كلمة الإمام الصادق المهدي في ذكرى الشهيد الإمام الصديق وشهداء المولد

كلمة الإمام الصادق المهدي في ذكرى الشهيد الإمام الصديق وشهداء المولد


02-02-2014, 08:42 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=30&msg=1391370134&rn=0


Post: #1
Title: كلمة الإمام الصادق المهدي في ذكرى الشهيد الإمام الصديق وشهداء المولد
Author: الإمام الصادق المهدي
Date: 02-02-2014, 08:42 PM

بسم الله الرحمن الرحيم
احتفالية ذكرى الإمام الصديق المهدي (شهيد الديمقراطية)
وشهداء المولد (شهداء الحرية والديمقراطية)
31 يناير 2014م- بيت الإمام المهدي (القبة)

كلمة الإمام الصادق المهدي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
أخواني وأخواتي، أبنائي وبناتي
السلام عليكم ورحمة الله
وأنا في هذه المناسبة العظيمة أشكر وأقدر ما قامت به دائرة الثقافة والتراث في حزبنا بالتعاون مع هيئة شئون الأنصار وبيت أو أسرة الإمام المهدي. أشكر لهم هذا العمل العظيم، وأشكر أيضاً كل الذين لبوا هذه الدعوة من القوى السياسية والدينية والاجتماعية فجزاهم الله خيراً، وأقدر أيضاً الإعلام بكل أجهزته على تلبيتهم هذه الدعوة وسوف يشاركون إن شاء الله في نشر معانيها. فجزاهم الله خيراً.
كذلك لأول مرة في الإطار الأسري تجتمع أسر مكونة لأسرتنا، فقد سررت بحضور عماتي أجمعين، وسررت أيضاً لحضور ممثلين لأهلنا بيت السيد عبد الله الفاضل المهدي، وبيت الإمام الهادي، كذلك بيت عمي السيد أحمد، فكل هؤلاء جاءوا يشاركون لنا هذه المناسبة العظيمة.
وقبل أن أدخل في حديثي أود أن أتحدث في المعاني التي تعني حراسة مشارع الحق، مشارع الحق هي التي جد واجتهد في سبيلها كل الأنبياء. وقد سئل رسول صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: "الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ"[1]. والحقيقة أنه كما قال الإمام المهدي عليه السلام المنن في طي المحن والمزايا في طي البلايا، وهذا هو الدرب الذي ناح فيه نوح ومُسَّ فيه موسى وعُسَّ فيه عيسى وحُمَ فيه محمد صلى الله عليهم جمعياً وسلم.
على قدر فضل المرء تأتي خُطُوبُه ويحمد فيه الصبر فيما يُصِيبُه
فمَنْ قَلَّ فيما يَلتَّقِيه اصْطِبَـاره فقد قَـلَّ فيما يَرْتَجِيـه نَصِيبُـه
قادة هذا الكيان كلهم لاقوا في هذا الدرب الإمام المهدي مات شاباً، وخليفة المهدي مات في الفروة "فرش" مستشهداً، والإمام عبد الرحمن مات متألماً جداً من فرط ما وجد من مفارقة بينما بذل من مجهود وما حصد من محصود، والإمام الصديق كلكم سمعتم كيف أنه عانى وواجه ما واجه من ضغوط، والإمام الهادي الشهيد الذي بذل ما بذل ثم مات شهيداً للمبادئ: مبادئ اتحاد الكيان ومبادئ الإسلام ومبادئ الوطنية السودانية. ولا شك أن هذه المعاناة تجعل من الجلوس على هذا الكرسي تحدياً، على عكس فكرة من يظنون أن الجلوس على هذا المقعد هو من الراحات والاستراحات فهؤلاء لا يفهمون التحدي الذي يرتبط به لأن "المزايا في طي البلايا والمنن في طي المحن".
أقول، ذكرى أصحاب العطاء هذه ليست للمباهاة والمفاخرة بل لتثبيت المعاني التي أحيوها، لذلك قال إبراهيم عليه السلام (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ)[2] أي لساناً يصدق دعوتي ويثني عليَّ الناس وهو المعنى الذي قصده الحكيم الشاعر:
قد ماتَ قومٌ وما ماتتْ مآثرهُم وعاشَ قومٌ وهُم في النـَّاسِ أمواتُ!
ذكرتُ مآثر الإمام الصيق في أكثر من عشر مناسبات، كذلك أبنت شهداء المولد في مناسبات كثيرة، ومهما تحدثتُ في موضوع أحجم عن تكرار المعاني المطروحة وأتمثل حكمة الحكيم:
دَعْ عَنكَ نَهباً صِيحَ في حَجَرَاتِهِ وهات حديثًاً ما حديثُ الرَّواحلِ
وفيما يلي أتحدث عن صاحب الذكرى وشهداء المولد بمعانٍ "ما سمعوا بيها الناس":
أولاً: الإمامة في الثقافة الإسلامية صغرى تتعلق بإمامة الصلاة، وإمامة أخرى مكتسبة يستحقها أشخاص بموجب عطائهم، لذلك لقب أئمة المذاهب بالإمام أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل لعطائهم. وفي كياننا لم يطلق لقب إمام على السيد عبد الرحمن إلا في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي بعد أن استطاع إحياء كيان الأنصار بعد أن دمره الغزاة حتى صار الكيان الديني الأكبر، واستطاع أن يعيد هيكلة دعوة الإمام المهدي فالدعوة الأولى كانت أحادية لأن جذوة الإسلام في العالم كانت قد خمدت، ولأن بلدان المسلمين تفرقت وسقطت في أيدي أعدائها وتطلع المسلمون للإحياء والتحرير والتوحد، فجسدت دعوة الإمام المهدي تطلعات كافة أهل القبلة في القرن التاسع عشر الميلادي كما قال د. عبد الودود شلبي العالم المصري. ولكن عوامل كثيرة تواطأت فهزمت دولة المهدية، وصار العصر الحديث مسلحاً بإمكانات تنظيمية وتكنولوجية غلابة، فاتجه كثير من المفكرين المسلمين نحو رؤى تنطلق من ثوابت الدين، وتستصحب مكاسب العصر، على نحو مقولات الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. رؤية وجدت في اجتهادات وممارسات السيد عبد الرحمن تجسيداً عملياً لها، وتأهب السيد عبد الرحمن لمواجهة دولتي الحكم الثنائي. لإنجازاته المذكورة هذه، وللمهمة العظيمة التي تصدى لها لتحقيق استقلال السودان استقر الرأي على أن يلقب بالإمام. لقب بالإمام لعمل اكتسبه وليس لموقفٍ ورثه.
وفي وصيته لم يذكر الإمام عبد الرحمن شيئاً عن الإمامة، وإنما وصف السيد الصديق بأنه خليفته، ولكن كانت البلاد تعاني من اغتصاب عسكري للحكم، ومصيرها في كف عفريت. الحاجة ماسة لقيادة يلتف حولها الشعب لاسترداد حقوقه المسلوبة. لذلك استقر الرأي أن يلقب بالإمام فاتخذ مواقف حققت تلك التطلعات فيه وصار قائد الأمة بلا منازع ومحط آمالها في استرداد حريتها، فحقق قيمة مضافة واستحق اللقب بالصورة التي وصفها الأستاذ مختار محمد مختار:
ما وجدنا فقد أبيك والله إلا بعد ما احتواك في التراب مضيق
وهو ما قالته المادحة:
مرحبتين بالإمام الصديق الكشف الظلام
بايعوه زي أبــوه سار فوق سيرو تمام
ثانياً: لم يكن حادث شهداء المولد حادثاً عادياً. قال الشيخ الألباني أحد أئمة العلم: الانقلابات العسكرية أفعالٌ لا أصل لها في الإسلام، وهي خلاف المنهج الإسلامي في تأسيس الدعوة وإيجاد الأرض الصالحة لها وإنما هي بدعة مارقة. وأسوأ أساليب السلطة الانقلابية أنها تعطل مبادئ الإسلام السياسية وعلى رأسها الشورى، وتستبيح دماء العزل إذا ما عارضوها بمنطق:
وَدَعوى القَوِيِّ كَدَعوى السِباعِ مِنَ النابِ وَالظُفرِ بُرهانُها
بهذا المنطق الظالم اعتدت سلطات انقلاب 17 نوفمبر على خيمة الأنصار في المولد، وجرحت عدداً منهم وقتلت 12 شهيداً. كثير من الناس نسوا لدى ثورة أكتوبر أنه قد سبق أكتوبر 1964م تراكم مواقف ومجاهدات هي التي نزعت الشرعية عن سلطة الانقلاب.
ولدى تشييع هؤلاء الشهداء ردد المشيعون هتافاً ضد الانقلابيين: نحن أقوى منكم.. قسماً.. قسماً.. سنحاسبكم. هتافات بقيت عالقة في الجو حتى نزلت وتحققت في 21 أكتوبر 1964م. وبينما كنا نجمع جثث الشهداء سلمني شخص لا أعرفه، وأغلب الظن أنه كائن من غير عالم الشهادة، سلمني أبياتاً في رثاء الشهداء أبيات من ست رباعيات، الرباعية التي ربطت بين استشهادهم والمستقبل أي مستقبل الديمقراطية في السودان، هي الرباعية التي قال فيها:
اثنا عشر باعوا النفوس هناك للشرف الرفيع
أنفوا الشكيم على الهوان وما استجابوا للخنوع
أُخذوا على غدر فألفــــــوا فيه كالطود المنيع
ماتوا ليجني الشعب في أعقابهم زهر الربيع
ثالثاً: لم تكن علاقة الصديق بوالده علاقة عادية، الوالد والولد ينطبق عليهما الوصف: شاكلتو وشاكلك ودخل في هيكلك. في إحدى المناسبات وصف الخطيب العلاقة بأن الوالد كالفيضان المندفع بالماء والنماء والابن كالخزان الذي نظم تلك الطاقات. الصديق ضحى بذاتيته لصالح رسالة والده حتى أصدقاؤه استبدلهم بأصدقاء أبيه.
وما جلس الوالد في مجلس أبداً عام أو عائلي إلا ردد مآثر الصديق بصورة غير معهودة، وأغلب الظن أنه كان بفراسة المؤمن يدرك أنه مع اختلاف عمريهما فإن أجليهما قريبين لبعضهما. أنا شاهد على هذا الإلهام لأنه ذات يوم كلفني الإمام عبد الرحمن بشيء، قال لي: "يا الصادق دور المروحة، كنا جالسين معه، وعندما فعلته وكان أبي حاضراً رفع الإمام كفيه وقال الفاتحة يا الصديق إن شاء الله تعيش حتى يخدمك أولاد أولادك، قال هذه العبارة ثم نطق عبارة "لكن"، وأجهش بالبكاء.
إن تجربة الاندماج الروحي هذه معهودة في التجارب البشرية: نحن روحان حللنا بدنا، فإذا أبصرته أبصرتني وإذا أبصرتني أبصرتنا. وهذا أيضا المعنى الذي قالته المادحة:
يا ناس أصبروا
الصديق كسركم لا شك بجبرو
الإمــــــــــــــــام مــــن بدري أدانـــــــا خبــــــرو
قـــــــــــال هــــــــذا كنزو المدخــــــــــور لكبرو
رابعاً: كثير من الناس يربطون الصلاح بأداء الشعائر، ولكن جاء في حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الْبِرِّ شَيْ‏ءٌ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَ النَّفْعُ لِعِبَادِ اللَّهِ، وخَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الشَّرِّ شَيْ‏ءٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالضَّرُّ لِعِبَادِ اللَّهِ"[3].
وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "لا يعجبكم في الرجل طنطنة، ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل".
لذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ"[4]. وقال أحد الحكماء:
إذا لم يزِدْ عِلمُ الفتى قلبَهُ هُدىً وسيرتَهُ عَدلاً وأخلاقَهُ حُسْنا
فبَشِّرْهُ أنَّ اللهَ أولاهُ فِتـــــــنـــَةً يُساء بها مثل الذي عبد الوَثْنا
إن دفاتر الوحي الإسلامي تضع الإمام الصديق في القائمة النورانية: قائمة الصالحين.
خامساً: كثيرون غير ملمين بعطاء الإمام الصديق السياسي: فهو الذي قاد وفد الاستقلاليين للأمم المتحدة حيث ذهب الوفد المصري بقيادة النقراشي باشا يصحبه لفيف من السودانيين الاتحاديين ليطالبوا الأمم المتحدة بإعلان السودان جزءاً من مصر بعد نهاية الحكم الثنائي. بينما ذهب وفد الاستقلاليين ليقول: إن تقرير المصير للشعوب هو من مبادئ الأمم المتحدة والشعب السوداني يطالب بحقه في تقرير مصيره فأيد مجلس الأمن طلب الوفد الاستقلالي.
وكسبه السياسي الثاني المهم هو أنه عندما اضطربت مواقف الأحزاب وفكر بعض قادة حزب الأمة أن يسلموا الحكم للقيادة العسكرية لتدير البلاد وتضع الدستور في فترة محددة، رفض السيد الصديق هذا الرأي ووقف معه في هذا الرفض أغلبية أعضاء مجلس إدارة حزب الأمة الساحقة، وكان رأيه أن يتخلى حزب الأمة من ائتلافه مع حزب الشعب الديمقراطي لأنه يناور ولا يريد كتابة الدستور، وأن يبرم حزب الأمة ائتلافاً آخر مع الحزب الوطني الاتحادي. كان هذا الرأي هو الذي ينقذ الديمقراطية وينجز الدستور ورتب الأمر بحيث يتم هذا الإجراء في 17 نوفمبر 1958م. ولكن الانقلاب على النظام الديمقراطي تم في غيبته في الخارج ودخل السودان مسلسل الانقلابات المشئوم.
والكسب السياسي المهم الثالث هو أن الإمام الصديق بمواقفه من انقلاب 17 نوفمبر منذ البداية حتى وفاته قد دق أول وأكبر مسمار في نعش النظام الانقلابي وجرده منذ البداية من الشرعية التي اكتسبها بموجب بيان السيدين.
سادساً: أما كسبه الاقتصادي فهو أنه طور أعمال والده في دائرة المهدي ما جعل والده يقدر هذا الدور ويشركه معه بنسبة 20% وأن يدير العمل كله ويفتح به آفاقاً جديدة في الاستثمار الصناعي والعقاري ومع هذا الامتياز لم يحرص الصديق على سحب نصيبه في الأرباح بل بقى متراكماً كدين على شركته مع والده وكان بإمكانه وهو مدير العمل كله سحب نصيبه في الأرباح ليفعل به ما يشاء ولكنه لم يفعل.
سابعاً: كان للإمام الصديق إنسانيات مميزة، أهمها: عرف بالعقلانية، والحقانية، وعفة اللسان، ووصل الأرحام والتضحية من أجل لم شمل بيته، والكف عن عيوب الناس فالمسلم على حد تعبير النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"[5]. وأكثر الناس خوضاً في عيوب الناس معلوم أصحاب العيوب كما قال الشاعر:
وَأَجْرَأُ مَنْ رأيتُ بِظَهر غيبٍ على عَيْبِ الرِّجَالِ ذَوو العُيوبِ
ومع حزمه المعهود خلت تربيته لأولاده ومعاملته للآخرين من العنف اللفظي والحسي. بعض الناس يربط الحزم بالعنف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَه"[6]:
مَلَكتُ بِحلمي خطة ما استرقها مِنَ الدَهرِ مَفتولُ الذِراعَينِ أَغلَبُ
يستطيع كاتب أن يؤلف كتاباُ كاملاً في إنسانيات الصديق.
ثامناً: الثورية لدى بعض الناس تتسم بالصخب والضجة كأنها مشتقة من الثور ذلك الحيوان المعروف بالهياج، وعبارة ثورة ترجمة غير صحيحة لعبارةُ Revolution لأن هذه العبارة تعني دورة من واقعٍ ماثل إلى واقعٍ جديد، ويمكن أن تحدث هذه الثورة بعنف ويمكن أن تحدث بنعومة.
بهذا المعنى الصحيح للثورية فإن تراثنا الإسلامي والسوداني زاخر بعطاء ثوار كثيرين. الإمام الصديق وهو يحتضر رأي أن كياننا هذا ينبغي أن يكون على رأسه إمام، وأدرك أن الإمامة مكانة تكتسب لا تورث لذلك فوض أمرها لجمهور الأنصار باعتبارهم أهل الشأن الأقدر على انتخاب إمام بموجب كسبه وعطائه لا بموجب إرثه.
هذه الرؤية، إذا علمنا أن كافة القيادات في المجتمع السوداني تربط بين الخلافة والوراثة في مجال الطرق الصوفية والقبائل، رؤية ثورية لا مثيل لها إلا في ما فعل الإمام المهدي الذي فصل بين التوريث والمكانات العليا، وربط الخلافة بالكفاءة فسمى أعوانه المميزين خليفة الصديق، وخليفة الفاروق، وخليفة الكرار، قياساً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.
كثير من قادة الكيانات التقليدية العشائرية والدينية حماية لتلك الكيانات يصانعون الحكام، ومع إمامة الصديق لكيان عريق: كيان الأنصار، فإن نهجه اتسم بدرجة غير معهودة من مواجهة حكام زمانه.
تاسعاً: كان أبي نسبياً بعيداً منا لأنه في طفولتنا كان يحمله عمله للبعد عنا، ثم في مرحلة الدراسة كنت غالباً في الداخليات، وفي فترة ما كنت أقرب إلى جدي لأبي الإمام عبد الرحمن، وجدي لأمي الشيخ عبد الله جاد الله وجدتي أم سلمة بنت الإمام المهدي ووالدتي رحمة. ولكن بعد نهاية دراستي في 1958م ثم بعد وفاة الإمام عبد الرحمن في 1959م صارت علاقتي بالوالد أقوى ما تكون العلاقة بين والد وولده، في عامي إمامته اكتشفت كنزاً في شخصيته وصار عهدي معه:
تبعتك عن عهد قديم عرفته وأعجبني المسعى فبايعت ثانيا
فعاد لذهني ما كان قاله لي المستر بريدن مدير النيل الأزرق السابق الذي كان قد تعرف على السيد الصديق كمدير لدائرة المهدي بالنيل الأبيض، قال لي أثناء دراستي في جامعة أكسفورد يا صادق إن أبوك الصديق هذا أعظم رجل عرفته في حياتي.
عاشراً: وكان احتضاره أصدق برهان على عظمته وصلاحه. أصيب بوعكة يوم السبت ويوم الاثنين 2/10/1961 أدرك أنها النهاية. قال لي كثير من أصدقائي من زعماء العرب المسلمين ومنهم الأمير الحسن بن طلال: لم نجد في الدفاتر الروحانية نصاً يماثل راتب الإمام المهدي في روحانيته وتجرده وتواضعه أمام الحضرة الإلهية. من يقرأ الراتب يجد أن الإمام المهدي ينسب إلى نفسه فيه الحقارة والمذلة لله والخطأ. طوال الوقت هو جالس أمام ربه مشعّباً، للذين لا يعرفون الشعبة في الماضي كان الذي يأتي تائباً يوضع عنقه في شعبة ذات قرنين وتربط، وهي في غاية الإذلال. الإمام المهدي في الراتب أمام الحضرة الإلهية مشعّب، مما يجعل الروحانية تزيد فمثلما قيل الارتفاع بقدر الاتضاع. ولا أجد نصاً خاشعاً تقياً في وداع الدنيا واستقبال الآخرة مثلما في الراتب، أمرني الإمام الصديق وهو يحتضر وحوله عشرات الحاضرين أن أكلف سيدنا عبد الله اسحق أن يقرأ الراتب، وفي نهاية الراتب في مناجاة رب العالمين: "واقذف في قلوبنا حبك وعظمة كلامك والعمل بأوامرك فيه وشوقنا إلى لقائك يا أرحم الراحمين يا حي يا قيوم (مائة) يا ذا الجلال والإكرام استجب دعاءنا ولا تردنا خائبين يا من وسع حلمه كل العالمين آمين يا رب العالمين". ومع نهاية قراءة الراتب وهذا الوادع للدنيا أملاني وصيته ثم رفع يديه بالفاتحة على روحه واستلقى راقداً. إنه مشهد لا مثيل له في وداع الدنيا واستقبال الآخرة (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[7].
حقاً:
قد ماتَ قومٌ وما ماتتْ مآثرهُم وعاشَ قومٌ وهُم في النـَّاسِ أموات.


والسلام عليكم

[1] أخرجه الدارمي والنسائي في الكبرى وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم
[2] سورة الشعراء الآية (84)
[3] بحار الانوار
[4] مسند بن حنبل
[5] صحيح بخاري
[6] مسند ابن حنبل
[7] سورة الكهف الآية (110)