تشييع نقد: حياة أثناء الموت!

تشييع نقد: حياة أثناء الموت!


03-30-2012, 12:56 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=380&msg=1333108594&rn=5


Post: #1
Title: تشييع نقد: حياة أثناء الموت!
Author: راشد مصطفي بخيت
Date: 03-30-2012, 12:56 PM
Parent: #0

تشييع نقد: حياة أثناء الموت!
راشد مصطفى بخيت.

(1)
لم أشهد في حياتي تشييعاً بمهابة تشييع جثمان الراحل محمد إبراهيم نقد وقبله محمد الحسن سالم حميد. حيث شعرت بأن الموت الذي بدأ في مطاردتنا بسرعته القصوى مع بداية هذا العام بدأ يترنح بشدة في المسافة ما بين المركز العام للحزب الشيوعي السوداني وبين الجريف ومقابر فاروق.
الحياة تنبض في عيون آلاف المارة والمشيعين كأن الموكب الهادر هذا، موكب عرس ولا صلة له بالموت برغم فداحة الحزن الذي يخيم على وجوه الجميع. تداخلت المشاعر وازدانت مقابر فاروق بلوحة بهية قوامها اللون الأحمر ورايات الطرق الصوفية ولافتات صممت بحب بالغ من أقل المواد كلفةً! قابلني رجل فوق الستين من العمر، يرتدي قميص أفندية أهلكه تكرار الغسيل لسنوات طويلة ربما حتى استحال لمنديل ورق خفيف الوزن لكنه بالغ النظافة! يرتدي هذا الرجل أيضاً "ملفحاً" أبيض أظنه استخدمه للوقاية من شدة البرد في الساعات الأولى من الصبح مع وصول الجثمان من لندن. حمل هذا الرجل لافتة كرتونية صغيرة لم يرغب أبداً في إنزالها كأنها راية من رايات معركة كرري الشهيرة. كتب عليها بخط واضح: نقد: حضرنا ولم نجدك!
أعادتني هذه اللافتة الصغيرة لمشهد الثورات العربية المندلعة في كل صوب، تكثِّف عبقريتها بعض اللافتات والشعارات الذكية التي لم تجد قناة الجزيرة القطرية أفضل منها لتكون شعارات ثابتة لبعض برامجها الهامة.
مؤكد أن هذا الرجل جلس وصنع تلك اللافتة بنفسه على ذات فرية صناعة نقد للافتته تلك. ذلك لأن طبيعة الخط الذي كتبت به وتركيبها علي "قناية" صغرى، ليس أبداً نتيجة صناعة منظمة كتلك التي رأيناها تلوح في أفق المسيرة والتشييع بكامله. أعرف جيداً الفرق بين اللافتات المصنوعة صنعة يسارية واللافتات التي تنتجها عبقرية الجماهير. فقد كنت يوماً أصنع مثلها أثناء فترة دراستي الجامعية وبأدوات مختلفة.
نقد كان حاضراً أيها الرفيق صاحب القميص المنديلي؛ أظنك رأيته وهو يمد لسانه للموت أكثر من مرة أثناء ذلك الموكب المهيب.
(2)
بعد التشييع عدنا لصيوان العزاء ننتظر مراسم التأبين ونهاية العزاء الرسمي ونستمع لما يلقى من كلمات. الجنوب كان حاضراً بعنفوان ما قبل الانفصال، وبيتر أدوك وزير التعليم العالي لحكومة جنوب السودان ألقى كلمة ضافية أعاد فيها الأمل بإمكانية عودة الجنوب مرة أخرى، كجزء من دولة واحدة كبرى تطمح لتبوأ مكانها بين الأمم العظمى في هذه البسيطة. أما جوزيف موديستو عضو اللجنة المركزية السابق ومؤسس – مع آخرين طبعاً – الحزب الشيوعي لدولة جنوب السودان زفَّ هذا الخبر المفرح لنقد أثناء كلمته المعبرة تلك. وقد أكَّد الرجل أن المستقبل ينتظره جهد كبير قبل أن تعود الأمور لسابق عهدها الأوَّل، لكنه أكَّد على يقظة هذا الحلم أيضاً بداخلهم وأن السياق السياسي كفيل بانجاز الأحلام المؤجلة ولو بعد حين!
لا أظن أن آلاف الهتافات الهادرة وآلاف الأيادي التي ما انفكت تصفق بحرارة للرجلين يمكن أن تخطئ بحثها لتحقيق هذا الحلم ولو بعد آلاف السنين.
ضجَّ صيوان العزاء بحياة تكاد تقفز من بين الجوانح، الحياة هي الملمح الوحيد في مأتم نقد؛ فهل يعقل أن يموت من وهب الناس كل هذا الأمل بعد يأسٍ وقنوط استمر لسنوات طويلة، إلى أن أصبح مخيماً على سماءنا الداكنة بالقمع وبالتنكيل بالخصوم وبالاختناق الذي يشعر به أي فرد في المجتمع منذ زمن ليس بالقصير؟
(3)
في الكلمات التي ألقاها ممثلو الأحزاب السياسية والشهادات الذي ذكرها أصدقاء وزملاء ومجايلي الرجل، الكثير مما يستحق الوقوف عنده، لكن شهادة الترابي وفاروق محمد إبراهيم، وإبراهيم الشيخ وممثل حزب البعث السوداني كانت الأقوى من بين جميع الكلمات الأخرى في ظني.
فشهادة الترابي جاءت قوية برغم عدم ثقة الشيوعيين البائنة في حديث الرجل، وقد أفاض في الحديث بدربة فكرية عرف بها لكنه هذه المرة كان أكثر وضوحاً في تأكيد أن لا يصبح موت نقد مثابة للتفرق والفتنة، وأن لا ينقطع مجهوده الذي كان يبذله لرأب الصدع وتوحيد الجهود بين الأحزاب السياسية لأن نقد وبشهادة الترابي؛ ذلك الخصم اللدود، كان هو الرجل الذي يجتمع عند كلمته الفرقاء. قال الترابي بالحرف الواحد: ليت نقد كتب أكثر مما كتب في حياته لأن ذلك لربما يكون هو الطريق الذي يؤدي لمشروع وطني متكامل ترضى به جميع الأطراف!
لأوَّل مرة أشعر بأن هنالك شيء يمكن الاتفاق حوله في هذه التربة الخربة للسياسة السودانية. وعلى الرغم من أن الاتفاق هنا انصب على شخص نقد أكثر من أطروحاته ومساعيه السياسية، إلا أن ذلك وحده يكفى مع حالة أقطاب المغناطيس المتنافرة هذه التي تسم معظم عملنا السياسي والمدني بل وحتى الاجتماعي أحياناً!
(4)
على الحزب الشيوعي السوداني أن ينتبه لهذه الحياة التي وهبها له موت نقد، فقد رأيت مئات الوجوه المحبطة والمتكدسة في أصقاعها الخاصة تخرج بروح جديدة وتنتمي لشيء ما! الجميع بدأ في التساؤل والجميع أبدى حرصه على أن تتحول هذه المناسبة الحزينة، إلى بادرة عمل دءوب يرضي ذلك الرجل الذي عاش حياة طويلة مليئة بالضنك والمطاردة وعدم الاستقرار، من أجل حفنة أحلام ممكنة التحقيق.
فقط علينا الانتباه للمستقبل بطاقة جديدة مستمدة من هذه الحياة التي دفعها نقد لشرايينا أثناء موته، وبأفق يتجاوز المبررات السهلة والاسترخاء الكسول، لأن في هذا على وجه التحديد، تكمن خيانة مشروع نقد وخيانة الحياة التي وهبها لنا حتى وهو ميتاً!
الثلاثاء 27 مارس 2012.

Post: #2
Title: Re: تشييع نقد: حياة أثناء الموت!
Author: Mustafa Muckhtar
Date: 03-31-2012, 05:04 AM
Parent: #1

و حياة بعد الموت......


انه الخلود الذي لا يعرفه المنكبون على وجوههم

الواهمين بخلود لن ينالوه ... بما نالته أيديهم

Post: #3
Title: Re: تشييع نقد: حياة أثناء الموت!
Author: عاطف مكاوى
Date: 03-31-2012, 06:33 AM
Parent: #2

في إنتظار باقي الحلقات
ولكن ساعات وستتم أرشفة المنبر
أقترح :
إن لم تكن قد طلبت نقل البوست للرُبع الثاني
أن تبدأه مرة أُخرى بعد هذه السويعات.

Post: #4
Title: Re: تشييع نقد: حياة أثناء الموت!
Author: راشد مصطفي بخيت
Date: 03-31-2012, 10:01 AM
Parent: #3

يا درش سلام.

الحياة على طريقة نقد خيار وجودي يتخذه المرء بوعي منذ سنوات باكرة في حياته. يعلم أنه لا يود الموت إلا فيزيقياً ويفعل ذلك بأن يكتب ويفكِّر. ساسة عظام كُثر ماتوا قبل نقد – وسيموتون بعده - وبعضهم أعضاء في الحزب الشيوعي، وتضحياتهم عظيمة أيضاً. لكنهم لم يحظوا بمثل هذا التشييع؛ لأنهم لم يتنكبوا عناء الكتابة والتفكير الحي بمثل ما فعل نقد. هم مناضلون فعلاً ونقد يزيد عليهم بكونه "مُفكَِر".
تحياتي.

Post: #5
Title: Re: تشييع نقد: حياة أثناء الموت!
Author: راشد مصطفي بخيت
Date: 03-31-2012, 02:41 PM
Parent: #4

عاطف مكاوي سلام.

وشكراً على المرور.
ليس للمقال بقية حلقات كما تفضلت، فقط سبقه بيومين مقال مطول عن "نقد المفكر" وقررت بعد ذلك مناقشة التشييع نفسه كحدث ظهرت فيه مؤشرات عديدة تستحق التوقف عندها بتأني.
المقال الأوَّل علي الرابط التالي:
http://sudaneseonline.com/forum/viewtopic.php?t...c3b913134c13e6712610

تحياتي.