إستفتاء سويسرا (أفول المآذن أم سقوط حرية المعتقد؟)

إستفتاء سويسرا (أفول المآذن أم سقوط حرية المعتقد؟)


12-01-2009, 06:50 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=250&msg=1259646621&rn=0


Post: #1
Title: إستفتاء سويسرا (أفول المآذن أم سقوط حرية المعتقد؟)
Author: أحمد عثمان عمر
Date: 12-01-2009, 06:50 AM

فأجأتنا الأخبار أمس بتصويت أغلبية المواطنين بسويسرا لحظر بناء المآذن مستقبلاً، في إنعطافة بائنة نحو تأييد اليمين المتطرف الذي إستطاع ربط المآذن ربطاً لا فكاك منه بالإسلام السياسي المتطرف. والمفاجأة تكمن في أن إستطلاعات الرأي التي سبقت الإستفتاء قد أشارت وبشكل كبير إلى أن مقترح الحظر سيسقط، وعزز إتجاهها سمعة سويسرا كوطن متسامح بنى تاريخه على الحياد. وبعيداً عن المواقف العاطفية وردود الأفعال المجانية والسهلة، فإننا نرى أن الحدث شديد الأهمية وبالغ الخطورة لا لدلالته حول مستقبل التجمعات الإسلامية بأوربا، بل لدلالته الأشمل والكونية حول حرية المعتقد وممارسة الطقوس والشعائر.

ففي تقديرنا المتواضع أن الأضرار التي سيتعرض لها المجتمع المسلم بسويسرا من حظر بناء المآذن لن تتجاوز حدود التضييق والإعتداء على الرمزية بإعتبار أن الأرض كلها مسجد من حيث الجوهر، وأن هناك الكثير من المساجد في العالم الإسلامي ليس بها مآذن أو منارات كالمساجد بالمباني متعددة الطوابق والمطارات مثلاً، ولكن رمزية المئذنة التي تجعلها جزءاً من المسجد الجامع مكملاً لطقس الصلاة فيه، تضرب عميقاً في مفهوم حرية المعتقد وحرية أداء الطقوس الدينية المرتبطة به والمتفرعة عنه. فالمعلوم أن حرية المعتقد تشمل الحق في ممارسة الطقوس بما فيه الحق في بناء الأماكن الخاصة بممارسة تلك الطقوس وإختيار شكلها وهيكليتها الملائمة لأداء تلك الطقوس. وهي حرية تشتمل على عدة حقوق، تعطي الفرد الحق في ممارستها طالما أنها لاتتعارض مع الحقوق الدستورية الأخرى للمواطنين، لأن القاعدة هي أن تنتهي حرية الفرد حينما تبدأ حقوق الآخرين. وهذا القيد مهم جداً ، إذ لايستطيع كائناً من كان أن يقول بأن طقسه الديني لايكتمل إلا بتقديم قربان بشري لإلهه ومن ثم ينتهك بذلك حق فرد آخر في الحياة مثلاً. والسؤال الأساسي الآن هو: هل ينتهك بناء المآذن أياً من حقوق المواطن السويسري الدستورية؟ والإجابة هي بالحتم لا. ومفاد ماتقدم هو أن بناء المآذن طالما أنه يشكل جزءاً من طقوس المسلمين في مساجدهم الجامعة، ولاينتهك أياً من الحقوق الدستورية للمواطن السويسري، لا يجوز إبتداءاً إستفتاء المواطنين حول حظره من عدمه، لأن الإستفتاء في هذه الحالة يصادر حرية المعتقد. فالإستفتاء الذي تم حول بعض معتقدات المسلمين التي تعتبر جزءاً من حريتهم الدينية، هو إجراء غير دستوري وباطل من الممكن مقاومته إستناداً لمبدأ عدم الدستورية بإعتبار أن الدستورية هي الضمانة الأولى والأساسية لمبدأ سيادة حكم القانون الذي تقوم عليه دولة سويسرا وكل الديمقراطيات الغربية.

والمحير بالطبع هنا هو السبب الذي دفع المواطن السويسري إلى تجاوز قناعاته الراسخة حول حرية المعتقد والتصويت لحظر بناء مآذن لم تكن تشكل له مشكلة بالأساس حيث سمح ببناء أربع منها ببلاده. فهذه الإنعطافة من السهل ممارسة الكسل الذهني في مواجهتها ونسبتها إلى ردة فعل على الإسلام السياسي المتطرف وللإسلاموفوبيا التي بدأت في إجتياح الغرب، ولكننا نرى أن هذا التسبيب على صحته الجزئية ليس كافياً. صحيح أن الإسلام السياسي المتطرف مثله مثل أي تطرف آيدلوجي قد أسس لتآكل التسامح في مواجهة كل من يمكن أن يدمغ به أو يتهم به مجرد إتهام قائم على المشابهة لا التطابق، ولكنه لايكفي لتفسير إنعطافة مواطن كالمواطن السويسري ضد قيمة أساسية بالنسبة له كحرية المعتقد والتصرف برد فعل مباشر وميكانيكي في مواجهته تنطعه ومغامراته الكارثية. صحيح كذلك أن تسييس المسجد من قبل حركات الإسلام السياسي بعامة حتى المعتدل منها او المتطرف بالإمكان كما يشاء البعض، قد لعب دوراً كبيراً في الخلط بين المسجد كمكان للعبادة وبين حركات الإسلام السياسي بشكل شوه وعي مواطن كالمواطن السويسري ليصدق دعاية اليمين المتطرف حين صور المآذن كصواريخ موجهة، إلا أن ذلك أيضاً ليس كافياً في تقديرنا لدفع المواطن السويسري للتنكر لقيمه الليبرالية بهذه السهولة والدلالة على ذلك قطاع كبير مازال متمسكاً بها لدرجة أن إستطلاعات الرأي قد تنبأت بسقوط إقتراح الحظر. فالواضح هو أن حركات التطرف الإسلامي لم تنشأ اليوم، وأن سويسرا ليست من ضمن الدول التي تضررت تضرراً مباشراً من هجماتها وعملياتها الإنتحاريبة ولا من تبشيرها علناً للعنف، كما أن حركات الإسلام السياسي المسماة بالمعتدلة قد طاول عمرها مايقرب من قرن ولم تدفع بالمواطن السويسري لمثل هذا السلوك، مما يحتم البحث عن سبب يؤسس لسهولة إنتشار تأثير الدعاية المبنية على الإسلاموفوبيا.

في تقديرنا المتواضع أن السبب يكمن في أسس المجتمع السويسري نفسه والمجتمعات الغربية التي تشهد إنعطافة نحو اليمين لأسباب هيكلية ترتبط بطبيعتها نفسها. وإنعطافة سويسرا الحالية نحو أطروحات اليمين المتطرف لا يمكن فهمها بعيداً عن الأزمة المالية العالمية وأثرها على المجتمع السويسري، آخذين في الإعتبار أن سويسرا هي مصرف العالم ومركزه المالي الذي لايشق له غبار. وبدون دراسة هذه الأزمة المالية وأثرها على الطبقة الوسطى في المجتع السويسري، لا يمكن تفسير السهولة التي سقط بها المقترع السويسري في حضن اليمين المتطرف في وقت تندفع أوروبا نحو اليسار والإشتراكية حيث تشكل الأحزاب الإشتراكية وذات الميول الإشتراكي مايقارب 30% من مجتمعات أوربا. وبكل تأكيد تشديدنا على الأزمة المالية العالمية بوصفها أحد مؤشرات الأزمات الدورية للرأسمالية، لا يعني إهمالاً لأهمية العنصر الآيدولوجي والدعائي الذي وفرت مناخه حركات الإسلام السياسي بشقيه المعتدل والمتطرف بحيث سهلت من ربط الدين بالسياسية في مخيلة الناخب السويسري، بل أنه يرمي لتأكيد أن أزمات الرأسمالية الدورية كسيطرة الرأسمال الإحتكاري تؤدي لتآكل المواقف الليبرالية، وتقود لتآكل الحقوق والحريات على مستوى المواطن العادي ووعيه الجمعي لا على مستوى الحكومات فقط.

ما أتمناه هو ألا نركن في العالم الإسلامي للتباكي حول ماتم والإكتفاء بالهجوم اللا عقلاني وتغذية التطرف، بل أن نتجه للتساؤل حول ماحدث ولماذا حدث، وكيفية مواجهته بإجراءات قانونية وتحول في المسلك السياسي، مع تحمل تام لمسئولية العالم الإسلامي وحركات إسلامه السياسي التي نجحت في المساهمة في تخريب الوعي الليبرالي في معاقله، برغم أنها لم تكن السبب في تدهور هذا الوعي، لأن السبب يكمن في التطور السالب لتلك المجتمعات وأزمة نظامها الرأسمالي. فما حدث هو هدم لجوهر النظام الليبرالي وحقوقه وحرياته، أكثر منه أفول لمآذن غيابها لن يغيب الإسلام ولا طقوسه التعبدية من حيث الجوهر.