د. منصور خالد في حوار ليس للصفوة

د. منصور خالد في حوار ليس للصفوة


03-13-2002, 09:03 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=40&msg=1094453091&rn=1


Post: #1
Title: د. منصور خالد في حوار ليس للصفوة
Author: bunbun
Date: 03-13-2002, 09:03 AM
Parent: #0

جريدة البيان ..الاربعاء 29 ذو الحجة 1422 هـ الموافق 13 مارس 2002

د. منصور خالد في حوار ليس للصفوة


بيان الاربعاء: يشكل الدكتور منصور خالد رقماً مهماً على الساحة السياسية السودانية وهو شخصية لا تزال تثير الكثير من الجدل وينظر اليها وكأنها مجموعة من الشخصيات تدثرت جلد شخصية واحدة.


تربى الرجل ونشأ في بيئة دينية محافظة ومتفقهة في علوم الدين الاسلامي واللغة العربية وغلبت الغربة على حياته الشخصية فأوقعه ذلك في شراك الشبهات لكن الرجل لم يلتفت لذلك.


عاد إلى السودان بعد طول غياب في المهجر وانقلاب مايو 1969 لا يزال في اوج عنفوانه، فعمل وزيراً للشباب ثم للخارجية ومستشاراً لرئيس الجمهورية، خدم نظام مايو اكثر من عشر سنوات ثم تمرد على النميري وغادر السودان متجولاً في أكثر من مكان وشاغلاً لاكثر من وظيفة دولية وانبرى لكشف نقائص انقلاب مايو.


عاد إلى السودان في اعقاب الانتفاضة الشعبية التي اطاحت بنظام النميري في 1985. لم يمكث سوى ايام معدودات وغادر لينضم إلى «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، مستشاراً لزعيمها جون قرنق.


ولأن الدكتور خالد متعدد المعارف واللغات وفسيح العقل فقد عكف على الكتابة فأجادها. له من المؤلفات الكثير. كلها يحمل الهم السودان.


من مساهماته السياسية البارزة مشاركته في صناعة اتفاقية اديس ابابا 1972 التي هيأت للسودان عشر سنوات من الاستقرار السياسي، ومشاركته الفاعلة في التوصل إلى عدد من الاتفاقات بين الحركة الشعبية وبعض الفعاليات السياسية الاخرى، اسهم في اتخاذ التجمع الوطني الديمقراطي المعارض العديد من القرارات الناجزة.


وعندما نما إلى علمنا وجوده في دبي واستعداده لاجراء حوار مع «البيان» تشاورنا حول خطة تتيح اعتصار افكار الرجل عبر نقاش يأخذ طابع الندوة ولا يبتعد عن شكل «الاستجواب» بالوقوف عند كل ما يقول.. واستيضاح كل نقطة في حديثه.


في ركن هاديء بأحد فنادق دبي وجدناه في انتظارنا.. ها هو كما عرف عنه.. كامل الاناقة على الطراز الغربي، حتى المنديل المتدلي من جيب «البذلة».. العطر الخفيف له اريج يملأ المكان، وكأنه على موعد غرامي!! لم تطل «دردشة» ما قبل الحوار فقد كنا حريصين على الاستفادة من كل دقيقة.


رويداً رويداً وجدنا انفسنا غارقين في خضم نقاش ساخن.. زاده سخونة تبادل عفوي للأدوار: نسأل فيجيب فنقاطع، ثم يسأل هو ونجيب ولا يقاطع! راهنا منذ البداية على حوار غير عادي يكون مفهوماً لدى عامة الناس لا صفوتهم فحسب. مع شخصية غير عادية اشتهر بسلسلة كتابات عميقة سماها «حوار مع الصفوة».. وصاب املنا..


ونظرة سريعة على حصيلة جلسة «الحوار ـ الندوة» مع الدكتور خالد يمكن ان توضح إلى أي مدى كنا محقين: فها هو يوجه انتقادات قاسية للنظام، ليس على الطريقة الهتافية انما برصد نقاط منطقية مرتبة لا تملك الا وان تحترمها وان اختلفت معه حولها.


يقول في هذا الجانب باختصار ان النظام اختزل «ثوابته» في ثابت واحد هو التمسك بمفاتيح السلطة ويرى انه ـ النظام ـ تنكر لكل ماضيه في سبيل ارضاء الولايات المتحدة وفتحت لها كل الابواب في سابقة لم تحدث في كل بلاد العالم.


لكنه رغم ذلك يسلم بعد لأي بأن النظام «نجح في فك الحصار الدولي والاقليمي وان كان قد دفع ثمناً باهظاً لذلك».


ويتحدث عن ابعاد اتفاق وقف اطلاق النار بجبال النوبة حديث العارف بالدقائق مؤكداً ان تفاقم المجاعة ـ «وليس اي سبب آخر» هو الذي عجل بالاتفاق، ومقرراً بثقة انه لا يصلح انموذجاً يمكن تطبيقه في مناطق اخرى.


وبعد ان يؤكد ان القضية السودانية دخلت دائرة التدويل منذ زمن، في سياق انتقاده لمنتقدي التدخل الامريكي، لا يتردد الدكتور خالد في الاعتراف بأن المعارضة تقاعست عن واجبها في انقاذ الجوعى في هذه المنطقة في خضم جريها وراء اسقاط النظام.


وبعد ان يعلن بوضوح ان الحركة لا اعتراض لها في مشاركة أي دولة ـ بما فيها مصر ـ في لجنة مراقبة الهدنة، يشير إلى ان التجمع ليس معنياً بهذه الاتفاقية ولا بأخريات محتملات الا عندما يأتي الدور على المناطق التي يسيطر عليها.


ويتركز جل الحوار حول التجمع وتقييم مسيرته، فيبدي تردداً في توجيه انتقادات إلى هذا الكيان متحججاً بأن الكتابة عن التجربة بتجرد تستدعي ان يكون هو خارج التنظيم، لكنه يوافق في نهاية المطاف على النظر في الأمر.


ويتفرع الحديث عن التجمع إلى حديث عن قطبي السياسة السودانية التقليديين الزعيمين محمد عثمان الميرغني والصادق المهدي، فيبدي الدكتور خالد ضمناً انحيازاً للميرغني الذي قال انه ثابت في موقفه من النظام، ومقرراً ان التجمع يتفهم عودة شقيقة احمد والقيادي في حزبه فتحي شيلا من المنفى إلى الداخل.


وبعد ان يرفض اي مقارنة بين عودة هؤلاء ورجوع مساعدي الصادق المهدي قبله وعلى رأسهم مبارك الفاضل المهدي، يسخر من تصريحات الاخير حول الميرغني قائلاً: أنا شخصياً لا يتعامل مع هذا الميرغني بطريقة «تقبيل الايادي».


و«يناور» الدكتور خالد حول الاعتراف بخسارة التجمع من خروج المهدي من صفوفه قائلاً ان الخطوة تنطوي على خسارة ومكسب في آن واحد!! ورغم انه لا يتردد في القول بأن مكان حزب الأمة لا يزال شاغراً في صفوف التجمع الا انه لا ينسى فتح باب المقارعة «المزمنة» بينه وبين المهدي مشيراً إلى ان الاخير يعاني من مشكلة حقيقية تكمن في اصراره على تولي دور «الالفة»!! أي عريف الفصل ـ ويضيف: لقد صبرنا على تصرفاته المزعجة داخل التجمع لاننا كنا في حاجة اليه!! وفي المقابل يتخذ الدكتور خالد موقف المدافع عن الزعيم الاسلامي الدكتور حسن الترابي، عراب النظام السابق وسجينه حالياً.


ويرى ان الترابي يدفع الآن ثمن مناداته بالانفتاح والديمقراطية متحدياً المجموعة «السلطوية» الحاكمة.


وبعد ان يعزي عوائق انضمام الترابي للتجمع إلى اسباب سيكولوجية، يؤكد الدكتور خالد انه لابد من اعطاء حزب الترابي شرعية في أي وضع مقبل.


ويتطرق «الحوار ـ الندوة» إلى محاور اخرى يتوقع خلالها الدكتور خالد فشل أي حوار مرتقب بين الشيوعية والنظام الا بشروط يذكرها ويعلن ان الحركة ستبعث بياسر عرمان إلى الداخل لتحريك العمل السياسي متى ما توافرت الظروف المناسبة ويدافع عن هجمات الحركة على مواقع النفط مؤكداً ان ذلك أدى إلى انسحاب شركتين من العمل.


وفي سياق الحديث يوجه الدكتور خالد انتقادات للشخصية السودانية ملمحاً إلى انها اعتادت على الجعجعة دون طحن، وقال: «السودانيون يعتقدون ان الحديث عن القضايا يكفي لوضع حلول لها»!! كما يرد على «ذرائع» النظام في منع سفر وفد التجمع بالداخل إلى القاهرة. وقبل ان يختم اللقاء بالسخرية من مروجي «فرية» عمالته للمخابرات الامريكية، يقدم الدكتور خالد قراءة معمقة في مخاطر انفصال الجنوب متسائلاً في استنكار: هل الشعب السوداني مستعد للتخلي عن الجنوب، مستودع الثروات ثمناً أو رضوخاً لرؤى فئة منغلقة تصر على اقامة دولة دينية؟! والى نص «الحوار ـ الندوة»:


ـ لنبدأ أولاً باخر ما انتهت اليه التطورات في السودان، أي اتفاق جبال النوبة، باعتباره اول اتفاق بين «الحركة الشعبية لتحرير السودان» واي حكومة بالخرطوم.. ما خلفيات هذا الاتفاق وما تداعياته على الساحة السياسية السودانية؟ ـ أولاً تجدر الاشارة إلى ان هذا الاتفاق ليس هو الأول من نوعه، فمنذ ايام حكومة الصادق المهدي «86 ـ 1989م» تم التوصل إلى اتفاق ثلاثي بين الحكومة والحركة والأمم المتحدة وهو المتعلق ببرنامج «شريان الحياة» لتوصيل مواد الاغاثة إلى المواطنين بالمناطق التي تسيطر عليها قوات الحركة.. وهناك برنامج لتوفير ممرات آمنة لتوصيل هذه المواد. وبالتالي يندرج الاتفاق الأخير تحت هذا الاطار وليس هنالك جديد في موضوع التوصل لاتفاق بين الحركة والحكومة.


ـ بل هنالك جديد.. فهو أول اتفاق يتعلق بوقف اطلاق النار وبمراقبة أجنبية؟ ـ نعم.. هذا صحيح.. هذا صحيح لان الحركة درجت طوال الفترة الماضية خلال المفاوضات المتعلقة بهذا الأمر، على التمسك برؤية ثابتة مؤداها ان لا مجال لاتفاق حول وقف اطلاق النار الا في اطار حل شامل للقضية كلها.


فيما يتعلق بجبال النوبة هنالك امور عجلت بالاتفاق منها وضعية المنطقة كمنطقة تداخل. بمعنى آخر الحدود ليست واضحة كما هي في الجنوب، ثانياً تفشي المجاعة. وبالتالي كان لابد من اتفاق يهييء وقف اطلاق النار بشرط ان يتوفر ضمان لشيئين.. الأول الاستمرارية والثاني الا يستغل لاغراض عسكرية..


ـ الشيء الجديد الآخر هو ان الاتفاقات السابقة كانت بمشاركة وربما اشراف الأمم المتحدة.. لكن اتفاق جبال النوبة رسم ونظم ونفذ باشراف ـ ان لم نقل ضغوط مباشرة ـ من قبل الولايات المتحدة.. وهذا ما اثار جدلاً في الساحة السياسية السودانية وصلت إلى حد ان بعض السياسيين حذروا من ان تصبح المنطقة في نهاية المطاف «محمية امريكية» ما تعليقكم؟ ـ من من السياسيين قال ذلك بالتحديد؟ ـ طفحت صحف الخرطوم بالكثير من المقالات التي تحذر من ذلك. إلى جانب ان القيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي محمد اسماعيل الأزهري تحديداً صرح لصحيفتنا بذلك، وغيره كثر لا نستحضر اسماءهم الآن.


ـ بصرف النظر عما قيل وعمن قال اقول ان من يقولون هذا الحديث غير صادقين لانهم اغفلوا انه في كل الضغوط التي كانت تمارس على النظام لا يمكن ان ننسى وقوف امريكا إلى جانب المعارضة.. مثل التنديد بالانتهاكات التي كان يرتكبها النظام والتصويت ضده في كافة الصعد وتحديداً في قرارات الأمم المتحدة في الجمعية العامة في مجلس الأمن.. وكل ذلك كان يتم بطلب من المعارضة، وبالتالي فان كل ما يقال الآن شيء مرفوض وغير سليم من ناحية.


من الناحية الاخرى، عندما نتحدث عن التدخل الامريكي ينبغي ان ننتبه إلى اننا نعيش في منطقة تعج بأصوات تنحو هذا المنحى، لكن هذه الاصوات في النهاية اصوات مزايدة لان هذه المنطقة التي نعيش فيها نصفها يعتمد على امريكا في ضمان استقرارها والنصف الاخر يعتمد على هباتها ومساعداتها.


اضف إلى ذلك ان امريكا تلعب دوراً في حل مشاكل المنطقة. لعبت وتلعب دوراً في حماية منطقة الخليج إلى جانب دورها في مشكلة كشمير ومشكلة فلسطين والشرق الأوسط. فما الذي يجعل دور امريكا في السودان امراً غريباً؟ خلاصة الامر اعتقد ان ما يقال في هذا الجانب لغو لا معنى له.


ـ ما الجديد الذي طرأ حتى تنتبه امريكا اخيراً إلى مشكلة السودان إلى درجة تدفعها إلى تكثيف مساعيها لجمع الطرفين على اتفاق معين بعد ان كانت تصر علناً في وقت سابق على اسقاط نظام الخرطوم؟ ـ أولاً اتجاهها إلى جمع الطرفين ليس امراً جديداً.


أمريكا لم تكن بعيدة عن السودان. حتى في اشد الاوقات التي اتسمت فيها الاجواء بالعداء الشديد بين امريكا ونظام الخرطوم كانت امريكا تستخدم سلاح الجزرة والعصا مع النظام.. لكن ما حدث بعد 11 سبتمبر هو ان النظام تخلى للمرة الأولى عن رعاية الإرهاب، لا بل وفتح كل الابواب.. فتح القصر، فتح ملفات اجهزة الأمن.. وكل شيء امام الامريكيين.. الأمر الذي لم يحدث في أي دولة أخرى.


الجانب الاخر والمهم هو الجانب الانساني الذي جلب اهتمام الكثير من الناس خاصة بين زعماء الغرب الذين تكلموا في ذلك كثيراً. هنالك آلاف الاشخاص يموتون جوعاً هل هذه القضية قابلة لان يقول بعضهم وعندما تأتي امريكا لتساعدنا في انقاذ هؤلاء فان ذلك مدعاة لاهتبال الفرصة. فقد كان ذلك واجبنا الذي تقاعسنا عن ادائه حكومة ومعارضة.. ولكننا جعلنا قضيتنا الأولى اسقاط النظام حتى اذا كان ذلك ثمنه ان يموت هؤلاء الجوعى!! ـ هل ترى ان واشنطن اقتنعت اخيراً بعدم جدوى التعاون معكم في تنفيذ شعاركم المأثور «اقتلاع النظام من جذوره»، وبدأت تنحو إلى التفاهم مع النظام ما دام هذا الاخير متجاوباً، لتقتفي بذلك اثر اوروبا التي ارست هذا النوع من التعامل، خاصة واننا نذكر تصريحات مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية السابقة بالدعوة الصريحة لاسقاط النظام ابان اجتماعها معكم في نيروبي؟ ـ بالطبع موقف الإدارة الأمريكية الحالية يختلف عن موقف الإدارة السابقة التي كانت بالفعل ترى ان هذا النظام يجب ان يزول.


هنالك ضغوط على أي إدارة امريكية يجب لا نهون منها من قبل مجموعات ضغط متعددة مثل تلك المهتمة بحقوق الإنسان أو المجموعات المهتمة بمكافحة الرق أو الاخرى المهتمة بحرية الاديان وغير ذلك.. وكل هذه الضغوط من هذه المجموعات تلعب دوراً في التأثير على السياسة الامريكية.


ـ هناك من يريد ان يسوق اتفاق جبال النوبة باعتباره نموذجاً يمكن تطبيقه في مناطق اخرى مثل الانقسنا ومنطقة البجا، وغيرها ممن تطلقون عليها المناطق المهمشة ما يؤدي ـ حسب مخاوف البعض ـ إلى نشوء تكوينات جغرافية سياسية تضعف فيها سلطة الحكومة طردياً مع اتساع قوات المراقبة الأجنبية، وبالتالي تكريس وتوسيع دائرة تدويل القضية السودانية.


ـ القضية السودانية دخلت دائرة التدويل منذ زمن.


ـ هذا صحيح نسبياً لكن لم يصل الأمر إلى مرحلة وجود مراقبين دوليين.


ـ حتى في كل الحلول المقترحة وجود المراقبين شيء اساسي.


ـ ترى لماذا البدء بجبال النوبة رغم ان هذه المنطقة ليست منطقة «متفجرة» عسكرياً؟ ـ السبب هو تفشي المجاعة هناك.


ـ هل المجاعة بجنوب النوبة اكثر حدة من باقي المناطق الملتهبة عسكريا ؟ ـ الاوضاع الانسانية والغذائية في جبال النوبة خطيرة جداً ومأساوية، إلى جانب ذلك فقد ظلت الحكومة ترفض ان تدرج هذه المنطقة في نطاق مشروع «شريان الحياة» الاغاثي بالرغم من تعهدات قدمت للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان عندما زار السودان قبل نحو ثلاثة اعوام، بادخال هذه المنطقة في نطاق «شريان الحياة»، وعندما نكثت الحكومة بهذه التعهدات بات الوضع يستلزم حلاً حاسماً، واذا عجزت الامم المتحدة عن متابعة الأمر فان الجهة الوحيدة التي تستطيع الضغط في اتجاه الحل هي أمريكا.


ـ قلت ان كولن باول يتبنى الاتجاه للحل السلمي بدلاً من المواجهة، ولكن هذا اتجاه يتناقض مع السياسات التي تتبعها الولايات المتحدة حيال البؤر الملتهبة. بمعنى ان واشنطن لم تعد تطرح نفسها كوسيط أو كراع في أي مشكلة.. بل اصبحت تفرض الحل بطريقتها ؟ ـ ينبغي ان نفرق بين شيئين، بين الاستراتيجية وبين التكتيك للوصول إلى الاستراتيجية. والتكتيك الذي يتبعه الامريكيون هو نفسه ازاء كافة القضايا النظيرة.. أي سياسة الخطوة خطوة والبدء بالخطوة الاسهل، لكي يتسنى تحقيق شيئين: أولاً تأسيس بناء انجاز تدريجي بطريقة تراكمية.. ثانياً خلق جو يسوده الثقة بين الطرفين او اسلوب للتعامل بينهما. وهذه الصورة واضحة في معالجتهم للقضية الفلسطينية. ففي مثل هذه القضية كان من المتعذر البدء بموضوع القدس مثلاً.


ـ في هذا الملف بالذات امريكا لا تفعل شيئاً بل تركت العنف يأخذ مجراه ولم تقدم شيئا ؟ ـ لا.. لا اترك جانباً ما يحصل على الارض من مواجهات.. انا اتحدث عن استراتيجيتهم وهى واضحة وتمثل في اقامة دولتين.. وواضح انهم يتطلعون لقيام دولة فلسطينية واعلنوا ذلك..


ـ ولكن هذه الرؤية مطروحة منذ زمن؟ ـ لكي تصل لهذا الهدف تقول امريكا بضرورة وضع ملفات الحل النهائي جانباً مؤقتاً والبدء باجراءات تهيئة مناخ مثل ايقاف العنف، لجنة تينيت، لجنة ميتشيل وهكذا.


ـ نعود لموضوعنا بشأن القضية السودانية. ـ في الشأن السوداني بدأ الامريكيون بقضايا مهمة من منظور مجموعات الضغط التي تعمل هناك. على سبيل المثال اذا قالت الحكومة الامريكية لهذه المجموعات ذهبنا إلى الخرطوم وجلسنا مع حكامها لنتحدث حول اجراءات فترة انتقالية فان ذلك لن يرضي مجموعات الضغط فحسب بل سيتم رشقهم بالطماطم والبيض الفاسد!.. لا مناص من اظهار الادارة انها سعت لتحقيق خطوات عملية حيال القضايا التي تهتم بها هذه المجموعات.


وهذه المجموعات مهتمة اساساً بمسائل مثل المجاعة والرق والديمقراطية. ـ عفواً هل قضية الديمقراطية في السودان مطروحة في أجندة امريكا؟ ـ طبعاً مطروحة.. واحيلك إلى القرارات التي طبقت على اساسها العقوبات على النظام.


ـ تبدو امريكا في تعاملها مع القضية السودانية الآن كما لو كانت بوجهين وجه مع الحكومة والحركة والوجه الاخر مع المعارضة «التجمع» بدليل ان هنالك وفداً من التجمع توجه إلى امريكا مؤخراً لاستلام معونة مالية تبلغ ملايين الدولارات في خطوة ربما استهدفت تدجين المعارضة في هذا الوقت حتى لا تربك خططها للتدخل في جبال النوبة ثم في القضية كلها لاحقاً.


ـ اعتقد نظرة مثل هذه لا تعدو كونها اوهام لأن...


ـ لا بل المسألة واضحة.. بدليل مساعي واشنطن لجمع الحكومة والحركة، ومساعيها المتوازية لدعم التجمع.. معنى ذلك انها تقوم بدورين في آن واحد. ربما يؤدي في نهاية المطاف إلى استبعاد المعارضة! ـ هذا غير صحيح.. غير صحيح.. لأن دانفورث «المبعوث الامريكي» لم يعقد اجتماعاً او لقاء الا وكان حريصاً على الوقوف على رأي المعارضة.. دانفورث لم يكن يذهب إلى رمبيك مباشرة لمقابلة جون قرنق.. بل كان يأتي إلى الخرطوم ثم يذهب إلى رمبيك ويعود إلى القاهرة للقاء الميزغني.. ويقابل الصادق المهدي في الخرطوم وهكذا فان التلميح إلى استبعاد المعارضة مجرد وهم.. لكن يجب الا ننسى ان دانفورث عندما يسعى لوضع اتفاق لوقف النار في جبال النوبة فان الميرغني والمهدي ليسا معنيين بالقضية مباشرة بقدر ما يرتبط الأمر بالحكومة والحركة باعتبارهما الطرفين المتحاربين فعلاً في هذه المنطقة ولا شأن للاطراف الاخرى بهذا الأمر.


وغداً لو انتقل الأمر لبحث وقف اطلاق النار في الجنوب سيكون الأمر على ما هو عليه ولن يكون للتجمع دور.


ـ لا تنسَ انت أيضاً ان للتجمع قوات تحارب في....


ـ هذا موضوع آخر. يمكن ادراج التجمع في محادثات مثل هذه عندما يأتي اوان الانتقال لبحث الاوضاع في المناطق التي تسيطر عليها قوات التجمع.. وفي واقع الأمر ندرك جميعاً اين تقع هذه المناطق.


ـ سنفتح ملف «التجمع» لاحقاً ولكن دعنا نسأل: ما حقيقة ما يتردد حول محادثات تجرى الآن فعلاً لتطبيق نموذج جبال النوبة في منطقة البجا؟ ـ لا.. ليس صحيحاً.. ينبغي ان نعلم جيداً ان السبب الذي دفع بملف جبال النوبة إلى الاضواء والاستعجال هو تفاقم المجاعة ليس الا.. ولِمَ نذهب بعيداً.. فهناك منطقة جبال الانقسنا الواقعة تحت السيطرة الكاملة لقوات الحركة.. لا حديث حول فصل قوات فيها. وهكذا الأمر بالنسبة لكل المناطق التي تسيطر عليها «الحركة» فهي خالية من المجاعة ومن المشاكل..


ـ السؤال بتحديد اكثر.. هل سيطبق نموذج جبال النوبة على كل قضية الجنوب ومتى؟ ـ بالطبع لا.. لان ذلك غير ممكن.. اذا فكرنا في اتفاق لوقف اطلاق النار في الجنوب فلن يكون نموذج جبال النوبة مناسباً للتطبيق.. لان وقف اطلاق النار في الجنوب مرتبط بشيء آخر. وهذا ما حصل في «ايجاد».. عندما طولب قرنق بوقف النار فرد بالقول ان ذلك مرتبط بانجاز حل شامل.


ـ ننتقل إلى ملف التجمع.. ونبدأ بالاجتماع الذي عقدته هيئة القيادة في القاهرة واستوقف المراقبين لأنه تم في غياب الميرغني ربما لأول مرة؟ ـ الميرغني لم يكن موجوداً بالقاهرة.. وهذا طبيعي فاذا استجدت قضايا عاجلة ولم يكن الميرغني موجوداً فلا يعني ذلك ان يتوقف عمل التجمع.


ـ ربط البعض بين عقد اجتماع التجمع في غياب الميرغني وتحركات الأخير التي اعتبرت تمهيداً للتقارب مع النظام في نظر هذا البعض، مثل اجتماعه مع الأمين العام للحزب الحاكم ابراهيم أحمد عمر؟ ـ الميرغني مفوض من قبل قيادة التجمع بالالتقاء والاجتماع مع أي طرف في اتجاه البحث عن حل سياسي شامل للازمة.. وهو لم يعقد لقاء او اجتماعاً الا واخطر به قيادة التجمع.


ـ يتردد ان البعض داخل التجمع مستاء من تحركات الميزغني في اتجاه التهدئة مع الخرطوم حسب رأيهم؟ ـ لا اعرف من هم هؤلاء «البعض»، لكن معروف ان الميرغني فوض رسمياً في اجتماع رسمي للمعارضة باجراء الاتصالات وابلاغ هيئة القيادة بتفاصيلها.. وهذا ما يحدث.


ـ ألم تثر داخل التجمع أي حساسية ازاء عودة احمد الميرغني إلى الخرطوم الأمر الذي اعتبر تمهيداً لعودة الميرغني نفسه؟ ـ مطلقاً.. لان احمد الميرغني ليس عضواً بالتجمع ولم يقل انه عاد باسم التجمع .. ـ لكن حزبه يرأس التجمع وبعث بأحد قادته إلى الداخل وهو عضو قيادي في التجمع ونقصد فتحي شيلا.


ـ فتحي شيلا مجرد فرد وأفراد كثيرون عادوا.


ـ لكنه احد قادة التجمع.


ـ انتهت عضويته وعين الحزب في مكانه بالتجمع شخصاً اخر!.. الموجود في التجمع هو الحزب وليس فتحي شيلا.


ـ الا يرى التجمع أي ازدواجية في تعامل حزب الميرغني مع تحالف المعارضة والنظام في آن واحد بحيث انه يقود المعارضة في الخارج ويهييء للعودة بطريقة او اخرى بعد ان كان يملأ الدنيا ضجيجاً بضرورة اقتلاع النظام من جذوره؟ ـ نحن لا نظن مطلقاً بأن الميرغني يؤيد النظام وعلى ثقة تامة بأنه ثابت في موقفه.. اما ان يعود اعضاء في حزبه فلا يجب الا يثير ثائرة احد لان حزبه وقاعدته وتشكلاته كلها موجودة في الداخل بمافيها القيادة الاساسية، والأمين العام، الذي يقوم بنشاطه في الداخل ويخرج لمقابلة الميرغني ثم يعود إلى الداخل.


ـ ولماذا اثرتم تلك الضجة الكبيرة عندما وقع مبارك المهدي «الأمين العام السابق للتجمع» اتفاقاً مع النظام تمهيداً لعودة قيادات حزبه. ولا يملك المرء الا ان يقارن بين بيانات الادانة التي اطلقتموها ضد مبارك المهدي وصمتكم المطبق حيال عودة فتحي شيلا؟ ـ لو كان شيلا عائداً للتحالف مع النظام او ليتخذ موقفاً مغايراً من موقف حزبه أو من موقف التجمع.. فهذا موضوع كان سيثير الضجة نفسها.. ولكن الأمر بالنسبة لشيلا مختلف ويتعلق بظروف شخصية تقتضي عودته.


ـ لا ليس الأمر متعلقاً بموضوع أو ظرف شخصي. لقد أعلن بنفسه انه عائد لتوحيد صفوف الحزب وتهيئته لمرحلة جديدة من مراحل الحل السياسي المحتمل.. ورغم ذلك لم ينطيق احد من قادة التجمع بكلمة.. الا ترى ازدواجاً في المعايير؟ ـ لا.. لا.. لا ازدواجية ولا مجال للمقارنة بين الموقفين «شيلا ومبارك المهدي». حيث ان مبارك وقع اتفاقاً مع النظام وقبل ان يصدر أي تفويض لأي جهة لتوقيع اتفاق وفي وقت كنا نرفع شعار «اقتلاع النظام». منهج التجمع تحول الآن منذ مؤتمر مصوع.


ـ لكن ليس هنالك قرار بالعودة أليس كذلك؟ ـ بالطبع ليس هنالك قرار بالرجوع.


ـ وبالتالي يمكن ان يرجع الميرغني نفسه ويقول انه رجع ولكن حزبه باق في التجمع!! ـ عموماً لا أرى مجالاً للمقارنة بين توقيع مبارك المهدي اتفاقاً مع الحكومة وهو لا يزال الأمين العام للتجمع. وبين رجوع شيلا بقرار شخصي بعد ان ترك مكانه في التجمع.


ـ ولكن الأمر كما قلنا لا يتعلق بأمر شخصي.. هذا تنفيذ لقرار صادر من حزبه.. ونحن لا نعرف شيلا بصفته الحزبية ووضعه في حزبه بل نعرفه عضواً في هيئة قيادة التجمع.. فجأة باغت الجميع بالرجوع دون ان يكلف نفسه عناء اصدار بيان او تقديم استقالة أو أي شيء.. وتغاضت قيادة التجمع عن ذلك. ـ لا بل قدم استقالة وعين حزبه من يحل محله في هيئة القيادة.


ـ ما الذي يمنع تكرر السيناريو نفسه مع الميرغني بحيث يعود غداً بأي عذر ويترك احداً غيره في مكانه بالتجمع؟ ـ الأمر يختلف مع الميرغني لانه منتخب كرئيس للتجمع.


ـ هذا الرئيس هل يمكن ان يعود ليقود العمل المعارض من الداخل.


ـ اذا توافرت الظروف المواتية يمكن ان يرجع.. لكن الظروف الآن غير مواتية؟ ـ حسناً.. هذه الظروف التي تراها غير مواتية، قدر حزب المهدي انها مواتية. ـ هذا شأن حزب المهدي.. بمعنى آخر اذا قدرت «الحركة الشعبية» اليوم ان الظروف مواتية للعمل من الداخل فلا مانع من ان نرسل ياسر عرمان غداً إلى الخرطوم للعمل بالداخل.. اذا كان في مقدورنا الآن ان نعيد كل كوادرنا لنقوم بعمل معارك لخلخلة النظام لم نكن لنتردد.. ولكن مبارك المهدي لم يعد لهذا الهدف انما للتحالف مع النظام.. هذا هو الفرق.


ـ هل الظروف مواتية الآن لكم لفعل ذلك؟ ـ لا.


ـ وما الذي يجعلها مواتية لفتحي شيلا وحزبه؟ ـ لكل حزب ظروفه الخاصة.. فحزب مثل الحزب الاتحادي يعاني من انقسامات يحتاج لتوحيده لنوع من العمل الحركي غير المرئي، تحدد قيادة الحزب من هو الشخص المناسب لادائه،.


المشكلة تبدأ اذا اتجه الشخص المكلف بعمل محدد إلى عمل مخالف للتكليف ويتجاوزه إلى التحالف مع النظام.


ـ الخلاصة انكم في التجمع لا ترون أي حساسية ازاء خطوات حزب الميرغني التي يرى كثيرون وبوضوح انها تمهد للعودة إلى الداخل بالكامل.. اليس كذلك؟ ـ هذا يعتمد على تقييم الغرض من عودة الكوادر يعتقد البعض ان الهدف من عودة هذه الكوادر يكمن في التهيئة للتحالف او التعاون مع النظام.. انا ارى ان الخطوة تستهدف تهيئة حزبهم للمرحلة الانتقالية التي تحدثنا عنها كثيراً.


ـ ولماذا لا تحضر الفصائل الاخرى في التجمع لهكذا مرحلة؟ ـ من قال ان هذه الفصائل لا تقوم بالتحضير لذلك؟ ـ لم نر احداً عاد إلى الداخل ليفعل ذلك كما فعل حزب الميرغني.


ـ الأمر يختلف.. هنالك احزاب لها قواعد جماهيرية.. انت شخصياً من تتوقع ان يعود لينظم جماهيره؟ ـ هل هذا اعتراف بأن فصائل التجمع الاخرى بما فيها «الحركة» لا تملك قواعد جماهيرية في الداخل؟ ـ لا الحركة امرها مختلف.. الحركة لها قواعدها وتعمل بطريقتها بحيث لا يكشف عن قواعدها ولا يمكن ان تعلن عنها.


ـ بعد فترة من الهدوء شنت قوات التحالف التابعة للعميد عبدالعزيز خالد هجوماً على منطقة قريبة من كسلا خلال الايام الماضية.. ما مؤشرات هذا الهجوم؟ هل هو بداية لتصعيد عسكري جديد في المنطقة الشرقية؟ ـ لست ادري ولست ملماً بتفاصيل هذا التطور ولكن على كل حال هذا الفصيل يحتفظ بقوات في هذه المنطقة.


ـ هذه قوات تابعة للتجمع.. كيف لا تدري شيئاً عن الهجوم؟ ـ نعم قوات التجمع موجودة ولكنني شخصياً لا اتابع دقائق الامور العسكرية، كل ما اعلمه ان الجيش الحكومي يقوم بهجمات كثيرة جداً على هذه القوات فتضطر للرد عليها.


ـ لا.. لم تكن العملية الأخيرة صداً لهجوم.. طبقاً للبيان الذي صدر عن قوات التحالف.. كان هجوماً منظماً يستهدف حامية حكومية. وقال البيان ان الهجوم بداية لمرحلة تصعيد النضال العسكري ضد النظام حتى اسقاطه. هل هذا هو رأي التجمع أم ان الأمر خاص أيضاً بقوات التحالف؟ ـ لست ملماً ولست مخولاً بالتحدث عن الأمور العسكرية البحتة ولا استطيع ان أعلق على بيان لم اطلع عليه.


ـ نعود لاطار نحسب انك تلم بكل دقائقه، أي الوضع العسكري في الجنوب.. ما مدلول الهدوء العسكري النسبي الذي يشهده الجنوب؟ ـ لا وجود لهدوء عسكري بدليل ان قوات الحركة شنت هجوماً كبيراً على مواقع النفط قبل ثلاثة اسابيع وتكبدت الحكومة خسائر فادحة في اعالي النيل، واعلن عن ذلك في وقته.


ـ بمناسبة حديثكم عن هذا الهجوم وفي اطار تحذيراتكم المتكررة باستهداف مناطق البترول.. هل الحركة قادرة فعلا على تهديد انتاج البترول وتصديره.. ثم الا تخشون من المجازفة بفقدان تعاطف الشعب السوداني الذي يرى في النفط طاقة امل جديدة لتحسين احوال الوطن الاقتصادية وحرصه على جعله ثروة قومية ينبغي عدم مسها؟ ـ تقول الحركة ان مناطق انتاج البترول هدف عسكري مشروع وعندما تقول ذلك تنفذ خططها بالطريقة التي تراها صواباً وبالطبع بسرية.. وكما ذكرت قبل قليل فقد شنت قوات الحركة هجوماً ناجحاً قبل اسبوعين او ثلاثة، في اطار تحذيراتها، على مواقع بترولية وادى ذلك الهجوم بالفعل إلى انسحاب شركتي نفط خارجيتين كانتا تعملان بالمنطقة وهي تحديداً الشركة السويسرية والشركة النمساوية، اما عن السؤال بشأن المجازفة بفقدان التعاطف الشعبي.. فدعني اسألك وأسال من يروجون لهذه الفكرة: هل فكرتم ابداً في اسباب ارتفاع اسعار الوقود في السودان في الوقت الذي يشهد العالم انخفاضاً في اسعار النفط.. هل فكرتم في الاسباب التي تجعل بلداً نفطياً عاجزاً عن دفع رواتب المدرسين لعدة اشهر؟ الا يكفي ذلك مؤشراً في التساؤل عن مواضع صرف العائد من البترول؟ ـ اين في اعتقادك تصرف هذه العائدات؟ ـ تدخل في تمويل الحرب بالتأكيد، بشراء الأسلحة ودفع الديون المتراكمة من صفقات الأسلحة السابقة.. فاذا كان مواطن ما يقبل بأن تصرف هذه الأموال في هذه المواضع فهذا شأنه.


ـ نجح النظام مؤخراً في فك الحصار عن نفسه خارجياً بقدر ما نجح في ذلك داخلياً وكسب مساحة كبيرة في هذا الاطار بعودة الصادق المهدي وبعده احمد الميرغني وفتح قنوات حوار مع محمد عثمان الميرغني، والوصول إلى اتفاق هدنة في جبال النوبة مع قرنق، وفي هذا الاطار يتردد الحديث عن فتح حوار بين النظام والحزب الشيوعي، وبذلك يكون النظام قد نجح في تفكيك اخر متاريس المعارضة.. كيف تقرأ هذه التطورات؟ ـ كل التحركات والعمليات التي يجريها النظام هي عمليات تجميلية منطلقة من عقليات «علاقات عامة» وهي غير مفيدة لانها تنطوي على عيب أساسي.. بمعنى اخر، وبمثال محدد، اللقاء الذي يتردد انه سيعقد مع الحزب الشيوعي محكوم عليه بالفشل مسبقاً اذا لم يفض إلى اطروحات الحزب الشيوعي المبنية على المطالبة بتوسيع دائرة الحريات، والغاء القوانين، المقيدة لها، والفترة الانتقالية المؤسسة على تفكيك النظام.. اذا لم يتحقق كل هذا فان أي لقاء بين النظام وأي طرف يكون غير ذي معنى.. ولن يغير في الأمر الواقع.


ـ هل لام اكول في طريقه إلى الالتحاق بالحركة مجدداً على خطى مشار؟ ـ لا اعلم.. ولكن حديثه الأخير للتلفزيون السوداني يحمل مضامين واضحة تدل على استيائه من النظام الذي حمله اكول مسئولية عدم تطبيق الاتفاقات.


ـ ألم يفض اليك بما ينوي عمله عندما التقيت به؟ ـ انا لم التق به.


ـ بل التقيت به على مائدة الغداء في القاهرة وتردد انك انت الذي حرضته على العودة إلى الخرطوم ليعمل من الداخل؟ ـ اكرر: انا لم التق بلام اكول لكن كلامه للتلفزيون واضح ولا يحتاج مني لاضافة شيء.


ـ الا ترى ان الصادق المهدي حقق مكاسب سياسية بعد عودته للسودان؟ ـ اشك في ذلك.


ـ الا ترى انه يملك مساحة للحركة.. حتى انه يقوم برحلات خارجية ويقول ما يريد؟ ـ كان الاجدى لنعترف انه يملك مساحة حقيقية للحركة، ان يسمح له بالسفر إلى معاقل مناصري حزبه خارج العاصمة مثل دارفور وكردفان والنيل الأبيض ليلتقي بقواعده الجماهيرية.


ـ ليس بالضرورة ان يسافر شخصياً إلى هذه المناطق اذ يكفي ان وفود حزبه تلتقي بجماهيره هناك؟ ـ انا اتحدث عنه هو شخصياً.


ـ ماذا تقصد بـ «هو شخصياً؟ ـ السماح له هو شخصياً يعني اكثر، خصوصاً وانك انت الذي اشرت إلى سفره الكثير للخارج.


ـ هل ترى انه يواجه عقبات في التحرك داخل البلاد؟ ـ هذه الجوانب هو الاكثر الماماً بها والا ف..


ـ المهدي يتحدث عن مرحلة انتقالية مقبلة وكذلك حزب الميرغني ما هي ملامح هذه المرحلة؟ ـ واضح ان المعارضة والحكومة متجهتان نحو القبول بمخرج للأزمة.. الحكومة تقبل بمرحلة انتقالية ولكنها تريد ان تبقى خلالها على ثوابتها.. وثوابتها لم تعد هي الثوابت التي كانت تتشدق بها في الماضي.. بل تقلصت إلى ثابت واحد فقط يتمثل في امساكها بمفاتيح السلطة.. أما التجمع فيتحدث عن فترة انتقالية تفكك فيها مفاصل السلطة الحالية.


ـ هذان طرحان متناقضان والاختلاف حولهما معروف منذ امد. السؤال هو ما الجديد في هذا الصدد الذي يجعلكم جميعاً تتحدثون عن مرحلة انتقالية مقبلة وكأنكم ترونها مرأى العين؟ ـ الكلام عن المرحلة الانتقالية موجود ولكن المحك في موقف الحكومة عندما يأتي التطبيق.


ـ هل يتعرض النظام لضغوط في اتجاه التخلي عن السلطة؟ ـ نعم ـ من أي طرف؟ ـ الأوروبيون يتحدثون عن ضرورة ارساء الحريات والديمقراطية والأمريكيون كذلك.


ـ لكن وضح في الفترة الأخيرة ان امريكا لم تعد في وضع معاد للنظام وانتقلت من مرحلة الاصرار على اسقاطه إلى مرحلة التفاهم معه.. باشادات علنية من اركان الادارة الامريكية بتجاوب الخرطوم مع طلباتها ما اثار شكوكاً حول احتمال تحول العلاقة إلى تحالف.. ما الذي يمنع ذلك؟ ـ لا اظن.


ـ ألم تلحظ ان السودان الذي كان أول المرشحين للاستهداف الأمريكي بعد 11 سبتمبر استثنى تماماً من اي قائمة محتملة لتكون أهدافاً لضربات امريكية وهي قائمة طويلة؟ ـ صحيح.. ولكن مرد ذلك يعود إلى ان الخرطوم فتحت امام الإدارة الامريكية كل الابواب واعطتها كل ما ترغب فيه من معلومات.


ـ اذن ما الذي يمنع ان تفتح هذه الابواب إلى مدى اوسع يفضي بالعلاقات إلى مدى أبعد؟ ـ لن يؤدي هذا الباب إلى شيء لان الأمور في النهاية تتعلق باهتمام امريكي وعالمي بايقاف الحرب الاهلية في السودان لا يمكن التغاضي عنه.. والعالم كله يدري انه لا يمكن ان يكون هنالك ايقاف حرب الا في اطار سودان موحد و.. ـ من في العالم مهتم بموضوع وحدة السودان؟ ـ الجميع.. حتى المبعوث الامريكي صرح اكثر من مرة ان بلاده حريصة على ان يبقى السودان موحداً.. ماذا يفعل اكثر من ذلك؟ هل عليه ان يقوم بتوزيع منشورات عليها تصريحاته ويسلمها لكل سوداني في أي مكان؟!! ـ المقصود ان النظام الآن لا يتعرض لأي ضغوط.. الضغوط التي كانت تمارسها امريكا تلاشت تماماً؟ ـ ألا يعني تمديد العقوبات الأمريكية على السودان نوعاً من الضغط على النظام؟ ـ ليس بذلك القدر.. ولاحظ ان واشنطن اعطت باليد الاخرى تأشيرات لمسئولين في النظام لزيارتها الأمر الذي كان غير متاح فيما مضى؟ ـ للعلم فان اعضاء الوفد السوداني الذي ذهب إلى امريكا طلب منهم الا يتجاوزوا حدود واشنطن.


ـ وماذا يريد الوفد اكثر من ذلك؟ هل هم في رحلة سياحية؟! لقد ذهبوا في مهمة رسمية ويكفي لاتمامها البقاء في واشنطن.. يكفي انهم دخلوا.. وهذا في حد ذاته تطور جديد.


ـ نعم.. ولكن هذه العراقيل والشروط لها دلالات.


ـ ألا تظن ان السماح لهم بدخول واشنطن حتى ولو ليوم واحد وفي مكان محدود، يعد تطوراً جديداً وذا مغزى في مسيرة علاقات؟ ـ بالطبع نعم.. فهذه مكافأة للنظام على استسلامه الكامل للطلبات الأمريكية إلى درجة ان نفتح...


ـ حسناً.. السؤال هو إلى اي مدى يمكن ان تصل هذه المكافأة؟ اعني ان حدود المكافأة يمكن تجر إلى آفاق اخرى.


ـ إلى أي آفاق؟ ـ إلى حد التحالف مثلاً ـ ثم ماذا.. ماذا سيفعلون بشأن الحرب؟ ـ يمكن ان تطوق الحركة وتتجه اليها الضغوط التي كانت تمارس على الحكومة.. خاصة وان الإدارة قبلت الان التعامل مع نظام البشير كنظام «امر واقع» ويبدو انها باتت غير مقتنعة بفعالية المعارضة ضده من تجمع وغيره.


ـ سأذهب مع افتراضاتكم إلى آخر مدى. تمارس امريكا الضغط على الحركة وتتحالف مع الخرطوم ليصلوا إلى ماذا؟ هل سيسعيان إلى فصل السودان إلى دولتين؟ ـ بل لايقاف الحرب بضغوط ووسائل أمريكية في اطار دولة الأمر الواقع.. ما الذي يمنع تطبيق هذا السناريو الافتراضي؟ ـ دولة الأمر الواقع هذه تسيطر على الخرطوم وضواحيها وشمال السودان لكنها لا تملك السيطرة على مناطق كثيرة في الشرق والغرب، ناهيك عن دولة الأمر الواقع الاخرى القائمة في الجنوب ماذا سيفعلون معها؟ ـ اذا اوقفت امريكا دعمها للحركة فلن تقوم قائمة لدولة الجنوب؟ ـ أي نوع من الدعم تقصدون؟ ـ الدعم المادي والسياسي.


ـ ليس هنالك دعم مادي يأتي للحركة من الإدارة الامريكية.. هذه حقيقة يجب ان تسجل. الدعم الذي تحصل عليه الحركة يأتي من قواعد لا تزال تطالب حتى اليوم بإزالة النظام، بما في ذلك الكونجرس.. وبهذه المناسبة لم يحدث في تاريخ امريكا ان اتخذ الكونجرس قراراً ضد نظام معين بأغلبية 422 صوتاً ضد اثنين فقط.


امريكا ليست دانفورث فقط.. هنالك قوى كثيرة ولا تستطيع الادارة ان تمنعها من دعم الجهة التي تريدها هذه القوى.


خلاصة القول اننا تحدثنا عن افتراضات وتابعناها لنهاياتها تقريباً.. ولكن بغض النظر عن ذلك فان الحقيقة التي اجد نفسي متأكداً منها هي اهتمام امريكا بارساء الديمقراطية في السودان الأمر الذي سيحل طردياً قضايا اخرى كثيرة مثل حقوق الانسان وحرية الاديان والحريات السياسية وغيرها.


ـ هذا صحيح اذا كانت لدينا في السودان مؤسسات ديمقراطية حقيقية.. ولكن تجاربنا في هذا المجال لا تبعث على الأمل.. وهذا يفتح الباب أمام ملف جديد سيأتي لاحقاً.. ولكن نعود لنقطة نجاح النظام في فك الحصار الذي كان مضروباً حوله، الا ترون ان النظام نجح في اعادة علاقاته مع مصر واريتريا واثيوبيا واوغندا، وانفتحت امامه أبواب المنطقة العربية كلها ناهيك عن دول الاتحاد الأوروبي؟ ـ هذا صحيح ولكن كان لذلك ثمن كبير دفعه النظام.. وتبدو هنا المفارقة.. النظام لكي يصل إلى هذه النقطة تنازل عن كل ما كان يسميه ثوابت وتنكر لكل شيء كان يدعو له.. وانتهى به الأمر إلى ادانة الحركة التي نشأت في حضنه.


ـ لكنه كسب في المقابل.. فيما تراجعت المعارضة في كل الميادين حتى انها خسرت الحلفاء.. ولم تربح شيئاً؟ ـ نعم خسرت حلفاء لكن لا يستطيع ان نقول انها لم تربح.. ربحت بأنها ارغمت النظام على التراجع والتنكر لشعاراته حتى ان النظام بات اليوم يخاطب اوروبا وامريكا بلغة الحرص على الديمقراطية والتعددية.


ـ هذا يمكن ان يكون مجرد كلام وخلاص ويبقى الامر على ما هو عليه حتى ان البشير في آخر خطاب له في افتتاح مؤتمر البرلمانات العربية أكد تمسك النظام بكل ثوابته.


ـ حسنا.. فليقل ما يريد داخلياً ولكن عندما تذهب وفوده وعندما يتحدث وزراؤه في الخارج في باريس وفي لندن بغير ما يتحدث به البشير.. فان المحك سيكون غداً عندما يعقد اجتماع لكل الاطراف للبحث عن حل.. اجتماع مشابه لاجتماع سويسرا ويطلب من الجميع طروحاتهم لتحقيق الديمقراطية فانهم لن يجدوا مخرجاً سوى التخلي عما يسمونه بالثوابت.


ـ بالمناسبة.. كيف دخلت سويسرا على الخط السوداني؟ ـ سويسرا على الخط منذ زمن بعيد.


ـ نريد تفاصيل.


ـ كان ذلك عن طريق سفيرهم في نيروبي منذ ايام مؤتمر برشلونة وفي مؤتمر لاهاي.


ـ هل للتجمع أي قناة مع السويسريين؟ ـ «بعد صمت» إذا اعتبرتني من التجمع نعم «ويضحك».


ـ نعود لملف التجمع مجدداً.. لوحظ ان التجمع انكمش مؤخراً وخفض صوته حتى قيل انه وهب دوره للحركة التي علا صوتها اكثر فأكثر خصوصاً بعد خروج المهدي من صفوفه.. هل توافق على ذلك؟ ـ قد يكون مرد الأمر إلى ان الحركة هي التي تحارب فعلاً في الميدان.


ـ السؤال بطريقة معدلة واكثر تحديدا.. هل شعرتم في التجمع بانكم خسرتم بخروج الصادق المهدي؟ ـ للخسارة أكثر من معنى ولكن ينبغي الا نسمح للنظام بان يتقوى بالداخل. ولحسن الحظ فان رجوع الصادق اثبت صحة المخاوف التي كانت تثيرها المعارضة بالخارج وكذب عملياً اوهامه بامكانية اقناع النظام سلماً.. واذا ثبت بالفعل ان المهدي فشل في ذلك فهذا مكسب للتجمع وليس خسارة.. ورغم ذلك كرر التجمع كثيراً القول بأن مكان حزب الأمة لا يزال شاغراً في صفوف المعارضة.


ـ أما زلتم تعتقدون ان هذا المكان شاغر بالفعل حتى الآن؟ ـ نعم.. مازلنا نعتقد ذلك.


ـ هل هنالك أي جهود لاعادة حزب الأمة إلى مكانه الشاغر بالتجمع؟ ـ بالطبع.


ـ ماذا تم من خطوات عملية في هذا الاتجاه؟ ـ آخر اجتماع للتجمع صدر عنه نداء لحزب الأمة.


ـ هل هنالك تجاوب من الحزب.. هل هنالك اتصالات مباشرة لمحاولة اقناعهم بالعودة لصفوف التجمع؟ ـ المؤسف في موقف حزب الأمة انه منشق على نفسه.. هنالك عناصر تدفع في اتجاه التحالف مع النظام وعناصر اخرى تعارض ذلك بشدة. لنؤازر هذه العناصر الرافضة للنظام علينا ان نفعل شيئاً ونواصل التواصل ونسعى لذلك.


ـ يبدو ان المهدي فكر في سد الفراغ الذي تركه الترابي عندما انشق عن النظام.. لماذا لم يفكر التجمع في هذا الاتجاه عندما وقف النظام عارياً بعد انشقاق الترابي، ليتم احتواؤه في مرحلة تالية بعد التعاون معه؟ ـ كيف يمكننا ان نتعاون مع النظام اذا كان لا يزال متشبثاً بمواقفه وثوابته؟ ـ لقد قلت قبل قليل ان النظام تنكر لكل ثوابته وتقول الآن انه متشبث بها.. ألا ترى تناقضا في حديثك؟ ـ انا اقصد انه متشبث بموقعه.. بمعنى آخر بات واضحاً الآن ان ثوابت النظام تقلصت إلى التشبث بالسلطة ولم تعد الشعارات والاطروحات التي كانت تملأ بها الدنيا ضجيجا. وهنالك عناصر داخل هذا النظام لا يمكن ان تتنازل عن هذه السلطة.. تريد ان تمسك بالمقاتيح لانها تخشى على نفسها اذا ابتعدت عن السلطة. وهذا ليس مجرد تخرص.. ففي اجتماع جيبوتي بين الوفد الحكومي والصادق، وعندما طرح الاخير موضوع المساءلة قال له نافع ابراهيم نافع بكل وضوح: لا يمكن ان نقبل بادراج بند كهذا لترسلونا إلى المشانق بموجبه لاحقاً.


وهذا ما دفع الصادق الى القبول بتعديل البند إلى صيغة تعني العفو المتبادل.. وما إلى ذلك.


الخلاصة ان المجموعة المسيطرة على السلطة لا يمكن ان تتنازل عنها، ما يعني استحالة التعاون معها.. الكلام يكون منطقياً اذ دعوت إلى التعاون مع الجناح المنشق عن النظام في اتجاه اسقاط الجناح المتشبث بالسلطة.


ـ هنا يطل سؤال يشغل بال الكثيرين: كيف سمحتم لانفسكم ان تتسارعوا إلى الغفران للترابي عن كل مساويء النظام في ذروة سيطرته على مفاصل الحكم.. رغم انكم تعلمون انه هو الذي خطط للانقلاب واتى بالنظام وظل عرابه الذي ابتدع «الثوابت» واذاق معارضيه أنواع العذاب لسنوات عدة؟ كيف نفهم ان تنسوا كل هذا وتهرعوا للتنسيق معه لمحاربة المجموعة الحاكمة التي تبدو هي المعتدلة بدليل اتساع هامش الحرية بعد ذهاب الترابي؟ ـ هذا أيضاً كلام مبني على افتراضات. أي ان هنالك طرفا معتدلا وآخر متشددا داخل النظام.. انا شخصياً لا اعتقد ان المجموعة الحاكمة الان طرف معتدل.. الفرق بين الطرفين ان الترابي يلعب السياسة، أما هؤلاء فأناس سلطويون. أما ما يردده البعض حول ان الخلاف بين النظام والترابي بدأ يوم خروجه من صفوفه، فهذا خطأ. لأن المعركة بدأت منذ ان طالب الترابي بحل مجلس الثورة.. وبدأت عندما قرر حل الجبهة الإسلامية القومية لتكوين حزب عريض وادخل فيه مسيحيين.


ـ معنى هذا انك تشهد على صحة ما يردده مناصرو الترابي من ان سبب الخلاف كان مطالبته بتوسيع دائرة الحرية والديمقراطية وان المجموعة الحاكمة الآن هي التي رفضت هذا التوجه؟ ـ نعم اوافق على ذلك تماماً.. الأمر الآخر ان العمل السياسي الحقيقي يحتاج لحسبة واقعية والواقع ان الترابي له قاعدة جماهيرية ولكنه لا يحكم.. واذا كنا نستعد للدخول في حكومة انتقالية تقبل حتى بالبشير فليس من المنطق ان نرفض التعاون مع الترابي لاسقاط النظام. ولابد من اعطاء حزب الترابي شرعية في أي وضع مقبل بأي صورة من الصور خاصة وان التوجه خلال الحوار الدائر حالياً على جميع المستويات سواء كان المبادرة المصرية الليبية أو مبادرة ايجاد أو مقترحات امريكية كلها قائمة على اقتسام السلطة بمشاركة الجميع. وبالتالي ليس منطقياً ان ارفض التعاون مع الترابي الذي قبل، ليس فقط بموضوع الفترة الانتقالية التي تحل محل حكومة البشير، بل قبل حتى بموضوع المحاسبة كما ورد في مذكرة التفاهم مع الحركة.. وهو الأمر الذي رفضته المجموعة الحاكمة في اتفاقها مع الصادق في جيبوتي.


ـ هل هنالك اتجاه لضم حزب الترابي إلى التجمع وماذا سيحصل اذا قدم الترابي طلباً بذلك؟ ـ لا يوجد شيء عملي محدد في اتجاه ضم أو انضمام حزب الترابي للتجمع ولكن التجمع وجه في اجتماعه الأخير فصائله في الداخل إلى التعاون سياسياً مع كل القوى المعارضة للنظام للعمل ضده.


ـ ما الذي يمنع انضمام حزب الترابي للتجمع رسمياً؟ ـ اضافة إلى ضرورة الموافقة على مواثيق التجمع قد تكون هنالك أسباب سيكولوجية لدى الطرفين. ولكن على كل حال لكي يتم التعاون على عمل سياسي ليس من الضرورة ان ينحشر جميع الاطراف في بوتقة بعينها.


ـ هل انتم الرافضون لانضمامهم أم هم؟ ـ لم يحصل طرح محدد في هذا الاتجاه لنرفض نحن أو يرفضوا هم.. ولكن هنالك اتفاق بين الحركة وحزب الترابي على ان تعمل الحركة على طرح وجهة نظر «المؤتمر الشعبي» على التجمع.


ـ نعود لملف التجمع.. وهنا يلاحظ ان التجمع يمر بحالة «بيات شتوي»، ولم يعد يملك زمام المبادرة لا سياسياً ولا عسكرياً واصبح يعتمد في مواقفه على مجرد رد الفعل. والمشهد بكامله مدعاة لتفشي حالة احباط شديدة للشعب السوداني ومتابعي قضيته وسط كم هائل من المبادرات.


بعيداً عن التنظير وما ظللنا نسمعه من ضجيج شفهي كثير، ما هو تصور التجمع السياسي للخروج من هذه الدوامة؟ ـ اعتقد ان الاعتماد على المبادرات الخارجية اتجاه غير سليم.. وصحيح ان التجمع لم يكن منبعاً لهذه المبادرات بل كان فقط يدلي برأيه فيها ويفتح قنوات اتصال وحوار مع أصحاب المبادرات لكن المحك الحقيقي والميدان الأساسي للعمل يظل هو التحرك في الداخل.. العامل الأساسي الذي يمكن التعويل عليه لتغيير الموازين هو قدرة التجمع في تفعيل العمل السياسي بالداخل، وليس بالضرورة الاعتماد فقط على العمل العسكري.. وهذه قضية تعتمد أيضاً على تفاعل المواطنين السودانيين مع تحرك التجمع وعلى عاتقهم تقع مسئولية كبرى.


ـ كيف تتفاعل الجماهير مع تحرك لا ترى له قيادة فاعلة.. التجمع يتابع فقط تحركات محدودة لقيادة عاجزة عن تحريك قدرات الجماهير؟ ـ كيف لا توجد قيادة؟ ـ يرد ذلك في صلب حديثك.. انت تقول ان المهدي عاجز عن التحرك خارج العاصمة ومقيد في حركته السياسية.. والتجمع بالداخل ممنوع من السفر إلى الخارج للتنسيق مع تجمع الخارج؟ ـ انا قصدت ان المواطن السوداني عليه مسئولية المساهمة بما يستطيع في العمل المعارض، واكرر القول ان العمل الأهم هو التحرك في الداخل.


ـ هل تراهنون حقاً على تحرك ضد النظام من الداخل وما هي متطلبات ذلك؟ ـ بصراحة التحرك في الداخل لا يحتاج سوى للمال! الفلوس وبس.. التمويل هو المشكلة الحقيقية.. واعتقد ان 5 ملايين يمكن ان تحل المشكلة. ـ الا يملك التجمع 5 ملايين؟! ـ بالطبع لا يملك.


ـ ولا الحركة؟ ـ الحركة الآن تحتضر «قاعدة تموت»!! ـ نسألك من منطلق مكانتك الفكرية والثقافية ومن منطلق ما عرف عنك بالصراحة الشديدة في تشريح مكامن الاخفاق في السياسة السودانية، كما طالعنا ذلك في سلسلة كتبك مثل «لا خير فينا ان لم نقلها».. و«النخبة السودانية وادمان الفشل».. و«حوار مع الصفوة» .. على ضوء ذلك نريد اجابة صريحة: هل أنت راض عن مسيرة التجمع بكل ما يجري داخله؟ ـ هل تريدون ان أعلن آرائي السلبية حول التجمع وانا عضو في قيادته؟ ـ نعتقد ان ذلك سيكون مفيداً للتجمع نفسه.. لم لا؟ لان سياسة الطبطبة المتبعة ادت إلى كارثة وستؤدي إلى المزيد.. لابد من نقد ذاتي جريء وصريح.. ما رأيك؟ ـ صحيح.. صحيح.


ـ الا توافقنا الرأي في ان الصمت في مثل هذه المواقف يوازي خيانة القضية؟ ـ نعم.. لكن المرء يكون متنازعاً احياناً بين موازنات كثيرة.. وللكتابة عن التجربة بتجرد هذا يستدعي استقالتي من موقعي!! ـ لكنك كتبت عن نظام النميري وانت داخله فصدرت سلسلة «لا خير فينا ان لم نقلها» وانت لا تزال في موقعك بقيادة تنظيم الاتحاد الاشتراكي الحاكم أليس كذلك؟ ـ نعم.. نعم.


ـ هكذا عرفناك صريحاً.. تنتقد النميري.. وتقيم تجارب الهامات الوطنية بتجرد وترصد لهم وما عليهم، وكتبت في الصادق المهدي «ما لم يقله مالك في الخمر» كما يقولون.. فما الذي يسكت قلمك عن التجمع؟ ـ هل هذا تأليب؟ قالها «ضاحكاً».


ـ لا بل المقصود توضيح أهمية النقد الذاتي ولا ندري ان كان التجمع يمارس ذلك داخل الغرف المغلقة على الأقل.. أم لا.وعلى صلة بالسؤال: هل صحيح ان ما يقال ان الميرغني واقع تحت وصاية الحركة؟ وان الفصائل الاخرى في التجمع واقعة تحت وصاية الميرغني؟ ـ لا.. لا.. هذا غير صحيح.. ومن يحضر اجتماعات التجمع سيجد ان النقاش خلاله يتسم بصراحة شديدة.. ولا اظن ان... ـ قال مبارك الفاضل ان السيد محمد عثمان الميرغني لا يحتمل ان يتعامل معه الناس بصفته السياسية انما يريد ان يعامل من حوله على أساس زعامته الطائفية باظهار الاجلال و«تبويس الايادي» والموافقة على كل ما يقول.. هل هذا صحيح؟ ـ انا شخصياً لا اتعامل معه بهذه الطريقة.. والتعامل بيننا طبيعي جداً.. وان كان يرى مبارك المهدي غير هذا فهذا شأنه.


ـ يتردد مؤخراً ان هنالك نوعاً من عدم الانسجام بين بعض فصائل التجمع والميرغني.. وان ذلك هو السبب في تراجع ديناميكية التجمع ما مدى صحة ذلك؟ ـ لا اظن ان المسألة عدم انسجام.. القضية تكمن في قلة، بل انعدام، الموارد المالية.


ـ ونظن ايضاً ان المشكلة ليست في الموارد فحسب.. بل واضح ان التجمع يعقد اجتماعاً ويتخذ قرارات كبيرة وبحماس شديد.. وما ان ينفض الجمع حتى يعود كل شيء إلى ما كان عليه.. هل توافقنا على ذلك؟ ـ نعم.. وبصراحة هذه مشكلة في الشخصية السودانية.. السودانيون درجوا على الاعتقاد بأن أي قضية يمكن ان تحل بالكلام عنها.. لكنهم لم يعتادوا على تنزيل هذا الكلام إلى برامج محددة.. هذا يحدث حتى في اجتماعات مجلس الوزراء.. اذ يمكن ان يقدم احد الوزراء مشروعاً يكلف الملايين ويتحدث عنه بطريقة تقنع المجلس بتبنيه دون ان يكلف نفسه حتى مناقشة وزير المالية في كيفية تدبير موارد هذا المشروع!!.. هذه مشكلة حقيقية وتنطبق حتى على الأحزاب.


ـ بهذا تكون قد اكتملت الصورة القاتمة للاوضاع التي سبق ان قلنا انها محبطة. اليس كذلك؟ ـ هذه هي الحقيقة.. ولكن لا تنسى ان الأمر ينطبق على كل فرد فينا ودعوني اسألكم كم من الناس هنا في اوساطكم لا هم لهم ان اجتمعوا سوى التحدث في نقائص التجمع؟.. لكن لكم منهم يطرح حلاً عملياً لتجنب هذه النقائص؟ لا أحد.. لا شيء سوى اجترار الحديث نفسه عن النقائض نفسها!! ـ حتى لا يلوك الناس سيرة التجمع بالنقائص الاجدر بالتجمع ان يناقش نقائصه ويحاول معالجتها.. اليس كذلك؟ ـ نعم.. نعم.


ـ هل هذا هو ما يحدث فعلاً؟ ـ «بعد صمت».. نعم ولا!! ـ كيف؟ ـ نعم لانه يناقش فعلاً.. ولا لانه يناقش الأمر بالعقلية نفسها!! مثلاً: جميل ان يعقد اجتماع لبحث امكانية استقطاب دعم المغتربين للتجمع.. وجميل ان يتبرع احد المجتمعين بتقديم صورة وردية للأمر فيذكرنا بأن في الخليج مثلاً كذا الف مغترب ولو دفع كل واحد منهم ريالاً او درهماً واحداً فان الحصيلة ستكون كذا ثم ينتقل إلى الحديث عن المغتربين في المهاجر الغربية الذين يمكن ان نحصل منهم على كذا.. ويتحمس الجميع ولكن لا احد يسأل او يوضح من اين سنجد الموارد التي ستمكننا من الوصول إلى هؤلاء المتبرعين.. وهكذا.


ـ هل هذه الصورة هي احد العوامل التي ربما دفعت الصادق المهدي لفقدان الثقة في التجمع وقطع آماله في اصلاحه؟ ـ لا.. مشكلة الصادق مشكلة مختلفة.


ـ ما هي هذه المشكلة؟ ـ مشكلة الصادق تكمن في رغبته ان يكون دائماً هو «الالفة» ـ «عريف الفصل» ـ أي ان يكون هو القائد لكل شيء.


ـ لكنكم عرضتم عليه هذا الدور ورفض؟ ـ عرضنا ماذا؟ ورفض ماذا؟ ـ بمجرد خروجه من السودان عرض عليه الميرغني اعادة تشكيل هيكل قيادة التجمع بحيث يتبوأ منصباً يتناسب وحجمه السياسي، أو قل حجم حزبه.. لكنه رفض متعهداً بأن يعمل من خارج القيادة بذات الحماس كما لو كان داخلها.. اليس كذلك؟ ـ هذا صحيح.. هذا صحيح.. لكنه كان يأتي بتصرفات توحي بتمسكه بدور «الالفة».. خذ مثلاً: اذا عقد اجتماع لقيادة التجمع تجد ان الصادق يصر على ان يسحب كرسيه ويجلس على المنصة بجانب الرئيس مع انه ليس عضواً «لان حزبه ممثل بشخص آخر» وليس هو نائب الرئيس!! ـ هل كان يقحم نفسه في هذه الاجتماعات بدون توجيه الدعوة اليه؟ ولماذا لم توقفوه عند حده ان كنتم ترون في ذلك ما يزعجكم؟ ـ في ذلك الوقت كنا بحاجة اليه!! ـ كان في نيتنا عندما بدأنا التحضير لهذه «الندوة» أو اللقاء ان نخرج في محصلته بمبادرة لمصالحة شخصية بينكم وبين الصادق المهدي لإزالة ما خلفه التناطح السياسي من حساسية في علاقاتكم.


ـ «ضاحكاً».. ولماذا تزيلونها؟ ـ كلاكما رقم مهم في الساحة السياسية السودانية.. الا يكفي هذا مدعاة للتوافق بينكم لصالح السودان.


ـ هل انتم راضون عما يفعله الصادق المهدي؟ ـ نحن وكل السودانيين غير راضين عن سيطرة الخصومة الشخصية والبغضاء بين قادة العمل السياسي في وطننا.


ـ الأمر بيني وبين الصادق ليس خصومة شخصية.. لا ينافسني على شيء ولا انا انافسه في شيء.. وقد لاحظتم انني في كل ما كتبته عنه لا ابخسه حقه في التذكير بمكانته وامكانياته الشخصية كمثقف كبير.


ـ وردت في خاطري على التو عبارة «ربنا ستر» وتساءلت عما اذا كانت هذه الروح المتنافرة هي التي كانت ستسود لو انكم تمكنتم من الحكم في ذروة فوران التجمع التي كان يتحرك ابانها المهدي بدينامية ونشاط مميز!! ما تعليقك؟ ـ لا ينبغي ان نفترض ان أي حكومة مقبلة بديلة للنظام لابد ان يكون الصادق أو نقد أو فلان أو علان شخصياً ممثلاً فيها! آن الأوان لان يتجنب الناس التفكير بهذه الطريقة الضيقة.. السودان بلد واسع فلماذا علينا ان نفترض ان يكون فلان او علان هو الجدير بالحكم؟! ـ قبل ان ننتقل من ملف التجمع إلى ملف آخر.. اود ان اسمع ردكم على حجة النظام التي تبدو مقنعة عندما برر منع وفد تجمع الداخل من السفر إلى القاهرة لحضور الاجتماع الأخير.


ـ ما هي هذه الحجة المقنعة؟ ـ يقول المسئولون في الخرطوم انهم سمحوا لذات الوفد بالمشاركة في اجتماع اسمرة الذي سبق اجتماع القاهرة لابداء حسن النية تجاه التجمع ودفعه نحو التركيز على الحل السلمي وتحقيق الوفاق فاذا بالقادمين من الداخل هم الذين يحرضون الاجتماع على التمسك بالعمل المسلح.. ولا حكومة في الدنيا يمكن ان ترضى بمنح حرية العمل والتحرك لتنظيم يدعو علناً لحمل السلاح لاسقاطها فما ردكم؟ ـ هذه ليست الحقيقة لأن وفد الداخل عندما وصل إلى اسمرة كنا قد قررنا الا يحضر اعضاؤه الجلسات المخصصة لمناقشة هذا الأمر. وبالتالي فان اهل الحكم قد كذبوا كذبة صريحة في هذه النقطة.. هذا من جانب، من الجانب الاخر فان ما قيل يندرج في اطار الاسلوب «الملولب» «المراوغ».. والا... ترى لماذا تريد الحكومة التفاوض مع التجمع؟ بالطبع لانهاء حرب قائمة فعلاً.. ولان التجمع له قوات تحارب في الشمال والشرق والمناطق الأخرى.. وبالتالي فان التحاجج بأن وفد الداخل قام للترويج للعمل العسكري ذريعة واهية لان التجمع لا يحتاج إلى شخص أو اثنين يأتيان من الخرطوم ليقنعاه بالعمل المسلح.


من جانب ثالث من الخطأ ان تتعامل السلطة مع أعضاء وفد الداخل وكأنهم سفراء لها وجاءوا لعرض رؤيتها.. هؤلاء ليسوا سفراء للنظام وهؤلاء ليسوا شخصيات مستقلة تمثل انفسها... بل هم ممثلون للتجمع بالداخل وبالتالي فان اطروحاتهم وافكارهم وبرامجهم هي نفسها التي يتبناها التجمع.


ـ خلاصة الأمر.. إلى اين تمضي مآل الأمور بمجملها؟وهل انت متفائل بالمستقبل.. هل في الافق ما يشير فعلاً إلى ان السلام والوئام والاستقرار مقبل.. ام تشير المؤشرات إلى ان الاسوأ هو المقبل باستمرار الدمار واراقة الدماء وربما انتهاء بانفصال الجنوب؟ في أي اتجاه تمضي الأمور؟ ـ الأمر رهين بموقف النظام.. اذا اصر على اجندته واقصد هنا اجندة فرض الأمور السياسية كما يريد، في هذه الحالة لن يكون هنالك ايقاف حرب.. والعالم لن يقف طويلاً موقف المتفرج من هذه الملهاة، هذه الحقيقة يجب التركيز عليها. وهي ادعى إلى ان يصر الناس في الشمال على تصعيد العمل السياسي ضد النظام.


ـ يتردد ان هنالك مجموعة داخل الحركة ترى انه بعد كل الارواح التي زهقت في الحرب وقيام ما يشبه الدولة فان اية تسوية لا تؤدي إلى انفصال الجنوب ـ بما فيها الكونفيدرالية ـ تعتبر ردة إلى الوراء.. هل هذا صحيح؟ ـ نعم هنالك عناصر مثل هؤلاء في الجنوب وفي الشمال أيضاً.


ـ نسأل عن وجودهم داخل الحركة؟ ـ نعم موجودون داخل الحركة.


ـ هل لهم ثقل كبير؟ ـ بالطبع ليسوا التيار الغالب.. والا لكانت القضية قد حسمت منذ زمن.


ـ لا نقصد عددهم.. ربما لهم نفوذ كبير احتكاماً بالسلاح مثلاً.


ـ لا.. هم اناس اصيبوا بالاحباط كما اصبتم انتم به من طول امد الحرب.. ويرون انهم يموتون من اجل هدف لا يموت الشماليون انفسهم من اجله.. وهذا يبدو منطقياً من جانب.. ولكن قيادة الحركة لانها تملك نظرة مستقبلية واعية تدرك ان هذا صراع.. والصراع قد يلتهم اجيالاً!.. هذا بالنسبة لشخص يتمتع بالوعي السياسي لكن ذوو الوعي المحدود لا يملكون تقدير الأمور بطريقة صائبة.


ـ اذن دعني اطرح سؤالاً يراود بعض ذوي «الوعي المحدود» هؤلاء.. ما الذي يضير لو انفصل الجنوب ثمناً للخروج من هذه المحرقة التي قد تلتهم اجيالاً كما تقول؟ ماذا يضير لو قامت دولتان متجاورتان لتعيشا في سلام؟ ولماذا لا يطالب الشماليون انفسهم بفصل الجنوب لانهاء حرب لا نرى لها نهاية ولا مكسباً يستحق اهدار كل هذه الدماء؟ اين تكمن الخطورة اذا انفصل الجنوب؟ هذا السؤال اطرحه عليك بصفتك احد ابناء الشمال.. لا بصفتك القيادية في الحركة.


ـ يا عزيزي.. كل الحروب في الجنوب منذ الاستقلال «عام 56م» هي حروب فرضها الشماليون على الجنوب للاحتفاظ بهذا الجزء من الوطن.


بمعنى آخر الجنوبيون لم يشعلوا حرباً لينفصلوا وانما الشماليون هم الذين بدأوا الحرب ليوقفوا ما ظنوه محاولة للانفصال.. وعندما تأتي بعد كل هذه الحروب لتقول: خلاص.. وكأن شيئاً لم يكن.. تكون مطالباً بأن تجري استطلاعاً أو استفتاء.


ـ السؤال بطريقة اخرى.. ما هي المخاطر التي تحيق بالشمال في حال انفصل الجنوب؟ ـ المخاطر كثيرة.. أولاً: لا احد يعرف المدى الذي ستصل إليه تداعيات الانفصال على المناطق الاخرى فقد «تكر السبحة».


ثانياً: الجنوب هو مستودع الثروات الحقيقية اليوم من نفط ومياه وغابات واراض زراعية وغيرها.. في الوقت الذي يعاني الشمال من زحف التصحر، الذي يصل حتى كوستى.. هذا واقع مخيف ولا نفعل شيئاً لايقافه.. فهل الشعب السوداني مستعد للتضحية بكل هذا ليكون الثمن قيام دولة دينية؟! اذ لا يقف عقبة أمام الوحدة سوى هذه العقبة التي يفتعلها النظام، في تقاطع مع طروحات كل القوى السياسية الاخرى.. ثم هل سيقبل الشماليون المطالبون بدولة مدنية بقيام دولة دينية ويكون ثمنها تقطيع اوصال الوطن؟ ـ لكن لا ننسى ان الثروات في الشمال ليست بالقدر الهين.. تتحدث عن الاراضي الزراعية والمياه والثروات المعدنية وهي متوفرة في الشمال.. ثم ان الحرب الممتدة منذ اكثر من خمسين عاما ولا نرى في الافق نهاية لها تلتهم ثروات الشمال ولا تتيح امكانية للاستفادة من ثروات الجنوب.. إلى جانب ان الأموال التي صرفت في هذه الحرب اللعينة ـ دعك من الارواح التي ازهقت ـ كانت كفيلة بجعل دولة في الشمال في مصاف الدول المتقدمة؟ ـ هذه مجرد افتراضات.. لكن السؤال الملح الآن هو: اليوم الظروف مهيأة اكثر مما مضى لتحقيق الوحدة ببروز قوى جنوبية، لأول مرة، تصر على اقامة دولة مدنية موحدة.. فلماذا نضحي بهذه الظروف في سبيل التمسك بدولة دينية هي مثار جدل ـ ان لم يكن رفض ـ حتى في الشمال؟ ـ سأنتقل مباشرة إلى سؤال ترددت في طرحه لما فيه من جانب شخصي لكنني استصوبت تحمل الحرج من اجل القاريء الذي افترض انه يتشوق لسماع ردك.. فقد تردد كثيراً بل ويطفح على صفحات بعض الصحف من آن لآخر انك عميل للمخابرات الأمريكية.. ما ردك على مروجي هذه التهمة؟ ـ تريدني ان اجيب على سؤال كهذا في خضم حديثنا عن هذه القضايا المهمة؟! ـ تماماً.. واصر على السؤال لانه يطرق ذهن الكثيرين ولان الوقت قد ازف لنختم اللقاء؟ ـ حسنا مثل هذا الكلام درجنا على تجاهله وتجاوزه لانه يندرج في خانة «السفاهة».. وهذه من التهم السائدة في المنطقة خاصة من قبل الجماعات المتطرفة ـ أياً كان نوع التطرف ـ ضد كل من يخالفهم الرأي.. وقذف الناس بتهم مثل هذه تنضح «بالسخافة» خصوصاً في عالم اليوم.. في زمن تقوم فيه امريكا بالتدخل في كل شيء حتى انها تسعى لحل قضية فلسطين وعبر مخابراتها. في زمن مثل هذا يكون مثل هذا الكلام غير ذي معنى ولذلك لا اقف عنده كثيراً ولا اعيره اهتماماً. من جانب اخر عندما يكون المرء قد تربى في احضان الامم المتحدة ويتدرج الى مكانة تؤهله لخلق علاقات واسعة مع اشخاص رفيعي المستوى وتؤهله بالتالي حتى للالتقاء برؤساء أمريكا نفسها فلا يكون عندها في حاجة ليكون مجرد عميل لجهاز في إدارتها!!