الربط العقلي والعنصرية

الربط العقلي والعنصرية


12-18-2010, 01:22 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=310&msg=1292674963&rn=0


Post: #1
Title: الربط العقلي والعنصرية
Author: حاتم محمد
Date: 12-18-2010, 01:22 PM

في الحلقة السابقة ( نشر هذا الموضوع بجريدة الأخبار بتاريخ 4/9/2010 ستجده في هذا الرابط ) http://alakhbar.sd/sd/index.php?option=com_content&task...&id=14447&Itemid=319
حاولنا طرح فكرة جديدة لمفهوم ( العالم القرية ) , فهذا التعبير لابد له من أساس فلسفي تنظيري , وهو ما سنحاول معالجته في هذه الحلقة , فهذا المفهوم - حقيقةً - يُؤسس البعد الروحي لمجموع العقل البشري , وهو البعد الميتافيزيقي لاكتمال فكرة التناغم الاجتماعي والتوازن التنموي في كل أرجاء الكون , ولا يوجد بعد روحي عميق يحقق لنا التوازن الفلسفي في فكرة العالم القرية , أفضل من فكرة ( أنا إنسان ) .
فالسؤال المهم جداً ماذا أعني بفلسفة أنا إنسان , هذا الأمر يتعلق بمبدأ التسامح بين البشر , أي التسامح العملي وليس الفسلفي , وهو نوع من التوازن العقلي بالنسبة للفرد والمجتمع أيضاً , فإنا إنسان , تعني نبذ القوانين العرفية التي تؤجج الفكر العنصري بين البشر جميعاً , فالعنصرية سلوك بشري فطري , ينبع من الغيرة أو الشعور بالأفضلية أو الدونية اتجاه الآخر, وهذا السلوك العنصري يمكن محاربته بآليتين لا ثالث لهما , بالقانون الجنائي والمدني , وبالتصاهر بين أفراد الحيز الجغرافي المعين , وفي الحالتين نجد أنفسنا أمام أزمة الربط العقلي وطريقة التفكير !!!!
حتى نستطيع أن نشرح هذه الفكرة لا بد لنا من التطرق للربط العقلي , ونعني به المقدرة الذهنية على استعراض وتحليل النتائج المخزنة في العقل البشري , وهذا الربط العقلي هو الأساس الأول والحاسم في مسألة الذكاء البشري , أي أن سرعة استعراض المعلومة والتعامل معها , وربطها بمعلومات أخرى متعلقة بالقضية المعينة , ثم تحليل هذا الكم وأخيراً وضع نتائج له , هذا كله نعرفه بالذكاء , فمقدرة الربط والتحليل تختلف من شخص إلى آخر , وهي الفيصل في الموضوع الذكاء من الأساس , وفكرة أنا إنسان أو العالم القرية , لن تقوم لها قائمة طالما لم نعلم الجميع كيفية الربط العقلي .
نعود للموضوع العنصرية, ونسأل سؤال هل أنا عنصري ؟؟؟ الإجابة على هذا السؤال , لا توجد عنصرية في الشارع العام في معظم الدول , باستثناء القليل منها , أي أن نسبة العنصرية العنيفة ( مثل الضرب والقتل ... الخ ) التي تتحرش بالأجنبي أو المواطن من الدرجة الأقل اجتماعياً , في بعض الدول هنالك عنصرية ضد الأسود أو الأفريقي , وهذه هي الأوضح , باعتبار أن الأفريقي هو الأضعف في كل الأحوال , سياسياً , اقتصادياً , عقلياً , وهذا المفهوم مترسب منذ عقود الاستعمار السابق , لدرجة أن بعض الشعوب الأوربية إلى هذه اللحظة تنظر للأفريقي وكأنه خارج من الغابة للتو واللحظة , ولا يريدون استيعاب أن ذلك الأسود العاري الذي كان يلتقط الطعام من الغابات , ذهب إلى المدرسة وتعلم أيضاً , وهو في مرحلة بناء ذاته للتقدم إلى الأمام .
هذا النوع من العنصرية - عادةً - يبدأ عند البحث عن وظيفة المرموقة اجتماعياً ؟ والبحث عن الحبيبة ؟ الفكرة تبدو غريبة لكنها كذلك , فالعنصرية تبدأ عند المنافسة , والقوة , هناك عوامل أخرى أقل أهمية , باعتبار أن التاريخ مؤثر معنوي أكثر من كونه منطقي مادي .
فالسلوك العنصري , لا نتعامل به إلا في هذه الحالات عند الزواج أو الأدوار الوظيفية التي تتعلق بالسلطة والوظيفة , وما شبه ذلك , وهذا الأمر الذي يجعل العقل البشري يهرب إلى تهميش الآخر في حالات عدة , عند الشعور بالفشل , فيلجأ إلى تقيم الفرد على أساس اللون أو العرق أو الدين ,... الخ .
فمعدلات التفرقة العنصرية التي تتوفر في المجتمع السوداني مثلاً , لا تظهر بحدتها إلا عند الزواج المختلط , كأن يتزوج ( جنوبي من شمالية ) مع إن العكس أكثر قبولاً في المجتمع من الحالة الأولى .
في حين أننا لو استعرضنا الفكرة في ظرف حيادي أو مثالي, كأن نسأل أي شخص عن رأيه في العنصرية ؟؟؟ , نجد أن الغالبية العظمى من الإجابات ستكون متزنة , وترفض مبدأ التفرقة العنصرية مثل مقولة : ( الناس سواسية كأسنان المشط , وميثاق الأمم المتحدة للحقوق الإنسان ... الخ ) وسيتعمد الشخص المسئول لجانب الحيادية العقلانية , هو الأمر الذي يدعم خط الربط العقلاني وطريقة التفكير في هذه اللحظة , أما على نحو مباشر هنالك فرق شاسع بين النظرية والتطبيق , وبين الفكر والسلوك , وهما أزمة العالم اليوم .
فالدماغ كأساس للعقل , يحتوي على عدة مراكز حساسة , تقوم بعمليات التفسير والتخزين والتفسير , بينما يقوم العقل بالربط بينهم جميعاً , مكوناً العقل البشري الذي نتعامل به , ندركه ولا نفهم كنهه , فقط يمكننا توجيهه إلى الاتجاه الأفضل الذي يوفر سلامة الجميع .
يحتوي المخ على مراكز للفهم والتخزين ( كمركز اللغة والإحساس والإبصار السمع .... الخ ) , بينما تتم عمليات التحليل في قشرة الدماغ , حيث يكون هنالك التفاعل بين المعلومات الواردة والمخزنة , وكيفية التعامل معها فيما بعد , وأهم نقطة يجب أن نتطرق لها في هذا المجال , هي كيفية الربط العقلي , ويمكن أن نشرح هذه المسألة بالمثال التالي :
عندما تلتقط العين صورة للشجرة ما , ترسل هذه الصورة لدماغ , لتعرف في مركز اللغة بالاسم المرافق للصورة , شجرة ليمون مثلاً , وذلك وفق لتفاصيل المخزنة للشجرة الليمون في الذاكرة البصرية , كنوع الورق وشكله , هيئة الساق والأغصان , .... الخ , بعد التعريف يتم تحليل هذه الصورة حسب الهدف المعين , وهذا يتوقف على تفكير الشخص المشاهد , ثم يأتي التحليل بعد ذلك للموضوع المعين , إن كان الأمر يتعلق بثمار الليمون وجنيها مثلاً , أو كانت نظرة عابرة والسلام , ثم التفكير في الأسباب والمسببات التي أتت بالمشاهد إلى هذه النقطة التي بها شجرة الليمون .
لكن بالنسبة للأحداث أكثر تعقيداً مثل مقابلة شخص عابر , أو حوار يدور حول مسألة فلسفية أو تحليله , يكون الأمر أكثر تعقيداً .
يمكن أن نلاحظ ذلك في حالات النقاشات المنطقية التي تُوجب إقناع الآخر , ففي هذه الحالة يعمل العقل على استعراض كل المعلومات الخاصة بالموضوع المعين والربط بينها للوصول لآلية أقناع قوية للطرف الآخر حول الفكرة المعينة , وهذا الهدف هو الربط العقلي الذي نتحدث عنه في هذا الجزء .
عندما نعود لاستعراض قضية العنصرية , كسلوك يومي يقوم به البعض , من غير أن يشعروا بذلك , نجد أن عمليات الربط تتخذ سلوك مخالف بناءاً على الخيارات العقلية للمجتمع المعين , على سبيل المثال , كلمة ( عبد ) تستخدم كثيراً في الدول العربية والأوربية , لتشير إلى الأسود أو الأفريقي إن صح التعبير , لكن من حيث المفهوم الإسلامي , الكلمة مرفوضة جملةً وتفصيلاً , إلا أن المسلمون يستخدمون هذه الكلمة مراراً وتكراراً أثناء الحياة اليومية , بل في بعض الدول نجد أن الأسمر مرفوض اجتماعياً , وفي دولة كالسودان لا نحتاج لشرح هذه المأساة , فالتقاليد الدينية والفلسفية ترفض الإشارة للشخص عن طريق اللون أو العرق , بينما الواقع يخالف ذلك تماماً , وعند الدخول في منافسة من أجل الوظيفة أو القيادة والحب والزواج ... الخ , يتبادر للذهن قاصر الربط , فكرة التمييز العنصري , على هيئة كلمة ( عبد ) بينما نجد أن ذات الشخص يكون هو مسئول كبير في الدولة أو أحد أصحاب الشهادات العليا أو من أئمة المثقفين والعلماء في الدولة المعينة .
على هذا الأساس يمكننا أن نفهم ماهية الربط العقلي , فهو باختصار شديد ( الربط بين القيم والأفكار السليمة , وترجمتها إلى سلوك عملي منظم في الحياة اليومية ) أي نقض نظرية ( باب النجار مخلّع ) ومن ناحية أخرى التعالي على النقاط الضعف والنقص في السلوك البشري والعقلي , فالربط العقلي يوفر آلية لتسامح , وطريقة لتحديد الموجب ونبذ السالب تماماً , فالإنسان الذي لا يستطيع تفهم القيم الفاضلة والتعايش بها نجد له من الأعذار ألف , لكن المأساة تكمن في المتعلم أو المثقف الذي يتعامل بهذا المنطق , كجنوب أفريقيا سابقاً , البوسنة والهرسك , أزمة بنغلاديش , ومشكلة جنوب السودان , ومشكلة الهنود الحمر في الأمريكتين , والواقع الموريتاني مثلاً , فالقائمة طويلة ومستعصية , وفي كل الأحوال نجد أن الأزمة في هذه الشعوب هي ( ضعف قوة الربط العقلي , بين المفروض والواقع ) .
وبمثال آخر , نجد هذه الأزمة متوفرة بشكل خاص في السلوك الديني , بمعنى أن هنالك أزمة حقيقة بين النص الديني المتسامح , وبين السلوك الديني الواقعي , فكل الأديان تشترك في هذا السلوك على حد السواء , لكن هي أكثر تفشي في المجتمع المسلم العربي , بمعنى أن أكثر الناس بعداً من السلوك الديني المتسامح مع الآخر , هم المسلمون , وعالمياً أكثر قضايا التفرقة والعنصرية والاضطهاد منتشرة ومتوفرة في المجتمعات الإسلامية , إضافة لتفشي الفساد والنفاق الاجتماعي والسلوكيات الملتوية في هذه المجتمعات الإسلامية , مع إن تعاليم الدين الإسلامي تنافي هذا من النوع السلوك تماماً , فالواقع الاندونيسي والمصري والسعودي والسوداني , وغيره من هذه الدول نلاحظ ضعف الربط العقلي بين السلوك النظري والتطبيقي , ولا أعني بكلامي هذا السلوك المغلوط عن الجهاد الإسلامي أو التعامل مع غير المسلمون , فهو خطأ وسلوك مشين , ليس له أي علاقة بتعاليم الدين الإسلامي من قريب أو بعيد .
بينما نلاحظ ذات السلوك في الدول المسيحية التي تتعامل بذات العقلية الضعيفة , مع إن المسيحية كدين تقوم في الأساس على مبدأ التسامح وطهارة القلب من الشوائب , لكن الواقع اللبناني المسيحي , والأميركي المسيحي , وبعض الدول التي ترفع شعار التعاليم المسيحية كسلوك نجدها تفقد عملية الربط العقلي بين النظرية والتطبيق تماماً.
وأكثر هذه السلوكيات التي نتحدث عنها , نشاهدها في الواقع الأوربي , اجتماعياً وسياسياً , فالتناقض الذي تعيش فيه هذه الدول نابع من أزمة الربط العقلي , كفكرة تبني ما يعرف بحقوق الإنسان في العراق وكوريا الشمالية ... الخ , وفي نفس الوقت غض البصر عن التجاوزات التي تقوم بها دولة مثل إسرائيل , فالقانون أصبح أيضاً أداة خالية من المعايير العقلية والمنطقية , فالربط العقلي الذي نتحدث عنه , ينعكس على السلوك أولاً وثم تقبل الآخر , بل إتاحة الفرصة للآخر في التعبير والتعايش السلمي , فعندما تكون كمية الربط العقلي كبيرة داخل العقل البشري يمكنه التعامل مع مجموع السلوك بطريقة ممتازة , وللأسف الشديد لا يوجد مؤثر أخطر على العقل من التفكير المادي البحت , وهي أزمة العقل الراهن , فهذا التفكير حدد عمليات الربط العقلي بمقدار الربح مهما كانت الأثمان .
فالربط العقلي بين السلوك والمثالي ومنطقي , يساعد الإنسان على فكرة الاستمتاع بثقافة الآخر والتعامل معها بسهولة ويسر , بينما نجد أن التقوقع داخل إطار العادات والتقاليد والقوانين المجحفة والصادرة بطريقة خطأ , يجعل العقل يفقد الكثير من حيوية الربط بين المعقول واللا معقول.
من الناحية العامة كلما ذادت مقدرة العقل البشري على الربط بين السلوك والقيم والجيدة , كلما كان هذا العقل الأكثر تصالحاًً مع الأزمات النفسية والاجتماعية , فالربط العقلي , من ناحية أكاديمية يساعد الطالب على الاستفادة من كل المواد التي يتعلمها , ليترجمها على واقعة العلمي , وسرعة الربط العقلي لديه , تحدد درجة ذكاء الطالب أكاديمياً , بينما نجد أن سرعة الربط بين القيم المثالية والقيم الاجتماعية الموروثة هي التي تحدد مدى وعي الإنسان ورقي تعامله , وهذا النوع من الربط العقلي ليس له علاقة من قريب أو بعيد بالتحصيل الأكاديمي , بقدر ما هو وعي مكتسب من التصالح مع الذات العقلية للإنسان نفسه , وواقعياً يفسر لنا الوعي الاجتماعي للأفراد والجماعات , في حين أن نقصان هذه المقدرة العقلية على الربط بين القيم , يولد أولاً ضعف الثقة في النفس والتفكير في آن واحد , بينما اجتماعياً يولد مآسي تنعكس على الدول والجماعات في شكل حروب وصراعات ما أنزل الله بها من سلطان , وخير دليل على ذلك الحروب الأهلية المشتعلة هنا وهناك , والسودان دليل عملي على هذا النوع من ضعف الربط العقلي بين القيم والسلوك , فحركات التحرر أو التمرد - سمها ما شئت - تعكس هذا المفهوم بصورة واضحة وتؤسس له في مجموع المجتمع , وها هي البلاد قادمة على مراحل تمزيق لم تخطر في بال أحد في يوم من الأيام .
خلاصة القول , عجبت حقيقة لهذه الأصوات التي تطالب بالانفصال والجهاد والنضال والقتل , والأصوات التي تتمسك بالفتات والتمزيق من أجل مصالح ثانوية وشخصية , ستنتهي عاجلاً أم آجلاً .
فأزمة الربط العقلي التي يعاني منها عموم الفكر العالمي , انعكست على الواقع الاجتماعي بصورة مخيفة ورهيبة , وفي السودان نسير في اتجاه التمزيق والتفتت بينما يسير العالم في اتجاه الوحدة والتكتل , وللأسف الشديد أن الذين يدعون لهذه النوع من السلوكيات , هم القادة والمثقفون والمتعلمون والأساتذة , مع أنهم من المفروض أن يكونوا أمثلة حية للمواطنين على رفع الوعي , والقدرة على الربط العقلي بين القيم والأخلاق والثقافات , إلا أنهم عجزوا حتى على تجاوز الضعف العقلي واللا وعي الذي يعانون منه .
نواصل