المعتدلة منها- أثمرت فكرة دولة الرفاه welfare state التي تقوم على أساس تدخل الدولة في الاقتصاد وفي الحياة الاجتماعية وذلك في سبيل خلق تلاحم اجتماعي عن طريق خلق طائفة من الحقوق الاجتماعية للأفراد تتكفل الدولة بحفظها، ومن ثم فإن تدخل الدولة في الاقتصاد من شأنه أن يوجد توازناً اقتصادياً من حيث رأس المال المطروح في السوق وتوازناً في سوق العمل، كما أن تدخل الدولة في ضمان الحقوق الاجتماعية للأفراد من شأنه أن يساعد على خلق حالة ديمقراطية حقيقية. وقد تعرضت فكرة دولة الرفاه لكثير من الانتقاد في السنوات الأخيرة، ولاسيما من حيث حجم الإنفاق الذي تقوم به الدولة، إضافة إلى أن الرفاه الذي تقدمه الدولة إلى مواطنيها قد خلق نوعاً من التواكلية الاجتماعية، أدت إلى مظاهر اجتماعية سلبية، يأتي على رأسها التفكك الأسري.

شهد مصطلح اليسارية تغيرات هائلة منذ ان تم إستخدامها لأول مرة في فرنسا للتعبير عن التيار المعارض للأرستقراطية ورجالات الدين حيث ان إستعمال المصطلح في الوقت الحاضر مختلف عن الإستعمال الأصلي . بالرغم من شيوع إستعمال مصطلح اليسارية لكنه لايوجد إجماع على التعريف الدقيق لليسار واليمين السياسي ولكن هناك العديد من الآراء المختلفة عن ماهية اليسار السياسي ومنها:

النتيجة العادلة تمثل سياسة اليمين بينما الوسيلة العادلة تمثل سياسة اليسار ومن الأمثلة هنا إعتبار اليمين نشر الديمقراطية (نتيجة عادلة) بإستعمال القوة او الإحتلال (وسيلة غير عادلة) امرا مقبولا بينما يصر اليسار على إتباع الوسائل العادلة لتحقيق الغايات العادلة
رفض عدم المساواة الناتجة من التجارة و السوق الحرة هي سياسة اليسار وإعتبار الفرق في الثروة الناتجة من التجارة الحرة امرا مقبولا هي قناعة اليمين
المركزية والهيمنة و الحكومة الكبيرة الحجم هي اليسار السياسي بينما يفضل اليمين عدم تدخل الحكومة المركزية في كل صغيرة و كبيرة ويفضل اليمين إعتماد المدن او المحافظات او المقاطعات او الولايات على نفسها
التركيز على المساواة هي اليسار والتركيز على الحرية هي اليمين.
الحكومة العلمانية هي اليسار و الحكومة الدينية هي اليمين .
سياسة التشجيع على الفردية هي اليمين و إعتبار الإنتماء إلى المجتمع هي الأولوية تعبر سياسة يسارية
تجربة الجديد هي اليسار و محاولة الحفاظ على ماهو تقليدي هي سياسة اليمين.
مبدأ كون القانون هو الذي يحدد ثقافة وطبيعة مجتمع ما عبارة عن فلسفة يسارية بينما إعتبار ثقافة و عرف وتقاليد مجتمع عوامل رئيسية في صياغة القانون هي فلسفة يمينية
اليسار اقرب إلى الدبلوماسية بينما اليمين اقرب إلى الحل العسكري.
قضايا اليسار
كاريكاتير يساري يصور الفجوة بين الدول الصناعية والعالم الثالث بسبب العولمة
كان اليسار منذ الثورة الفرنسية ومرورا بالثورة الصناعية معارضا لتمركز القوة و الثروة في طبقة معينة من طبقات المجتمع وكان اليسار يحاول القضاء على اللامساواة عن طريق تشجيع الديمقراطية و إصلاحات في مجال ملكية الأراضي وبدأ اليسار تدريجيا بتبني قضايا الطبقة العاملة في المصانع من ضمانات إجتماعية وإنشاء نقابات للعمال وتدريجيا تبنى اليسار مواقف مناهضة للإمبريالية ومؤخرا بدأ اليسار نشاطاته في معارضة العولمة

بعد صدور نظرية التطور لعالم التاريخ الطبيعي تشارلز داروين ساند اليسار و بقوة هذه النظريات بل نشأ تيار يساري بإسم الداروينية و الداروينية الإجتماعية في القرن العشرين ومع تصاعد وتيرة الحركات المناهضة للتمييز العنصري تبنى اليسار قضايا الإجحاف بسبب العرق و الجنس و الدين فقام اليسار بالتحالف مع بعض التيارات الدينية لهذه الأغراض مثل حركة مارتن لوثر كنج وحركات ليست ذات طابع ديني مثل الحركات المطالبة بحقوق المرأة.

في الستينيات ظهر تيار يساري جديد تم إعتباره بأقصى اليسار او اليسارية الراديكالية او اليسار الجديد والتي إختلفت عن اليسارية التقليدية بتوجيه إهتمامها نحو قضايا إجتماعية تعدت حدود كونها قضية دفاع لفئة معينة وبدأ العديد من اليساريين الجدد نشاطا ملحوظا في مجال حقوق الإنسان و حقوق الحيوان و حماية البيئة وحرية الرأي والتعبير وحقوق المثليين و التوجه الجنسي ومعارضة رهاب المثلية وغيرها من القضايا التي إتخذت ابعادا اكثر شمولية من اليسارية التقليدية .

في مرحلة ما بعد الحداثة بدأ اليسار يبتعد تدريجيا عن النظريات الماركسية و الأممية ولا تقبل التحليلات والتفسيرات الشمولية التي تبنتها الشيوعية وبدأ توجه جديد لليسارية بالتركيز على خصوصية وتركيبة المجتمع الذي نشأ فيه التيار اليساري وإعتبرت هذه الوسيلة اكثر واقعية و نفعا من الإسلوب اليساري القديم في محاولة نسف كامل وإعادة بناء كامل للمجتمع

من ناحية الحروب فإن اليسار عارض اللجوء إلى الحل العسكري ومن المفارقات التاريخية ان معارضة الحرب من قبل اليسار إتخذت طابعا عنيفا في بعض الأحيان ومن الأمثلة التقليدية هي الثورة الروسية عام 1917 و الثورة البلشفية التي كانت بداياتها تعود إلى معارضة الحرب العالمية الأولى ويرى البعض ان الحرب العالمية الثانية و الحرب الأهلية الإسبانية كانت تمثل حربا بين اليمين (الفاشية) واليسار (الديمقراطية) عارض اليسار بقوة تدخل الولايات المتحدة في حرب فيتنام وفي غزو العراق 2003 لوحظ ظاهرة غريبة وهي تحالف اليسار المتمثل بحزب العمال البريطاني وزعامة توني بلير مع اليمين المتمثل بالحزب الجمهوري الأمريكي المتمثلة بإدارة جورج دبليو بوش وحتى الحزب الشيوعي العراقي الذي يمثل اليسار شارك في العملية السياسية بعد سقوط نظام حزب البعث في العراق ولكنها في نفس الوقت عارضت الحل العسكري.

اليسارية و الشيوعية

يعتبر الكثيرين النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق و الصين اثناء حكم ماو تسي تونغ تيارات يسارية ولكن هناك فروقات كبيرة بين الشيوعية و الحركات اليسارية الأخرى ومعظم اليساريين يرفظون اي صلة بالشيوعية بسب الشمولية (سياسة الشمولية) التي كانت موجودة في نظام الحكم في الاتحاد السوفيتي و الصين والتي إعتبرها اليمين سياسة قمعية ، إستنادا إلى الفيلسوف كارل بوبر فإنه يجب إعتبار الشيوعية حالة خاصة ويجب تحليلها بمعزل عن اليسار السياسي وهناك من بين الشيوعيين من إعتبر السياسة الشمولية القمعية لا صلة لها بالشيوعية وإنها كانت فقط معبرة عن أفكار جوزيف ستالين وتياره المسمى بالستالينية حيث إعتبر ليون تروتسكي الستالينية خروجا و خيانة لمبادئ الشيوعية وسمي هذا التيار بالتروتسكية .

كان الكثير من الحركات اليسارية في اوروبا تعارض مبدأ التسلط الشمولي في الاتحاد السوفيتي ومن اشهر المعارضين اليساريين الأوروبيين للشمولية كان حزب العمال البريطاني و الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني و الحزب الإشتراكي الفرنسي وفي الولايات المتحدة عارض اليسار المتمثل بالحزب الديمقراطي الأمريكي بشدة اسلوب الحكم في الاتحاد السوفيتي وخاصة اثناء الحرب الباردة . مؤخرا طرأت تغيرات على الصين حيث تحولت من دولة شيوعية تقليدية إلى تيار اقرب إلى اليمين وبرز يساريون جدد في الصين مرحبين بمرحلة ما بعد الحداثة والتركيز على خصوصية الصين الثقافية و التاريخية

اليسارية و الدين

لكون اليسار نشأ كرد فعل على هيمنة الكنيسة على صنع القرار السياسي في القرون الوسطى في اوروبا فقد كان اليسار منذ بداياته معارضا لتدخل الدين في الشؤون السياسية وعندما برزت نظريات تشارلز داروين على السطح قام اليسار بدعمها بقوة بل كان البعض مقتنعا بان قانون الإنتقاء الطبيعي في علم الأحياء و الوراثة يمكن تطبيقه حرفيا على المجتمعات و علم الإجتماع فصراع التيارات الفكرية المختلفة يحسمه القوة العددية للمؤمنين بالفكرة وإن الأقوياء في المجتمع يعتبرون الطبقات الفقيرة عالة وعقبة في الطريق مما يؤدي إلى إستغلال وقمع اكثر وإن قانون البقاء للأصلح يستعمل حرفيا من قبل بعض الأعراق التي تعتبر نفسها فوق مستوى اعراق اخرى مما يؤدي إلى إباحة العبودية و الظلم الإجتماعي من القضايا المثيرة للجدل والتي لها ابعاد دينية ولاتزال محل خلاف بين اليمين و اليسار السياسي هي قضايا عقوبة الإعدام ومبدأ العين بالعين التي يعارضها اليسار بشدة بينما يعتبره اليمين مقبولا وقضية الإجهاض التي يرفضها اليمين رفضا قاطعا بينما يعتبره اليسار مقبولا

واجه هذه النظرة التقليدية إلى دور الدين والتوجه نحو العلمانية عقبات عديدة في كل البلدان العربية من دون استثناء ويرجع سبب ذلك حسب إعتقاد البعض ان الدين يلعب دورا محوريا في حياة وروح وثقافات واذهان اغلبية الشعوب العربية ويورد البعض حالات نجاح نادرة للتيارات اليسارية في العالم العربي كما حدث مع الحزب الشيوعي العراقي في الخمسينيات و الستينيات و الحزب الشيوعي السوداني وحسب الإعتقاد السائد ان السبب الرئيسي في شعبية تلك الأحزاب في السابق كان محاولاتها على احترام مشاعر الجماهير الدينية وعدم التعالي على مناسباتها ومعتقداتها وثقافاتها الدينية و محاولتها الإقتراب من مشاعر الناس وامزجتها الدينية

الإنتقادات الموجهة لليسار

هناك العديد من الإنتقادات التي يوجهها اليمين إلى اليسار ومن ابرزها

فشل الحركات اليسارية في تطبيقها للديمقراطية عند إستلامها مقاليد الحكم في الاتحاد السوفيتي و الصين و اوروبا الشرقية والشرق الأوسط.
بالرغم من مطالبة اليسار بتحسين ظروف العمل و الضمان الإجتماعي فإن الأنظمة اليسارية بإستثناء بعض الدول الأوروبية وخاصة الإسكندنافية لم تتمكن من توفير ضمانات قدمها اليمين للعمال والفقراء والغير قادرين على العمل.
توجه اليسار نحو الوسط او في بعض الأحيان نحو اليمين وخاصة في مرحلة ما بعد الحداثة هو دليل على فشل اليسار نظرية و تطبيقا.
إعتماد الفكر اليساري على الإنتقائية او التعتيم على وجهات النظر المخالفة كوسيلة لنشر افكارهم

Post: #29
Title: Re: #ﺃﻥ_ﺗُﺤﺒِّﻲ_ﺷﻴﻮﻋﻴّﺎً_ﻻ_ﻳﺸﺮﺏ_ﺍﻟﻜ
Author: زهير عثمان حمد
Date: 01-24-2017, 08:36 PM
Parent: #28

الثورة الواهية

بقلم: حازم رضا *

لم أستطع يوما ما أن أصدق ما كنت أقرأه دوما فى تاريخ الثورات فى العالم ولا كنت معتقدا ولو شبه اعتقاد بكل ما كتب عن الثورات العالمية، لكننى اصطدمت بواقع مؤلم للغاية ليس غريبا علي، فلقد اطلعت على تفاصيل السيناريو قبل ذلك، لكن الآن الوضع مختلف تماما، فطالما كنت أنادى دوما فى كل مكان بالشعب المصرى دون أن أحدد ما هو الشعب وما هى الفصيلة التى أتحدث عنها وأتوجه لها بكل تلك النداءات من الطبيعى جدا أن يثور الفقراء، لكن من الغريب فى مصر أن الفقراء فى سبات عميق.. لم أعرف لماذا وصلنا إلى هذا الحد، لكنها هى الحقيقة المرة التى لا بد أن أنوه عليها بعد أن استمعت إلى تلك النداءات والادعاءات والافتراضات التى تطلق ونسمعها كل يوم عن (ثورة الجياع).

لكن السؤال الأهم الآن من هم الجياع حتى يقوموا بعمل ثورة وما هو مصطلح الثورة عند الجياع لو فصلنا هذين المصطلحين على حده.. لوجدنا تناقضا شديدا بين اللفظين، فالثورة مصطلح يعرفه الجياع بأنه (عدم الاستقرار, توقف عجلة الإنتاج, تعطيل مرافق الدولة, ضرب الاقتصاد, تخريب المنشآت, هدم الجيش حامى الوطن, الانفلات الأمنى), أما الجياع فهم طبقة لا تثور للحرية أو الكرامة، فالحرية والكرامة أوسع وأشمل بكثير وكافيه لإشباع حاملها دائما.

فالحرية دائما هى العامل المحرك لأى ثورة ناجحة, إذا فالجياع بالمفهوم التقليدى مجموعة من الشعب، بل إن شئنا لسميناهم بالطبقة الصلبة أو الكتلة الحقيقية.. ويتخطون 70% من الشعب أما النسبة المتبقية فهم الثوار الحقيقيون، سواء قلت تلك النسب أو كثرت بشكل أو بآخر لا يتعارض مع النسبة الأصلية التى وضحتها, إن انصياعنا وراء تلك الدعوات وإيهام البعض بثورة جياع لهى دعوات واهية لا قيمة لها، فالجياع لا يثورون إلا إذا جاعوا، فإن ألقى لهم الطواغيت بكسرة خبز عادوا إلى ما كانوا عليه من سكون وصمت دائم, لكن الأحرى بنا أن نتهيأ للتوعية الشاملة بأهداف الثورة الحقيقية وتحويل هؤلاء الثوار أصحاب الثورة الواهية إلى ثوار حقيقيين أصحاب مطالب حقيقية ليست مطالب مؤقتة يستطيع الطواغيت أن يفضوا جموعها بكسرة خبز.

إن الثورة الحقيقية لن تبدأ إلا إذا تم تحويل الثوار غير الحقيقيين إلى ثوار حقيقيين يصنعون الحدث، فما أحلاها ثورة يصطف فيها الجميع جنبا إلى جنب يصطفون لوطن كثرت فيه الأوجاع وزادت طعناته، فى وطن شرف جسده على الموت لا ينبغى أن نترك الوطن هكذا، لا بد من إسعافه على الفور وإعطائه قبلة حياة كى يستعيد روحه التى انتزعها الطغاة عنوة ورغما عنا جميعا.

الوضع الآن فى الشارع ظاهرة غليان شديد وصل إلى حد يوحى بوجود ثورة إن لم نستطع أن نحولها إلى ثورة حقيقية ضد الظلم والطغيان واسترداد للحريات المسلوبة وللثروات المنهوبة لتغير مسارها فورًا لتأخذ منحنا آخر وهو (ثورة الجياع) الثورة الكاذبة, الثورة التى ستأكل الثورة الحقيقية, إلا أنى محذركم جميعا من السير قدما فى هذا الطريق والتعريض له والتسويق لجياع الثورة الذين سيأكلون الثورة.

دعونا نصارح أنفسنا أكثر من ذلك ونعلن فشلنا فى التفاف الشارع حولنا بمطالبنا الحقيقية الآن الشارع بدأ يلتف حول مطالب أخرى لكنها إن لم تستغل بشكل جيد ستكون عبئا على ثورتنا ومدادا للظلم داخل أوطاننا، فجهل الشعوب بالثورات الحقيقية وأهدافها دائما يكون المقصلة التى تقصل عليها الثورة.

فالثورة الحقيقية لن تنجح بالسلاح أو بالمال وإنما نجاحها الحقيقى يكمن فى شعب الثورة الواعى، الذى يتمسك بحقه الأصيل فى حرية العيش الآدمى والحياة الكريمة داخل وطن حر يحكمه قانون ومؤسسات.