(كيدمان) وصل... من تداعيات يحي فضل الله

(كيدمان) وصل... من تداعيات يحي فضل الله


02-10-2009, 12:37 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=482&msg=1255235174&rn=5


Post: #1
Title: (كيدمان) وصل... من تداعيات يحي فضل الله
Author: Asaad Alabbasi
Date: 02-10-2009, 12:37 PM
Parent: #0

(كيدمان) وصل... من تداعيات يحي فضل الله
تعجبني جداً كتابات الأستاذ الأديب القاص والشاعر يحي فضل الله، لم ألتقِ بهذا المبدع المهاجرإلا من خلال مايكتبه سواء في هذا المنبر أو غيره، فهو يتميز بأسلوب سهل وممتنع، تتخير كلماته أقرب شريان في يدك فتسبح فيه وتستقر في قلبك. عبارته ساحرة وسلسة، وطرحه ممتع ورائع، وتداعياته مثيرة، وأسلوبه في الحكاية لا يبارى، تتزين صحيفة حكايات السودانية كل ثلاثاء ببابه المعروف (تداعيات) والتي أكتب فيها يومياً بابي (بين الأدب والقضاء) جرت عندي العادة أن أبدأ قراءتي لصحيفة حكايات ببابي المذكور لأراه كيف برز من خلال التصميم والخطوط، غير أن الأمر يختلف في يوم الثلاثاء، إذ تهرع عيناي لرؤية وقراءة ما كتبه الأستاذ يحي فضل الله قبل كل شيئ. اليوم كتب يحي (كيدمان وصل) وهي سيرة لطالب في مدرسة تِلَّوْ الثانوية العليا أعجبتني الحكاية كما تعجبني كل كتاباته فشئت أن أوردها هنا لتشاركوني المتعة، ولأحيي هذا الأديب القامة الذي جعل الإلتزام الأدبي ديدنه، إذ حقق فكرة الإلتزام في أسمى معانيها، والإلتزام هو إلتزام الكاتب بالتعبير عن محيطه الخاص وإبراز تاريخ وتراث وقضايا وطنه وموروثاته المحلية والقومية. وفكرة الإلتزام لا تصطدم بما يسمي بالأدب العالمي ، إذ إن الكتابة في المحليات ما هي إلا رقعة في ثوب الأدب العالمي ، لا تأتلق فيه وحسب إنما تغنيه بالمزيد من المقتبسات ، والبنيات ، والمعارف الجديدة . فاتحة بذلك تنافذاً أدبياً ، وتناطحاً فكرياً بين الأمم الشعوب .

Post: #2
Title: Re: (كيدمان) وصل... من تداعيات يحي فضل الله
Author: Asaad Alabbasi
Date: 02-10-2009, 12:39 PM
Parent: #1

(1)
مدرسة (تِلَّوْ) الثانوية العليا تحاول أن تداري إرتباكها بغياب (كيدمان). (كيدمان) طالب في الصف الثالث ـ القسم الأدبي، نوع مشاغب جداً من من الطلاب، ولكنه كان ذكياً جداً حتى أن جفوته لمقاعد الدرس لم تستطع أن تذمه بأي نوع من الرسوب. (كيدمان) مدمن للإنفلات من القيود، يبدأ يومه الدراسي في حلة العمال حيث يمارس تلذذه بمشروبات النشوة خاصة (الكنجو مورو) كانت مشروبات النشوة تحيله إلى كتلة من الصخب الحميم وتجلجل ضحكته في فناء المدرسة وسط تجمعات الطلاب المتناثرة هنا وهناك، كان (كيدمان) دائماً ما يعلن عن وجوده بنبرة عالية متميزة:
ــ كيدمان وصل.

Post: #3
Title: Re: (كيدمان) وصل... من تداعيات يحي فضل الله
Author: Asaad Alabbasi
Date: 02-10-2009, 12:42 PM
Parent: #2

(2)
إن ضحكة كيدمان الصاخبة المفرقعة لا تتآلف مع حجرات الدرس تلك التي عادة ما يجافيها، إلا أن لحصة التاريخ وقعاً خاصاً لدى (كيدمان)، ويبدو أن للأستاذ (الزاكي جمعة) أثر واضح في كسب مزاج (كيدمان) الذي نادراً ما يخضع لأي قيد من القيود .. كان ذلك فيما بعد العام الدراسي 1979م ، وكان مشرف الداخلية في مدرسة كادقلي الثانوية العليا قد وضع علامة الغياب المتكررة والمعتادة أمام إسم (كيدمان). (كيدمان) نادراً ما يراه الطلاب على سريره في الداخلية، فهو متحرك دائماً إلى فضاءات أرحب خارج المدرسة وداخليتها، المشوار الطويل بين مدينة كادقلي والمدرسة التي تبعد كثيراً حيث تحتضنها الفيافي شرق المدينة، المشوار من المدرسة إن قلب المدينة يمر بأحياء (حجر المك، حلة الفقراء، السوق البره، وحي السوق) للوصول إلى عمق المدينة حيث المقاهي والمطاعم ودكاكين ومحلات تجارية، وكان (كيدمان) يلوذ بالمقاهي في المساءات المبكرة، يتنقل من مقهى الى مقهى، وقد يصل حتى مركز شباب كادقلي جنوب ميادين الحرية، وقد يتنقل في الأحياء الغربية من كادقلي (الرديف، الملكية، البانجديد، حجر النار) حيث تقوده حفلات (الجالوه) بنغماتها الحنينة وإيقاعاتها الصاخبة التي تنتمي الى اصداء إفريقية الطعم والمزاج، وقد تسرب الينا اغلب هذا التجلي الموسيقي من زائير، اذ اجتاحت حفلات (الجالوه) كادقلي في السبعينيات من القرن المنصرم، وكانت نوعا جديدا في نسيج العلاقات بين الجنسين من خلال الرقص الدافئ الحار الصاخب الفالت عبر لغة الجسد الحر المنفلت المنحاز حد البداهة لهذه الإيقاعات الأفريقية والحنين والشجن المنبعث من اصوات المغنين والمغنيات، ولا أزال كلما استمعت الى المغنية العظيمة مريم ماكبا (ماما آفريكا) يقفز الى ذاكرتي الأخ (عبد الله شا)، وقد كان يملك في ذلك الوقت جهاز (بيك أب) وكمية مهولة من الأسطوانات وبذلك اصبح مؤهلا للتنقل عبر كنزه الموسيقي هذا بين حفلات كل المناسبات ويعلن عن اسمه (في حفلة في كحليات، بيك أب عبد الله شا)، وكان لـ(عبد الله شا) ذائقة موسيقية حريفة مكنته من ان يدس عذوبة (مريم ماكبا) في نسيج هذه الحفلات.. (كيدمان) ادمن هذه الحفلات هاربا دائما من فكرة القطيع، متفردا ومنفردا لا تييده تجمعات الطلاب، لا يشارك في انتخابات الاتحاد، كرة القدم ومبارياتها لم تستطع ان تقيد خطوات (كيدمان) ذات التجوال القلق والباحث عن المتعة في تفاصيل الانفلات، ندوات المدرسة نادرا ما يتابعها، (كيدمان) كائن لا ينتمي إلا الى تلك الحرية المطلقة، ويبدو ان صفاته المتفردة جعلت منه شخصية عامة ومهمة في نسيج حكايات المدرسة.

Post: #4
Title: Re: (كيدمان) وصل... من تداعيات يحي فضل الله
Author: Asaad Alabbasi
Date: 02-10-2009, 12:44 PM
Parent: #3

(3)
غاب (كيدمان) عن المدرسة فيما بعد منتصف العام الدراسي، حتما هو غياب غير طبيعي، اذ ان الطبيعي والواقعي هو ان يكون (كيدمان) موجودا لأنه يجب ان يستعد لامتحانات الشهادة، الامتحان لدى (كيدمان) واجب ثقيل، ايا كانت اهمية هذا الامتحان.. عادة ما كان يسخر من اولئك الذين ينظرون الى مستقبلهم من خلال ورقة الامتحان، لا ادري ان كان (كيدمان) قد تعرف على جملة الشاعر الفرنسي الشهير (رامبو) تلك التي تقول:
ـــ (من العبث ان تفنى سراويلنا على مقاعد الدرس)
وإحقاقا للحق اقول إن لـ(كيدمان) علاقة وثيقة بمكتبة المدرسة تلك المتواضعة، وكان يشاهد دائما وهو يحمل كتابا لا علاقة له بالكتب المدرسية.. ولا انسى تآمري عليه حين سرقت منه كتابا يضم ثلاث مسرحيات للدكتور (مصطفى محمود) من بينها مسرحية (الزلزال).. (كيدمان) كان يعرف (بودلير) و(إيليا ابو ماضي) و(فيكتور هيجو) ومعجب جدا بشخصية (جان فالجان) في رواية (البؤساء)، وكان يدمن قراءة روايات (نجيب محفوظ).

Post: #5
Title: Re: (كيدمان) وصل... من تداعيات يحي فضل الله
Author: Asaad Alabbasi
Date: 02-10-2009, 12:46 PM
Parent: #4

(4)
ولـ(كيدمان) مشوار صباحي مهم في يوم الجمعة من كل اسبوع، هذا لو كان نائما في الداخلية ليلة الخميس، وهذا امر نادر، إذ انه تفاديا لهذا المشوار الصباحي المهم يميل الى المبيت في كادقلي، ومن ثم يذهب الى كشك العم (عابدين) في الركن الشمالي من الجامع الكبير لشراء جريدة (الأيام) حرصا منه على متابعة الملحق الثقافي، وأذكر انه كان يحفظ وبمحبة عميقة قصيدة للشاعر (عالم عباس) عن (وادي أزوم).
غياب (كيدمان) تجاوزالشهر، اختفت تلك الضحكة المجلجلة واختفت صيحاته حين كان يعود من حلة العمال منتشيا في ميعاد الغداء:
ــ (كيدمان) وصل!!
ارتبكت المدرسة ووصل امر هذا الغياب الى الناظر الأستاذ (ونسي)، كان رجلا صارما او هكذا يدعي، وبه ميول حادة للإخوان المسلمين أدت به الى دخول انتخابات الاتحاد الاشتراكي ومجلس الشعب وأظن ان دخوله الاتحاد الاشتراكي وخوض الانتخابات تم بخطة من التنظيم السياسي، وأذكر انه عاد الى المدرسة وهو يحمل اوزار فشله في تلك الانتخابات ليجد الطلاب قد علقوا رسما كاريكاتوريا على باب مكتبه يصوره وهو عائد يحمل بقجة مكتوبا عليها (الفشل) مع تعليق يعتذر للأغنية ويقول:
ـــ (تعال لي اهلك الطيبين دار الغربة ما بترحم)
الأمر الذي جعله يصرخ بتشنج امام الطلاب في طابور صباحي دعا اليه هو، كان يصرخ بتشنج ادى الى تداخل بعض الآيات القرانية التي كان يحاول الاستشهاد بها.

Post: #6
Title: Re: (كيدمان) وصل... من تداعيات يحي فضل الله
Author: Asaad Alabbasi
Date: 02-10-2009, 12:49 PM

(5)
وصل غياب (كيدمان) الى الناظر (ونسي) وحيث ان هذا الغياب لأكثر من شهر مما يجعل العقاب حادا جدا، اذ ان هذه المدة تؤدي الى فصل الطالب عن المدرسة، وفصل طالب في الصف الثالث يعني الكثير. وهكذا وسط إشفاق الطلاب على مصير (كيدمان) وبينما تأهب الناظر كي يطبق القانون واللائحة المدرسية وفي ليل ممطر عاد (كيدمان) الى الداخلية ملوثا بالوحل ومبتلا بسياط امطار تلك الليلة. عاد (كيدمان) من الدلنج موطنه، وأظن ان غيابه هذا متعلق بانتماء عاطفي كثيف لفتاة من الدلنج جثمت على خيالاته وأربكت عواطفه. عاد (كيدمان) وكأن شيئا لم يحدث، حذره الزملاء الطلاب من مغبة هذا الغياب، وفي الصباح ذهب الى مقابلة الناظر في مكتبه بناء على أمر من الناظر معلق على بورد الإعلانات.. و لكن، قبلها لم ينس (كيدمان) ان يذهب الى حلة العمال لأن ذلك الصباح الخريفي الغائم لا يحتمل ان يكون (كيدمان) خارج نشوته.
كان الناظر يجلس على مكتبه مستدعيا مهابته ومعلقا نظارته على عينيه واضعا ملف الطالب (كيدمان) امامه منتظرا دخوله، ممنيا نفسه بمتعة متناهية في ممارسة سلطته تلك التي كان يحلم ان تتباهى بمقعد في مجلس الشعب، فجأة، فتح الباب ودخل (كيدمان) على الناظر وهو اشعث اغبر، متسخ الثياب، دخل بعد ان وضع على كتفه الأيسر إمالة واضحة كعادة صعاليك الستينيات.. زمجر فيه الناظر:
ــ انت (كيدمان)؟
ــ ايوه..
قالها (كيدمان) ممطوطة مع هزة خفيفة تؤكد إمالة كتفه الأيسر..
ــ تغيب يا ولد اكتر من شهر؟
وهنا اقترب (كيدمان) من مكتب الناظر، مكثِّفا إمالة كتفه الأيسر، نظر الى الناظر في عينيه وحرك حاجبيه الى اعلى وإلى اسفل بطريقة مدربة، اهتز هزة معلنة استخدم فيها كل جسمه ومد يده اليمنى بحركة مفاجئة لتمر كفه مشرعة الأصابع بوجه الناظر وقال بصوت مشحون الانفلات:
ــ هو انت شفتا حاجة؟
وهنا اهتزت هيبة الناظر، بردت اطرافه، كأنما (كيدمان) جرده من الفعل، احس باللاجدوى تجاه هذا الطالب المنفلت، (كيدمان) ابتذل اهميته تماما، لذلك وبيأس ممزوج بالإحباط أشار الناظر بيده نحو (كيدمان) دون ان ينظر اليه قائلا:
ــ امشي.. أطلع بره
وعاد (كيدمان) الى صخبه وضجيجه وضحكته المجلجلة وصاح في الطلاب الزملاء المتجمهرين امام مكتب الناظر لمعرفة نتيجة اللقاء مع الناظر:
ــ (كيدمان) وصل!!
(كيدمان) لم يسقط في امتحانات الشهادة!

(إنتهى)