مقال لعوض محمد الحسن أحزان جنوبية في ذكرى أخي جوزيف ماثوبير قويلي، وألإستفتاء وما تلاه من إنفصال،

مقال لعوض محمد الحسن أحزان جنوبية في ذكرى أخي جوزيف ماثوبير قويلي، وألإستفتاء وما تلاه من إنفصال،


07-13-2016, 10:06 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=490&msg=1468400784&rn=0


Post: #1
Title: مقال لعوض محمد الحسن أحزان جنوبية في ذكرى أخي جوزيف ماثوبير قويلي، وألإستفتاء وما تلاه من إنفصال،
Author: الأمين عبد الرحمن عيسى
Date: 07-13-2016, 10:06 AM

10:06 AM July, 13 2016

سودانيز اون لاين
الأمين عبد الرحمن عيسى-قطر
مكتبتى
رابط مختصر


أحزان جنوبية
(في ذكرى أخي جوزيف ماثوبير قويلي، وألإستفتاء وما تلاه من إنفصال، واقتتال، ونزيف لا يتوقف)
عوض محمد الحسن
[email protected]
حزنت على أخي وزميلي جوزيف ثلاث مرات: مرة عند رحيله قبل أكثر من أربعين سنة، وهو في ريعان شبابه، والجنوب يجرّب الحكم الذاتي، والسلام، لأول مرة بعد اتفاقية أديس أبابا لعام 1972؛ ومرة عندما أدت نتيجة الإستفتاء الساحقة إلى انفصال الجنوب وتكوين دولته المستقلة؛ ومرة أخيرة حينما أدت خلافات النخبة الجنوبية إلى تجدد معاناة الجنوبيين الذين لم تذق أجيال بأكملها منهم طعم الحياة العادية بعيدا عن الحرب مهما كان مصدرها وأسبابها: شبابهم وقودها، ونساءهم وشيوخهم وأطفالهم وأبقارهم وحقولهم وقراهم، ضحاياها.
التحقنا، جوزيف وأنا، ومجموعة من خيرة شباب السودان (من الجنسين) من أصقاعه جميعا، بوزارة الخاجية عام 1970، يجمعنا حب الوطن والرغبة في ترقية معارفنا ومهاراتنا لخدمته لما له علينا من أياد، وما لأهلنا، ومعظمهم من غمار الناس، من فضل علينا.
وكان جوزيف ماثوبير قويلي من دينكا قوقريال في بحر الغزال، فارع الطول كمعظم أهله، مستقيما كرماحهم في خُلقه وفي بدنه. وكان رصينا، رزينا كشيوخ الدينكا، به شئ من صرامة ظاهرية تفضحها ضحكته الطفولية ولزمته التي تُلازم ضحكته: "مش كده؟" وكان جوزيف مسيحيا متدينا التدين الحق الذي يهذب النفس ويؤدبها، ويصقل إنسانيتها. وكان بسيطا في غير مسكنة، ومعتدا بنفسه وبأصله دون خُيلاء.
علّمنا جوزيف، ونحن بعد في أول درجات السلك الدبلوماسي، أهازيج دينكا قوقريال الكورالية، وخاصة أهزوجتهم في مدح سلطانهم عند زيارة الفريق عبود لبحر الغزال قبل أكثر من نصف قرن من الزمان. حفظناها بلحنها ولم نعبأ بعدم فهمنا لمعاني كلماتها بالتحديد، وما زالت شذرات منها تطفو على سطح الذاكرة بين الفينة والأخرى: "أقو ماجيجيال، كيال بني جيش" و " يا عبود أمسك بلد كويس يا - سوداني". وما مسك عبود، رحمه الله، البلد؛ تركها حين سمع صوت الشارع في اكتوبر، ولم يمض وقت طويل حتى هتف غمار الناس له في سوق الخرطوم: "ضيعناك وضعنا وراك يا عبود!"
انتُدب جوزيف للعمل في حكومة أبيل ألير الأولى في جوبا في أجواء التفاؤل التي أعقبت إتفاق أديس عام 1972، والتعاطف والدعم الدوليين للسودان عموما، ولحكومة الإقليم الوليدة. وحين انتهى انتدابه وتقررت عودته لوزارة الخارجية، تم نقله للعمل بسفارة السودان في براغ، عاصمة تشيكوسلوفاكيا الموحدة آنذاك. وفي طريق عودته إلى الخرطوم ليلتحق بمقر عمله، لقي جوزيف حتفه في حادث سير عبثي في أحراش بحر الغزال.
حزنتُ لوفاة جوزيف، ثم تذكرتُه، وتجدد حزني عليه بانفصال الجنوب وما صاحب ذلك، وأعقبه، من لؤم مجاني ومعاملة خشنة من جانب نظام "الإنقاذ"، وتشفي سمّم ما تبقى من أمل في فراق بإحسان، وجوار في مودة ورحمة، ومصالح متبادلة، وعلاقات انسانية لا تُحدها الحدود السياسية والإدارية، ولا تفصمها الحكومات والأنظمة، وما تبع كل ذلك من عنف أعمى بين القيادات (وقبائلهم). وما يُحزنني، وأنا أتذكر جوزيف، وإخوة وأخوات من الجنوب، أن نكتشف، بعد فوات الأوان، أن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يُفرّقنا، وأن نصف قرن من التعايش (رغم الحرب) صهرتنا في هوية سودانية جديدة، لها سماتها وميزاتها (وعيوبها) الفريدة. وانظر إلى ما يحدث في الخرطوم وجوبا لترى كم تتشابه النخب الحاكمة في أذواقها ومفاهيمها وفي حياتها اليومية – وفي فسادها وشططها وتشبثها بالكراسي على حساب مصالح البلدين، ومصالح السواد الأعظم من الناس على جانبي الحدود الذين طال ليلهم، وفي استرخاصها لحياة مواطنيها.
يتجدّد حزني على جوزيف هذه الأيام وأنا أنظر بأسى لما يحدث في الجنوب من اقتتال شرس بعد أن ظنّ الجميع أن السلام (وما يتبعه من رخاء) باق، وأن سنوات التيه في الأحراش، وعلى هامش مدن الشمال، وفي مخيمات اللاجئين في دول الجوار، أو في المهاجر البعيدة، قد ولّت إلى غير رجعة. عزائي أن أخي جوزيف غادرنا والجنوب جزء من السودان المُوحّد، وإن كان ينعم بحكم ذاتي كامل الدسم، وان السلام يخيّم على كامل الإقليم، وأن الحياة في فرقان وقرى بحر الغزال وأعالي النيل والاستوائية قد عادت لطبيعتها.
رحم الله أخي جوزيف ماثوبير قويلي، وتغمّد شعوب الشمال والجنوب المكلومة برحمته وفضله.