الجنوب أيها الولد الشقي ، قف تمهّل في وداعي !

أخيرا ، وبعد أن أشبعتنا شقاوة وشيطنة ، قررت الابتعاد عنا .. فرزتَ معيشتك ، وسَوّيت حَلّتك براك .. والله عرفتها ، ومرقت روحك قبّال ما أبونا يبلغ سن المعاش .. فالآن هو يتعدى الخامسة والخمسين ، وقد قضى جُل عمره وهو يكابد عيشنا وتعلمينا وصحتنا.. وطبعا بتذّكر مرّات ما كنا بنلقى حقّ الفطور وما كنّا بنلقى حقّ الكتاب وأُمّاتنا ما كانوا بيلقوا حق الداية.. لكن أهو نحن وانت كلنا عشنا وما مُتنا .. بس أنا ما ممكن أنسى إنّي كنت بحاول أسوقك من إيدك عشان ما تروح أو تضهب ، أو تَفِز ، وانت كنت شايفني كأني مستصغرك .. أنا والله _ برغم شقاوتك _ كنت بريدك ريدة ، ريدة الحمام لي وليدا .. بس انت دائما كنت بتزوغ منّي ، وبتغيب أيام ، وترجع تجهجه الدنيا .. وأنا أقول أخوي دا مالو شقي وشيطان كدا .. ودائما كنت بقول : الدم عمره ما يبقى مويه ..
تعرف يا شقيقي الأصغر ، نحن ، انت وأنا الاتنين ، أولاد ذلك الأب الذي يقترب من سن المعاش .. وهو قد بذل الكثير من أجلنا ، وكان يريدنا أن نعوّضه ما افتقده من شبابه ليستند عليه في شيخوخته .. لكن أنا أصبحت ابنا مغلوبا على أمري ، وأنت الآن تتركني مع هذا الشيخ الهرم مستجيبا لعنادك وشقاوتك ، تودّعني ملوحاً لي بيدك التي تمنيتُ لها أن ترتفع مع يدي معلنة رباطا مصيريا بين شقيقين ..
ألا تتمهّل قليلا أيها الولد الشقي ؟ فأنا لا أحتمل الوداع ، ولا الفراق ، ولا أريد أن أتركك وحيدا ، ولا أريدك أن تتركني وحيدا .. فالله خلقنا لنبقى سويا ، لنسعى سويا للبناء وللرخاء وللمحبة ، ولهزيمة الشر ونصرة الخير ..
لكن لا بأس ، فأنت رغما عن أنك ولد كثير الشقاء ، إلا أنك أبقيت بيني وبينك رباطا لا ينفصم .. فأنت لم تذهب بعيدا ، بل اتخذت لك بيتا جوار بيتنا ، فمنحتني الأمل في أن أطلّ عليك كل حين وأن تطلّ عليّ كل حين .. فأنا أحبّك أيها الولد الشقي ، وسأفتقد ( شقاوتك ) .. وسيظل أبي يسأل عنك وينتظر اجتماعنا مرة أخرى على مائدة واحدة .. فما من أبٍ يرغب تشتيت أولاده ..
وقبل أن ألقي عليك تحية الوداع أوصيك ونفسي بأن تظلّ بارا بأبينا ، وأن لا تنسى أبدا أننا اخوة خرجت نطافنا من ظهر واحد ورضعنا من ثدي واحد ، وعشنا الحياة حلوها ومرّها سويا .. أوصيك ونفسي أن تنسى جراحنا ، وأن نغفر لبعضنا أخطاءنا ، وأن نعيشَ لمستقبلٍ يجمعنا على الخير والمحبّة ..

الجنوب أيها الولد المتمرد ..
سأفتقدك
لكني لن أتركك