بتول، وأغنيتها الأثيرة عبدالله محمد عبدالله

بتول، وأغنيتها الأثيرة عبدالله محمد عبدالله


12-06-2014, 01:27 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=470&msg=1417868836&rn=1


Post: #1
Title: بتول، وأغنيتها الأثيرة عبدالله محمد عبدالله
Author: مطر قادم
Date: 12-06-2014, 01:27 PM
Parent: #0

سريران متقابلان و بينهما من فراغ الصالة ما يكفى لعبور امرأة وافرة البدن ، و من هنا مرت قبل ما يقارب نصف الساعة ( ستنا ) تجرجر اذيال ثوبها الذى لم تجد من الوقت ما يكفى لوضعه حول جسدها كاملا ، و هى تسرع الخطو الى بيت جارتها وأعز صديقاتها ( زمزم ).

تمرفقت ( بتول ) و افردت جسدها على احد السريرين ، و توب الجيران الاصفر المورّد يغطى أعلاها و أطرافا من ساقيها . قطبت ما بين حاجبيها وهى تحدّق فى الحوش المشمس و كأنها تحصى العصافير التى انهمكت فى التقاط بقايا من عشاء اليلة البارحه ، ثم اسبلت عينيها وهى تتشمم طرفا من ثوبها كان معقودا حول سبابتها اليسرى . قالت : بالله شوف صندلية ميسو دى قوية كيف ؟ و الحال دة بعد الغسيل !!! خاطبتنى كمن تدعونى للتأكد من صحة ادعائها.

نهضتُ من حيث كنت اضطجع ، و خطوت بين سريرينا حافيا ، فناولتنى لفافة صغيرة من ثوبها ، سبقها الى انفى العطر النسائى الشهير ، و عندما رأت بتول فى ملامح وجهى ما يؤكد قولها تبسّمت ، لاحت ابتسامتها اولا فى عينيها الدعجاوين ثم انتقلت الى فمها الألمى الذى افتر عن نضيد اسنانها ، ومن خلال تلك الابتسامة فاجأتنى بقولها : انت المجلة الفيها الغنوة وين ؟

أدرت خيالى فى انحاء الدار و أنا اسعى لتحديد نقطة أبدأ منها البحث عن تلك المجلة ، ثم قرّ عندى انها لابد فى الحوش الكبير حيث كان سمر الاسرة بالامس ، فتوجهت نحوه آملا . لم اجدها . فمررت على عدد من الغرف دونما حظ يذكر ، ثم انتهيت الى ديوان ( سيداحمد ) ، و هناك ، على تربيزة صغيرة امام احد الاسرّة فى الحوش الصغير كانت المجلة ، نفضتُ عن صفحتيها المفتوحتين ثمار النيم الصفراء و عدت بها الى بتول.

كانت بتول لحظة ايابى تذيب السكر فى كوبين من الشاى الذى لا تخلو منه حافظتها الملونه ، تهللت اذ رأتنى قادما بها و قالت : لقيهتا ؟ و اضافت : الحمدلله . جلست امامها ارشف الشاى و انا اعيد قراءة القصيدة – الاغنيه - فى صمت استعدادا لالقائها على بتول التى كانت تمرر انملها الاوسط على شريط ذهبى يزين حافة كوبها العابق بنكهة البرووك بوند ، شايها الأثير .

قالت فى صوت خفيض : أها . . بدأتُ الالقاء فى تمهل و انا امعن النظر متفرسا ورق المجلة المخشوشن . فى حقيقة الأمر لم اكن فى حاجة للنظر الى ذاك النص ، فلكثرة ما تلوته على بتول و ستنا و لطيفة كنت قد استظهرته ، لكنى كنت اديم النظر الى صورة الوجه الانثوى الذى كان مرسوما على الصفحة المقابله محاولا الربط بين ملامحه و ما ورد فى النص من وصف لمحبوبة الشاعر .

ما طلبتْ منى بتول ان اتلوه عليها ذلك الضحى كان اغنية الموسم ، يرددها المذياع كل يوم فتتلقفها الآذان اليقظى والقلوب الولهى ، بانتظارها كان مستمعو البرنامج العام ، و متابعو ( ما يطلبه المستمعون ) فى المدن و الارياف جماعات و فرادى . و قد كنت كغيرى معجبا بها ، لكنى لم اكن على تفهم كامل لما كان يدفع بتول و الأخريات لقضاء كل تلك الاوقات فى الاستماع الي الاغنيه أو التبارى فى حفظ القصيدة التى كانتها ، ولم اكن ايضا مدركا لمنابع الادمع التى كنّ يذرفنها فى صمت فى مواضع بعينها و هن ينهمكن فى الترنم بها .

واصلت الالقاء متمهلا . لكنى كنت على يقين من ان مهمتى لن تستمر طويلا ، فلى مع بتول و اغانيها الأثيرة تجارب كثر، فما ان آتى موقعا معينا من القصيدة حتى تبدأ الغناء ، ناسية كل ما هو حولها . لحظتئذ ينطلق صوتها الشجى ذو البحة المميزه ، و تنبجس الأحاسيس من اعماقها فى طقس من التملك المتبادل بينها و الاغنيه. و ليس ثمة استثناء ، فما ان وصلت فى القائى الى ( فى رحلة مجهولة الأمد ) حتى انطلق صوتها مفعما بعواطفها الجائشة المائرة ( يا حليلو .. يا حليلو ) ثم استمرت فى الغناء و كأنى و مهمتى الالقائية قد تبخرنا فى اثير ذلك الضحي . كانت بتول فى نهايه المقطع الثانى من الاغنية عندما أطلت ( لطيفة ) التى هداها صوت خالتها الى حيث كنا ، فكان طبيعيا ان تشدوَا معا بالمقدمة الموسيقية و ان تبدءا الاغنية من حيث ( يا قلبى يا مكتول كمد ) و هما تتبادلان الاداء ، تفترقان و تلتقيان كيفما شاء اللحن .

لا يغرنّك من بتول اعجابها بأغنية ما ، فلها فى كثير من الحالات نظر فيما كان ممكنا ان يقال . و بينما كانت لطيفة تغنى ( كيفن نسيبو يروح بعيد ) ، قالت بتول ، متبسمة : بالله لو قال وحيد .. ما كان احسن ؟ صمتت لطيفة و هى تصفق ثلاثا بكفيها ، كما النقرات الايقاعيه التي تسبق موسيقى المقدمة فى الاغنيه ، و عندما بدأن فى الغناء قلن معا من خلال ابتسامهما و غمزاتهما ( كيفن نسيبو يروح وحيد ... فى رحلة مجهولة الامد ) . من ذا الذى سافر وحيدا ، الى اين و متى ؟

و بينما كانتا - بتول و لطيفة - تغنيان ( كيف الوداع لامن يحين وقت السفر ) أطلت ستنا ، القت بثوبها على البنبر الذى يجاور احد الاسرّة ، و قالت بلهجتها الآمرة الساخرة ( جنّيتن ؟... ده وكت غنا عليكن الله ؟) .... لكنها لم تلبث ان صارت بعضا من جوقة الغناء التى عادت الى مطلع الاغنية اكراما لوفادتها . و عندما قلن ( شوفوا القلوب كم تأتمر ... لو مرة سيد الناس أمر) تبسمن ، و مكثن يرددنها وفى خيالهن ، كما ألمحت اشاراتهن سيداحمد - ابو السيد - و المعرف لدى خاصته ب ( سيدا .. اى سيّدها ) - شقيقهما و خال لطيفة . واصلن غناءهن و لما وصلن الى ختام الاغنية ، جففت بتول بطرف من ثوبها المعطر ما تبقي من ادمعها و عادت الى كوب شايها الذى ابترد ، أما ستنا فقد واصلت جلوسها على البنبر وهى تصرّح بما أمّنت عليه حالا بتول ( و الله الشاعر دة كان جا الابيض الّا نعزمه و نضبح ليه ).

قبل اسبوع ، كانت بتول تجلس على ذات البنبر الذى احتلته ستنا الآن . كانت مستسلمة للماشطة التى ما فتئت تمطرها بوابل من أخبار البلد ، و تسألها عن أسعار التياب و العطور . كنت أتابع الماشطة و هى تغمس اطراف اصابعها فى محلول عطرى كانت تستخدمه لترطيب الشعر ، أو تجذب نفسا من الدخان ، ثم تعيد لفافة تبغها الى السكّرية الخاوية التى اتّخذت منها مطفأة ، بعد ان تنفض بعض رمادها داخل قارورة ( الخُمرة ) التى وضعتها بتول على تربيزة واطئة قرب السرير الذي جلست عليه الماشطة . كانت بتول تترنم حال صمت الماشطة بمطلع تلك الاغنية دونما توغل . كانت تكتفى ب ( يا قلبى المكتول كمد ) و اللازمة الموسيقية ، و تعقبها بلحظات من الصمت ، لتبدأها بعد هنيهة و قد ازداد صوتها خفوتا و عمقا . كان يعجبنى ذلك منها ، اعنى انسحابها مما حولها وغوصها فى ذاتها ، و ركونها الى اغنيه تهواها ، تقلّبها يمنه و يسرة فى دعة و مخالصة ، حينها تبدو وكأنها ترتاد عالما آخر.

كانت بتول قد تخلت عن زواجها الثالث و عادت الى بيت الاسرة بحى الشويحات . امرأة فى قمة نضجها و تألقها و شغفها بالحياة ، لا يسع طاقاتها الدافقة و مواهبها الا هذا البيت الذى كان مسكنا لذويها ، محطا لضيوفهم و محجا لمعارفهم من كل صوب . الي هذا البيت ، جئت بعد يومين أعقبا يوم (المشاط ) بالمجلة التى حملت نص الاغنية ، كان احتفاء بتول و ستنا و لطيفة بها عظيما . أولئك كن امرأتان و فتاة لم يتح لهن من التعليم النظامى الا نذرا يقرب من العدم ، لكنهن علمننى ان ثمة فرقا شاسعا بين الامية و الجهل .

و لما انتظم الانس ذلك المساء ، كان لعثمان خالد و حمد الريح و اغنيتهما تلك النصيب الأوفر ، مررن عليها سطرا سطرا و تأكدن من لحنها الذى اختزنّه فى حوافظهن المقتدرة. غنينها كما لا تصدق الأذن و بين حناياها نثرن شذرات من اغان لهنً سابقات .
تبسّم ود الحكيم - زوج ستنا - و هو يغيّب اصابع يديه فى شعره الجعد الكثيف ، ثم قال بنبرة الناقد العليم : الغنوه دى يا ستنا عيبها الطول الزايد ، انا شايف غنوتك انتى اجمل منها . لم يكن مستغربا منه انحيازه لها . ساد صمتٌ قصير قبل ان تسأله ستنا : ياتى واحده ؟ فأشار بابهام يسراه الى حيث كانت بتول ، ضحكت ستنا و قالت ضاحكةً : صحي ؟ عاد ما بــــالغتَ . ثم اعتدلت و هى تصفق فى رفق و تؤدةٍ، مغمضة عينيها فكأنها تستنزل الاغنية من سماء ذاكرتها الرحبة. لم تبدأ ستنا الاغنيه من مطلعها المعروف بل من حيث ارادت هى . غنت :
خلّى السفر سيبو ده القاسى تعذيبو
انت القليب عندك كيفن بتمشيبو
تمهّلت فى مدها آخر المقطع و تدرّج صوتها انخفاضا حتى تلاشى ثم امتلأ بحيويه مفاجئة و هي تقول :
و انا خايف ...
مشيرة بكفيها مستنهضةً لتلقى بنا جميعا فى خضم الاغنيه ، فالتجّت اصواتنا و تداخلت ، ناعمها و اجشها :
تنسانى انا فى يوم بالمرة ...
ردت علينا : يا سيدى خايف
فأعدنا : تنسانى انا فى يوم بالمرة
تلك اغنية ، كغيرها ، أنبتتها ستنا فى جنبات بيتها ذاك ، قبل ان يلتقطها من يزفها الى اذاعة ام درمان غير آبه بحقوق مؤلفتها الزاهده . كانت اغنية تؤرخ لأحدى سفرات شخص ما ، و اسى بتول منذ صباها على فراقه . ذلك الاسى الذى لازمها طويلا ، و وسم ما أحبت من أغان .
نقلا عن موقع سودان فور اول

Post: #2
Title: Re: بتول، وأغنيتها الأثيرة عبدالله محمد عبدالله
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 12-07-2014, 09:48 AM

شكرا، الأخ العزيز مطر، وجمال هذا النصّ ، لا يستمد حياته ونكهته وعذوبته من البراعة السردية واللغوية للكاتب فحسب، بل كذلك وجوهريا من الثراء الإنساني غير المحدود لعبد الله محمد عبدالله (ود السجانة). لكما خالص التحية. وأتمنى أن تقع عليه أنظار أهل الشأن هنا وهناك.