كرة القدم...لماذا هي بكل هذا السحر والاستحواز علي الشعوب!!!

مالذي يجعل لعبة الكرة تحظي بكل هذا الهيام الجنوني من كافة
شعوب الارض?
بالتاكيد ان لكل ظاهرة طبيعية او انسانية اسبابها. فاذا ماهي اسباب
القوة السحرية للظاهرة الكروية? وكيف استطاعت البشرية ان تجمع علي هذه اللعبة الفريدة وهي التي لم تجمع في كل تاريخها
الانساني علي اي ظاهرة مماثلة. فهي لم تجمع علي دين
ولا مذهب سياسي ولا نظام اقتصادي ولا لغة ولا ثقافة
معينة ولا مبدا ولا اي شيئ اخر..
اذا لعبة كرة القدم هي مسالة بالغة الجدية وطالما هي امر
يشغل الجماعة الانسانية بهذا القدر وياخذ منها كل هذا
الوقت والاهتمام والجهد والاستثمار والمناقشة والحزن
والفرح بل والهوس الجماعي لذا نحن امام امر يستحق ان
نحاول فهمه واستقصاء اسبابه واستيعاب خصائصه
كمدخل طريف ومثير لتعميق فهمنا لانفسنا ولطبيعتنا البشرية
بصورة اكمل..

يتواصل

يكمن السر الفلسفي الاساسي في هيام البشر بلعبة كرة القدم
في انها تحقق للبشرية حلمها الانساني القديم في التوق
الي العدل المطلق علي الارض. فالانسان ورغم عبقرية
انجازاته الحضارية فحتي اليوم لم يستطع ان يحقق العدالة
الكاملة المطلقة في اي مجتمع بشري رغم الاديان والقيم
والمبادي والقوانين المختلفة التي ترمي لتحقيق اقصي درجة
من العدالة الا ان هنالك قوي اجتماعية تظل بصورة او باخري
فوق العدل وخارج القانون وتظل السرقة والبلطجة والعنف
والخديعة والمحسوبية والرشوة والجبن والخسة والتسلق والوصولية
تعمل جميعها للنيل من سلطة العدالة وتحرم الانسانية من
حلمها النبيل..

اما في لعبة كرة القدم فيجلس عشرات الالوف من البشر
في مدرجات ملعب مكشوف ويتابع ملايين اخرين علي
شاشات التلفزة لعبة محكومة بمنظومة علنية من المبادئ
والقواعد والقوانين المتفق عليها ويخضع لها جميع اللاعبين
بنفس الدرجة وبنفس القياس بشكل مكشوف وبصرامة واضحة
وينزل فيها الثواب والعقاب في نفس لحظة الفعل وليس
بعده بشهور او سنوات ويكون الفوز للاصلح, للمهارة والاجتهاد
والكفاءة والتفوق حيث لاتنفع محسوبية ولا موالاة كما
لاتجدي واسطة او قربي لامير او وزير..
فهنا تغيب وتنتفي كل العوامل التي من شانها ان تفرق بين
الانسان والانسان وتصنع الحواجز بين البشر.
ففي الكرة تجدنا امام حالة انسانية مبهرة تنتصر فيها الكفاءة
وينتفع فيها الانسان ببذله وعطاءه محققا بذلك صورة
عصية وباهرة من صور العدل علي الارض...

بجانب قيمة العدل ,توحد الكرة بين بني البشر في اطار واحد
من المثالية التي تلغي كافة عوامل التفرقة من ايدولوجيات
ومذاهب وعرقيات واديان ففي ساحة الملعب تسقط كل
تلك الاعتبارات ويركض الجميع علي قدم المساواة المطلقة
فهنا الناس سواسية امام العدالة الكروية.
فهكذا ياتي البشر افرادا وفرق وجماعات من دول اسلامية
او عبرية ,فارسية او عربية, لاتينية او هندية, ديمقراطية او
فاشية, اشتراكية او راسمالية او اقطاعية, فاذا بكل مذاهبهم
تتساقط عنهم ليقفوا في النهاية عرايا الا من فانلاتهم
الملونة, فهنا يقف الانسان بوصفه انسانا مجردا مطلقا
فتتحقق له انسانيته متمثلة فيما يقدمه هو كموهبة وليس
كوعاء ديني او مذهبي او سياسي وليس كهالات وضع طبقي
او اشارات وهم عرقي..
وهذا تحرر فريد يتحقق للانسان بفضل هذه اللعبة الاعجوبة
فحتي عندما يموت الانسان فانه يموت مسربلا بارديته
الدينية والطبقية والاجتماعية التي لا تتخلي عنه ولا تعتقه
حتي حين موته, فقط حين يلعب الكرة يتجرد من قبيلته
ودرجات طبقته ومراسم ثقافته ويقف انسانا حرا كاملا
متساويا مع كل لاعب اخر في طقس كروي مثير تتجلي فيه
كما لم تتجلي من قبل ذاته المتحققة..

يتواصل

اختلف الناس حول مفهوم العولمة الاقتصادية والسياسية
فدافع عنها البعض وهاجمها وتخوف منها اخرون واتهموا
مروجيها بالدوافع الاستعمارية العدوانية بل وذهب بعضهم
الي الخشية من فقدان هويتهم وذواتهم.
الا في كرة القدم فقد حققت الكرة فلسفة العولمة في كامل
ابعادها ولم يعترض عليها احد فيما يبدوا.
وتدافعت الدول حكومات وشعوب واقبل الجميع مثقفين
واميين, اغنياء وفقراء, اذكياء وبسطاء علي هذه العولمة الكروية
المدهشة فدخلوا في رحابها دون تشكك او تردد فبرهنوا بذلك
علي وحدة الموهبة البشرية وعلي امكانية النظام الانساني
الواحد دون ان يفرط طرف علي طرف ودون ان يطغي.
وهاهو نظام العولمة الكروي يقدم مفهوما متقدما ومتحررا
للمواطنة والانتماء اذ تستعين الدول بلاعبين ومدربين من
اصول اخري قد تختلف في الشكل واللغة والدين والثقافة
ولكنها العولمة الكروية التي حطمت الحدود واذابت الفروق
الشوفينية ومحت الاختلافات القطرية واعادت دمج الجميع
في نظام انساني اشمل..

بجانب تحقيق العدالة والمساواة تقدم الكرة لعشاقها جرعة من
الجمال البديع الذي يتجلي في الابداع الفني من خطط الدفاع
والهجوم الي القدرات والمهارات الفردية الي اللعب الجماعي
وابتداع الجماليات التشكيلية الي فنون المراوغة والصد والتحكم
والتسديد
لذا استطاعت الكرة تحقيق السلام والجمال, ففي منظومة
الاخلاق الكروية لا توجد دار حرب ودار سلام ولا مؤمنون وكفار
ولايوجد وطنيون وعملاء ولايستغل غوغائي الدين لترويع
الابرياء ولايستغل غني ماله ولا قوي نفوذه للحصول علي
ماليس له ..فكم في الكرة من دروس...

@