رائحة المكان

رائحة المكان


02-01-2007, 10:47 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=3&msg=1170366451&rn=0


Post: #1
Title: رائحة المكان
Author: mutwakil toum
Date: 02-01-2007, 10:47 PM





الأن اترك هذه البلاد ، خمسة اعوام ، دخلتها بحجة دراسة الجامعة وخرجت منها وحقيبتي معباءة برائحة المكان التي تتسرب في هئية ودموع وأصدقاء ،كانت الجامعة - الحجة- التي دخلت بها هذي البلاد لا تشغل حيزاً يذكر في حقائبي ....

رائحة المكان تتشابك مع سيرة الصحاب فتتآمر على الحاضر في الداخل ، يغيب الحاضر ، تتكثف الذكرى، تمس عصب الدمع ، نعم مراراً قبضتها متلبسة تمس عصب الدمع مع سبق التكرار والتمرد ..
الاصدقاء – هم اطفال الروح . - ربي ما تحرم روح من الاطفال –مكتشفي عبثيتها ، فوضيتها ، منقبي ضحكتها ، راجميها باحجار الوضوح . لكنهم- الاصدقاء- لايصيبون الروح بالقروح . وهم حاسة شم المكان . هم مكان حاسة الشم . (منتصر ديسكو) لا يدمغ ريقه بعصير قصب السكر الا تحت شجرة اللبخ في شارع (اقاري أباد) بدعوى انه هنا فقط تحت هذه الشجرة بالذات تخرج رائحة حي الدرجة من عمق الذات و لا يقبل فكرة تصغير الامر الي ان الامر مرتبط فقط بشجرة اللبخ التي تـنـز بالرائحة المشتركة بدعوى ان هذا المكان بالقرب من صك القصب تنبعث روحه الاولي التي نفخت في حي الدرجة ،،
حميمية رائحة المكان او صميميتها كما اسماها سهيل ادريس في رائعته (الحي اللاتيني) تبعث في الدواخل مداخل مبعثرة لا يمكن القبض عليها، فقد تكون اغنية، . فحينما يدير (رشيد انسانية) اغنية اخوان الانسانية من جهاز تسجيلة المتعب على ظهر المركب في نهر السند او نهر الحب العظيم كما تسميه( ندى امين) بأمانه، تكتمل لوحة الاغنية بتفاصيل المكان ورائحة شواء السمك على الضفاف ، حتى تبعث الاغنية لاحقاً اينما اديرت منقوشة اطراف احلامها بهلوسة رائحة السمك وانسياب مركب متعب على ظهر السند المنهك بحكاوي الاصدقاء الملهمة .
رائحة المدن لها علاقة سحرية مع تفاصيل المكان فالرائحة الاليفة التي تزكم انفك واطرافك تتلمس بحذر شارع (مطار قائد اعظم) مرتبطة عضويا بزخرفة البصات واكتظاظ البشر في سقفها وخلوها من الداخل وضجة الباعة المتجولين وشخبطة الجدران (اسد اسكندر خان زندا باد) (بكستان زندا باد) (انديا مردا اباد) (بنظير بوتو زندا باد) ، حينما تعتاد اطرافك على المكان وتصبح جزء من النسيج العام تختفي هذه الرائحة لتكون انت جزء من هذه الرائحة .
والرائحة المنثورة في مطار الخرطوم تكتمل خيوطها بوجود (العسكري) المصلوب على اسفل سلم الطائرة ببندقيته الهزيلة وزيه (الاغبر) و(سفنجته) الخضراء ونظراته االتي احسن تجويفها و كلمات اجيد تسخيرها للصد . (همس لي موظف الجوازت بكلمات لم اتبين ملامحها ، حينما طالبته بتكرارها سافرت اذني اليه تحمل توقعات جمله لها علاقة بالختم . بالجواز ، التزكرة ، بالرحلة ، لكنها ارتدت خاسئة بجملة مربكة.ـ . اخت ليك خمسين دولار في نص الجواز ده تجيب لي بيها شوال سكر من السوق الحر) .. مضغت كلماته بصوت مسموع ،مهزوز فقذف الجواز بعصبية منتهرني قائلاً – اقفل دينــ .. ما تفضحنا . ) فعجل لي اكتمال الرائحة .
الرائحة هنا مطار الخرطوم تخلط بالصمت وتمزج بالنفاق والفوضى ، تعيد صياغتك للمرحلة القادمة . بعيون الرائحة يتبرج السؤال (الجابك شنو؟)

أنا الآن هنا السودان بلاد السندباد والف ليلة وليلة -خلاف انه لا يجوز لي الحكي في حارة الحكايين- من فيض اشجان بدائية لا تتعاطى الاوتوكيت فانني اخشى استنشاق روائح امكنة كما مريح حكيها ، واجب حجها لمن استطال اليها سبيلا ، يزعجني انها لاتعني مدمني ومتعاطي الجمال واخشى ما اخشى ان اقص عن الاصدقاء و لا اقص احسن القصص فبؤس الذاكرة وجروح الروح لاتؤهل الكتابة عن اصدقاء انبياء ، رسالاتهم اقتلاع الضحكة من عرين البؤس . ورش القلب بطحين الحب .
فمن بوسعه ان يتخيل ان صمت وجفاء عراء مهمل في الخرائط كعراء جامشورو و داخل كافتيريا السنترال كامبس Central campus المعبئة بروائح الخبز الرخيص واطعمة حجر زاويتها الماء ، يوجد منعم اب زهانة وابتسامته الحضارية المريحة لا تضيق من ضجة الذباب ومن ضيق انصار السنة به يحكي بطريقة الحجوة عن اختلافه مع الله واتفاقه مع ماركس ، وكيف انه لا يمانع دعوة انصار السنة لو انهم اتفقوا ان محمد جاء بداية القرن متقمصاً روحا جميلة تسمى عبد الخالق . وكيف انه لم يعجبه الحال ورحل.
بوجود انبياء على شالكة هولاء الاصدقاء في هذا المكان الذي ختم عليه قبل ايداعه في حسابات الحياة ان يكون ثقيلاً على الوجود رقيقا مع العدم . هنا وقبل ان تتوزع الخرائط وتتقاسم الي ماء وارض ، اختلفت التضاريس على من يمثل المكان المريب فظهرت الحقيقة قبض على الارض لتكون هنا اثر براءة الماء من تهمة الخلاء . التراب لايحتمل الاهمال المنسق هنا ، التلال نبتت دون مخطط حلاقة ولم يكن في علمها انه سوف يحكي عنها يوما بصيغة الشئ(كان يا ما كان في قديم المكان) ولم يدر بخلدها انه سيقف فيها نبي بقامة راشد يحمل بيسراه كاسا يفك به عقدة لسانه و يغني لها عالياً (على هذه التلال المطمئنة نحن قاتلنا .. الخ) . ويعتذر لها بادبه الرشيق عن خشيته بان يهتز الجبل وتسقط الكاس على بشرتها- التلال - وتتحول الي ندب يسعى .
ولم يكن التل في الطرف الآخر يحلم ان يجول جواره طارق جانوار يشيخ سريعاً لانه يتقي البرد والشوق والحب والغربة وملهى الامر بالخمر ، يلوح بعصافير بعثت للمكان بصيغة منتهى الموت يطلقها راقصة بالحياة والاغاني والمعاني .
و لا الوادي المغبر طوي في خلده ان عفاف كليمة الشوق ، تحت التل، من معطفها ينبعث بهار المكان مبعث الشجن سودنتها لتفاصيل الغياب ، بيدها تضرب مصادر الغم،صدرها، ترفقها بأرفق مفردات المعاجم(كرعليً) .لم يكن بخلد الوادي المغبر ان يطوي حكاياتها .
برائحة تعاقب الفصول البدائية في مكان بكر لم يمسسه بشر منذ الشيوع الاول يتحول الانسان بقوة سحر المكان الي انسان اول ينحت الحجر والصبر و لايعنيه القبر لسعة الوادي ، يتسامى في وسامة لممارسة الاشتراكية باسمي تجلياتها ، شراكة الخبز والخيال . القبح والجمال . توجيه فائض القيمة للقيامة القادمة ..
***
حكي ميت ان شريط الحياة يمر لحظة حضور الموت وهو ما اصابني بـ(الظبط) ، احالتني الي الرقصة الاخيرة ، رقصة الموت ، في احضان شريكي في الرقص تقياءت ذكرياتي .

july 1997