الذكريات نهضت بجيلها: ابن رشد الذي يصلحك

الذكريات نهضت بجيلها: ابن رشد الذي يصلحك


04-09-2014, 04:27 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=457&msg=1419308241&rn=0


Post: #1
Title: الذكريات نهضت بجيلها: ابن رشد الذي يصلحك
Author: عبدالله علي إبراهيم
Date: 04-09-2014, 04:27 AM

عبد الله علي إبراهيم
(أنشر، أو أعيد نشر، كلمات بمثابة ملامح من سيرتي الذاتية وجيلي آمل أن استكملها يوماً قريباً)
لما اختفيت عن الأنظار للعمل الثقافي التقدمي بأمر الحزب الشيوعي في نحو يوليو 1973 كنت قررت أن انتهز سانحة هذه الخلوة لأصفي ثأراتي الثقافية العاولة. كنت أريد أن أجدد عناية لي سلفت بالفلسفة الإسلامية وانمحقت. وكنت أريد أن أكون تلميذاً للدكتور عبد الله الطيب اتلقى علم العربية على يديه. وهي تلمذة لم أوفق فيه في واقع الأمر وفي أيام أفضل انقضت. وكنت أريد كذلك أن أجرد حساباً قديماً لي مع "إشراقة" التيجاني يوسف بشير. وقد وفقت خلال خلوتي الشيوعية التي أجهضت في 1978 أن احقق أكثر ما طمعت في تحقيقه والحمد لله.
قصة ثأري مع الفلسفة الإسلامية قديم وطريف. فلم يمر علينا يوم كماركسيين شباب لم يكن موضوع علاقتنا بتراثنا الإسلامي والعربي شاغلاً ضاغطاً. وربما كان الدكتور محمود أمين العالم، الذي قرأنا له في مجلة الرسالة الجديدة، هو الذي أزعجنا عن مرقد الخمول من هذه الجهة إلى الانشغال الحميم بها. ولكنه كان انشغالاً بغير شيخ. نلتقطه نبأ من هنا وآخراً من هناك. نسمع بالمعتزلة وتقليدهم العقلي فنهرع إلى جهتهم. ويطربنا في يوم آخر حديث ثورة القرامطة أو الزنج فنفتش عنهما. أو ننتصح بمن يحدثنا أن حل توترنا مع التراث في قراءة ابن رشد وكان آخرهم روجيه غارودي في "ماركسية القرن العشرين" حتى صار "الزميل" حركة إسلامية. وكنا تحت تأثير عقيدة الأخذ بالعناصر الإيجابية من التراث وترك السلبي منه. وهي الصيغة التي زينت لنا أنه بوسعنا ان ندخل دكانة التراث ونلتقط بضاعتنا المزجاة على كيفنا من الرف الذي نريد ونترك ما عداه. وهذه حيلة عاجزة. ولم نعلم أنه لن نقع على بغيتنا من التراث إلا بعد إحاطة كاملة به كإحاطة السوار بالمعصم.
دفعني هذا الشاغل لتسجيل اسمي بفصل الفلسفة بسنتى الأولي بكلية آداب جامعة الخرطوم عام 1960. وكان يدرسها الدكتور شاهين. وبدأ بنا من قعر الفلسفة وهم الإغريق من من مثل إكسماندر وإكسمانس. واسقمني حديث إكسماندر وإكسمنيس. ووددت لو بدأنا بالفقه الإسلامي وكيف استبطن نظر الإغريق ومنطقهم. وهجرت الفصل إلي ما عداه أو أن البروفسير عبد الله الطيب، عميد الكلية، حملني حملاً ل "دكه" لإحساني علم الجغرافيا. وانتهزت فرصة عطلة صيف 1961 لأصفي بعض حساباتي مع الفلسفة. فاستلفت من مكتبة الجامعة كتابين للعطلة كان واحدهما ديوان شعر نسيت أنه لمن. أما الكتاب الآخر فكان تهافت الفلاسفة لابن رشد. وقلت يا صيف ويا فلسفة جاك راجل.
وكان مصير هذين الكتابين طريفاً. فقد كان صيف 1961 في عطبرة ساخناً سياسة وحرارة لم أخلد فيه لو للحظة من وسن للقراءة في مكتبة المجلس البريطاني "الساقطة أم همبريب" كما قدرت. فقد كانت نذر إضراب نقابة السكة حديد تتجمع حتى وقع الإضراب بالفعل في 24 يونيو 1961. وأخذ منا التضامن مع النقابة جهداً ووقتاً أنتهى بي إلى الاعتقال في نقطة السوق الرئيسية والعشش. ورايت بعيني "الذي يصلحك" شاويش بوليس الجلابية. وأعجبني اسمه حتى جعلته عنوان بابي بجريدة الصحافي الدولي في أوائل سني هذا القرن. ولا زلت اذكر مشهدين من ذلك الاعتقال. سمعنا يوماً صوت زميلنا عبد السلام أحمد محجوب (جبسي) في المكتب يرتفع ويحتد لأنهم منعوه من زيارة أخيه عبد العظيم الذي طبلوه معنا. ولم يلبث جبسي قليلاً حتى التحم بشرطة النقطة كلها وبلغنا صوت المعركة غير المتكافئة حيث نحن. وهكذا جبسي. الواحد الذي يشكل أغلبية. اما الواقعة الثانية فهي الرجل الخفير الذي جاءنا مخموراً ليلاً يسب سنسفيل الحكومة. وما لبث أن عرف "قوة" الحكومة حين سمع باب الحديد الغليظ يغلق دونه ودون الحرية. فأخذ يخبط بكلتا يديه صارخاً:" تقبضوني أنا ، ليه. أنا لو . . . أنا شيوعي". ولم يجد الرفيق محمد محمود يوسف إزاء هذا التبشيع بالقضية العزيزة والزملاء سوى القول: "ما فيش فائدة".
ولم نكد نخرج من الحراسات حتى اندهجنا في عمل الحزب. وكلفونا في قطاع الطلبة بكتابة شعارات بشارع الدامر عطبرة ليلة افتتاحه بواسطة الفريق إبراهيم عبود. ورتبنا كل شيء. وجيئنا للمكان والموعد المضروبين بعجلاتنا. وتركناها في دغل شجري وتحركنا نحو الشارع لننقش احتجاجنا بالفرشة والبوهية البيضاء على زيارة زعيم عصابة 17 نوفمبر على أسفلت الشارع. وكنا مرهوبين ولا شك تجاه تحالف الوحشة والظلمة وخطر المهمة في مكان قفر. ووسوسنا مرة بعد أخرى. سمع أحدنا أصوات. بدا لآخر أن هناك من يتبعنا. ولما بلغنا الشارع كنا قد استنفدنا شجاعتنا واستولى الخوف على أقطار نفوسنا. فما كدنا نبدأ الكتابة حتى بدا لنا أن هناك من كاد يقبض علينا فولينا الأدبار نحو عطبرة. ولم نتذكر حتى أننا جيئنا إلى حتفنا بعجلات.
صارحت الوالد رحمه الله صبيحة اليوم التالي بجلية ما حدث. ولم أفاجأ بأنه لم ينبس ببنت شفة من لوم أو تقريع وهما من امتيازات الآباء في يوم كيومي ذاك. وكان حذرني بلباقة من الشيوعيين على أنه كان يدفع اشتراكي الشهري في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية" الإنجليزية بغلافها الأصفر الباهت من مكتبة الفكر الشيوعية بالمدينة. ولا زلت اذكر باب التضامن بالمجلة وفيه دعوات لهفى للتضامن مع شيوعيين في بلاد تركب الأفيال. لم يرتج على الوالد وذهب بوقار وثبات إلى لب المسألة. أشرف بنفسه على حرق جلبابي الذي تركت البوهية عليه بصمات لا أزعم أننا تركنا مثلها على أسفلت الشارع. ثم جاءني في آخر النهار بوصل مبايعة امتلك الدراجة بمقتضاه شخص آخر. وفي مساء نفس اليوم طرق الباب الزميل عبد الحميد علي، السكرتير التنظيمي الحالي للحزب الشيوعي، ونزل من عجلتي ذاتها التي لا تغباني. وقال بهدوئه المعهود وضحكة موؤدة: "لقد بعث الحزب من جاء بالعجلات. لقد أربك شعاركم قوى الأمن أمس."
عرض علي الوالد أن اقضي بقية العطلة مع عمي بالبلد وهي قرية القلعة بعمودية جلاس بمركز مروي. وقَبلت وحزمت شنطتي وفيها ديوان الشعر وكتاب تهافت الفلاسفة لعلي أجد فسحة من الوقت في البلد أطلع عليهما. ولما أخطرت الحزب بالرحلة جاءني عبد الحميد بقفة فيها منشورات أو مطبوعات لتبلغ الرفاق بكريمة. يقول السودانيون في مثلي: يسلوها من الطين تقع في الروب. ولما بلغت بندر كريمة اتصلت بالزميل المعلوم بمخزن البضاعة بالسكة حديد على شط النهر وسلمته أمانة عبد الحميد. ولا أعرف مدينة استثمرت النيل مثل كريمة. تبدو لي دائماً أنها في خفض من النيل كمثل قولنا إن الكاتب في خفض من اللغة. قضيت فيها شطراً من طفولتي وفيها الزونيا أيضاً للماشي والغاشي.
وفي البلد تركت ابن رشد وديوان الشعر لسافيات تحمل روثاً من زريبة غنم عمي إلى المنضدة التي عليها الكتب. ورحت أزرع القرى بغير رحمة. ولا أذكر ابن رشد اليوم بغير هذا الطيف من رائحة البلد. وهذا حديث ليوم آخر.