لا حولة ولاقوة إلا بالله ..إنا لله و أنا اليه راجعون ..قصة جميلة جداً

لا حولة ولاقوة إلا بالله ..إنا لله و أنا اليه راجعون ..قصة جميلة جداً


09-29-2011, 04:31 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=340&msg=1317310291&rn=0


Post: #1
Title: لا حولة ولاقوة إلا بالله ..إنا لله و أنا اليه راجعون ..قصة جميلة جداً
Author: سفيان بشير نابرى
Date: 09-29-2011, 04:31 PM

أُم شَبَتُو

إلى معروف سند


وهذه حكاية، من أعجب ماسمعت فى حياتى. إمتدت عبر السنوات، فى مساحات من الأراضى، والمدن، والشوارع، وتمددت فى المكان - يمكن - منذ ماقبل ميلادنا. وتستمر - ربما - الى مابعد رحيلنا.

لا أحد يعرف من أين جاءت. كل مانعرفه أنها اقتحمت المكان فجأة. أصبحنا يوما، فوجدناها، ثم، وبالتدريج، أصبحت، فى عاديتها، من علامات المكان.

الناس سموها أم شبتو. قيل لأنها تشبه العنكبوت، بأطرافها الطويلة، طولا غير عادى. قليلة الكلام. كثيرة التحديق فى الناس، والحيوانات، والاشياء. سريعة الانتباه، رغما عن بطء حركتها. تتكرفس داخل ثوب أسود. أو ربما كان له لون آخر، ذات يوم، ولكن الماثل أمامنا الآن، هو الاسود الحالك. ممزق فى أكثر من موضع، حتى لتظن أن هذه التمزقات مقصودة لذاتها، أو، أنها جزء من تصميمه!! وتظل فى تكرفسها ذاك، لاتتحرك، فيظنها المارة بعض متاع مهمل. وتبقى هكذا الى آخر النهار، دون أن ينتبه الى وجودها أحد.

كنا بعد صبية، نلعب الكرة الشراب، فى الفسحة التى خلف بيوت أولاد سند، عصر كل يوم من أيام السنة، صيفا وشتاء. ولانهتم كثيرا بنوع الموسم، إن كان موسم سيول وفيضانات، أم موسم جفاف وتصحر!!

كانت أم شبتو تتكوم دائما تحت أمية الكهرباء الكبيرة، فى ناصية الميدان. أو تحت الحائط الجنوبى لبيت صالح سند. وكانت فى سكونها الابدى ذاك، لاتتحرك، حتى وإن اصابتها الكرة. كان ذلك يحدث كثيرا. فى البداية كنا نخاف أن نقترب من مرقدها، لإستعادة الكرة. ولكنها بهدوءها وسكونها، شجعتنا. فكنا نفعل ذلك فى حذر شديد، ثم تعودنا قليلا، قليلا. ثم أصبحنا نروح الى جانبها ونجئ فى عادية. ثم لم نعد ننتبه الى وجودها، فيجرى الواحد منا الى مكانها ويستعيد الكرة فى طمأنينة، دون أن يفكر، ولو للحظة، فى وجودها أو عدمه. طالما أنها كانت فى سكونها ذاك. ولكن ما أن تتحرك، حتى ترتفع درجة الحذر عندنا الى اعلى مانستطيع، فنتحفز للهرب، عند أول مايبدو لنا أنها حركة عدوانية. فنحن، لم نكن نعرف ماذا يدور فى عقلها!! بل ولم نكن متأكدين، أصلا، إن كان لها عقل أم ماذا؟

عبد المعروف، ولد سند الكبير، كان الوحيد الذى يقترب منها، دون وجل أو خوف. بل، أحيانا، كنت تجده جالسا تحت ظل الامية، بجوارها، يعالج كرة الشراب بالإبرة والخيط. كان بارعا فى ذلك.وقد درجت خالتى الحاجة، أمه، على إرساله اليها، ببعض مايفيض عندهم من طعام. فانزلق بينهما ودٌّ سرىٌّ غامض. فتجده جالسا غير بعيد عنها، يتحدث، اليها، أو إلى نفسه، لاتفهم. بل وكنا نستعجب عن نوع الحوار الذى يمكن يدور بينهما. على الرغم من أن معروف، قد أقسم بالطلاق ثلاثا، وهو لم يكن قد بلغ العاشرة بعد، أنها لم تكن لتقول له شيئا. طيلة هذه السنوات، كان كمن يتحث إلى نفسه، ولم يسمعها تنطق حتى ولو حرف واحد. قال إنه لم يسمعها تقول شيئا أو تصدر أى صوت، إلى أن أصر حاج سند، يوما على شراء ثوب جديد لها، والايام كانت عيدا من أعياد الله. ذهب مع والده الى حيث تتكوم المرأة، وطرح الحاج فوقها الثوب الجديد.

معروف قال لنا إن ردة فعلها كانت آخر ماكان يتوقعه. هبت مذعورة وصاحت فى صوت أخرس مفزوع، وقذفت بالثوب بعيدا عنها، وهى لاتزال تصرخ، ذلك الصراخ العجيب، الأخرس، ثم راحت تبكى، بكاءً، يشبه الأنين، أو، لعله عواء من نوع ما.

وهكذا، ظلت أم شبتو لغزا مغلقا أمام أفهامنا، لانقوى على إدراكه، حتى جاء لزيارتنا عمى وداعة الله بولاد، إبن عم لابى، يقيم فى سافل النيل الابيض، لعله فى القطينة أو ماجاورها، وإن كان كثير الترحال من بلد الى بلد، بحكم عمله كسائق شاحنة، تنقل البضائع من مكان إلى آخر.

كان يسير باللوارى إلى نيالا والجنينة، وحتى فورتلامى، فى بعض الأحيان. قيل انه كان ينقل الاقمشة والعطور الفاخرات، يملأ بها عربته الكبيرة، ليفرغها فى أمدرمان. وكون ثروة، جعلته فى عداد الموسرين بين الناس، فى عائلتنا. وإن كان مصدر ثروته الذى يشاع بين الناس، هو تجارته فى الزئبق .

وللزئبق، فى أعراف الناس احوال. أغلاها وأعلاها شأناً، هو الزئبق الاحمر، والذى يقال أنه إذا وضع بجانب الحديد، ليلة كاملة، عند استدارة القمر، أحاله إلى ذهب نقى، عيار أربعة وعشرين قيراطا!! فكثر عليه الطلب، وقل المعروض منه فى الاسواق. وجزء يسير منه، يعادل ثروة. قالت أمى إن الجرام منه يباع بمليون جنيه انجليزى. أذكر أننى قضيت ليلتى تلك، أحسب فى أصابعى كيف يكون المليون!!

وقيل إن الزئبق الفضى يعالج كافة الامراض. يضعونه بجانب المريض ليلا، فينهض عند الفجر معافى من كل سقم. وقيل، أيضا، إن الزئبق الاصفر، توضع منه قطرة واحدة فى كوب الحليب ظهرا، ويترك بجانب نقَّاع الزير حتى بعد صلاة العشاء، فيشربه الرجل ويستحيل وحشا كاسرا، تصرخ إمرأته تحته، طوال الليل، وهو بعد لايكل ولا يمل، وكلما فرغ من وطر، طفق يبدأ مشروع وطر جديد.

وقد راج أن ولد سوار الدهب، قد قتله إفراطه فى استخدامه، وكان مدمنا يعاقر الخمر صباحا ومساء، ولايكاد يمس الطعام، فانهلك جسمه داخل جلده، حتى أصبح كالعنكوليب المجوف.

خرج عمى إلى بعض أشغاله فى سوق المدينة، فرآها عند الامية.وحين جلسنا للغداء، قال إنه فقد ولاعته الرونسون الفاخرة، وسأله والدى عن آخر مرة استخدمها فيها، فقال إنه أشعل بها سيجارة بالقرب من بنت الجاك!!

التفت اليه والدى مستفهما، فأشار ناحية الامية قائلا:

- مبروكة بنت الجاك المؤذن، المرأة التى عند امية الكهرباء الكبيرة، فى الفسحة، وراء البيوت!!

فاندفعنا مدهوشين نتسائل فى إستغراب:

- أم شبتو؟؟؟
- سميتموها أم شبتو!؟

سأله والدى وهو يمصمص أطراف أصابعه من بقايا إدام علق بها:

- ماهى حكاية مبروكة هذى، ومن هو الجاك!؟

قال الرجل، إنه رآها أول مرة، وهى تقوم بتنظيف المسجد الصغير، فى حلة ولد سليم فى سنار. ثم قام الى الحنفية يغسل يديه. وحين عاد، جلس على الكنبة الكبيرة، فى الديوان، بجوار والدى، الذى ناوله كوبا كبيرا من الشاى الاحمر. عمى دائما يشرب الشاى الاحمر، فى كوب كبير، من تلك التى يقدم فيها الماء والعصائر، وليس فى كبايات الشاى المعهودة الصغيرة، كما يفعل كافة خلق الله. عمى كان عادة لايفعل ماتعود خلق الله على فعله.حتى طريقة ملبسه، كانت مغايرة لملبس الناس الآخرين. مرة رأيناه يأكل الكسرة والملاح بالشوكة!! وحاولنا بعد ذلك تقليده، فجلبطنا الدنيا حولنا بالملاح السائل، فقامت أمى بإخفاء الشوكتين الوحيدتين فى البيت، ولم نعثر عليهما إلا بعد ذلك بسنوات ملفوفتان فى قطعة من القماش ومخبئتان داخل جردل كبير فى رأس البترينة، كان يستخدم لحفظ السكر.

- الجاك، رحمه الله عليه، كان مؤذنا فى مسجد ولد سليم.

رشف من الكوب فى يده، ثم صاح مناديا أمى فى الداخل:

- يابنت الجريفاوى، تسلم ايدك، والله ، الشاى، إما أن يكون هكذا ..وإلا فعدمه أَخْيَر.

رشف ثلاث رشفات متتابعات، ووضع الكوب على الطقطوقة الصغيرة امامه. ثم أخرج علبة السجاير الروثمان الكبيرة من جيبه، أشعل لنفسه، ولوالدى من علبة ثقاب كانت فى يده

- عثر عليها الجاك ملفوفة فى قطعة قماش. لابد أن امها، وضعتها هنالك، عمدا. خشية فضيحة، أو خشية إملاق..كله يتساوى.

قال الرجل إنه رآها أول مرة وهى تقوم بنظافة المسجد

- كانت دون التاسعة، فيما أظن، حلوة التقاطيع، مليئة بالحيوية والرشاقة. كانت تقفز من ركن الى آخر، وتهتم إهتماما دقيقا بتتبع ذرات الغبار أينما وجدت، تلتقطها بقطعة من قماش مبلله بالماء في يدها. ثم حين تفرغ من ذلك تهرع الى البيت، لتعود حاملة إناء من السلك المعدنى المضفور، عليه بعض جمرات متقدات، تضعه على الناحية من المنبر، ثم تهيل عليه قبضة من بخور فى علبة صغيرة تحملها معها،وسرعان ما يتعبق الجو من حولنا برائحة زكية طيبة.

رشف من كوبه رشفتين، ثم تابع:

- تصدق، كلما شممت رائحة البخور تلك، فى أى مكان فى الدنيا، تذكرت فورا مسجد حلة ولد سليم فى سنار، ومبروكة، وهى تقوم بالعناية به. لم تكن تحادث أحدا، ولايحادثها أحد. لقد كانت خرساء!!

طفرت دمعة من عينى، غصبا، بينما انهمك الرجل فى ارتشاف السائل الاحمر، من الكوب الكبير فى يده. رشفات متتابعة، دون توقف، ثم وضعه امامه، وقد تعرى نصفه الأعلى ألا من زجاج شفاف:

- كنت، كلما قدمت الى المدينة، أقصد حلة ولد سليم، واترك اللوارى عند مقهى أولاد شباك النبى، وأهرع فورا الى كمبو السوق. كان يسكنه خليط من الاغراب، شايقية، وجعليين، ودينكا، وفلاتة، وغيرهم. كنت اقصد بيت أم ضمير، فى طرف الكمبو، ناحية الصهريج. نذبح عتودا سمينا، نشويه كله على الجمر، ونصنع الشطة بالبصل، ونجلس نشرب العرقى البكر الذى تحتفظ لنا به زينب أم ضمير. وفى الصباح التالى نغتسل ونهرع الى المسجد لاداء الصبح حاضرا. وكانت الفتاة دائما هناك. وكان جو المسجد دائما معبق برائحة البخور الطيبة.

تناول كوبه، مرة أخرى، وراح يرتشفه فى صمت، ونحن نرقبه فى صمت. والحكاية تنتظر اكمالها، فى صمت، ايضا. حتى افرغه تماما فى جوفه، ووضعه زجاجا يابسا على المنضدة الصغيرة, ثم تناول علبة السجاير، مد منها واحدة لوالدى، الذى إعتذر عنها، فأشعل لنفسه واحدة، جذب منها ثلاثة أنفاس أخرجها من منخريه، ثم جذب جذبة رابعة، شهق بها فترة، ثم ارسل دخانها، رفيعا، من بين شفتيه، والعيون تتبعه فى صبر، لا يتأتى إلا للأنبياء. نفض رمادها فى منفضة من أصداف البحر الاحمر الكبيرة، امامه، ثم واصل:

- غبت فترة عن المدينة، إنشغلت ببعض أسفارى، فى أقاصى الغرب. وعندما عدت بعد ذلك، وجدت كل شئ، ينتظر كما هو. أم ضمير، فى كمبو السوق، وعرقيها البكر، وأولاد شباك النبى، وقوتهم فى السوق، والمرأة التى كنا نشترى منها العتود، نسيت إسمها، والمسجد والحلة وكل شئ، كما هو. الشئ الوحيد الذى لم أجده هو الفتاة الصغيرة، وبخورها. بل وإن رائحة المسجد كانت غير مستحبة إطلاقا، ربما لطول غياب البخور عنه.

جذب نفسا من سيجارته، وواصل:

- سألت شاع الدين، شقيق أم ضمير، وكنا نناديه عيون كديس، نسبة لاخضرار غريب داخل بؤبؤى عينيه. فقال لى إن الفتاة، وقد استدار جسمها، وتكور صدرها، قال الامام إنها صارت فتنة للمصلين، وأمرها أن تبتعد عن المسجد، فما عادت تعتنى به، كما فى السابق. الأمام قال إن أعداد الشبان الذين أصبحوا يؤمون المسجد قد تضاعف بشكل مريب، وقد جزم بأنهم ماكانوا ليأتون لصلاة أو نسك، بل وإن بعضهم – وقد أقسم على ذلك – كانو يأتون للصلاة وهم على جنابة!!

ضحك، وراح يشفط أنفاسا من سيجارته.
كان والدى يرقبه فى صمت وصبر. وكنا كذلك نحبس أنفاسنا فى انتظار بقية الحكاية.

- بعدها بفترة، علمت أن الشيخ المؤذن قد مات بالسل الرئوى، عليه رحمة الله. ومالبثت زوجته أن لحقت به بعد فترة قصيرة. وبقيت الفتاة فى البيت وحدها. فالرجل لم تكن له ذرية، وكان ناس الحلة يقومون بواجب اطعامها، حتى نزل عليهم ذات يوم رجل يقال له صبير، وينادونه بالكعكول، قيل إنه أخ غير شقيق للمرحوم الشيخ، وجاء يطلب حقه فى الميراث. حسب الشرع.
وقيل، إنه فى بادئ الأمر، قد وافق على أن تظل البنت تسكن معه فى البيت، ولكنه، ولسبب لايعلمه أحد، قام بطردها، بشكل مفاجئ. بعض الناس قالوا إنه راودها عن نفسها فأبت، فطردها إلى الشارع، حيث ظلت تحوم بين بيوت الحلة، حتى إختفت تماما، ذات شتاء، على ما أذكر.

حك والدى رأسه بيده، قائلا:

- هذه حكاية عجيبة، والله!! أين ذهبت بعد ذلك؟ فهى حين جائت الى هذه الحلة، لم تكن إلا على هيئتها هذى التى نراها الان. قطع شك، لم تكن تلك الفتاة التى تتحدث عنها!

قال عمى وهو يكور لنفسه سفة من علبة تمباك فضية اللون، أخرجها من جيبه:

- والله الأقاويل كثيرة، فقد سمعت أن بعض أولاد الحلة قد أدخلوها يوما بيتا من بيوتهم، وأغتصبوها..

قفز والدى كالملدوغ، وهو يصيح:

-لاحول ولاقوة إلا بالله العلى العظيم.... استغفر الله العظيم... استغفر الله العظيم.

ثم راح يجر مسبحته فى عصبية وغضب شديدين. بينما واصل عمى وهو يضع ساقه اليمنى فوق فخذه الايسر وراح يمسح باطن قدمه بيده:

- الاقاويل كثيرة، ولاتكاد تعرف الصحيح من الخطأ. قيل أن زوجة الدابى، تاجر المواشى المشهور، قد أسكنتها فترة عندها. كان الرجل غائبا فى إحدى سفراته الطويلة. ثم لما عاد، طردتها الى الشارع مرة أخرى دون إبداء أية أسباب. وقيل أن جميع نسوة الحى، كن يخشين على أزواجهن، من أنوثتها الطاغية. فهامت على وجهها فترة من الزمن، حتى حدث لها ماحدث، من أولاد الحلة فاختفت فجأة.

- استغفر الله العظيم.

قال والدى، وهو يجر حبات مسبحته جرا عنيفا:

- ولكن أين ذهبت، وكيف وصلت الينا هنا؟

- سمعت انها قضت فترة فى حى العمال فى المدينة. سكنت شوارعه، واقتاتت من زبالته، ومخلفات أهله. ثم قيل أنها ذهبت الى سنجة، وقيل أنها سكنت عند ########ة فى ديم العرب، قبل أن تذهب الى الروصيرص أو الدمازين، لا أذكر. ولكنها فى النهاية جاءتكم هنا، بعد أن تحطمت تماما. وإن كانت لاتزال تحتفظ بنفس ملامح الوجه الصبوح.

سأله أبى وهو يتنحنح:

- وأين عمها، ألكعكول الأن؟
- فى السجن، على ما أظن.
- فى السجن؟!! لماذا؟
- يقضى – على ما أعتقد – عقوبة عن جريمة سطو، ارتكبوها فى سوق مدنى. قيل إنهم صعدوا الى سطح إحد دكاكين الصاغة، وخرموه من أعلى، ثم تدلوا بحبل الى أسفل. نهبوه، ولكن الحبل سقط داخل الدكان، فلم يقدروا على الخروج. البوليس قبض عليهم فى الصباح.
- وماذا حدث للبيت الذى انتزعه من الفتاة
- قيل إنه خسره فى مائدة قمار.

بعد ظهر اليوم التالى، كنا نلعب البلى، بجوار الامية، فى طرف الفسحة، خلف بيوت أولاد سند، عندما شاهدت والدى، قادما ناحيتنا، فظننت أن شرا مستطيرا، ولابد أن قد وقع منى. ورحت أسترجع شريط أفاعيلى منذ مساء الأمس، بل وأول الأمس، علنى أفهم طبيعة المصيبة التى سويتها، والتى تجعل والدى يترك عمله فى محلج ربك، ويسرع فى طلبى، فى مثل هذا الوقت.

توقفت، مستسلما لقدرى، وتوقف بقية الاولاد، فى انتظار وقوع المصيبة. إلا أن الرجل مر عبرنا، دون حتى أن ينظر إلينا!! كان يحمل فى يده إناءً مصنوعا من الأسلاك المعدنية المضفورة، وكيسا ورقيا كبيرا فى اليد الأخرى. أدركت فورا مقصده، فتبعته فى صمت وسار ركب الأولاد من خلفنا.

توقف الرجل تماما حيث توقعت، عند أم شبتو، المتكومة – كالعاد – تحت الحائط. هبت مزعورة، وعيناها تنظران الى الأناء المعدنى. فانتبهت الى أن بضع جمرات متقدات ترقد فوقه.

جلس أبى على الأرض، وفتح الكيس الورقى، أخرج بعض البخور، وكبه فوق الجمر – تماما كما توقعت – فانطلق الدخان كثيفا، وعبقت الجو رائحة مألوفة، ومحببة. طفرت الدموع غزيرة من عينيها ومن عينى أبى ، فرحت انهنه بالبكاء، وراحت المرأة تعوى عواء مكتوما، وراح ابى يبكى بصوت مسموع، فارتفع صوت الاولاد من خلفنا بالبكاء، دون أن يعرفوا سببا لبكائهم. لم أر أبى يبكى من قبل كما رأيت بكائه اليوم. حتى يوم وفاة جدتى الحاجة، أمه، مابكى هكذا!!

- قومى معى

قالها أبى، وهو يقف ممسكا بالمرأة من ذراعها، يساعدها على النهوض. فنهضت وهى لاتزال ممسكة بالاناء المعدنى، والبخور يتصاعد منه.

كنت، وكأن حُجُب الغيب قد انفتحت امام بصيرتى، فجأة، أعرف بالضبط إلى أين سيأخذها أبى، فسرت خلفهما مسير الواثق من نبوئته!!

وبالفعل، سار أبى والمرأة تتبعه، والإناء فى يدها، فى إتجاه المسجد. ولدهشتى، ودهشة نبوئتى نفسها، كان شيخ سلولة، إمام المسجد، يقف عند الباب، ومسبحته الغليظة فى يده، كما عادته. شيخ سلولة، ومنذأن عرفته، مارأيته قط، والمسبحة ليست فى يده، كأنها جزء من جسده.

دخلنا، باحة المسجد الداخلية، فى موكب باكٍ، عجيب. خلع أبى حذائه عند الباب الداخلى، ففعلنا جميعا. وقد كانت المرة الاولى التى أدرك فيها أن المرأة حافية، لاتنتعل حذاء!! وكانت، رغما عن ملابسها الرثة الممزقة، تبدو لى وكأنها ملاك طاهر، من تلك الملائكة التى كنت أشاهدها مرسومة على جدران الكنيسة بجوار سوق المدينة الكبير.

- أدخلى

قالها حاج سلولة، بصوت متهدج، وقد تأثر لمرأى الدموع فى عيوننا جميعا. فدخلت، وفى لحظة كانت عند المنبر، تمسحه بيديها، فخلع أبى عمامته وشقها نصفين، ناولها نصف، وأشار علىَّ بالنصف الآخر أن أذهب وأبلله بالماء،فانطلقت كالصاروخ، الى صف الحنفيات عند جدار المسجد، بجوار المستراحات. بللته بالماء سريعا، وعدت منطلقا، لاناوله لها. أخذته وواصلت انهماكها فى تنظيف اركان المسجد. المرأة كانت فى نشاطها، كالاطفال. انا لم أكن لأتخيل فى اقصى شطحاتى الخيالية، أن أرها فى مثل هذه الحيوية، وهى التى لم نتعود منها سوى السكون الكاملّ!!

كان والدى طيلة الوقت جالسا عند المنبر، واضعا يديه على خديه، ومطرقا بنظره الى النقوش على السجادة تحته، بينما جلس شيخ سلولة، وظهره الى عامود النصف الكبير، يجر حبات مسبحته فى صمت. وجلس أولا سند الثلاثة، عند المدخل، يرقبون فى صمت، وقد وقفت شقيقتهم الصغرى متكئة الى الباب، واضعة باطن رجلها اليمنى، أسفل فخذها الايسر، تماما فوق الركبة، كعادتها فى الوقوف دائما. بينما جلست انا غير بعيد منها، وكلتا إليتىَّ، مسنودتان، بإحكام على كعبىَّ، كعادة جلوسى للصلاة. والمرأة، وقد ركبها عفريت من النشاط، كانت لاتكاد تمسح جزءً من تلك النافذة، حتى تهرع لتمسح نافذة أخرى. وظلت تقفز كالاطفال من ركن الى ركن، تارة، وتارة تعود الى حيث تركت اناءها المعدنى، تضع عليه بعض البخور وتحمله الى ركن آخر من أركان المسجد. والصمت يعم المكان، فلاتكاد تسمع شيئا سوى طقطقات مسبحة شيخ سلولة. وظللنا هكذا حتى قطعت الصمت نحنحة حاج النورانى، مؤذن المسجد الضرير. دخل يقوده حسب الله، ولد بنته، وتوجه به ناحية المنبر، والرجل يتشمم حوله، وقد علته إبتسامة راضية، مرددا:

- ما شاء الله.. ماشاء الله

ناوله الولد مايكرفون المسجد، فسمعنا طقطقة خفيفة، ثم ارتفع صوته العذب بالنداء لصلاة العصر:

- الله أكبر......

توقفت المرأة فورا، وحملت إنائها وخرجت، بينما انطلقنا نحن الى الحنفيات نتوضأ.

عقب الصلاة، خرجت مع أبى ، نبحث عنها. وجدناها تجلس عند جدار المسجد، من الداخل. أشار أبى إليها، فتبعتنا، وماعونها لايزال فى يدها، حتى دخلنا بيتنا. أمرنا أبى ، مسعود إبن عمتى، وأنا، أن ننظف المخزن فى طرف البيت عند باب الشارع. كان فيما مضى يستأجره هارون المكوجى، قبل أن يسافر إلى ليبيا، أظن. وقضينا الوقت كله حتى آذان المغرب، ننظف المكان ونرتبه، ماوسعتنا الحيلة، والقدرة. وجاب أبى عنقريبًا ولحافاً، وضعهما فى المكان، وأشار اليها، فدخلت، تتبعها شامية إبنة عمتى الكبرى، تحمل صحنا فيه، على ما أظن كسرة وملاحاً، فجريت أنا الى المزيرة، فى الراكوبة، وحملت لها كوزاً كبيرا من الماء.ثم تركناها لحالها، وذهبنا نبحث فى أحوالنا.

صباح اليوم التالى، أيقظنا أبى ، كالعادة، لصلاة الصبح. فاستيقظنا، وكالعادة أيضا، فى تثاقل، وتبعناه، ليس خوفا من الله، ولكن خوفا من عصاته، إن لم نفعل. كانت تجلس عند باب المسجد، وبين يديها ماعونها، وفيه بعض جمرات متقدات، لا أعرف من أين جابتها. صلينا الفجر، وقد لاحظت أنها وقفت تصلى فى صف وحدها عند الناصية. ثم عدنا الى البيت وقد تركناها خلفنا، وقد شرعت فور انتهاء الصلاة فى عملية التنظيف. حمل أبى كوبا كبيرا من الشاى بالحليب، وصحنا فيه بعض الزلابية، وخرج، فتبعته. كانت نائمة تحت المنبر، بالضبط، والإناء بالقرب منها، تتصاعد منه الأبخرة زكية الرائحة. وضع أبى الكوب والصحن بجوارها ومد يده، يوقظها، فلم تستجب. هزها قليلا، ولمس يدها، ثم صاح:

- إنا لله وإنا إليه راجعون.

منعم الجزولى

سبتمبر 2011م

شكراً يا منعم الجزلى

القصة منقوله من سودان فور اوول .

Post: #2
Title: Re: لا حولة ولاقوة إلا بالله ..إنا لله و أنا اليه راجعون ..قصة جميلة ج
Author: أمجد الزين
Date: 09-29-2011, 05:04 PM
Parent: #1

سرد جميل
وقصة رائعة

لها الرحمة ام شيتو
يبدو انها امرأة فاضلة وكانت تمنى نفسها بميتة هكذا

Post: #3
Title: Re: لا حولة ولاقوة إلا بالله ..إنا لله و أنا اليه راجعون ..قصة جميلة ج
Author: منال
Date: 09-29-2011, 05:19 PM
Parent: #2

قصة مؤثرة جدا ياسفيان


انا لله وانا اليه راجعون ,,,

Post: #4
Title: Re: لا حولة ولاقوة إلا بالله ..إنا لله و أنا اليه راجعون ..قصة جميلة ج
Author: Elawad
Date: 09-29-2011, 05:23 PM
Parent: #1

شكرا يا سفيان. كتابة ترد الروح. أحسد نفسي على أنني خمنت منذ الأسطر الأولى أن كاتبها هو الرائع منعم الجزولي.

Post: #5
Title: Re: لا حولة ولاقوة إلا بالله ..إنا لله و أنا اليه راجعون ..قصة جميلة ج
Author: ادم شحوتاي
Date: 09-29-2011, 06:01 PM
Parent: #4

شكراً سفيان للنقل وشكراً للكاتب قصة تستحق ان تقرأ
ولا حول ولاقوة إلا بالله