من ذاكرة التاريخ بعد سبعين عام اعود لقريتي الملاحه بالنيل الابيض

12:55 PM May, 13 2016

سودانيز اون لاين
عبدالله الأسد-كندا
مكتبتى
رابط مختصر

من ذاكرة التاريخ بعد سبعين عام اعود لقريتي الملاحه بالنيل الابيض
-----------------------------------------------------------------
منذ بداية ذاكرتي في قرية الملاحة في النيل الأبيض ونحن تلاميذ صغار كانت المدرسة في الصباح مع شيخ الرشيد من قرية الشوال معلمنا الذي لا يمكن انساه اذا يجندنا جميعا في موسم لقيط القطن لمساعدة أهلنا المزارعين. في المساء الخلوه وحفظ القرآن جبريا بالترديد المستمر. اذا ختم الواحد منا جزء من القرأن عليه ان يحلق راسه تماما مع ترك قمبور في وسط الراس وعليه احضار كرامه وهي عبارة عن كمية من البليلة وصحن من خشب الحراز ملئي بالقمة من عيش الفتريته مملحة بملاح شرموط ... الشرموط هو اللحم القديد يعلق علي المشلعيب.
في الليالي القمرية كان إخواننا البالغين يحضرون الطمبور وهو خليط من بنات وصبيان حي العرب ونحن الصغار نتسلل بين زحامهم ونشاهد بنت تلبس رحط من اشرطة الجلد وصدرها عاري تماما وترقص علي ازيز حناجر الطمبارين وعندما نُكتشف بواسطة الاخوة الكبار نضرب بعنف ونعود الي البيت للنوم.
كان مشروع الملاحة ملك للسيد عبد الرحمن المهدي من حيث البنية السكانية ينقسم الي ثلاثة اقسام القسم الأول حلة ام برد وام فوره والمساليت يقطنها الأنصار المهاجرين من كردفان ودار فور. جميعهم ملتزمون بقراءة راتب المهدي قبل القران والصلاة والصيام والعمل الجاد في المشروع بدون اجر. تصرف لهم تعيينات من العيش والزيت والسكر والتمر وقماش الدمورية. يسكنون في قطاطي من القش طالما التهمتها النيران واعيدت من جديد.
القسم الثاني هو قرية الملاحة الاصلية قبل قيام المشروع ويسكنها اهل الشمالية من جعليين وشايقية ودناقله يعملون في التجارة ومعهم طاقم إدارة المشروع. كصاحب الشونه العم النور الجيلي ووالدي رحمه الله محاسب ومدير المشروع.
القسم الثالث هو حلة العرب تعج بالاندايات وما ملكت ايمانهم من الجواري والرقيق. كان معظمهم من الرشايده والحسانية والزبيدية. يعملون في الرعي وتجارة الابل والحمير ونسج الشُمال من وبر الابل. لا يدخلون المدارس ولا الخلاوي ولا يختلطون او يتزوجون إلا مع بعضهم البعض. في زيارتي للملاحة عام 2000 علمت ان العرب رحلوا جميعهم الي ضواحي كسلا وتركوا الملاحة.
اول ما رايت التلفون كان في مكتب والدي. التلفون له شخص متخصص يسمى الكبانية يقوم بتحريك منفله لشحنه بالكهرباء ويردد الو الو الو كبانية .... حول ... معاك محمد سعيد الأسد الملاحه ...واعمدة التلفون الخشبية مستوردة من بريطانية ومطلية بمادة السلقلم لمنع النمل الأبيض " الارضة" تمتد الاعمدة من الملاحة الي مدينة كوستي ثم الي الخرطوم.
كان المشروع يستعمل نوعين من الوبورات لسحب الماء من النيل الأبيض لترعة المشروع واحد اسمة بيتر صناعة انجليزية مع طلمبه اربعه بوصه والثاني يسمى سولزر صنعة سوسرية أربعة بوصه . وكان مهندس الوابورات "فلاديفتش" من السرب المسلمين يركب موتر سيكل ضخم نتسابق معه كما نتسابق مع لورى علم الهدى والد زميلي من مدرسة خورطقت عبدالقادر علم الهدى "جفري" من قرية الشوال. كان اللوري ماركة فورد موديل 36 الوحيد الذي يربط قري النيل الأبيض بكوستى.
انا وزميلي الرسام الأستاذ عبدالله النور الذي خدم دولة قطر خمسة وأربعين سنه وعلم الشيوخ والاعيان اطال الله في عمره وابن اختي المرحوم عباس طه والجنرال عثمان عبدالله وزير الدفاع في حكومة سوار الدهب . قمنا باختراع طريقة لصيد البلوم بدلا عن الشرك التقليدي بواسطة سبيب الخيل. صممنا شبكة من الخيوط من خلف الوليفه "الوليفة هي مكان قديم لشونة العيش تتجمع فيه الطيور لتلتهم ما تبقي من العيش. الوليفة لها طقوس يجب العمل بها, أولها قراية الحمدو واذا حصل ان اطلق أي واحد منا ريح ولو بالصدفة فيجب هجر الوليفة نهائيا لان الطيور لا تأمها حسب اعتقادنا "الشبكة مسنودة باعواد رفيعة ولها حبل طويل يصل الي حيث نجلس ونراقب تجمع الطيور وخاصة البلوم في حجم الحمام. وعندما نشعر بان العدد كبير نسحب الخيط وتقع الشبكة علي الطيور ونقوم بجمعها مكتفة ونبيعها للاهل بما يعادل واحد مليم. القرش يساوي 10 مليم والجنيه يساوي 100 قرش. لم يظهر الجنيه السوداني بعد اذ كانت العمله الجنيه الإنجليزي بصورة الملك جورج او الجنيه المصري بصورة الملك فاروق.
انتقلنا في الاربعينيات الي امدرمان قمة الحضارة السودانية. اول راديو رأيته في حياتي في حى العمدة حيث يتجمع الخلق يوم الجمعة لسماع نشرة الاخبار واغاني الحقيبة وهو اليوم الوحيد الذى تعمل فيه الازاعة.
انتقلنا الي مشروع السقاي وسكنا في سراية كونتومخلس التي اشتراها منه السيد عبدالرحمن صاحب المشروع ويقال ان السراية تابعة في الماضي للزبير باشا. ثاني راديو رايته جلبه اخي الكبير العميد مصطفى الأسد اطال الله عمره. طوله متر وعرضه متر وارتفاعه متر بقوة بطارية روسية تعمل بالجاز الأبيض. وعنما تبدأ نشرة الاخبار انا ومن معي من الأطفال نتطلع لخلفية الصندوق لاعتقادنا ان هنالك ثمة شخص يجلس داخل الصندوق.
حالفني الحظ وقبلت بمدرسة خورطقت وانتقلت للداخلية حيث العلم والتكنولوجيا والخواجات. قمت بتصميم راديو كرستال وقمت بتصنيع سخانات الشاي عن طريق برطمان المربى وعمودين من الكاربون. سعر الواحد خمسة قروش قمت بإدخال الكهرباء لداخلية دينار في العمبر الذى اسكن فيه اذا كان االتيار يفصل من الثامنه لكن الأستاذ ساتي اكتشف الموضوع واشتكاني لاستاذ العلوم "طلسم" والد البلابل لحسن حظي اعجب بما قمت به وكتب لي شهادة احتفظ بها حتى الان.
الأبيض هي المدينة السودانية الثانية التي زارتها ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية بعد الخرطوم خلال زيارتها للسودان في الفترة من 8 إلى 12 فبراير / 1965 م. كما زارها زعماء آخرون مثل الرئيس اليوغسلافي السابق جوزيف بروز تيتو، سميت ساحة باسمه تخليداً لمناسبة زيارته تلك وكذلك استقبلت المدينة الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة السابق في فبراير/ شباط 1972.
زار الزعيم الجنرال تيتو خورطقت واقمنا معرضا له من اختراعات الطلاب كان لي فيه راديو الكرستال وموتور دي سي. اهدى تيتو للمدرسة جهاز سينما 36 ملي كنت مسؤول عن ادارته انا وزميلي العبقري المرحوم المهندس خليل عبدالرحيم من أبناء الجزيرة أبا بالإضافة للسينما غيرنا الجهاز الي إذاعة نقوم بنشرة اخبار صباحية كل يوم. وقدمنا بها المرحوم الفنان وردي على المسرح مع بداياته باغنيته "اليلة يا سمرة"
عندما قدم مسرح المدرسة تمثليه العباسة اخت الرشيد والتي قام باخراجها نائب الناظر الأستاذ "محمد أبو بكر" كان لابد من عمل اضاءة متدرجة من النور القاتم الي الساطع "دمر"”. قمت مع زميلي المرحوم خليل باختراع جهاز خدم الغرض.
أرسلت وزارة المعارف مسجل للصوت لمدرستنا في سنة 1957 ماركة قرندق “Grounding” صناعة المانية. اول من غنى فيه للحقيبة الجنرال عثمان عبداللة واوهاج ودكتور نوح مؤلف منلوج "يا كنفوش يا كنفوش حكمته علينا حكم قرقوش" وكان قرقوش هو ناظرنا الهمام الإنجليزي الأسود الأستاذ بشرى عبد الرحمن صغيرون. لقد كان مربيا صارما علمنا النظام والمثابرة.
عام 1959 تخرجنا من خورطقت عام كان يعج بالمظاهرات ومع زميلي المرحوم خليل انشأنا اول جمعية علمية في المعهد الفني وسميناها “Science Up to Date” بالتعاون مع الأستاذ الأمريكي “Dr. Ravalli” وكان مدير المعهد الأستاذ سر الختم الخليفة والذي أصبح رئيسا للسودان بعد الجنرال عبود.
بعد قيادة مظاهرة ضد حكم عبود طيب الله ثراه اقتحمت الشرطة المعهد وتم اعتقالي وفصلي مع عدد من الرفاق وسافرت بعد ذلك لجمهورية بولندا الاشتراكية في بعثة لدراسة الهندسة وشاهدت الأقطار الاوربية في الستينيات أدركت حقيقة اين نحن في بلدنا السودان وحقيقة "1400 عام من العزلة "

سلام

سرد جميل وذاكرة متقدة للزمن الجميل. أطال الله عمرك
أعتقد أننا أبناء جيل واحد.

Quote: وحقيقة "1400 عام من العزلة "

!!

Quote: ماركة قرندق “Grounding” صناعة المانية

الماركة اسمها Grundig وتنطق Gرونديg و Gرونديش نسبة لمؤسسها Max Grundig

Quote: وسافرت بعد ذلك لجمهورية بولندا الاشتراكية في بعثة لدراسة الهندسة وشاهدت الأقطار الاوربية في الستينيات أدركت حقيقة اين نحن في بلدنا السودان وحقيقة "1400 عام من العزلة "

هذا ما يسمى الصدمة الحضارية
والغريبة ناس بولندا لما يزوروا دول أوروبا الغربية بيحصل ليهم نفس اندهاشتك دي وحتى اليوم ما بالك بالستينات.

لك التحيه يا باشمهندس
متابعين تدفق الذكريات الجميله
لايقوى الإنسان على استيعاب كل الحاضر لابد أن ينتقل للماضي لتحقق رؤيه أوضح وحنين غارق فى اسى لاتعرف من أين يأتى
والذاكرة ذلك المغناطيس الكونى فريد التكوين تلتقط حتى غبار نحسبه لم يعلق فى شعابها ليطل على وعينا الحاضر خمرته التجربه وانحسار براءه الحس لنرى كل جوانبه....
لو كنت مكانك ورجعت بعد كل هذه السنين إلى مكان لبس معالم غير التى أملك فى الذاكره لا اعرف بماذا أشعر ..ربما احس بإلفه أكثر تجاه الجغرافيه من جبل أو نهر ....كلقاء بعزيز غائب
صراحه ربما لن استطيع بعد زمن كهذه أن أعود إلى مراتع الصبا و الطفوله
خوفا على إرباك الذاكره
شجاعه لاتخلو من فرح و ألم أن تعود يا باشمهندس

ارجو أن تواصل يا باشمهندس.

يا للروعة..يا للروعة

انت بحق مكسب للمنبر يا أأستاذي الكريم

واصل متع النفوس الرحبة بالسرد الجميل

أطال الله في عمرك وأمتعك بكل طيب

.
يا سلاااااااااام يا ود الأسد
الملاحة كانت حاضرة بقوة في أواسط الستينات وما تلاها من أعوام ،
ذلك عندما صدح الفنان احمد الطيب (غشيت قبره سحائب الرحمة ) بأغنية
( يا ظبية البص السريع ) ..... ما زال صوته الجميل يرن في أذني :
.
يا ظُبية البص السريع
هِمتَ بيكي وخايف أضيع
في الملاحة اتعرفتِ بي
وفي المرابيع زاد العلي
همت بيكي وخايف أضيع
.
يا لها من زكريات يا باشمهندس ، فقد أخذني سردك الجميل المباشر ، فطاف
بالذاكرة عدد من الأشخاص والأماكن .
التقدير لك يا باشمهندس .. أسأل الله أن يمتعك بالصحة والعافية وطول العمر .