ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك ����� ����� ������ ����� 2009� ������ ���������� ���� ��� ��

ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك


04-26-2009, 09:40 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=200&msg=1240778422&rn=1


Post: #1
Title: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-26-2009, 09:40 PM
Parent: #0

الأصدقاء الأعزاء..
أسعدني الترحيب العظيم الذي قوبلت به هذه الملفات الثقافية، والتشجيع الذي وجدته وأنا أقدم على مبادرة نشرها في المنبر العام لـ (سودانيزأونلاين). ولقد لمست من خلال هذه التجربة المزايا المتعددة للنشر عبر هذه الوسائط الإلكترونية الحديثة؛ إذ أنها وسيلة فعالة لوصول المادة الأدبية والفنية لقطاعات جديدة من القراء ممن لا تتاح لهم فرصة أخرى لبلوغها. ومن مزايا هذا النمط من النشر أيضاً أنه يساعد على إجراء حوارات حية تشارك فيها الأجيال الحديثة التي تتعامل مع الشبكة العالمية وتألفها وتفضلها. ومن أهم الميزات – كما علمت – أن مثل هذا النشر يبقي على المادة المنشورة، ويحفظها من الاندثار، ويمكن من الرجوع إليها في كل الأوقات بسهولة ويسر.

غير أني - مع كل هذه المزايا سوف أعمل على أن تجد هذه الملفات القيمة طريقها إلى النشر في شكل كتب أيضاً، إثراء للمكتبة السودانية، ووصولاً إلى قطاعات عريضة من أبناء الوطن، وإشباعاً لرغبات القراء الذين لا يزالون يفضلونها على الورق!





ويسرني كثيراً أن تزدان اليوم هذه السلسلة من الملفات الثقافية بملف عن أحد أدبائنا المبدعين الشوامخ، من الذين أثروا الساحة الثقافية بعطائهم الثر والمتعدد الجوانب؛ ألا وهو الأديب الراحل/ البروفيسور علي المك – عليه رحمة الله.

جزء رئيس من هذا الملف كان قد نشر في ملحق "الأيام الثقافي" بتاريخ 15 مايو 2005م، وحمل عنوان: "يا مسافر وناسي هواك" – من إعداد وإشراف د. عبد القادر الرفاعي والأستاذ مصطفى الصاوي. الشكر الجزيل والتقدير الوافر لجريدة "الأيام" على الاهتمام الكبير الذي توليه للشأن الثقافي كجزء من رسالتها التنويرية.

من بين الكتاب المشاركين في الملف: الدكتور تاج السر الحسن، الأستاذ/ محمد مصطفى الأمين، الأستاذة/ أم سلمة المك، الدكتور مرتضى الغالي، الأستاذ/ محجوب شريف، البروفيسور عبد الله الطيب، الأستاذ/ محمد بهنس، الأستاذ صديق الحلو، الأستاذ/ احمد مصطفى الحاج.

بالإضافة إلى الموضوعات التي تضمنها ملحق "الأيام الثقافي"، يشتمل الملف الحالي على أربعة مقالات رئيسة بقلم الدكتور مصطفى الصاوي (الذي نتقدم له بالتهنئة الخالصة لنيله درجة الدكتوراة في الأدب مؤخراً) وهي:
- قراءة أولى في كتاب: "مختارات من الأدب السوداني"
- ملامح القص في "مدينة من تراب"
- تأملات في سيرة علي المك الأدبية
- علي المك – صورة جانبية

كذلك يشتمل الملف على قصتين قصيرتين من قصص أديبنا الراحل البروفيسور علي المك، وهما: "كرسي القماش" ، و "شلبية". ( القصة الثالثة "ملف عباس مسعود" منشورة ضمن مواد ملحق "الأيام الثقافي"). هذا بالإضافة إلى موضوعات متنوعة أخرى.

أتمنى للجميع سياحة ممتعة في فضاءات أديبنا المبدع علي المك – عليه الرحمة.

د. عبد القادر الرفاعي

Post: #2
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-26-2009, 10:09 PM





علي المك
صورة جانبية
بقلم: الدكتور/ مصطفى الصاوي


"أجمل ما ذرأ الله في أرضه" (محمد المكي إبراهيم)

طقس واحد ظل علي المك يمارسه طوال حياته دون كلل، ودون ملل:الإبداع. ظل قابضاُ على جمرته (الحراقه) في مكتبه في الجامعة، في المنطقة الصناعية، وحتى في سوق أم درمان وسط غمار الناس.. تجاوز معرفة الصفوة، ووجد جوهرته المفقودة بينهم، والتي أخرجها في (الصعود إلى أسفل المدينة) و(القمر في فناء داره) و(مدينة من تراب)، و(حمى الدريس)، وفي سيرة عبد العزيز، صفي قلبه وروحه التي دونها في ترجمة (سيرة غيرية) رائعة.

لعنة واحد إصابته - إن كانت لعنة - (حرفة الأدب) - التي تفجرت في القصة، والترجمة، وكتابة المقالات،والسيناريو. من كل هذه كان حلمه، وواقعه تفانيا في الغوص العميق ليمسك بالنص أي كان نوعه الأدبي منتجا اللون والطعم السوداني.

علي تميز بروح الدعابة والسخرية، تراها في كل ما كتب. دعي مرة ليحاضر في الجزيرة، سأل عن مكان المحاضرة، أجاب محدثه: (نادي الجزيرة)، تبسم علي قائلاً: (يا أخي نادى الجزيرة أحسن محل يلعب فيه الكونكان عاوزين تزحموه بالمثقفاتية!.. هذه السخرية تتفاقم في المواقف الحزينة التي عاشها. قال يبدي تظرفاً(صاحبك صوته خف).. قلت بحدة (صاحبي منو؟) قال (عبدالعزيز داؤود) قلت ساخراً(ما هو أنت موجود) . لقد كانت سعادته المنشودة عندما يكتمل عقد الصداقة النضير.. حسن يحيى الكوارتي، مختار عباس، صلاح أحمد، عبد العزيز داؤود؛ أو حينما يرافق صاحبه الفنان إلى المنطقة الصناعية ويتجمع حولهما الحرفيون والصناعية (صناع الحياة) على حد قول علي المك نفسه. هؤلاء هم الذين تسربوا بشفافية إلى قصصه وإبداعه بشكل عام.

أصالة علي لا يتناطح فيها عنزان.. قادته تلك الأصالة إلى غناء الحقيبة، وهنا كانت صلته مع عتيق، وأهتمامه بخليل فرح، ومدينة أم درمان الجنة المنشودة والمشتهاة؛ فأدخلها عالم الشعر والقصة فأصبحت سيرتها جزءاً من كتاباته، ولم تكن أبداً مصادفة.. ألم يتعلم من خاله علي سليمان (كيف يكون العيش في أم درمان صبابة). عشق مآذنها، ازقتها، وناسها، والتقى مع الظرفاء كمال سينا، الخيال، سامي الصاوي، عبد الرحمن وداعه، وغيرهم كثر.. أصحاب نكتة وظرف، ومجالس تعبق بالود والمحبة.

شخصيات أخرى ظهرت في مأتمه لا ترتدي البدل اللائقة ولا تتعمم بالعمامات البيضاء الفارهة .. شخصيات باللون السوداني والبساطة السودانية، وتاريخ المدينة التي عشق.. رجال أو نساء، سيان الأمر، اجتمعوا على حب علي، كيف المدينة الآن بعد أن رحل عاشقها؟ لعلها تندب إشلاق البوليس، والملازمين، وملامحها التي تغيرت بفعل فاعل، وميدان الأهلية يراوح بين الإبقاء والبقاء، وجامعة أم درمان الأهلية تدخل الإنعاش.. والكثير الكثير، و(العزلمين) .

في ذكرى علي نذكر كل القيم النبيلة ونحن نعيش زمن سقوط القيم. كتب أحد الكتاب (علي كاتب صنعه الإعلام). في زمن علي لم تكن هناك صناعة نجوم وفرض شخصيات بقوة الإعلام الموجه الجبرية. ولكن الطقس الإبداعي الذي مارسه منذ الثانوية، مروراً بجامعة الخرطوم، ثم ابتعاثه للخارج للدراسة، والصحبة الأدبية ونوع الدراسة، والحريات العامة، والمواهب الفطرية. ثم كان لعبدالله الطيب تأثير كبير على نمط كتاباته القصصية بما فيها من حسن السبك والدقة اللغوية والاستطراد المحبب. هذا الذي صنع علي المك ولا شيء سواه.. تلك قضية أخرى. صنعة الانتماء لهذا التراث والموهبة الفذة التي أفرغ طاقاته الإبداعية مستمدة من كل ما رأى وما سمع وما قرأ، وأدمجها في نسيج فن مميز ومتميز .

وعودة إلى بدء، فقد شكلت أعماله القصصية (الصعود إلى أسفل المدينة)، و (القمرجالس في فناء داره)، و(حمى الدريس) أنشودة حب تعني الإنسان البسيط والذات التي تتوق إلى الحرية والتضامن الإنساني.. وأهم من ذلك كله تبوأت المدينة مكانتها في نصوصه - أم درمان - كشخصية محورية. موهبة علي القصصية تنهض على استخدام اللغة بحساسية وتجويد؛ وتنبع هذه الحساسية من النصوص الكلاسيكية والقرآن الكريم. وكذلك يدمج العامية المحكية في نصه. وأنشأ علي المنظور الواقعي في المعالجة. وفي ذكراه نحتفي بقصصه وشخصياته، خاصة لأننا نشهد زمن القص الرديء ، واللغة الركيكة والأحكام النقدية الجوفاء. وتبقى قيمته الفنية الرمزية :حكاء عظيم ، ومثقف وطني، وأستاذ جامعي، ومواطن بسيط، عشق غمار الناس، وبسطاء الناس وعاش بينهم ودوداً ومحباً وعاشقاً.. نفذوا إلى إبداعه بشفافية وعمق .. رحمك الله وأحسن اليك يا (أجمل من ذرأ الله في أرضه).

Post: #3
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-26-2009, 10:15 PM
Parent: #2





شلبية
من مجموعة (القمر جالس في فناء داره)
علي المك


***********

صباح الجمعة سمعت صوت نسوة يبكين ويولولن كمن فقدن عزيزاً بلا أمل عودة، أدركت أن صاحبك في البيت كان مخموراً ليلة الخميس، و أنه ربما عاشر امرأة أو امرأتين .. لأنه تململ في سريره، و كشف عن وجهه الغطاء ثم همهم بكلمات لا تبين، ولكنها تنم عن عدم الرضا. ثم نهض وجلس على السرير، اعتمد رأسه بين يديه، وزفر في حرقة، ثم رقد ثانية وسمعت شخيره بعد ثوان قليلة.

وتعالى الصياح و النحيب، ويبدو أن عدد النادبات يزيد مع كل دقيقة تمر، ثم عرفت أن عبد الرحمن الحنفي قد مات. كان عبد الرحمن الحنفي في رؤوس أبناء جيلك يمثل نوعاً فريداً من الناس، كان رجلاً واسع الثراء، قليلاً حظه من العلم، يعامل أبناءه في قسوة، ويأخذ أزواجه بالشدة، ويمنعكم لعب الكرة أمام بيته بلا سبب، وكرهتموه بلا حدود.

وها أنت تسمع الناعيات يندبنه في غير حماسة، كما يؤدين و اجباً .. مرت على رأسك صور من الحياة التي عاشها ، كانت ضيقة و قاتمة ولم يكن عندك صلات ود مع أبنائه، كان ابنه عثمان زميلك في الكتاب.. ولد قوي البنية، ولكنه بليد بمفاهيم زمان، ولغة زمان، والناظر يكرهه وهو مضطر لاستبقائه في صفوفكم.

عبد الرحمن الحنفي أيضاً تزوج فتاة في سن ولده عثمان، أبوها عامل يسكن الخرطوم بحري، حدث هذا قبل شهرين من موته، البنت أسمها شلبية، رأيتها مرة في بيتكم، هي رائعة الحسن، و أجمل ما فيها جسدها، استرعت انتباهك لأنها ترمي الثوب إلى ما بعد صدرها، مثلما هي تعلن عن بضاعة طيبة صارت من نصيب مشتر شحيح.

ورغم الخوف الذي انغرس بقلبك منذ الصبا من ذلك الشيخ، لم تحول نظرك عن شلبية، وهي بذلك تحس، تنظر إليك ثم تغمز بعينها. و أحياناً تخفي شفتها السفلى في فمها مدة ثم تخرجها وتمس عليها بلسانها، وفي ذلك ما يثير غاية الإثارة.

ويوم مات عبد الرحمن الحنفي أشفقت على شلبية من مصير مظلم، من أخت المتوفي العانس "ستنا"، من ابنه عثمان، خفت أن يثب عليها كل من جهة فيسلبونها أمنها وعزتها. هي عصبة تريد أن تبلغ المال وتستحوذ عليه.

وكان مشوار المقابر منهكاً، وصلتم بجثة الشيخ إلى هناك، وقد تعفرت أعضاء جسدك بتراب أم درمان ، صرتم كالذين ساروا في قلب العاصفة.. مراسيم الدفن طويلة وثقيلة و مملة، عدت أدراجك و الشمس تسيطر على منتصف السماء، والحر متعب.
وصلت إلى الحي منهكاً، جريت إلى فراشك، ونمت.. كنت تحلم بشلبية كانت تبتسم لك، تغمز بعينها، ثم تكشف ( أنت يا أبن الشيخ عبدالغفار.. أنت سبب كل المشاكل) أمسى قريباً منك، قريبا جداً.. سحابة الغبار التي كانت ترابية اللون، وكانت سميكة ذات ثلاثة أبعاد، بدأت في الزوال، وظهرت السماء من فوق الزقاق زرقاء عريضة، لون واحد ممل، متصل الملل ، عندما رفع الحاج عبد الرحمن الحنفي يده، وضغط على لسانه، في حقد وغضب أدركت أن الموقف ليس مما يحسن فيه الكلام، وتذكرت أن الهرب سهل لو أنك شرعت فيه، ثم أنك تراجعت خطوة ، ثم خطوه، وأطلقت للريح ساقيك.

أنت لا تلعب ( الدافورى) الآن كبرت، صرت تدخن وتلهث لأي مجهود، وتتعب حتى لو لعبت عشرة ( ويست) ، وعبد الرحمن الحنفي مات .. " ليس في الموت شماتة يا ولدي" . كان أبوك رحمة الله علية يردد هذا الكلام دائما دائما، نعم عبد الرحمن الحنفي مات، وأنت لا تستطع لعب الدافوري، ولكن الزقاق ما زال كما هو: متعرج، قذر جداً، على جانب منه جدول تشقه البلدية كل خريف لتصريف مياه المطر ولكنه دائما يقصر عن بلوغ ذلك، وتركد فيه المياه، ويسكن الناموس ويوزع جيوشه المطنة بالعدل على البيوت جميعاً، الفخيمة والمتواضعة.. ذلك هو الشيء الذي لم يتغير، لدغة الناموس تؤلم بالقدر نفسه، والصبية مثل عهدك ذاك القديم، الدافوري في الصيف و (البلي) في الشتاء، وأنت تكره (البلي).. حسين (مترار) كان دائما الفائز بكل الجولات يغنم كل (بلية) عند أقرانك، كان ماهراً بيديه كما هو الحال بقدميه.. وحسين (مترار) الآن موظف بسيط، غير أن ألأمة كلها تغرفه، فهو ساعد الهجوم الأيسر لفريق البلاد.

وبيوت الزقاق تبدل بها الحال،فإن كان بيت الحنفي فيما مضى "إيوان كسرى"، فهو اليوم رمادي الجدران، قنعت مبانيه التي كانت تفرع عمدان النور طولاً، بالانزواء، بعد أن شيد (سيدراوس) النقادي بيتاً من ثلاثة طوابق، في مكان بيت (فضل العاصي) القديم وأنه من الطوب الأحمر، والحجارة الملونة، وغرس في أركانه الأربعة أشجار البان.

بيت عبد الرحمن الحنفي فتح لجمهور المعزين، مثل قصر ملكي زالت سلطة أهله بثورة شعب، ديوان قديم الطراز غير أنه متين البنيان، مترابط.. تصعد البراندة بدرج، وشجرة ( نيم ) عجوز متصابية في المدخل، ثمة ما سورة كبيرة تخترق الجدار مما يلي الزقاق.. ليس هنالك أثاث في الديوان بل سجاد عجمي ثمين: " الفاتحة .. اللهم أحسن إليه" . . رجال يقومون ويقعدون،"القهوة يا ولد ... الماء ..." ..كان ولده عثمان سيد الموقف، خلف العبء عليه وولى .. .

(وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ..) (وإنك لعلى خلق عظيم ..) آيات تتدلى من الجدار في داخل الديوان.. رجل عجوز يتمايل شمالاً ويميناً تماماً مثل شجرة (النيم) عيناه في نصف إغماضة.. يردد دعاء أو ما يشبه الدعاء، "بنيان زمان قوى ومتين" قال عبد الباقي الحلاق مثلما هو يهمس لأحد المغرين .. البيوت القديمة، تتكون باختصار من ديوان للتاجر الموسر، بالطوب الأحمر، مطلي من الداخل كأحسن ما يكون الطلاء.. يساره جناح النساء المبني من الطين، هكذا الحال دائماً .. وتجاور الديوان في حياء وتواضع حجرة الطين الرطيبة،(أم شبابيك خضر) ." لا بد أن شلبية هناك ، لا بد أنها تنام على صدر الشيخ كل ليلة.. أسمع لا تقل مكرهة، فالنتيجة واحدة، طالما خلعت ثيابها، ورقدت رقدة مطمئنة، أو غير مطمئنة إلى جواره ،فالنتيجة واحدة، وأنها امرأته وخليلته "الزواج دعارة يحميها القانون .." قال طالب متفلسف هذا الكلام، طالب من قسم الجغرافيا وليس الفلسفة، وربما كان على حق.

جناح النساء يفور بالنساء، من عجب ألا يرتفع بالبكاء صوت، وأن يكون الهدوء طابع ذلك المكان، أين صوت (ستنا) شقيقته أين ؟ وأين؟ إنك كثير الاهتمام بعبد الرحمن الحنفي، ليس هو أول الميتين ولن يكون آخرهم ..

بيتكم : بيت الزبالة يلتصق ببيت الحنفي من زمان بعيد، مثل وشم شائه على ذراع بض، من فوق هذا الجدار، حينما يزنق الصيف، تأتيك رائحة الصندل والصندلية، تسبح في الجو الساخن، حين تهب نسمه شحيحة فاعلم أن في حياتها القصيرة موكب عطر، لمن تتعطر شلبية؟ لمن تتضمخ بالطيب؟ لفصل الصيف؟ هل للصيف ذراعان يضم بهما الجسد العاري؟ أم للصيف فم يهوى التقبيل؟ عبد الرحمن الحنفي في ليلة الصيف سعال .. من أدراك .. الجدران تغطي أفعاله، من قال أنها مكرهة؟ ثم هل تفسر نظراتها - حين حلت بينكم ذات يوم - أنها وله ووجد ورغبة؟ ومن أنت حتى تسعى إليك بكل فتنتها، بكل جمالها؟ لا مال لديك ولا جاه والمستقبل في كف الغيب.

في الحي الصغير يتنفس الناس كلاماً، ويلوكون سيرة بعضهم البعض قبل أن يجف الميت في قبره، ربما قبل أن يسأله الملكان. امتلأت أفوه الناس كلاما: "خزينته الحديد خاوية وضعت ( ستنا) يدها عليها، أفرغت ما بجوفها .." كلام يجر كلام: " أين أنتم : شلبية من قبل ستنا أخذت الفلوس دفعتها لإبراهيم صاحب الدكان عشيقها.. أين أنتم؟ .. ما زال إبراهيم يضحك حين يذكر تعليق عبد الباقي الحلاق "تعرف يا أبو خليل محلك طالب في الكمبوني أنت ما شبه الزيت والفحم".

يا وحشة ليلك يا شلبية ، حتى أن كان الحنفي فارسا حين يعم الليل الكون والكائنات، فذلك سر في القبر مدفون، سر لم يجف مع الميت بعد، ولن يعرفه أحد أبداً." عينها طائرة .. تشتاق إلى الحرية بعد أن تنقضي أيام الحبس فتطير حرة بلا حدود أو قيود" تفكر: الجدار طويل، يقف بلا رحمة، ما جفت أوجاع الميت في قبره، هذا أسبوع فات، والثاني.. بيت الحنفي قد صار إلى قبرة أخرى، لا صوت ولا همس ولا حركة، والعطر السابح عبر جدارك غاب مع الميت في قبره، ولا صندل ولا صندلية. "والله لو تاجوج لبست ثوب حداد ما عادت تاجوج.." حين تسمع ما قاله إبراهيم سيد الدكان لخاصته ذات مرة .. تدرك أن هناك أشياء وأشياء بعيدة عن إدراكك: وتصدق شكوك "ستنا" النحيلة مثل عود يابس.

عن صدر وذراع وساق ، مددت يدك نحوها، تريد أن تحيط بها فلا تتركها، وفي اللحظة التي كدت فيها أن تنال ما تتمنى، استيقظت ولقيت - بعد نظرة عابرة إلى الفراش- أنك أتيت شيئاً منكراً.

خفت حدة العويل، مات الصياح في الشفاه. شلبية في ذهنك عالقة.. ما تزال آثار اللقاء الأول تداعبك، تشغل منك النفس أملاً وزهواً، ولم تتكرر، جدار عال يفصل ما بين بيتكم وبيت عبد الرحمن الحنفي، فيما يلي الشرق، في الليل تهرع إلى ذلك الجدار بحواسك، تأتيك رائحة طيبة قوية، عبر الليل مع الهواء تدرك - بلا عناء- إن شلبية تتعطر، تتصورها نائمة في غير ما رغبة على صدر الشيخ، أو لعلها ترسل من ذلك العطر رسولاً إلى من تهوى، أو من يستطيع أن يكسب صيحات جسدها المتمردة.

أنت لا تعرف إذا كان قلبها قد تعلق بك. ومن أنت يا مسكين؟ يا طالب السنة الأولى بالجامعة، المهدد بالفصل، وفي سلوكك الدراسي والسياسي مما يبشر بذلك، وينظر الناس إليك - على ألأقل أهل الحي - أنك ولد صغير .. تذكر يوماً من زمان مضى .. الدافوري حار في الزقاق ، حسين (مترار) كالصارقيل، يفعل بالكرة ما يشاء، يستطيع أن يجعلها بين أسنانه، ويسجل اصابة، والغبار سحابة غبراء معلقة فوقكم، والعرق على أجسادكم.. شفع غاية في النشاط والحيوية.. الغبار داخل الديوان منعنا النوم، منعنا الحركة، منعنا الصلاة، منعنا التنفس .. "أعوذ بالله" قالها الحنفي عندما خرج ، كان يسعل بقوة، وقتها حين وقف على مدخل بيته المشرف على الزقاق مسبحة في يده، حافي القدمين طاقية (مكنة) على رأسه تستقر على آثار شعر كان أسود، واستحال أبيض .. "أنت يا ولد شيخ عبد الغفار .. أنت ..".

أنت بالطبع المقصود بذلك الكلام، ليس للشيخ عبد الغفار ولد سواك، هتف بأعلى صوت: "أنت يا ولد شيخ عبد الغفار .. يا قليل الأدب .. أبوك الله يرحمه ويحسن إليه كان عالم وفاضل .. صحيح النار... الرماد".. تجمدت في مكانك، خاصة وقد شرع الحنفي نحوك .. نزل من مكانه ، خاصة وقد شرع الحنفي يتحرك نحوك .. نزل من مكانه في مدخل الدار، وهو يقصدك، وربما صفعك.. الولد حسين (مترار) لا يرهب أحداً، مرق من يسارك، مثل البرق سريع، ومراوغ (صارقيل) يتلوى، وأحرز إصابة.. سمعت لاعبي الفريق المنافس يصيحون بصوت واحد "قون .. قون"، وفي لحظة حاسمة تنبه الجميع لخطورة الموقف، وتسمر كل الأولاد في أماكنهم، لحظة حاسمة ثم لاذوا بالفرار "سوف ابلغ البوليس يا ابن الشيخ عبد الغفار ستكون سبب في زيارة لوري البوليس لهذه الحارة ... أنت السبب..".
عبد الرحمن الحنفي نفسه يرهب البوليس على طريقته الخاصة، ففي أيام الخريف ذات عام، أمضى الحنفي شهراً بالسجن لأنه باع العيش بخمسين قرشاً أكثر من التسعيرة، وبما أن الحي لا يكتم السر، فإن خبر غيابه فاح وانتشر، حين افتقده المصلون في صلاة الصبح لفجرين متعاقبين، جعلوا يحدسون ولا كوا سيرته بدلا عن (دلائل الخيرات) وسائر الأدعية.

" قتلتيه يا فاجرة .. يا مطلوقة .. يايا .." كان صوت (ستنا) يأتيك من ناحية بيت الحنفي، صوت حاد، كما هو نحيل مثلها، عال واضح النبرات .. لا تحتمله، تريد أن تسكته بأية وسيلة.. جريت إلى الجدار، غالبت رغبة شاملة في تسلقه، في مد رأسك حتى لو كان الجلاد متربصاً بها، سمعت بوضوح مؤكد الوضوح "أين السجاد؟ والذهب يا ساقطة .. قتلتيه أخي عبد الرحمن .. لن يحميك شيء من البوليس .. اتسمعين ؟ البوليس!"

البوليس؟ كثيراً ما هددك الحنفي بالبوليس .." سوف يدخل البوليس الحي بسببك .. أنت رأس الهوس."

"يا ابن الشيخ عبد الغفار .. صحيح النار تخلف الرماد.." حين أطلت رأسك من فوق الجدار، لم يكن هناك جلاد يتربص بها بل تلك (ستنا) في منتصف الحوش، تصيح وتولول، وتصيح .. والغريب أن بعض أهل الحي وقفوا غير بعيد في مدخل البيت... تحدث نفسك: "اخفض رأسك .. طالما أنت لا تنظر ألي شلبية فما جدوى النظر من فوق الجدار؟ أجلس تحته.. وتخيل إبراهيم سيد الدكان .. أو الحنفي .. أو الشيطان نفسه لا يهم .. ومن يدري فربما جاء دورك؟"
صوت النحيلة النحيل يأتيك بأعلى طبقاته "يا فاجرة قتلتيه .. أورثتيه هما وسقما حتى مات ..".
وأنت خلف الجدار .. من يدري .. فربما جاء دورك وربما...



********************

Post: #4
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-26-2009, 10:22 PM
Parent: #3





أعددنا لك ظل ضحى مديد
شعر: أحمد مصطفى الحاج


*****

وينك يا علي !!
التراب ... !! ملحوق
فلم كل هذه العجلة
ليتك انتظرت قليلا
فـ (بت بتى) ما تزال
قادرة على جبر الكسر
و (ود مختار)
يستطيع الكي بالنار
صحيح أن الكي ترياق متخلف
وأنت المثقف الفذ
لكنما كية كيتان ثلاث لا تهم
فلعلها (حمى الدريس)
أو لعله دوار
(الصعود أسفل المدينة)
ها أنا
ويكأن
أعدادنا لك ظل ضحى مديد
و(كرسي القماش) المزركش
وترمسين
واحد للشاي السادة
منعنعا وبدون سكر
لا لأنك لا تحب السكر
ولا لكون السكر غير متوفر
فقط لأن السكر يرفع الضغط
طبعا كلنا مصابون بالضغط
و .. كدا
وترمسا للماء المثلج
وصحفا يومية
صحيح صحف هذه الأيام
ها هي تحمل نعيك
ألم أقل لك
ليت نعيك كان . كدأبها كذب
لماذا يا علي
فضلت القماش الأبيض
والعنقريب؟!
الهذا الحد تحب التراب؟؟
الم تكتف بتراب الطفولة؟!
وأمك تلبسك جزمة وشراب
فتدعكهما في التراب
فتعاتبك بقسوة أم
تقرص أذنيك
وتشدك من شعرك القرقدي
تحملك للأفندي
يعطيك كراسات
وبدلا من أن تكتب لغة
أو حساب
كتبت رسمت بالتراب
كم من التراب ما قتل!!
كم من التراب ما قتل!!
فبالله عليك
وعليك (أم در)
لم استعجلت هذا السفر
ولماذا لم تتذرع (بالصبر)
ألا تدري أنه بسوق أم در يباع؟
أمس
وحبن أعلن الخبر
زلزلت (علايل اب روف) زلزالها
تصدعت جبال (كرري) (المرخيات)
و.. (بوابة عبد القيوم)
اهتزت ( دومة ود نوباوي)
وتساقطت.. جذر جذعها انقعر
قد كنت يا علي (مرقها) الأخير ..
و... انكسر
تهمشت قباب (حمد النيل) (البكري)
(أحمد شرفي) (دفع الله)
أخرجت (الطوابي) مدافعها العتيقة
وأصابت الدانة الوخيمة (القبة)
ذعر المهدى والتعايشي والتيجاني
سأل المهدي التعايشي ما الخبر؟!
أجاب (ود يوسف البشير)
ود المك عريس
كان المغنون الصعاليك
(كرومة) (سرور) ، (الأمين برهان) و(أبو داؤود)
يغنون في الأزقة
(يا طيب أنا ساءلك قول لي بكل صراح
الوطن بخيرو
أم ملوه جراح)؟!
وامتى ترجع للضفة الغربية
تزور أم در تعودها
فـ (الخليل) هناك ينتظر
يشد أوتار عودته
يناغم عزاه
يا عازة آه
أنا آه آه
آه آه آه
(خديني باليمين
أنا راقد شمال)
وهل أتاك حديث (البرجوازية الصغيرة)؟!
ما .. شاء الله
لقد كبرت
بطنها تكرشت
ذقنها تحمست
ترهلت
وأصبحت كما البطيخة اللاقة
من فوق صورة
ومن تحت ...
لا تعرف الرجيم
وفعلها رجيم
وهي دائما مذعورة
ولا تحسن تلاوة سورة
وهل أتاك حديث (صلاح)
اتذكر زمان رمي بدلته
وربطة عنقه الأنيقة
ها هو الآن
قد رمى (سيفه المجوهر)
وإزميله الذي استعار من فدياس
رماهما في النيل
الذي فقد اللمعان والبريق
ولم ير (مريا)
متشحة خمارها السواد
حمل روحه العبقرية وقال:
أنا ما شي لعلي
فهل أتاك يا علي
كنت قد أهديتك قصتي (الكترابة)
وها هي قصتي (الكومر)
ممنوعة عن الصف
وكنت قد كتبت فوقها:
( مهداة لعلي المك أيضا)
ولم أهدها (للحجاج) و( هنادي) هذه المرة
فهما لم يريا (زريبة العيش) القديمة
ولا سوق (الملجة)
ولم يتذوقا طعام سوق (الزلعة)
لم يرياك
لن يرياك
فهم مشغولان باللعب في التراب
تصور!!
يلعبان بالتراب
يا للطفلين الغريرين!!
يلعبان بالتراب ولا يدريان
أننا جميعنا نصير للتراب
فلماذا يا علي
تستعجل التراب!!
أيها المدهش حتى في الرحيل
ويلمك ويلمنا ويلم التراب

**********




Post: #5
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: كمال عباس
Date: 04-26-2009, 10:28 PM
Parent: #4

خليل عازة وعلي المك

Post: #6
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: كمال عباس
Date: 04-26-2009, 10:35 PM
Parent: #5

شكرا الرفاعي
.....هناك مكتبة عامرة بإسم الراحل علي المك ضمن مـكتبات المنبر
حاولت أنزل رابطها هنا لتعم الفائدة ولكني لم أستتطع
... لك تقديري
<a href="http://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=board&board=10" target="_blank">http://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=board&board=10

Post: #7
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-26-2009, 10:41 PM
Parent: #4




شهادة الأستاذ/ محمد بهنس

*****
يقول المغني الفرنسي - الأسباني الشهير مانوجاو إن محبيه يريدون أن يجعلوا منه رمزا، فيقول:
(أنا لست رمزا، أنا فنان ضد الرأسمالية العالمية أحب الموسيقى وأعبر عن نفسي وعن الآخرين).

قلت هذا ، لأن علي المك الراحل الأستاذ المبدع، أضحى رمزا في مخيلة الكثيرين لأمدرمان مثلا، حسنا علي المك رجل كبير القامة، مبدع رحيم القلب، كتاباته توحي إليك أنه كان يتوخى أن يكون عاديا، مع العوام، أنه مثل مانوجاو رجل أحب الشعب كذلك أحبه الشعب.

وفي قصصه - كما يبدو لي - حسرة على مكان ما، هو ليس أمدرمان كما يجوس بخاطر الكثيرين، إنما هو مكان حميم محلي لذكريات خاصة، وحركة قلقلة لعينه المشبعة بالحنين. أمدرمان ولدت الكثيرين ولم تلد الكثيرين .
هناك جيمس جويس يتجول في دبلن؛ خورخي لويس بورخيس يتجول في بيونس أيرس؛ وبورخيس نفسه فيما يخص المكان تساءل في قصيدة له وقال:
ما هو الوطن؟
ما هو الوطن ؟
ما هي ( بيونس ايرس)؟
لا أحد يكون الوطن
لا أحد يكون بيونس أيرس

كافافي يتجول في الإسكندرية؛ نجيب محفوظ والغيطاني في القاهرة؛ الطيب صالح صنع مكانه، يرتاح فيه بود حامد؛ كلنا افتقدنا علي المك، كل الأجيال إذ أين يكون المكان .


*****
شهادة البروفيسور عبدالله الطيب:

على المك دقيق الإحساس عميق الشعور
- في السادس عشر من أكتوبر 1992م، سمعت وفاة علي المك، وكل وفاة مفاجئة تقع في نفس الإنسان موقع صدمة، وفي حالة وفاة الأستاذ علي المك كانت الصدمة شديدة بالنسبة لي أنا خاصة. وهو لما كان طالبا، من خيرة الطلبة، ثم أني بعد ذلك عرفته زميلا، وأخا وصديقا كامل التهذيب في شخصه، دقيق الإحساس رقيق الشعور، جيد الذوق لأصناف الإنتاج الأدبي، عامر القلب بالعواطف الطيبة والحب، كنت أبتهج للقائه وأرتاح لزيارته، وكان يزورني من حين لآخر، ويعجبني فهمه للأدب؛ ومن القلة الذين أنشدهم شعري، وأعلم أنهم يتذوقونه بمحبة وصدق.

*****

شهادة الأستاذ/ صديق الحلو

بروفيسور علي المك صور الحياة في قصصه الواقعية في عصره، رغم أن تلك الأيام بالسودان خارج من بوتقة الاستعمار، وما شمل أوجه الحياة من بؤس وعواطف كبلت الطموحات الوطنية. انعكس هذا الانحطاط على الأدب بتغييب رموزه الفاعلة، وما وجدته من حرمان في أداء دورها؛ ولكن بعد الاستقلال لماذا سادت الأدب وواجهة الحياة عموماً هذه الرداءة في الفكر والشعور؟ لا بد أذن هنا من البداية النقلية .. وجيل علي المك نهل من الثقافة الغربية، وأتيحت له الفرصة لزيارة أوروبا وأمريكا، إلا أنهم لم ينتجوا بما هو مقابل لذلك، وإن كان علي المك تغلب على ذلك بالسخرية. لقد بدأ مبدعاً واقعياً دون تزمت أو سطحية، مما جنبه الوقوع في مستنقع السذاجة الجمالية. صور حواري أمدرمان، وأزقتها، وملامح شخوصها بحب كبير وبفنية فيها نوع من الإضافة والحرص على اختزان إبداع عذب مخفي في نمو متناسق، جعل الناس تلتفت لقصصه التي يقرأها بصوت درامي مؤثر ..

ولقد طغى على صورة الحياة العادية بفقرها، وإن كان يمتاز بغناء الروح. تحس ذلك في (مدينة من تراب) وفي قصة (كرسي القماش) و(الصعود إلى أسفل المدينة) . لقد احتفى القراء به لاهتمامه بالتفاصيل والتعابير التي تدل على شخصيتة الوثابة.

علي المك متمسك بمبادئه في لغة مشتعلة.. فهو كالعازف الماهر لا يشبه احداً ولا يشبهه أحد، منحاز للبسطاء والحرية و قيم الخير والصدق والجمال.. بسيط يعشق الناس ويصور أحلامهم و انكساراتهم.. أم درمان بمفاهيمها وسوقها وعمالها أحبها حتى الثمالة؛ واختزن تفاصيل حياة محمد أحمد بأحزانه وآلامه ولحظاته الحميمة في قصص التجريب فيها الكثير.

Post: #8
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-26-2009, 10:46 PM
Parent: #7




محجوب شريف يرثي علي المك
****

يوم داك الصباح البكري هاج وماج
مدنا من تراب قد جينا فوق أمواج
يا مك الحديث الكلام دراج
الحبر ما مهماج
ود باب السنط والدكة والنفاج
والحوش الوسيع للساكنين أفواج
الشاي باللبن برادو لابس تاج
صينيتو الدهن
ترقش كبابي زجاج
والسكسك المنضوم حول الجبينة نجوم
والفنجرية تقوم
تقهوج الحجاج
طق طرق يابن
القهوة كيف ومزاج

********************

Post: #9
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-26-2009, 10:50 PM
Parent: #8




علي المك .. الدنيا الجميلة على جسر حي الدناقلة!!
بقلم: الدكتور مرتضى الغالي

*****

نحن نحلي كلامنا الماسخ ونكافئ أنفسنا بنفحة من (الشرف الباذخ) عندما نأتي على سيرة علي المك.. ولا تقولي لي أم سلمة، يا شقيقة روح علي، إن ذكراه تبعث الحزن والأسى ..! !

أنها ذكرى تنفخ الروح وتطرب الوجدان وتبعث على الفخر بهذا السوداني الجميل، الذي عاش سعيدا في هذه الدنيا وحوله أقرانه ودنياه التي يحبها وتحبه، وسار إلى الشاطئ الآخر من الوجود نابه الذكر لا يذكره أي شخص إلا ويذكر كل جميل في هذه الحياة الدنيا، التي ملأها بوقع خطاه الهميمه ودندناته المفعمة وكتاباته الرشيقة ومعارفه الواسعة الشاملة العميقة الممتدة، وإبداعه المترع الذي لا يمكن أن يصدر إلا بغير ضريب ولا مثيل ...!

والله .. إن تركت كل ما كتب ودون وذاكر وفاكر وراجع وابتكر واستقصى واقترع واجترح واستجلى وكشف واستكشف في الأدب والفن والرواية والقصة والشوارد والأوابد من أصول المعارف والأدب والموسيقى والشعر والمسرح والغرب الأمريكي وتخوم فارس والروم إلى (زقاق العصافير) في مدينته الوجدانية أم درمان.. إن تركت كل ذاك ووقفت فقط على حكايته التي رواها عن (أبو داؤود) صديق عمره لكفاك عن كل ما كتبه الكاتبون عن الظرف وعن الغناء وعن الفن وعن زمالة الروح وعن كنه الصداقة العامرة والتساكن النفسي وعن دقة المشاعر وعمق الإحساس ومعنى الروح وكيمياء الحزن.. وإذا تحدثوا عن براعة ما وصف (النوبيليون) به تصاريف الحياة وخصائص البشر وسحر الأمكنه والأزقة والحواري في المدن الجبلية والساحلية، فقد تجد كفايتك كلها في الصورالتي رسمها حبيب الحياة علي المك للجسر الصغير الذي يعترض الخور الفاصل بين أحياء بحري العابر إلى حي الدناقلة حيث على الناصية التالية منزل عبد العزيز داؤود..

هذه حياه كاملة يمنحها علي المك لهذا الكبري الصغير الذي لا يكاد يتسع لعربة صغيرة مع أقدام صبيان الحي الجالسين على دكته ونتوئه الجانبي !! أفاويح عطر الصداقة التي تتدفق من (ود المك) هو في طريقه إلى داؤود ... ذاكرته الحبلى بالأنغام (وترشيحات) الأغاني والمقاطع للفنان الذي ينتظر القدوم في لهفة المتحفز للأنس والمفاكهة والتطريب !! . كلما قادني الطريق عبر مدينة بحري نظرت إلى هذا الكبري الصغير الذي أدخله (علي) إلى معالم الدنيا؛ فحديثه عنه لم يظفر به أي وصف لبرج إيفل ولا برج بيزا ولا حدائق بابل المعلقة، إنه يصف صبيان الحي عندما ينقلون أرجلهم في تثاقل ليسمحوا بعبور (سيارة علي)، وأحيانا يرحبون وينفضون أردافهم ناهضين ليفسحوا المجال، أحيانا في تثاقل متبرمين، وعجلات العربة تمر برفق على الحصا الذي يتناثر على حوافي الخور وبين أطراف الجسر الصغير..!! التفتوا يا أهل بحري إلى هذا المعلم الخطير في مدينتكم واكتبوا على لوحة الجسر التذكارية (علي مر من هناك)!!

هذا الطري الحميم هو الذي يحكي فيه علي عن (مولد زهرة الروض الظليل) ويسوق الحكاية إلى (البحث عن نسايم الليل)، ويطوف بها إلى خمريات عبد الرحيم البرعي التي أشرقت لألاها على صخرة أبو داؤود، ثم العبارة الغريبة التي تسعد كثيرا بأنك تجهل علاقتها ونسبتها إلى وجبة الخصوصية الثقافية السودانية (الكمونية أخت العذارى) !! لا تجتهد في التفسير.. اتركها هكذا..! ثم ما يقول عنها علي ( ذي شمبات كونسيرت) ثم رؤية أهل جزيرة ( ...) لأعظم اختراعات البشرية ( الثلج والكوتشينة) .. على هذا المنوال يمكن تصميم سؤال مفتاحي في استبيان مواضع التطريب بطرح سؤال يقول: في أي مقطع من أغنية حدباي (زهر الرياض في غصونو ماح) يمزق مختار عباس (مخ) جلابيته؟؟

لهذا أهدى ود المك هذه الحروف إلى مهاجع سكونه العاطفي ووسادة روحه التي يتكئ عليها عندما يتحدث إلى الدنيا.. قال في الإهداء ..
"إلى حليمة سليمان
أمي التي كانت تنشد المديح النبوي ترانيم في أشغال يومها
وإلى الشيخ محمد المك .. إنه أدخلني في فراديس لغتنا الجميلة.. ثم إلى خالي علي سليمان..فقد تعلمت منه كيف يكون العيش في أم درمان صبابة" ..


********************

Post: #10
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-26-2009, 10:54 PM
Parent: #9




الأسطورة الأدبية على المك
بقلم: أم سلمة المك

*****

من منا لا يعرفه ذلك الأستاذ الضخم، بحر المعرفة والثقافة والأدب، الإنسان الراقي الفاهم، القاسم المشترك لمشارب عديدة في الفن والموسيقى والأدب والثقافة والنكتة.
هذه بعض طرائفه ونوادره:
حكي أنه دعي إلى إلقاء محاضرة ثقافية بنادي الجزيرة بمدني. اكتظ المكان بالحضور منتظرين بكل لهفة حضور الأستاذ.. عندما صعد للمنصة ابتدر حديثة قائلاً يا أخونا ناديكم دا أحسن محل للعب الكونكان دايرين تبوظوا بالكلام ما لكم؟

وفي إحدى محاضراته بكلية الترجمة جامعة الخرطوم دخل القاعة وتفحص الحضور جيداً ثم قال لهم: يا جماعة الموية قاطعة والكهرباء قاطعة والحلو ذاتو قاطع (ضاحكا) وكان يقصد شخصاً بعينه (بالحلو) الواحد يحاضر كيف؟

كان يحب النكتة ذواقا لها يستمع لها ويحكيها في تفرد مع صديقه الفنان أبو داؤود ... فيبحثان عنها في المنطقة الصناعية أم درمان.. بحري.. الخرطوم كفرسان الأرض..
ففي إحدى المناسبات كان الحفل يحييه أبو داؤود، وكان لعلي علاقة أسرية بأهل المناسبة.. ذهب إلى مكان العشاء .. فقال لإحدى النساء ما عندكم عشا فردت ما منك هو أبو شلاضيم البرة دا خلى حاجة يأكلوها ؟!

كان ساخراً.. عندما اشترك في تقديم برنامج (فرسان في الميدان) كان أحد المتنافسين يرتدي قميصاً متعدد الألوان .. فقال علي هذا القميص أوركسترالي خالص.. هل يا ترى سيدو موسيقي ولا أناشيد؟ هذه وقفات سريعة جدا في جانب علي المرح .

Post: #11
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: سفيان بشير نابرى
Date: 04-27-2009, 00:59 AM
Parent: #10


الوالد والعم والأخ الصديق / دكتور عبد القادر الرفاعي
افتقدك منذ ذاك الرحيل واشتاق اليك وإلي حديثك وحواراتك
كيفك أنت؟

سعيد جداً بملفاتك الثقافية التعريفية هذه وسعيد اكثر أن
اواصلها هنا كما كنا نواصلها في صحيفة الأيام .

ملف الأديب علي المك ملف يحكي عن أبداع متكامل لرجل موسوعة
في كل شي ابتداً من سودانيته القروية إلي عالميته المعرفية
رجل جمع بين المعرفة التقليدية والمعرفة التقدمية فاهدانا
ما ظل يدهشنا من رقي وحضارة بي سودانية آية في التطور فكانت
لغته للعامة وللخاصة فمن غير علي المك فعل ذاك .

بصفة خاصة اشكر :-
Quote: من بين الكتاب المشاركين في الملف: الدكتور تاج السر الحسن، الأستاذ/ محمد مصطفى الأمين، الأستاذة/ أم سلمة المك، الدكتور مرتضى الغالي، الأستاذ/ محجوب شريف، البروفيسور عبد الله الطيب، الأستاذ/ محمد بهنس، الأستاذ صديق الحلو، الأستاذ/ احمد مصطفى الحاج.


علي ما تفضلوا به علينا كما اشكر أديبنا الياس فتح الرحمن (متمنياً له الشفاء الكامل) لأنه اهدانا عبر جهده
ومثابرته الاعمال الكاملة لعلي المك .

واسالكم جميعاً أن تواصلوا هذا التوثيق.


سلامي لاخي أحمد عبد القادر الرفاعي.

وكُن بخير .

Post: #12
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 05:22 AM
Parent: #11




يا مسافر وناسي هواك

*****

"ملف عباس مسعود" (قصة قصيرة)
على المك


كان مكتب الأرشيف خاليا من الموظفين، لا أدري أين ذهبوا ولكني أعلم أنهم في مثل هذه الساعة من كل يوم يتناولون وجبة الإفطار، وأعرف فيهم – وهم سبعة رجال وسيدة – كلفاً بالسمك البلطي و البصل و الشطة الحراقة.
وعلوية: ثامنة الجماعة في تحضير الوجبة ماهرة وحاذقة.
هذا ليس مهماً .. المهم أنني أرسلت لهم مذكرة أطلب بعض الملفات فما أجابوا طلبي ثلاثة أيام ، فجئت أسعى إليهم . حسين عبد الودود رئيس القسم ضنين بملفات الأرشيف .. ربما لأنه لا يطيق أن يرى الأرفف خالية منها أو من بعضها .. وهو محق فأكثر إدارات الديوان لا تحفل بإعادتها حين تفرغ منها .. كان حسين يقول لي دائما "هذه الملفات ليست ورقات إنها مصائر ناس .. هي الناس أنفسهم ، لحمهم ودمهم" . وقد يكون حسين عبد الودود محقا . ما علينا .
عندما تأتى الساعة أتأمل هذه الحجرة ، أنظر إلى الأرفف و الملفات تثقلها ، أحس أن ملف عباس مسعود - زميلنا - لا بد أن يكون ثرثارا مثله . في هذا الصباح كان عباس مسعود يحاول إقناع زملائه أن حياة المدينة هي العذاب نفسه .
ولهذا السبب نزح إلى قرية تبعد أميالا عن الخرطوم "ولكن كيف تأتي ؟ وكيف تعود؟" "بسيطة" . قال عباس مسعود: " أحضر في عربة اللبن .. أنهض مع الفجر .. يا سلام .. أملأ صدري بهواء المزارع النضرات .. وأنتم وقتها نائمون .. والعودة أيضا سهلة .. يا سلام ".
وقيل أن عباس مسعود شيد لنفسه بيتا في تلك القرية.. قال عباس: " إن بيتي قريب من الشاطئ .. من منكم يطمح أن يكون له بيت على النيل ؟ من ؟ لا أحد بالطبع فكل ما يطل على النيل في الخرطوم تملكه الدولة .. وهذا أحسن .. الدولة تملك ؟ حسن جدا .. أفضل بكثير من التجار السمان" يذكرك كلامه .. " آه ... ذاك الأجوف الممتلئ فلوسا .. تاجر الجملة .. وسيارته وبيته و ألف شيء ".

أنا رئيس عباس مسعود المباشر أهذا من حسن الطالع أم سوئه ؟ روايات عباس كثيرات لا يقعن تحت حصر .. فتارة يتحدث عن البيت القروي ، و طورا عن مساوئ المدن، ولم أكن أهتم لأحاديثه بل أني ألمحت إليه مرة أن يقلل كلامه لأن في ذلك ما يشغل الموظفين عن العمل .. وهل احتفل عباس مسعود بما قلت ؟ كان لا يعمل .. سمعته مرة يتحدث عن الآلة الكاتبة قال: " تعرفون ، هذه الملعونة ستسود عالم المكاتب .." يضحكون ، ويسألونه " كيف ؟" يستطرد " أقول لكم : أولا هي سريعة ، حروفها بديعة .. و .. و سيقول البعض أن الإنسان هو الذي يعمل عليها، أعرف هذا تماما ، ولكن هذه مرحلة إنتقال فقريباً جداً سيهتدي المخترعون إلى واحدة تعمل دون إنسان .. الأمل الوحيد أن هذه – وان اخترعت – لن تصل إلينا قبل مائة عام .. وعندها نكون قد شبعنا موتا .. ، ويضحكون . ويبدو أن بدوي الكاتب على الآلة الكاتبة قد صدق مزاعم عباس فتسمرت أصابعه على مفاتيحها ، وتوقف عن العمل ، وتنبه عباس لحالة نادرة بقوله " لا تنزعج أنت أنت لن تحيا ألف عام! أستمر في الطلبات!".

جال هذا بذهني و أنا بباب الأرشيف واقف ، أطلب ملف عباس مسعود ، المكان خال، والهواء يدخله حرا ، مرة جاء المدير العام في زيارة له مفاجئة لقسم الأرشيف.. لكم هو مغرم بالزيارات المفاجئة .. كان الموظفون يقولون دائما "الموت الفجائي و لا زيارة المدير العام .. ". في تلك الزيارة لقسم الأرشيف لقى المدير أن الهواء يدخله حرا ، و من السبعة أربعة انكفئوا على مكاتبهم يعملون ، وإثنان يتحادثان همسا. ويضحكان ضحكات متقطعات كأنها سعال .. و علوية تعد الطعام والشطة الحراقة .. وحين وصل المدير إلى منتصف المكتب كان الحاضرون عنه في شغل ، فضرب قدمه اليمنى بالأرض ثم صاح " هاصت و الله العظيم .. مطعم محترم"... وكنا نعلم حبه للطعام و لابد أن رائحة السمك البلطي قد صرعته؛ واستطرد " أهذا هو الحال في مكاتب الحكومة ؟..". كان الجميع قد أنتفضوا واقفين.. فهم يعرفون صوته تماماً ، وقبل أن يزيد كلمة : جعل حسين عبد الودود يعتذر بكلمات يخرجن دونما اتزان أو ترتيب " يا حضرة المدير .. يا سيادة المدير .. ياسيـ" وهل ِأثر هذا فيه؟ لم يفد الاعتذار، وخرج المدير العام كالسهم غاضبا .. ورغم خوف العقاب الشديد أكل الجماعة السمك و الشطة الحراقة و الطماطم وشربوا الشاي الأحمر.

ملف عباس مسعود يا جماعة قادني إلى هنا ، الملعونان الملف وصاحبه .. في الحجرة الطويلة التي يدخلها الهواء حرا آلاف الملفات .. لا بد أن يكون ملف عباس مسعود ثرثارا .. كلماته عن التجار " الأغنياء السمان .. عندهم السيارات و البيوت ، ما قنعوا بالمدينة وتركناها لهم .. تبعونا إلى الريف : الأفيال الأنذال .. كل تاجر محشو بالفلوس حشوا سنترك لهم الريف .. و أين نذهب ؟ " لعله يتمثل تاجرا بعينه ربما . لا بد أن يكون ملف عباس مسعود ثرثارا مثله ، وصوته عال كصوت صاحبه، لكأني به الساعة يتحدث إلى سائر الملفات .. و إن الملفات تضحك لحديثه .. أسمع : لعباس بن مسعود قضية .. على الأقل جاء دوره في الترقي . وقد علمنا أن الترقي لمن يعمل ، ومتى طبقت النظرية؟ ولانني رئيسه المباشر صار على أن أكتب تقريرا عن عمله .. وهذه أم القضايا.

جئت إلى هذا القسم منذ ستة شهور ، أخبرني المدير العام أن علي أن أعيد النظام إلى هذا القسم . وقبلت إذ لم يكن هناك حل سوى هذا .. كانت مشكلتي عباس مسعود، وكنت أعلم انه سيصل إلي ذات يوم خطاب يطلب إلى فيه كتابة تقرير عن عباس مسعود .. و العمل ؟ !

الهواء يدخل غرفة الأرشيف حرا .. ملف عباس لابد أن يكون ثرثارا مثله ، آه وصل حسين عبد الودود ، تجشأ صاحبنا عن شبع ، وجاء من بعده مساعدوه ، ثم علوية.. علوية ثامنة الثمانية الذين هم في الأرشيف .. حياني بابتسامة عريضة .. كان يمسح يديه و وجهه بمنديل أحمر.. أذكر لونه تماما .. أحمر كان المنديل .. قال: " لابد أنك تطلب ملفا سريا ".. قلت بسرعة " نعم ملف عباس .. عباس مسعود .. " قال: " هذا الرجل تجربة إنسانية ، إنه أكثر من شخص عادي .. أعتقد أنه يحتاج ثلاث ملفات .. هاها ".. ضحك حسين كثيرا ، وتجشأ عن شبع .. تذكرت أنني ما تناولت شيئا سوى فنجان من القهوة .. وكانت القهوة رديئة جدا .. الحمد لله لست جائعا تماما .. قال :
- ملف عباس مسعود .. هاها .. حالا..
- أرجو أن يتم ذلك ..
- هذا موسم الترقيات .. اليس كذلك ؟ هذا أوان كثرة خروج الملفات السرية .. أمس طلبوا ملف عبد الحميد، و زين العابدين، وحسني .. حتى النور محمود طلبوا ملفه .. ملف عباس في الرف رقم 24 قسم ع . ج .. حافظ يا حافظ ..
- شكرا.
- تعرف النور محمود كان آخر دفعتنا في المدرسة .. كان أسمه الجدار الأصم .. ومع ذلك يترقى ونحن .. يا سيد .. كيف يتحدث المدير العام عن العدالة .. يا عالم النور محمود ...
وهب أن المدير كان جادا في حديثه عن العدل ؟ ألا يعني هذا أن يكون العدل شاملا لكل أقسام الديوان ؟ و أين هو العدل ؟ وما صعود المدير العام لهذا المنصب إلا نتيجة طبيعية لانعدام العدالة ؟ .. " دع هذه الفلسفة " و أبدأ العمل ، ولتنسى الكلمات، فقد بهت لونها وشاخ بها الزمان .. كالعدل والحرية وها هو ملف عباس مسعود بين يديك سمينا كبيرا مثل التجار الذين يصفهم .. ولا تدري ما ستفعل بهما : الملف وصاحبه . كنت أحدث نفسي .
حين اقتربت من مكتبي بدأت أذني تلتقط أصوات أحاديث مفيدة و غير مفيدة :
- النقابة هي التي تقرر ..
- هذا ظلم ..
- مصائرنا ..
- من هو طه أفندي ..
- لينظر ويقرر ..
- مهازل ..
- وما خبرته بالناس و العمل ...
- صه .. أنه قادم !
- لا ..
- حسنا أين هي العدالة .. هذه الغابة ...
- أين طرزان أذن ؟ .. هاها ..
- الغابة ؟ القوي يأكل الضعيف ...
صوت عباس مسعود يعلو ثم يذوب في يحر من الأصوات .

وأنا أقترب من مكتبي .. حتى إذا فتحت الباب تباعدت الأصوات ثم هدأت حين علموا أنني قد وصلت مكتبي .. وفور جلوسي فتحت ملف عباس .. الميلاد عام 1924 في مدينة بربر " ولدت عام ثورة" كان عباس يقول لي دائما. والمؤهلات المدرسية : أكمل الدراسة الثانوية ، وجلس للامتحان ولم ينجح .." تعرف لو تقدمت خطوة في التعليم لما عرفت من الأمور مثلما اعرف الآن .. والجامعة بيني وبينك لا تزيد المرء علما ولا ترفع من قدره ..".

تتوالى تقارير رؤساء عباس مسعود عنه.. أول تقرير كتبة مستر برستون .. تحدث فيه عن انضباط عباس وإطاعته رؤساءه وأن معرفته باللغة الانكليزية لا بأس بها . تقرير باهت، غاية في الحيدة ، ليس راغبا في ترقيته وليس راغبا عنها. تقرير آخر يقول أنه حسن التصرف، يجيد الكتابة باللغة العربية والانكليزية معا ، مواظب على العمل ومحبوب جدا.. " ومتى كتب عباس شيئا"؟.. أفكر ، اقلب الملف ، انظر مليا .." أين هم الرؤساء الشجعان ؟ ثم أين هي العدالة ؟ وعباس يطلع سلم الوظائف مسرعاً".. آه هذا تقرير يختلف يقول عنه: " كثير الكلام، قليل الإنتاج وأنه يأتي للمكتب مبكراً ولكنه لا يؤدي عملا يذكر" . كتب هذا التقرير عيسى أحمد.. كان عيسى معروفا باسم المفتش ، صارم وحازم .." عيسى الله يخرب بيته .. المفتش هذا رجل فظيع .. وهو يحب الغلمان !! ولأن مظهرى كان لا يفتح النفس كرهني،كان يحب جمال الدين.. أتذكرون جمال ،ولد ابيض مثل الحليب ،فارع الطول وشعره ناعم ..ووجهه صبوح .. أتذكرونه؟ لقد ترفع في الوظائف ثم أصبح من الوجهاء في وزارة العدل .." القانون ياوله القانون يا" هكذا كان يقول عباس مرة فقال له أحد زملائه " هل هذا الحديث عن المفتش ؟ أم عن نفسك تتحدث" وضحك الجميع ووجم عباس.

الملف أمامي .أقلبه . صفحة إثر صفحة . والصمت عزيز .. إذ بدأت الأصوات تسبح في سماء مكتبي ، وصوت عباس يطغى ، الآلة الكاتبة الوحيدة تجاهد أن تسمع صوتها.. الحمد لله أن بدوى على الأقل يباشر عمله .. بدأت الآلة الكاتبة في أذني آلة إيقاعية وحيدة منفردة تصاحب كورالا من الثرثرة ... أرفع قلمك واكتب شيئا . أقول في نفسي ." كلام عن عباس مسعود .." يلح الخاطر علي . يشتد. مواظب ؟ ويحبه أقرانه أم ... " أكتب شيئا .. شيئا .. . أم أنك لن تكتب شيئا ؟ ولم يلح القوم كل هذا الإلحاح ... لم ؟".

حملت الملف ، يوما وكتبت فيه شيئا.. وخرجت . كنت أسير وئيدا كأني أحمل شيئا أخشى عليه السقوط .. وأطل على مكتب الأرشيف .. ذاك الذي يدخله الهواء حرا .. وأقف لحظة وأسلم الملف لحسين عبد الودود.. نظر إلي وابتسم ، ولعله سعد أن عاد أحد ملفاته إليه .. ووقفت مكاني أنظر إلى ابتسامته ، ولا أرى أي شيء سوى ابتسامة حسين عبدالودود .. ومعها تشع سعادته بعودة الملف .. وأخذ حسين الملف الثرثار إلى الرف رقم 24... ووضعه في مكانه .. وحينئذ استدرت أريد مكتب المدير العام .

*********************

Post: #13
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 05:32 AM
Parent: #12



يا مسافر وناسي هواك

*****

قراءة أولى في "مختارات من الأدب السوداني"
بقلم الدكتور/ مصطفى الصاوي


مختارات : (مجموعة من القطع المختارة نثرية أو شعرية، أوهما معا لمؤلف واحد وأكثر يمكن في منها عادة تعريف القارئ بخير ما كتب وألف أو أكثر، أو ما أنتجة عصر من العصور)
" معجم مصطلحات الأدب "

مدخل :
تشكل هذه المنتخبات في جوهرها ذائقة نقدية، لأنها تتضمن بشكل خفي نوعاً من التمييز بين النصوص؛ وهذا ما أشار إليه الكاتب في تصدير الطبعة الثالثة ( ذلك أنه كتب: الاختيار مشكلة من يجمعها ، المقدمات عموماً لا تفي وكذلك المختارات). بقى السؤال هل النصوص التي اختارها الكاتب شعراً ونثراً هي الأجمل ؟ وهل مثلت الأدب السوداني تمثيلاً جيداً في الفترة المعنية والفترات التالية ؟ وهل شكلت هذه المنتخبات نسقا داخل الإسهام الأدبي السوداني ؟ يطرح هذا الكتاب العديد من الأسئلة التي تصعب الإجابة عليها ، ولكن لا بد من الإشارة إلى أهميتها وأهمية هذه المختارات التي انتخبها علي المك بثقافته الواسعة ، وحسه النقدي الدقيق.
وتتمثل أهميتها في التالي.

أهمية المختارات :
( أ ) احتوت المختارات نصوصاً غطت مرحلة واسعة في تاريخ الأدب السوداني (من العشرينات في السبعينات).
( ب) يمكن الاستفادة منها في الحقل التربوي في كليات الآداب ، والترجمة.
( ج) فيها تنويع، حيث سعى الكاتب لإبراز كافة الاجناس الأدبية من مقال إلى قصة قصيرة، وشعر، ومذكرات.
( د) تقدم للقارئ نماذجا ، يمكن أن تشكل حافزاً للقارئ الذي يريد أن يستزيد (من تستهويه لذة النص ومتعة القراءة).

وصف عام للمختارات :
صدر علي المك مختاراته بمقدمة موضحا منهجه الذي اختطه في الاختيار(وما تنكبت فيما انتخبت من الأدب السوداني لهذا الكتاب نهجاً بعينه، إنما آثرت أن أقدم للقارئ ما يستهويني من شعر وقصة ومقال يعتمد الذائقة النقدية الانطباعية التي تركن إلى ما يستهويه في هذه النصوص ، ومن ثم قدمتها. ويلاحظ أيضاً بالمقدمة أحكام نقدية سريعة و نظرات في النقد ترتكز على الموازنة. في سياق حديثه عن عبدالله رجب (مذكرات أغبش) يقول: تلك المذكرات، أو السيرة الذاتية إنما كانت تروي الأحدث التي مرت بصاحبها، ومر بها في تفصيل دقيق ،مما يتيح للقارئ أن يلم بروح العصر ؛ يضاف لذلك أن فيها تشابه في طريقة سردها وكتابتها مع سيرة الكاتب الروسي مسكيم جوركي)؛ وهنا إشارة نقدية في باب الأدب المقارن.

تحسب عندما تقرا هذه الاختيارات أن فيها انحياز للشعر (ولعل الشعر هو أكثر فنون الأدب وفرة وتطوراً) ؛ وفي سياق آخر أسهم الشعر السوداني - ربما أكثر من النثر- في تلك النهضة القومية. ولعل هذا الميل إلى الشعر وجد متنفساً لدى الشاعر في كتابه الموسوم (مدينة من تراب - نثر شعري) . في المقدمة يشير إلى تقسيم بعض النقاد الشعراء إلى مدارس ( ولقد درج نفر ممن كتبوا عن الشعر السوداني على تقسيم الشعراء إلى مذاهب ومدارس) . وهو لا يخفي هذا التقسيم ؛ وفي ذات الوقت يرفض تقسيم القصيدة إلى عمودية أو قصيدة تفعيلة؛ ويقول ( فالشعر الجيد يطربك وتستحسنه كان الشاعر محدثاً أو قديماً)؛ وقلما ينظر في الشعر المثابر إلى شكل كتابته.

البروفسور الراحل هنا يضيق بالتجنيس والتصنيف، وتقع القصيدة عنده بمدى قوة تأثيرها بغض النظر عن شاعرها ( محدث أو قديم).

قسم الكاتب مختاراته إلى أبواب
ضمن الباب الأول المقالات، وتخير تمجيد الخالق لعرفات محمد عبدالله ، والترف الكاذب لأحمد يوسف هاشم، وما وراء الافق لمحمد عشرى الصديق، وفي الخرطوم لمعاوية محمد نور، وفي سبيل التعارف الأدبي للتيجاني يوسف بشير. وربما قصد بهذا أن يقدم بانورما لمقالات لرواد عصر النهضة الأدبية السودانية. ثم انتقل إلى جيل آخر حيث ضمن الباب مقالات لكل من عبدالله رجب ، جمال محمد أحمد، منصور خالد وعلى الملك.

وفي باب الشعر تخير نصوصاً لمحمد سعيد العباسي، وعبدالله محمد عمر البنا، وعبدالله عبدالرحمن ، وخليل فرح، وحمزة الملك طمبل ، وتوفيق صالح جريل وأحمد محمد صالح ، والتيجاني يوسف بشير، والناصر قريب الله ، وعبدالله الطيب، ومحمد محمد علي ، ومصطفى عوض الكريم، وتاج السرالحسن ، وجيلي عبد الرحمن ، وصولاً إلى صلاح أحمد إبراهيم ، ومصطفى سند، ومحيي الدين فارس، والنور عثمان أبكر، وأبو ذكرى ، ومحمد المكي إبراهيم .
يلاحظ أن الاختيارات الشعرية تفوقت في عددها على النثرية بشقيها المقالات والأدب القصصي.

أفرد للأدب القصصي الباب الثالث وضمنه قصصا لكل من معاوية نور، وعثمان علي نور، وجمال عبدالملك، والطيب صالح والزبيرعلي ، وأبو بكر خالد ، والطيب زروق، وعيسى الحلو، وإبراهيم إسحاق ،ونبيل ، وبشرى الفاضل، وجوناثان .... .

رصد نشأة القصة القصيرة ، ومسار تطورها ونضجها وصولاً إلى أقصى الانتقالات (آنذاك بشرى الفاضل) حيث الانحراف عن السائد وارتياد آفاق الفاتنازيا.

وختم اختياراته بعمل توثيقي إذ وضع ترجمة لكل شاعر أو أديب أو قاص فيها ميلاده، وعمله ، وآثاره الأدبية. اختيارات بهذا الشكل محاولة جادة أرادت أن ترسم صورة واسعة وشاملة لتاريخ السودان الأدبي بما توفر لها من جهد وذائقة خاصة ومعرفة نظرية بالأدب والفن والشعر .

مقدمة الكاتب سوغت أخياراته، وحددت نهجه الذي اصطفاه؛ وطريقة تصنيفه لهذه الاختيارات التي نزعم أنها استطاعت أن تعكس فكرة مقبولة ودقيقة للأدب السوداني من العشرينات وحتى السبعينات ؛ وعمقها تزاجم الأدباء والشعراء، نجمل ملاحظاتنا حولها في التالي، مع الأخذ في الاعتبار تأكيده أن هذه الاختيارات بنيت على ذائقة شخصية ..

ملاحظات أخرى:
الملاحظة الأولى غياب شعر الحقيبة الذي يعشقه الكاتب (أي المكتوب بالعامية ) فقد اختار قصيدة فصحى للخليل، وكذلك شعراء الكتيبة (شعر فكاهي).
في القصة غابت إسهامات فعالة (خوحلي شكر الله ومصطفى مبارك ، وفيصل مصطفى ، أبو كدوك ، حسن الجزولي) .
الصورة كانت يمكن أن تكتمل اذا ضم الكتاب فصلاً من رواية.

هذه الملاحظات لا تقلل من أهمية الكتاب، وتأخذ باقتراح الراحل العظيم في مقدمته بأن يقوم أحد تلاميذه باختيارات مماثلة تأخذ في اعتبارها إفراد كتاب لكل جنس أدبي ( مختارات شعرية، القصص، المقال) تبدأ من حيث انتهى.

المصدر : علي المك .. "مختارات من الأدب السوداني" دار جامعة الخرطوم للنشر 1999م.
مراجع وهوامش :
1- مادة مختارات معجم مصطلحات الأدب .
2- مقدمة ( مختارات من الأدب السوداني ).
3- استفاد المقال من ايمانويل فريس ، "آفاق جديدة في نظرية الأدب" ،
ترجمة لطيف زيتوني ، صادر عن عالم المعرفة ، فبراير 2004.

*********************

Post: #14
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 06:10 AM
Parent: #13



يا مسافر وناسي هواك

*****

علي المك / كونشرتو أم درمان
حامد أزرق - باحث موسيقى


تصعب الكتابة عن العظماء، والبحث عن عطائهم مما يجعلنا عند مفترق طرق:

علي المك الأديب، علي المك الشاعر، علي المك الصحفي، علي المك الأستاذ الجامعي، علي المك عاشق أم درمان، أم على المك الموسيقي الفنان ..هكذا اختار قلمي .

اختزنت طفولته ألحان كرومة بحي مكي، وسرور ببيت المال، وموسيقى أولاد بتي بالمسالمة، وورش العمل الخاصة بالفنانين بحي الركابية بدار الموسيقار الراحل أحمد حامد النقر، وقهاوي أم درمان والفونغراف الذي كان يبث غناء الحقيبة، ودميتري البازار ومكتبته واسطواناته وتسجيلاته للفنانين السودانيين، وقهوة جورج مشرقي (سوق المويه) حيث جلسات الشعراء والمطربين .. هذا المخزون التراكمي جعل الراحل المقيم يلج إلى مقامات الموسيقي عبر أبوابها التي اتسعت لقامته السامقة؛ وارتقى درجات سلالمها فكان الأعلى تذوقاً وثقافة لرجل شفاف ساهم بجهد مقدر في مجال الموسيقى نذكرمنه :

- قدم برنامجا مميزا عن الموسيقى الغربية بإذاعة أم درمان
- عشق موسيقى باخ وكان معجبا ببرامز، ومفتوناً بكونشرتو الإمبراطور بتهوفن.
- تقلد عضوية المجلس الوطني للموسيقى .
- كان متحيزاً لغناء الحقيبة مدافعا عنه.
- ربطته علاقة خاصة مع كثير من الموسيقيين والمطربين أمثال المرحوم جمعة جابر، وعلاقة خاصة مع الراحل عبد العزيز داود، فعشق أغانية وأفتتن بها لدرجة العشق الصوفي.
- قدم لندوة الموسيقى العسكرية بدار الكتاب في ثمانينات القرن الماضي.
- كتب العديد من المقالات النقدية في كثير من الصحف حول فن الموسيقى.
- أجاد العزف على بعض الآلات الموسيقية.
- امتاز بأذن موسيقية، ودرجة عالية من التذوق الموسيقي جعلته يميز كل ما يقدم كخبير ملم بأسرار هذا الفن.

هذا العطاء جعل الراحل ينافس في معرفته الموسيقية الكثيرين، مما أهله لعضوية المجلس الوطني للموسيقى؛ وآخر ما قدمه الراحل للموسيقى كتابه عن الراحل عبد العزيز داود.

فالراحل عشق غناء أم درمان وكل ما يتعلق بها، دوربها (الركابية)، حي العصاصير، و(كهرباء عامر) وقهوة ( شديد) و(الباع جمله) و (ود جبر لله)، سرور وكرومة وصالح عبد السيد... عشق لامتناهي لأمدرمان وللموسيقى مما جعلني أصدر مقالي بهذا العنوان لأن الراحل كان له عشق خاص مع الكونشرتو كأحد أنماط الموسيقى الكلاسيكية والرومانتيكية.

*****


الراحل/ عبد العزيز محمد داؤود

*********************

Post: #15
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: حسن طه محمد
Date: 04-27-2009, 06:27 AM
Parent: #14

أخي الدكتور عبد القادر الرفاعي

لكم أطيب تحية

وابدأ بتقديم التهنئة لشخصكم الكريم علي هذا البوست الجميل جمال من نتحدث عنه وهو الدكتور الراحل علي المك.

ويقيني ان هذا البوست الذي اشكركم عليه واشكر كل من شجعكم علي انزاله هو بوست مختلف في كافة تفاصيله.

فهو بوست يجمع العلم والادب والثقافةوالتاريخ والفن .. وغير ذلك مما اتحفنابه البروفيسر وهو حي ويتحفنا به وهو في رحاب الله.

الحديث عن علي المك يطول

والحديث عن جيله الذي قدم الكثير للوطن يطول

والحديث عن كل ذلك ممتع ومفيد

لقد كان لي شرف الكتابة عن كتاب صديقي العزيز الدكتور محمد عثمان الجعلي " رحيل النوار خلسة ....جيل علي المك " الذي تناول فيه الدكتور هذا الجيل العظيم وابداعاته في مختلف المجالات.

وقد قمت أيضا بانزال ما كتبته في بوست بسودانيز اونلاين ولو سمحتم لي سوف اقوم بانزال ذاك المقال في هذا البوست ايمانا مني بان المك وجيله يستحق الكثير واظهار ابداعاتهم هو اقل القليل الذي يمكن تقديمه للناس .

مرة أخري شكرا ليك علي هذا البوست المتميز
الذي سنقرأه ونعيد قراءته بما يحمل من فكر وتنوير نحن في أمس الحاجة له.

واصل والله يعطيك العافية يا دكتور.

لكم وللجميع كل المحبة والتقدبر.

حسن طه محمد

Post: #16
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 06:28 AM
Parent: #14



يا مسافر وناسي هواك

*****

قراءة في ( كتاب ملامح من تاريخ الأدب السوداني ) للأستاذ/ على المك
بقلم: الدكتور/ تاج السر الحسن


*****
"لكي لا يظلم هذا الأدب السوداني" (علي المك)

كتب الكثيرون عن الأدب السوداني كنماذج القصة فيه، وتاريخها، وتطورها منذ الثلاثينات... كما ألفت الكثير من الكتب عن الشعر السوداني .. وتناول النقاد الكثير من نماذجه، وأطالوا في تحليلها، وعرضها خلال التطور التاريخي الأدبي الذي مرت به الأمة السودانية. تحضرني في هذا المجال أسماء لنقاد كبار لهم مكانتهم في خارطة الأدب العربي الحديث، على رأسهم أساتذة لنا كبار: الدكتور أحسان عباس، الدكتور محمد النويهي، الدكتور عبد المجيد عابدين، الدكتور محمد إبراهيم الشوش، وشباب من الجيل الجديد من النقاد منهم الأستاذ عبد الهادي الصديق، وفضيلي جماع، وآخرون كثيرون.

ولكنهم جميعاً تناولوا جوانب محدودة بعينها في الشعر والقصة، وتاريخ الصحافة الأدبية... الخ.. ولم يتصد ناقد منهم لقضية تاريخ الأدب السوداني في مجملها - أي تقويم هذا الأدب بشكل عام، نثره وشعره، الرواية فيه، والقصة القصيرة، والنقد الخ.. ومثل هذه الأدوار مهمة لنهضة الأدب ومسيرته التاريخية، فنقاد كبار اشتهروا في تاريخ بلادهم بهذا الدور الطليعي الرائد، وكان لأعمالهم وتقويمهم لأدب بلادهم، دور كبير في نهضة تلك الآداب وازدهارها، أمثال أولئك في الأدب الإنساني تبرز شخصيات بارزة مثل بلينكى الروسي، ليسينج الألماني، وسانت بوف الفرنسي، وطه حسين المصري وغيرهم من الأسماء العظيمة.

ولا شك أن مهمة بهذا الحجم تتصدى لتقديم الآداب القومية، وتحديد مكانتها من التاريخ الحديث، تعد من المهام الشاقة الصعبة في التاريخ الأدبي، وقد تقدم أديبنا الرائد على المك، في القيام بتلك المسئولية.

فكتاب (ملامح من تاريخ الأدب السوداني) هو المبادرة الأولى المتميزة والرائدة في هذا الاتجاه، وهي دون شك اللبنة الجادة في اكتشاف صرح الأدب السوداني، وإزالة الركام عنه، وتوضيح جوانبه ولبناته الرائدة، ولعل أول ما يلفت نظرنا إلى تلك الكلمات المؤثرة التي وردت في تصدير الطبيعة الثانية للكتاب، وقد صدر الكتاب لأول مرة في عام 1975م .. حين يقول على المك:
(تعددت المدارس والمذاهب الأدبية في السودان، وجاء إلى دنياه أدباء من الشباب بعضهم ينفرد في الأسلوب والموضع لا يمكن تجاهله بحال.. ولقد أمكن لي أن أنتخب من أعمالهم طرفاً؛ ورغما عن هذا، فأني اشعر إني مقصر شيئا .. وبناءا على ذلك فأني أرى: أن الأوفق مستقبلا، ولكي لا نظلم هذا الأدب السوداني، أن تكون المختارات في أجزاء، فتشمل الكثير مما يستحق النظر والتأمل، أو ربما كان الصواب أن تصدر مجموعات للشعر السوداني، والقصة القصيرة ... وقد تسنح ظروفك لمثل هذا العمل، إن أتاح الزمان وقتا للبحث والاستقصاء والتأمل .. وعلى كل حال، فأن الباب مفتوح جدا للمشتغلين بالآداب، والمهتمين بها للنهوض بمثل هذا العبء ، وهو من بعد جسيم).

بهذه المقولة تبدى علي المك كناقد قومي، لم يقتصر دوره على نقد الجزئيات كما يفعل النقاد العاديون، لكنه انطلق من منهج شامل يشعرنا بدوره الطليعي في اكتشاف المرحلة الجديدة التي حققها تطور الأدب السوداني المواكب للعصر في مطالع الخمسينات، والتي رأى علي المك من خلالها كيف يرتفع جيل الرواد، الذين وصفهم (بالانفراد في الأسلوب والموضوع)، والذين قال عنهم أنهم خرجوا من خنادق الحرب العالمية الثانية، على التجربة الإنسانية الجديدة في آداب العالم الآخر، شرقه وغربه.

وفي نظرة الناقد القومي علي المك الشاملة للأدب السوداني، يخشى علي المك أن يظلم أدباء آخرين واتجاهات أخرى غير جماعة الخمسينات هذه... فاستدرك في مقدمته الرابعة حين تذكر: أن هناك شعراء آخرون ومدارس أخرى أنتجها الأدب السوداني قبل مراحل الخمسينيات.. وظهرت أمامه مرحلة الثلاثينات ، فإلى كلمته المؤثرة المعبرة، التي لا تسمعها إلا من الوالد الشفوق.. قال: ( لكي لا نظلم هذا الأدب السوداني) وبعدها رسم البرنامج لتوثيق ولتحديد هذا الأدب، هذا الواجب الذي يتعين على جيلنا القيام به: والذي وضعه علي المك في هذه المقدمة.. أن تصدر مختارات هذا الأدب السوداني في أجزاء، لابد في نظري أن تكون تلك الأجزاء جمعا وتحقيقا وتوثيقا وتحليلا للأدب السوداني في مراحله المختلفة، والتي تصورها علي المك، بل ووضع معالمها في كتابه (ملامح من تاريخ الأدب السوداني). لتأكيد فكرته، ذهب الناقد القومي علي المك إلى تحديد مقترحه هذا في إصدار مجموعات أدبية للشعر السوداني، وأخرى للنثر بالتفاصيل التي جاءت الإشارة إليها في كتابه (ملامح من تاريخ الأدب السوداني).

عاد الناقد علي المك في الطبقة التالية للكتاب، لمرحلة الثلاثينات التي لم يتوقف عندها كثيرا في (المقدمة الثالثة)، فقد كرس الأخيرة لجيل الخمسينات الذي لاقى الكثيرمن الإهمال والعنت.

في مقدمة الكتاب الرابعة يشير علي المك إلى أشخاص لم يتح له ذكرهم، وإن ورد إبداعهم في الكتاب، كالأستاذ الأديب السوداني عبد الله رجب، في كتابه (مذكرات أغبش)، الذي أورد منه نموذجا في كتابه؛ ويعقد المقارنة بين ما كتبه عبد الله رجب وطريقته في السرد والكتابة بالطريقة التي ألف بها ماكسيم جوركي سيرة حياته. وتشير المقدمة إلى تحليل وتقويم إنتاج أدباء الثلاثينات، فتذكر أحمد يوسف هاشم، ومحمد عشري الصديق، وما أدته مجلتا (الفجر والنهضة) من دور مشهود في تطوير الأدب السوداني في كل المراحل؛ ثم يعود إلى معاوية محمد نور، ودوره البارز في الصحافة المصرية الشقيقة، ويبرز مدى اطلاعه العميق على الأدب الأوروبي، في منابعه الأساسية.. الروسية، الإنجليزية، واللاتينية. لا ينسى الناقد القومي علي المك الشعر السوداني، والتطور الكبير الذي شهده على يد التيجاني يوسف بشير، ومحمد أحمد المحجوب، وغيرهم (الوقفة مع هؤلاء في الكتب، بعرض نماذج من أعمالهم).

لم ينس على المك أن يستعرض ذلك الدور الرائد الذي لعبته (كلية غردون التذكارية). يبدو لنا نحن جيل الخمسينات هذا الأمر غريبا، لما رأيناه من تناقض المستعمر البريطاني .. وأن الذي نعرفه عن (اللورد غردون) هو أنه واحد من سدنة وقادة الاستعمار والإمبراطورية البريطانية... ولكن الذي ما يزال يدهشنا حتى الآن: هو كيف أتيح لمدرسة مثل هذه أن تقوم بدور إيجابي وتسهم في بناء عناصر من الثقافة القومية، يكون لها الدور الإيجابي في المستقبل بالمشاركة في بناء الأدب القومي السوداني؟

أسئلة كثيرة تطرح نفسها، ألعب الجزء المضيء من الشعب البريطاني دورا في ذلك؟ فقد قيل لنا إن كلية غردون بنيت بمساهمة من أهل بريطانيا، وليس الشعب البريطاني كله مستعمر، أليس كذلك؟ أم أن الأمر راجع للغة الانجليزية العظيمة التي عرفها السودانيون معرفة أهلها لها، فقد عرفوا الأعمال الإنسانية العظيمة في الأدب الإنجليزي، وحركات التنوير مثل الثورة الفرنسية ودورها المشهود في التاريخ الإنساني، أسئلة نطرحها لعلنا نجد الإجابة عليها.

يلقي علي المك مزيدا من الضوء على هذه الكلية مشيرا إلى ما قاله أحد رواد النهضة الأدبية، عرفات محمد عبدالله عنها (أنا واحد من زملائي الكثيرين الذين تلقوا تعليمهم ثانويا في كلية غردون (التذكارية) وقد درسنا مع ما درسنا: اللغة الإنجليزية واللغة العربية، ووعينا قواعد هاتين اللغتين وعيا سليماً، وكذلك النحو والإعراب والصرف، والبلاغة بفروعها ...

أما المحجوب فيشير: إلى أن حركة التثقيف قد فتحت عيونهم على النقص الثقافي المتفشي في بلادهم، فأخذوا بتلابيبه في أنفسهم أولا.. وها هم قد بدأوا يشخصون الداء لغيرهم، وأخذوا يقدرون مطالب هذه الفترة، فترة الانتقال، وما تحتاجه من هدم وبناء ، ومن حفاظ على الأخلاق والعقائد، وقد (اتخذوا لكل شيء أهبة ، وحملوا المعمول والفأس يهدمون البائد المتداعي، ويقطعون الأعشاب والطفيليات من النباتات، ليضعوا الأساس للنهضة المقبلة) (المحجوب).

يقول الناقد على المك : كان المحجوب يتسم في أدبه بالأصالة الفنية، مما كان يحاول من صياغة جديدة، تجمع بين فصاحة اللغة العربية، وترسل اللغة الانجليزية. أما الأصالة الفكرية، ففي ما كان يلتمسه من المثل العليا لمجتمعه السوداني الناشئ في الأدب والسياسة والفن.

أما في مجال نظرية الأدب ومصطلحاته، فقد تميز الناقد القومي علي المك، بحس دقيق ووعي فني لا يتأثر بالتيارات العارضة، من الثقافات الأخرى، فهو يقول: (أنا لا أرفض هذه المدارس الفنية في الأدب، ولكننا نرى أن لا نعتمد عليها وحدها... ذلك أنها تحصر الكاتب في إطار محدود). وليؤكد الناقد هذا الحكم، ضرب لنا مثلا حين قال: ( فلو أنك نظرت في قصيدة عبدالله الطيب: (الكأس التي تحطمت) لجاز لك أن تضعها في ما يسمى بالشعر الحديث، في موضعها وفي مذهبها (تحاشى علي أن يقول إنها رومانتيكية)، خوفاَ من الانزلاق في استخدام مصطلح أجنبي، قد لا يكون دقيقا في وصف هذه الحالة. يواصل علي: (حتى التي نظمها بعد القصيدة تلك ( بنيف وعشرين سنة)، وجدت الاختلاف بينهما ينأى بالشاعر أن يعد في مدرسة الشعر الحديث .

هكذا حاول الناقد علي المك أن يقنعنا بخطورة استخدام المصطلحات الأدبية الحديثة على عواهنها، وإطلاقها دون تحفظ أو حذر.

هل قصيدة (سمرقند) ... من الشعر الحديث أو القديم؟... قد لا نتفق مع ما ذهب إليه الصديق الراحل علي المك، وهذا ما نأمل أن تتاح لنا الظروف لتوضيحه في مقالة قادمة. وأخيرا يظل كتاب (ملامح من تاريخ الأدب السوداني) مشروع نواة لعمل أدبي كبير، يبدأ بتدوين مجموعات الشعر السوداني، والقصص السودانية، والنقد، في مجلدات تشمل دراستها وتحليلها وترتيبها الترتيب التاريخي المعروف. إنه المشروع القومي الأدبي الكبير الذي طرحه علينا الأستاذ الرائد علي المك .. هذا المشروع الذي كان يحلم علي بالقيام به كما قال: (قد تسمح ظروف لمثل هذا العمل، إن أتاح لنا الزمان وقتاً للبحث والاستقصاء والتأمل) . لم يتح لك الزمان ذلك ياصديقي !! ولكنك تقول ايضا: (على كان فأن الباب مفتوح للمشتغلين بالآداب، والمهتمين بها للنهوض بمثل هذا العبء وهو بعد جسيم ). العبء جسيم، هل تسمعونها ؟ إنها كلمات علي المك.

********************

Post: #18
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 06:48 AM
Parent: #16



يا مسافر وناسي هواك
*****

علي المك والسينما
بقلم: الأستاذ/ محمد مصطفى الأمين


يرجع اهتمام علي المك بالسينما إلى واقعتين، هما أنه من أبناء أم درمان (مدينة من تراب) كما أسماها - إلى حقيقة أنه شهد في صباه وشبابه فترة أزدهار السينما وعروض الأفلام، وذلك بعد افتتاح سينما برامبل (1937م)، والوطنية أم درمان (1941م). وكانت السينما قد أصبحت أحد أهم وسائط الثقافة وعناصرها في تشكيل ذلك الجيل. (راجع كتابات د. عبد الحليم محمد في مجلة الفجر) 1932/1937وغيرها.

ولعل اهتمامه بالسينما والأفلام الأمريكية قد قاده فيما بعد للاهتمام بكتابات الكتاب السود.. حيث قام بترجمة أعمال لهم مع خدنه ورفيق صباه صلاح أحمد إبراهيم، وكذلك الاهتمام بموسيقى الجاز والبلوز والسول، وله في ذلك برنامج موسيقي شهير كان يبثه من خلال إذاعة أم درمان.

علي المك ومؤسسة الدولة للسينما
قام نادي السينما بممارسة نشاط أول مرة في 7 أغسطس 1968م ، وفي عام 1969م تبنى سمناراً حول مشاكل السينما في السودان من نواحي سياسات استيراد الأفلام والرقابة، وضرورة إنتاج أفلام سودانية، وتقديم مقترحات عملية. وبعد 25 مايو تم تبني بعض المقترحات، وتم إنشاء سينما مايو بعد تأميم دور العرض السينمائي، وشركات دور العرض السينمائي، وشركات استيراد وتوزيع الأفلام. وأعطى البروفيسور على المك منصب مدير عام هذه الهيئة التي تطورت فيما بعد لتصبح مؤسسة الدولة للسينما.. وقد شهدت تلك الفترة انفتاحا على أسواق جديدة حيث تمت إقامة اسبوع الفيلم السوفيتي، وحضرت افتتاحه ممثلة سوفيتية، كما جلبت المؤسسة أفلاما مهمة مثل فيلم ( زد) للمخرج الشهير كوستا جافراس، وتم عرضه بحضور مؤلف موسيقى الفيلم ( مايكس ثيودوراكيس). هذا إضافة للعديد من المحاولات الجادة التي تصب في خانة الخروج بالمشاهد من أسر الأفلام التجارية الاستهلاكية والنمطية.

وحاول علي المك أن يسهم في عمل أفلام سودانية؛ وتم إنتاج الفيلم المشترك (السوداني البولندي) (بين الأحراش والأدغال)، والذي لم يكتمل نسبة لما أثير حوله من شكوك في صرف الأموال - الشيء الذي دفع بعلي الملك للاستقالة من المؤسسة.

وعن عدم اهتمام أصحاب مايو بإنتاج الأفلام، يقول إن المشكلة الأساسية أن المؤسسة عندما أنشئت كان الهدف الأساسي (حسب النظام الأساسي) هو إنتاج الأفلام السينمائية - أو هكذا قيل حينها- ولكن اتضح فيما بعد أن نظام مايو لم يكن يهدف إلى تطوير الإنتاج وعمل الأفلام... ولم يجئ ذلك عن غفلة أو قصر بل أن ما تم هو نتاج طبيعي لتخطيط مبرمج، لأن رجالات مايو كانوا يأخذون عناوين لإطارات عامة ذات صدى جماهيري وقبول، ويتم إفراغها وإفسادها . وهذا ما حدث مع مؤسسة الدولة للسينما تماما.

الخطأ في أهداف المؤسسة كان يكمن في احتكار الاستيراد والتوزيع، وذلك لأن الدولة كان يمكن أن تفرض سياسات معينة فيما ينبغي أن يستورد، إذ لم يكن الهدف الحقيقي لرجالات مايو أن يغيروا سياسات الاستيراد والتوزيع. وكان ينبغي أن يكون الهدف الجوهري من إنشاء المؤسسة هو إنتاج الأفلام.

لم تكن هناك مشكلة تمويل، لأن الاتفاق كان يقضي بأن تؤول الأموال التي تأتي من استيراد المؤسسة لدور العرض حسب ما ورد في النظام الأساسي الذي لم يعمل به، وطرد الأشخاص المعنيون بالأمر في المؤسسة.

في الفترة الأولى أبان إدارتنا للمؤسسة جاءت العديد من الوفود الاشتراكية التي أبدت رغبة في إعانتنا على إنتاج الأفلام، وقد أهدونا كاميرا (لا ادري ما مصيرها الآن). أيضا ندوة (مشكلات صناعة السينما في السودان) لا أدري ما هو مصيرها، علما بأن هذه الندوة أقيمت بمصلحة الثقافة في 27 سبتمبر 1978م وحضرها عبد الرحمن نجدي، وسليمان محمد إبراهيم، وإبراهيم شداد ،وقد أدارها الناقد محمد مصطفى الأمين.



مايكس ثيودوراكيس

********************

Post: #17
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: معتصم مكاوي
Date: 04-27-2009, 06:32 AM

الله يديك العافية يا دكتور ما قصرت
أهه يا شباب ويا شابات المنبر ده الشغل
الدايرنو البقول ليكم عليهو
النضوج
النضوج
ناضجين وناضجات
حقا ما قدمته يا دكتور
له نكهة الصحبة والرفقة الحلوة
عبر هذه الصفحات ..

Post: #19
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 07:16 AM
Parent: #17



يا مسافر وناسي هواك

*****

من قصص الراحل على المك
"كرسي القماش"

*****
اعتدت أن تختلف إلى مكتبك كل صباح، مثل الساعة الدقيقة أنت، تفد للمكتب في الثامنة من الصباح، في الشتاء كما في الصيف، ولم تغير عادتك تلك أبدا، حين كنت تعمل في الدامر أو الفاشر أو في كسلا.. حقا أنك قد خبرت أكثر أقاليم بلادك ولكنك لا تعرف ما هو الفرق، النهار في المكتب، والمساء في النادي.. وهناك دائما تاجر وزملاء وجزار وحلاق ورئيس صارم أو غير صارم...و.... و....

وها هي العاصمة.... موطنك.. عدت إليها بعد طول تجوال.. عملت بها سنة أو بعض سنة حتى أدركك المعاش. تقول أدركك المعاش، كما يدرك الموت الناس، أوليس المعاش كالموت؟ ألا يعني أن خدمتك قد انتهت، وكما تنتهي الحياة، أوليس الحياة هي العمل؟ هذا هو أول أيام الإجازة الأخيرة، ولن تستيقظ بعد ألآن مبكراً، ولن تمضي للمكتب فتكون به في الثامنة. لفرط ما جرت بك عربات التاكسي حفظت كل ركن في الشارع، أعمدة النور ومقهى (جورج) وإعلانات السينما، وهي المتغيرة دائماً وكل شيء عداها ثابت.. ثابت كل شيء، وكوبري النيل الأبيض، آه ما أجمل الإغفاء في السيارة حين تصعده جريا، ويعتدل الهواء حين يصافح صدر النهر ويغشاك رطبا منعشا ويسلمك إلى النوم.. لقد كبرت، وليس عندك سيارة، البركة في البيت.. وماذا ستعمل الآن؟

"مع السلامة يا سيد فضل.. والله تعلمنا منك الكثير.. سنفتقدك كثيرا" قال زميل في المكتب، وأنت تعلم أنه كاذب، فمستقبله في الخدمة معقود على تقاعدك بالمعاش... يا للنفاق! وعلي أخفي ابتسامته الخبيثة ابن ال.. ولكن المعاش هو الموت يدرككم جميعا.. ولكل أجل كتاب.. وهذا هو العزاء.. وأنت أيضا كاذب ،لو كنت تؤمن بهذا الكلام ما غضبت ولقبلت كلامه بروح سمح.

وهل كنت محبوباً يا سيد (فضل)؟ أتذكر الصرامة والحزم وسؤالك الملح أبدا لماذا تأخرت؟ هل نمت؟.. آه الهواء الصباح عليل يلذ فيه النوم؟ أم أن الخمر كانت قوية الليلة الماضية؟ وكان مثل هذا الكلام يغيظ الأفندية ولكنهم يسكتون خشية عقاب، وأنت نفسك تخشى المدير، كل سيد وله سيد.. حين كان يطل عليك أو يستدعيك تنصبب عرقا وتجف، آه يا (فضل) حقا قال لك (سنفتقدك يا سيد فضل ) ابن ال.. هذا الرجل لا يحسن كتابة خطاب أو مذكرة ، ولم يعمل مع السلف الصالح من الإنجليز.. يا سلام تذكر سمث وجونز ورانهل... والله لا يهم طالما كانت الخدمة كلها صائرة إلى انهيار كامل، وأين نحن من أيام (السلف الصالح) هاصت والله، وأصبح سادتها أولاد الجامعات.. (لكل زمان رجال ياسيد فضل) كان ذلك الشاب يقول لك هذا دائماً، هو في مثل سن ابنك ولكنه متعلم وأي علم؟ نوم في المدينة الجامعية وعدس وفول وجلوس في المسارح أو في المقهى، ودرجة جامعية، ثم تراهم يقفزون سلم الوظائف قفزا.. دنيا والله دنيا.. وهل مر زمان كنت سادته يا سيد فضل؟ من قبل هؤلاء الإنجليز حتى إذا خرجوا من البلاد جاء أولاد الجامعات.

تدرك أن الشمس في مدينة (أم درمان) (1) هي النار المحرقة، بعد الثامنة من الصباح تغلي البيوت بفعل الشمس، فلا تطاق ويلتمس الناس المكاتب ذات المراوح ومكيفات الهواء ليس حبا في العمل والانتظام فيه، بل هم ينشدون الهواء البارد والاستجمام، تحس ربما لأول مرة أن البقاء في هذه البيوت هو الموت، وعليك أن تبقى في جوارها، أم العيال. أليس في العمل رحمة؟ هذه هي المرأة الولود الخصبة، كأنها دلتا النيل.. إن لم يكن هناك من حل فالأجدر أن تجلس في الظل في الشارع وتطالع صحف الصباح وترقب السابلة والعربات تجري وتجري ولكن لاية غاية؟

حينما أخرجت كرسي القماش من المخزن ونفضت عنه غبار السنين، كانت ذرات التراب تذكرك بأيام (الفاشر) (2) حيث كان صنعه وخمس كراسي أخرى تكسرت جميعاً، وبقي هو. صنع الكرسي في السجن.. جف ظهر سجين وهو يصنعه لفرط ما عكف عليه وانحنى، جف ظهره لترتاح ظهور الموظفين الخواجات منهم وأبناء البلد، وقد يعجب هؤلاء بفنه وقدراته.. فن نابع من الصبر والقهر معا، وقد تسحر ألبابهم خطوط قماشه الحمراء والصفراء، ودهان خشبه الأبيض (ربما كان صانعك قاتلا أو سارقا أو هاتك أعراض، وربما تموت ويبقى الكرسي .. وكم من سارق طليق وهاتك عرض في عزة ونعيم .. و...و..) وينتشر الغبار كثيفا بعد كل ضربة.

( كان زمان أيام صنعت يا كرسي القماش، كانت الدجاجة بخمس قروش والخروف بخمسين قرشا، وفي القشلاق الخمر والنساء، وفي فصل الأمطار تمتلئ الترعة حتى تفيض.. وينتشر على التلال بساط أخضر من العشب، وأنك شهدت الصبيان يشربون الماء من حياض الجياد والحمير، والماء شحيح و (أتيمة) تصنع الخمر وتشرب أكثرها، وتأكل نصف خروف ،ولقد أحسنت امرأتك الصنع حين رفضت البقاء في الفاشر، وتركت فراشك خاليا منها وغير خال من (سعاد الفزانية)، وأنت الباشكاتب المهاب، زمان مضى يا كرسي القماش شخت أنت، وشخت أنا...) وها أنت ذا تجلس على كرسي في الظل، وتعاين في الشارع والناس في الشارع، وتمد رجليك، والظل يجاهد الشمس وهي في بطء تفترسه.

- سيد فضل صباح الخير .. ماذا بك؟
- لا شيء لا شيء
- أنت لست مريضا؟
- كلا
- إذن في إجازة؟
- نعم
- شيء عظيم .. أتفكر في السفر
- لا
- جميل بعد قليل تهطل الأمطار ويعتدل الجو، لماذا أصر جارك على كل هذا الكلام، أم أن هذه عادة أهل السوق من التجار، يا لعنة الله عليهم .. وبستطرد الجار..
- عظيم يا سيد فضل ومتى تنتهي الإجازة؟
- هذه إجازة نهائية
- يا سلام ... لن تعود إلى العمل إذن .. والله خسارة

وتغير وجه الجار العزيز، وأضحي قاتم اللون من بعد صفائه - أو هكذا تصورته- وتصلبت تقاطيع وجهه، زم شفتيه، قطب جبينه.
(يا مسكين يا فضل) تقول في نفسك ثم تتساءل: (هل المعاش هو الموت؟ أنت قادر ومقتدر ومعافى، خلا نوبات السعال التي تغشاك ويضيق بها خلقك من بعد صبرك، وتستطيع أن تعمل حتى تبلغ مائة عام.

وانصرف الجار العزيز، تراه يهز رأسه من أسف، كنت بالنسبة لهم شيئا وأصبحت لا شيء، كنت الباشكاتب المهاب.. يا خسارة ضاعت الرهبة، وحل محلها العطف والرثاء، وتنطلق السيارات أمامك، إلى أين يذهب الناس؟ أكلهم يعمل؟ أم أنهم سئموا الحياة في البيوت؟.. ألهم أزواج وعيال؟ تبا لها العجوز.. ما زالت تتطيب وتصلح من شأن نفسها... المشكلة أنها تغريك في هذا النهار الطويل فتضعف وتنهار.. والظل في الشارع خير من البيت.

وأبواق السيارات تتدفق فوق الشارع، والنظر سيارات وزحام . لأول مرة تدرك ان هذا الشارع القديم لم تمسه يد إصلاح ويبدو أن الأشياء لا تتغير كما ينبغي، "أهذا يومك الأول؟. وتمضي باقي حياتك على هذا المنوال؟ وما بقي منها هذه الحياة، لقد انتهيت عند الحكومة فلفظتك إلى الشارع" تحدث نفسك ، مشاهد تتكرر، وأناس يروحون، يجيئون، وسيارات تفلق الدماغ، وما العمل الحكومي؟ أليس هو تجربة يوم واحد تتكرر ثلاثين أم أربعين سنة؟ وفجأة ينقطع حبل تفكيرك.

- السلام عليكم
- يتردد الصوت ، وتنتفض فاتحا عينيك من آخرهما ،تحدق فيمن ألقي بالتحية وترد:
- بماذا تريد أن تناديه؟ أأنت تعرف؟ من هو هذا الرجل؟ كثيرون هم (أنصار السلام) هؤلاء، يحيونك حتى إذا كنت نائما، ثم أنك لا تعرفه،يقولون إن (السلام سنة)، ولذا يتمسك بها هؤلاء القوم، وقد تلقف عابر السبيل تحيتك عن رضا، ثم مضى لحال سبيله.

- يا ساتر يا رب .. حاسب!
- لا حول ولا قوة الا بالله
- يا عالم
- لا حول الله .. يا ساتر

أصوات تعل، وإذا بعربة محملة بالجنود، قلانسهم حمراء دونما استثناء تدهس طفلة كانت تهم بعبور الشارع ... وتهب واقفا، ويهتز رأس كرسي القماش كأنه نال راحة من بعد أن ارتفع عنة ثقلك.. من أي البقاع جاءوا؟ في لمح البصر، كيف احتشدوا بهذه السرعة؟ ألم يكن الشارع شبه خال عدا أشخاص يسيرون متفرقين؟ وها هي أصوات الناس تسبح قرب أذنيك:

- عربات الجيش تندفع مسرعة دائما..
- السائق مخطئ ... دونما ريب مخطئ ... الله.
- أبدا... أبدا ... هي غلطة البنت لم تقف لتتأكد من خلو الشارع..
- ولكنها ماتت
- كيف تموت بلاسبب وجيه؟
- هذا أوجه الأسباب في هذا الزمان
- أيعاقب القانون السائق أم العربة؟
- وقد بدأ الجنود بقلانسهم الحمراء يتقافزون من سطح العربة .. وتنظر بين الرؤوس والاكتاف والرقاب فإذا بجثة ملقاة على طرف الطريق، كان رداؤها أخضر، وكانت تحمل كتابا تطايرت صفحاته وعليها رسوم حيوانات وحروف كبيرة ذات ألوان، وكراسة تعلقت بإطار العربة، فما استطاعت منه الفكاك، وكان وجهها ملطخا بالدم، وقد غشا الموت عينيها، وأنت تعرفه: الموت (بالله كيف تموت المسكينة وهي ذاهبة إلى المدرسة؟ أحمد الله أنه أبقاك على ظهرها: الدنيا أكثر من نصف قرن، وها هي ذي طفلة مجتهدة تموت بلا سبب وجيه)
- أصوات تختلط
- بل هذا أوجه الأسباب في هذا الزمان
- احضروا غطاء
- احملوها إلى المستشفى
- يجب أن يفحصها طبيب
- ولكنها ماتت..
- من المسئول إذن؟ السائق أم الفرامل، أم هم الجنود، أم هي القلانس الحمراء؟
- هيا .. هيا.. قبل أن يأتي بوليس فنتهم بالقتل
كانت يدا السائق قد تجمدتا على عجلة القيادة، وانكفأ عليها بوجهه لا يريد أن يظهره، وتجمع الجنود فأقاموا حائطاً حول المتجمهرين.

ها هو الظل قد تقلص بعد أن افترسته الشمس صعودا، وليس أمامك من شيء سوى أن تعود إلى الدار، وتحمل الكرسي ثم تضعه على جدار الحجرة بعناية، كأنما قصدت أن يصيب راحة من بعد العناء، وترقد على السرير، والنهار صامت بعد أن اغتذى بدم الفتاة. وقد تطل عليك زوجك بعد حين، أيهما الجحيم ؟ الشارع أم هو البيت؟ فلتنتظر قدوم يومك الثاني في حياتك الجديدة.
********************

Post: #20
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 07:38 AM
Parent: #19



يا مسافر وناسي هواك

*****

محاولة الإبحار في ذاكرة أديب
تأملات في سيرة على المك وأدبه
بقلم: الدكتور مصطفى الصاوي

-1-
يشكل الأديب الراحل "علي محمد على المك" (1937- 1992م) علامة دالة، ونجمة مضيئة في خارطة الأدب السوداني . وهو علم من أعلام الأدب والحياة الاجتماعية في السودان . تعددت مساهماته فاحتوت العديد من المجالات، كالقصة القصيرة، والترجمة، والنشر الثقافي، والمجال السينمائي، والموسيقى. وأسهم أيضاً في العمل الرياضي تحديداً كرة القدم ؛ لذا لا تستطيع هذه السطور العجلى أن تلم بكل تلك الإسهامات، وقد رأيت في هذا المقال أن أركز على جوانب أربعة:
1/ السيرة الذاتية للأديب
2/ على المك مترجماً
3/ على المك والفنون
4/ على المك قاصاً

أولا – سيرته الذاتية :-
ولد علي المك بأم درمان في 12 فبراير عام 1937م. ألحق بكتاب ود المصطفى ولم يبلغ السادسة من عمره. ثم انتقل إلى مدرسة (أرقو) الأهلية مقر عمل والده الذي كان يعمل بالقضاء الشرعي. تم تحويله إلى مدرسة (الفاشر) الأولية حيث نقل والده للعمل بمحكمتها الشرعية. وبعد إكماله الصف الثالث اختير ليكون ضمن تلاميذ المدرسة الوسطى، غير أن والدته عارضت الفكرة، ونقل إلى الصف الرابع وانتقل بعد ذلك ليستقر بمنزل الأسرة في (أم درمان) بعد نقل والده للعمل بمحكمة ( مروي) الشرعية، فألحق بمدرسة ( المسالمة) الأولية حيث أكمل فيها الصف الرابع وقبل بمدرسة أم درمان الأميرية الوسطى عام 1947م.

بدأ اهتمامه بالعلم والقراءة منذ الصغر، حيث قرأ كل ما كتب ( كامل كيلاني)، وكان شغوفاً بمطالعة روايات الهلال، وقد شجعه على الاطلاع وجود مكتبة أبيه التي كانت تحتوي ألواناً من كتب الثقافة الإسلامية والعربية، إلى جانب كتب الفقه والشريعة الإسلامية. أما في طفولته المبكرة فقد استمع كثيراً بشغف إلى قصص البطولات من (خادم الرسول) االفاشرية، والتي حكت له عن عظمة على دينار، واستمع بشغف إلى قصص (دادة بارد النسيم) عن كتلة (ود حبوبة) ، إضافة إلى حكايات وقصص جده (إبراهيم) . كل ماسبق شكل وجدانه، وميله للقصص. وانتقل الصبي إلى طور آخر والتحق بمدرسة(وادي سيدنا الثانوية) في عام 1951م . والتحق بجامعة الخرطوم عام ،1954وتخرج في كلية الآداب بمرتبة الشرف في عام 1961م. إلتحق بالسلك الوظيفي حيث عمل في شؤون الأفراد في ديوان شؤون الخدمة حتى عام 1970م ، وفي تك الفترة أوفد إلى بعثة دراسية في جامعة (كاليفونيا الجنوبية) وحاز على ماجستير الإدارة العامة 1966م ، ثم عين رئيساً لمجلس الإدارة والمدير العام لمؤسسة الدولة للسينما 1970- 1971م. ثم عمل محاضراً بمعهد الإدارة العامة بالخرطوم 1972-1973، وعمل بعد ذلك مديراً عاماً لدار جامعة الخرطوم للنشر 1974- 1983 ثم أستاذا (بروفسور) بوحدة الترجمة والتعريب في كلية الآداب. وفي عام 1983م وحتى وفاته، وفيها أشرف على العديد من الأطروحات الجامعية لنيل درجة الماجستير في الترجمة.

وقد شارك في العديد من المؤتمرات العلمية داخل وخارج البلاد، وعمل في اللجان والمجالس الأكاديمية. وقد عرف بصلاته وصداقاته العميقة والمتعددة، حيث حظي الكثير من الناس . لم تقتصر صداقاته على الوسط الأكاديمي أو الأدبي، بل امتدت إلى مختلف فئات المجتمع، وخصوصاً في (أم درمان)، وفي سوقها تحديداً كان يلتقي بهم وقد ثبتت طبقاتهم المهنية (الجزار- القهوجي - الحلاق)، فيخلع عباءته الأكاديمية ويحادثهم بصوته المميز، وتعليقاته الحلوة .. تلك الحيوات السابقة تسللت برفق إلى قصصه، فكتب عنها بصدق، وإحساس عميق، وأخذت لبوساً فنياً جديداً في نصوصه، ولعل الكتابة عن علي المك كان شعارها ضرورة أن نعرف أنفسنا ، لذا ظل منذ بداياته وحتى النهاية يكتب مرتبطاً بواقعه، مؤكداً هوية الشعب الأصيل والمتميزة، ومن هنا جاء ارتباطه الوجداني والثقافي بالبقعة (أم درمان) رمز الانبهار والتفاعل للشعب السوداني قاطبة. وهي ذات حضور عميق في قصصه، بناسها، وتراثها، وحواريها، وأسوارها، وأسواقها، بل أزقتها الخلفية في قاع المدينة، حضور له دفء؛ من دلالاته عشقه لتلك المدينة، والذي تعاظم، فهي حلمه، وجنتة التي يشتهيها، فكتب نثراً شعرياً أسماه: (مدينة من تراب) 1974م . فأمدرمان عنده في القلب ، تلك المدينة التي مثل كحل العين . كم هي حميمة ، وتبعث في النفس الراحة، والطمأنينة، والأمن والحب، خاصة عندما يكتمل شمل الأصدقاء: - حسن الكوارتي، الطيب مكي، نصر الدين كنة، مختار عباس، زكريا، محمد محمود، وعبد القادر الرفاعي، ثم واسطة العقد، وصفي القلب والروح صلاح أحمد إبراهيم .. نشآ معا في مدينتهما أمدرمان ، ودرجا في مدارسها معاً، ودخلا جامعة الخرطوم معاً، وكتبا أول كتاب لهما معاً. ودارت الأيام دورتها.. وانفض السامر.

التهمت المهاجر العربية والأوروبية من التهمت، وغيب الموت بعضهم، والبعض الآخر غيبتة السجون أو المنافي. الغربة سرطان في الجسد، صفيك وإخوته وكل المطاردين و المنفيين أصبحوا في بلاد "تموت من البرد حيتانها".
و أخرى لعينة لا تستهويها سوى لغة المال ، يخافون الرحيل في المنافي والموت في الغربة:-

وآشوقي يا محمود إلى ليل السودان(3)
والقهوة في الظل الشاتي
الفنجان وراء الفنجان
واشوقي يا محمود
إلى الأولاد الزغب..
إلى أم الأولاد
من يكلمهم إن مت ... ؟

وكان قدر علي المك أن يبقى مع الزغب، وأم الأولاد، ولعلها لعنة كتبت على المثقف أن يموت خارج الوطن. وكان قدره أيضاً أن يبقى في أرض الوطن ويعطي جهده للمحافل الأكاديمية في الداخل و الخارج، ويشهد رحيل (محمد عمر بشير) ، و (محمد عبد الحي)، ويشهد أيضاً نضج جامعة أم درمان الأهلية، والعديد من التحولات الرمادية . كيف لا ينثلم القلم؟

وسافر في رحلته الأخيرة إلى الولايات المتحدة ليكمل جهداً أكاديمياً بدأه ويحاضر الطلاب هناك كأستاذ زائر. سافر يعتصره الوهم ويهده الحزن و لكن وكما تعود دائماً الواجب أولى و الإنجاز أهم.

وكان في موعد مع القدر. توقف القلب المحب و العاشق للحب و الخير و الجمال و الناس في 11/10/1992م . وورى الثرى في مقابر (البكري) مقبرة من مقابر المدينة التي أحبها وبادلها العشق(4) "خرج من صلبها ، وانغرس في ترابها ، ثم انطرح في حبها حتى الموت". تبكى النادبة الحزينة (أم سلمة المك) شقيقته التي قال عنها "أنا و أم سلمة مربوطين بحبل صرة" . كم هو حزين (فضل الله محمود برهان).. رفقة عمر وعمل . أو تلك المرأة السودانية البسيطة الأصيلة والتي تبحث في عملها الهامش (بائعة شاي) - عن كسرة خبز في زمن أغبر- فرشن عليه. كل هؤلاء و أولئك اجتمعوا على حب علي المك ، لم لا وكان همه البسطاء الذين إنحاز إليهم و أستلهم حياتهم و تقاليدهم في أعماله الإبداعية. منحهم من فنه الكثير فأعطوه الحب و التبجيل.
يتبع..

Post: #21
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 07:43 AM
Parent: #20



يا مسافر وناسي هواك

*****
محاولة الإبحار في ذاكرة أديب
تأملات في سيرة على المك وأدبه
بقلم: الدكتور مصطفى الصاوي

-2-
*****
ثانياً : على الملك مترجماً
من وجوه الإبداع عند علي المك معالجته لفن الترجمة، فقد ترجم بحسه الأدبي الفذ، و إحساسه اللغوي الدقيق، و تمكنه من العربية والإنجليزية، ودقته و سلامته التعبيرية، العديد من الأعمال:-

- "نماذج من الأدب الزنجي الأمريكي" بالاشتراك مع (صلاح أحمد إبراهيم) 1971م.

- "من أساطير الهنود الأمريكيين وحكاياتهم"، "قيد النشر".

- ترجم العديد من القصص القصيرة منها: - "طريق الخلاص الطويل" تأليف: (ف. سكوت) و"أسطورة" تأليف: (روبرت فوكس) و "الجلوس" تأليف (هـ . فرانسيس) ، و"استبيان إلى رودلف غوردون" تأليف (جاك ماثيوز)، و "الربوة الصخرية" تأليف: ( شارلس باكستر) و "حكايات من الصين القديمة". وترجم لـ (جمال محمد أحمد) "زينب السكر الأحمر". أما في مجال الشعر، ترجم بالإضافة إلى أشعار الأدب الزنجي الأمريكي :-

- خمس قصائد لغارسيا لوركا
- أسطر من الشعر المقدوني

على المك والفنون:
اتسعت وجوه الإبداع لدى علي المك، وانداحت الدائرة، فتولدت عنها دوائر أخرى، احتوت على الموسيقى والفن السينمائي، والفن الغنائي . بدأ اهتمامه بالموسيقى منذ طفولته فكان يستمع إلى (سرور) و "( كرومة) و (عبدالله الماحي)، ويحفظ الأغاني من(فونغراف). تلك الأغاني التي استمع إليها هو صغير صارت موضعا لاهتمامه حينما شب عن الطوق؛ فأولاها اهتمامه الفائق بحثاً وتنقيباً في سير الذين أبدعوها، وطبقاتهم الفنية، والسياق الاجتماعي والثقافي الذي عاشوا فيه. تضمن جهده تحقيق ديوان الشاعر (عبدالله البنا) ، وديوان الشاعر (خليل فرح)، وأسهم بقسط وافر في دفع الشاعر (محمد بشير عتيق) لنشر ديوانه، وكتب له مقدمة رصينة. كتب عدة مقالات عن الفنان (عبد العزيز محمد داؤود) مؤرخا لحياته وفنه. وقد عرف أيضا باهتمامه بفن الموسيقى، ومعرفتة العميقة به، وبأعلامه، وتياراته العالمية، مما أهله إلى أن يكون رئيسا للمجلس الوطني للموسيقى بالسودان (أحد روافد هيئة اليونسكو) 1974-1985م.

أما في مجال السينما فقد شارك في كتابة سيناريو فيلم أعد عن حياة (عبد العزيز محمد داؤود)، وسجل بصوته التعليق على فيلم ( طرائف الإيمان)، وهو الفيلم السادس من حلقات المسلسل التلفزيوني (العرب) الذي ظهر على القناة الرابعة بالتلفزيون البريطاني عام 1983م. وقد شهدت صالات عرض الأفلام أبان إدارته لمؤسسة الدولة للسينما العديد من الروائع وأشهرها (العسكري) و(حرب التحرير)، وفي عهده زار الموسيقار العالمي " ثيودوراكيس" الخرطوم، وتزامنت الزيارة مع عرض فيلم (زد)، كما ساهمت المؤسسة حينها في إنتاج الفيلم البولندي السوداني (الأحراش).

يتبع ...

Post: #22
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 07:49 AM
Parent: #21



يا مسافر وناسي هواك
*****
محاولة الإبحار في ذاكرة أديب
تأملات في سيرة على المك وأدبه
بقلم: الدكتور مصطفى الصاوي

-3-

علي المك وفن القصة القصيرة:
منذ بدايات علي المك في كتابة القصة القصيرة، وهو مسكون بالإنسان السوداني وخصوصيته. وقد تمثلها في إبداعة القصصي ..كتب:

1- (البرجوازية الصغيرة) بالاشتراك مع صلاح أحمد إبراهيم 1958م.
2- (في قرية) 1961م.
3- (القمر جلس في فناء داره) 1973م.
4- (الصعود إلى أسفل المدينة) 1988م.
5- (حمى الدريس) 1989م.

استطاع أن يصل إلى عوالم قصصية ذات صلة عميقة بخصوصية الواقع السوداني في شتى تجلياته: الناس، الأمكنة، والتراث. إن الإنسان السوداني البسيط هو من انحاز إليه علي المك، فدارت حوله أغلب قصصه. نجد نمذجة شخصياته تنتظم في (تبولوجية) قوامها الشخصية البسيطة العادية، مثل شخصية حامد في (شرق الإمبراطورية) في مجموعة (البرجوازية الصغيرة) الحالم بنزوة طارئة مع المرأة الأجنبية، وصابرة وفاطمة في قصة (المطر) في مجموعة (في قرية)، الباحثتان عن المأوى ولقمة العيش؛ وأخرى في سقاع المدينة في قصة (العصاصير) في مجموعة (الصعود إلى أسفل المدينة)، كـ (رجب) الحلاق ، و(بخيتة) بائعة العرقي .. ثمة شخصيات أخرى قهرتها الوظيفة بالإحالة إلى المعاش، مثل فضل في (كرسي القماش) في (الصعود إلى أسفل المدينة)؛ وبعضها عانى من القهر الابيس كـ (شلبية) في (القمر جالس في فناء داره) ،أو قهر السلطة في قصة (القضية) في مجموعة (القمر جالس في فناء داره).. ومجموعة الشباب الذين رقصوا (الكمبلا) فقبض عليهم. كل تلك النماذج حياة عادية وبسيطة قد يكبلها القهر الاجتماعي والسياسي، أو تتداعى عليهم الضغوط من كل جانب. رغم هذا فإن هذه الشخصيات البسيطة تحتفظ بتماسكها؛ وإذا سقطت سرعان ما تنهض وتواجه المستحيل. موت الأم في قصة (إحدى وأربعون مئذنة) في مجموعة (الصعود إلى أسفل المدينة) هز البطل وأشجاه ولكنه ظل متماسكاً. وفي ذات المجموعة تتجلى بطولة الفتى الصغير - والذي بكل بساطته- قهر النهر، وكلفه ذلك حياته؛ والمرأة في (رسالة ما) في مجموعة (حمى الدريس) امرأة عادية تقارع الرجل الحجة بالحجة وتتوغل إلى مناطق محرمة في التابو الاجتماعي. ويبقى في هذا السياق الإشارة إلى شخصيات أخرى في المجموعات نابضة بالحياة، وتتميز بالارتباط الحميم بالنكهة السودانية، (رجب) الحلاق في العصاصير، و(سالم) في مقدمة (في قصة) ، والدلالية وزوجها محمود في (القضية)، وشلبية في القصة الموسومه باسمها في مجموعة (قمر جالس في فناء داره)، وكلها شخصيات ذات ملامح عميقة الجذور في التربة السودانية، قصد بها الكاتب تعرية الواقع والكشف عن سوءاته وتناقضاته وفق تخيل رصين. أما على مستوى السرد، فقد تعددت أساليب السرد في أعماله، من استخدام لضمير المتكلم، إلى ضمير الغائب. وداخل هذا الاستخدام يرى القارئ تنويعات عديدة كاستخدام ضمير المخاطب كتنويع أسلوبي في عملية السرد .
********************

Post: #23
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 08:09 AM
Parent: #22



يا مسافر وناسي هواك

*****
ملامح القص في (مدينة من تراب)
بقلم : الدكتور/ مصطفى الصاوي
-1-

توطئة :
إسهامات الراحل على الملك ثرة ومتعددة، منها جميعاً برزت روح الكاتب المهموم بوطنه وقضاياه الملحة ، إضافة إلى بصمته الأسلوبية الواضحه وتعبيراته المميزة والمتميزة :(أمرة سودانية اللون)، (بضاعة طيبة صارت من نصيب مشتر شحيح) .
يهدف هذا المقال إلى تبيان ملامح القص ، والحكي في مؤلفه الموسوم بـ : (مدينة من تراب) ، الذي يبين جنسه الإبداعي في عنوانه الشارح (نثر شعري). ليس من وكد المقال الخوض في موضوع النثر الشعري وقصيدة النثر، إنما وكده توضيح ملامح القص فيه ، في ضوء نظرية القصة ـ والبحث عن المكونات الحكائية التي شكلت بنية العمل .

مدينة من تراب في ضوء نظرية الأجناس الأدبية :
المفهوم الكلاسيكي لنظرية الاجناس الأدبية نهض على التمييز بين الأجناس الأدبية.. فالشعر يقابله النثر ، والجنس المسرحي يتفرع إلى: دراما، ومأساة، وملهاة ؛ والجنس الملحمي يتفرع إلى: ملحمة ورواية واقصوصة . وهكذا إذن ما الجنس الأدبي لمدينة من تراب؟ الكاتب وسم عملة بنثر شعري، أي حدده تحديداً نوعياً، ولم يشر باي صيغة إلى مجموعة قصصية ، وكتابات ، ولوحة قصصية الخ.. مضافة إلى كلمة شعر.. وهذا ما لم يفعله الكاتب. وعلينا كقراء الالتزام بهذه الميثاق والعهد الأدبي ، وما يحفي المصطلح فإن نظرية الأجناس الأدبية ما عادت .. وسقطت فكرة الجنس الأدبي، وظهر ما يسمى بـ ( تداخل الأجناس الأدبية)، وتسامت مكانة النص ،الأدبية، والنص المفتوح، والكتابات. بهذا الوعي نلج العمل الذي نسجه المؤلف من تداخل ماهو شعري وما هو نثري بغرض البحث عن الحكي والقص.

تجليات الحكي والقص في (مدينة من تراب) :
(أ‌) عنصر السرد
من الصفحة الأولى ، ومن كلمة الاستهلال يشير الكاتب إلى عنصر السرد (سوف أتكلم عن أشياء كثيرة فيك وعنك) هذه صيغة تعلن عن برنامج سردي لا يخفي فيها الراوي نفسه، فيكشف عمله، ويسمع صوته المباشر للقارئ – وبهذا الاستهلال يحدد نوع سرده ، السرد اللاحق للحدث، وهو زمن السرد الذي يشيع في القصة القصيرة والرواية الخ.. ويشير إلى أحداث وقعت :

الفقيرة جارتنا
كانت تحدث ابنها الصغير
الجالس على حجرها
جائعاً
قد اشتم في هواء الحي رائحة شواء
رائحة لحم تغذيه النيران
تقلصت بطنه في ظهره من جوع

يستلفت الانتباه في هذا العمل على المستوى الفردي شيوع السرد المتداخل (هو السرد المتقطع تتداخل فيه المقاطع السردية المنتمية إلى بيئة مختلفة ( الحاضر، الماضي، المستقبل) . ويتمثل حدوث هذا النمط من السرد ودواعيه في الطريقة الحميمة التي كتب بها النص، التي هي أقرب إلى تراث مدينة في قالب قصصي:

ها قد جاء زمان يتكلم فيه الموتى
قال الأول : مزقني المدفع في كرري
وقال الثاني : أهلكني الجوع بصحراء العتمور
وقد هشم رأسي الترك الأفظاظ

يتنقل من السرد إلى الحوار الدرامي وينتقي أزمنة تاريحية تحيل إلى زمن الترك والمهدية.. الصيغية الماضوية تتسرب دائماً في سرده.

لقيت اليوم من كانت (بدور القلعة)
لقيت اليوم من كان يستر الشعرأقدامها
ذبلت عيناها
شاحت نضارتها

وفي بعد آخر يأخذ السرد صورته اللغوية ناقلاً الحوادث من صورتها الواقعية إلى صورة لغوية تختزن الإيقاع والتصوير، وتعتمد التكثيف والإيجاز .. وغلبت على هذا العمل الصورة الوصفية التي تعرض الأشياء في سكونها :

الشمس في ساحتك الوسيعة
ثرية صفراء من بللور
والرمل والتراب فيك أبسطة
والحصى سجادة سخية الألوان

ولكنه يرفدها بمشاعر الحب والانتماء للمدينة الرمز

وإننا بحبنا لك
وشوقنا إلى ساحتك الواسعة
نشيد فيك مئذنه تطاول السحاب
يا جامع الخليفة

والذي يجعلنا نميل إلى القول بأن هذه العمل أقرب إلى القصص هو السرد الذي يستخدمة الكاتب، وفيه يقلل من المنحى الاختياري المباشر، ويعتمد تكثيف العبارة وشجنها بدلالات عاطفية

فالمشوار من محطة مكي لمحطة مكي
يأخذ كل ضياء العينين
والوعد بالوصال

لتبرز شخصية ( العاشق ) متوارية خلف العبارة .
يتبع...

Post: #24
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 08:15 AM
Parent: #23



يا مسافر وناسي هواك
*****

ملامح القص في (مدينة من تراب)
بقلم : الدكتور/ مصطفى الصاوي -2-

التشخيص :
يقصد بالتشخيص : ( عملية رسم الشخصية من خلال وصفها ، وتسميتها، وتصويرها من الداخل والخارج).. في (مدينة من تراب) تتواتر الشخصيات على السارد الذي يصف أفعالها ، وسلوكها ، أفكارها، أبعادها الجسمانية. هذه الشخصيات ترتبط بشكل قوي بملامح شخصيات علي الملك في قصصه ونمط تشخيصها :

حيث قضت سعدية (الفاتية)
لبست الفضيلة الأكفان
تصدعت أعمدة الزمان
ووقف السكارى دقيقة
متأملين في نوادر القضاء والقدر
وانتحرت قوارير (الشيري) على الأفواه
ثم قالوا ليس عيبا
إن ............ يعرض الليل والنوار
إنما العيب .............

في ذلك السرد الموجز ، وتحقير شخصية المرأة البغي موضحة بسلوكها وأفعالها. وكنوع في نمذجة وتصميم شخصية الشحاذ :

شحاذ جهيم الوجه حل بالحي في الصباح
وكان أحمد الإسكاف زائغ البصر
رد أحمد الإسكاف
الخالق رازق

ومن تنويعاته في هذا العمل قصر الشخصية على عالمها النفسي:

حبيبتي تحب نفسها
اسمها في الحارة المصباح
وأمها تناديها : قمر
وهي تحب نفسها كثيراً

بهذه النسق تخلل الشخصيات النص.. قد تجيء في مشهد وصفي ، أو تجيء باعتبارها شخصية في محكى معين، ولكن الشخصية الأساسية في هذه العمل هي مدينة أم درمان التي سيطرت على النص ، وفرضت هيمنتها.. أعني كونها شخصية قصصية تميزت بوجود كلي وعواطف وانفعالات (تشخيص المدينة).

- يزوركم غدا مليك واق الواق
- يجوس في أسواقكم
- يدخل بيت الخليفة ....... وجامع الخليفة

ويعني بتحديد طابعها ، مميزاتها ، طريقتها في الحياة، أزقتها ، وأشهر شخصياتها : (تركيم الشخصيات)

- ونذكر موسى الثرثار
- وإبراهيم الفرجة
- وعيسى اليابس مثل العود
- ولا تنسى اسحق الضاحك
- ومعلمنا شيخ البشرى
- شيخ البشرى كان ..

المكان :
أهمية المكان تتبدى في إستراتيجية المكان، حيث التشديد على المدينة ووصفها ، هذه المدينة مصنوعة من :

خلاصة الخلاصة من طمي النيل
ورمل الصحراء

لعل هذا البعد لينسرب في العمل الذي يبلور الصلة بين الإنسان والمكان:

لو كان نهيراً صغيراً لصب الشارع في الزقاق
الشارع البحر حيتانه الناس وأمواجة الناس

يأخذ المكان بعده الإشاري المجازي :

فقدت دار طوب الأرض في مدينة التراب
أردت أن أشكو لطوب الأرض سوء حالتي
وحيمنا وصلت
سألت أهل الدار أين طوب الأرض؟
قالوا ذهب يشكو سوء حاله لطوب السماء

نلحظ ثنائية فوق/ تحت / أو أعلى وأسفل.
يلزم المكان ويرتبط بالذكريات والحنين إلى زمن ماضي، راصداً تحولاته وفعل الزمن . والكاتب يقدم المكان ومعالمه تقديما عاماً ، ثم ينتقل إلى التقديم الجزئي ليدلف بنا إلى العالم المحلي للمكان الذي يجسد قيماً ثقافية وتاريخية وأنسانية :

شلوخه المطارق
عيناه
عمامته
وصوته المجروح بالعذاب أغنية
يطل وجهه على زجاجة عطر
بعض طيب امرأة
رقاصة وسمحة ولينة
وبيتها في الموردة
أو في حي العرب
وصوته من اسطوانة مشروخة يهل
في قهوة بسوق أم درمان

المكان هنا يحيل إلى المدينة الرمز، وتندغم فيه عناصر جغرافية واجتماعية ونفسية.
والمكان في (مدينة من تراب) يقدم أبعاداً اجتماعية توضح التباين بين مجتمع الرجال والنساء.. وتصميم المكان ( مكان رجال) وآخر للنساء.

والنسوان بها في الحيشان حبيسات

انبثقت اللغة من المكان .. والتي جاءت معبرة عن روح المكان ، ونكهته، ومذاقه. نصوص علي أساسا تربط بغمار الناس ، وبسطاء الناس .
يتبع...

Post: #25
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-27-2009, 08:22 AM
Parent: #24



يا مسافر وناسي هواك
*****
ملامح القص في (مدينة من تراب)
بقلم : الدكتور/ مصطفى الصاوي -3-


الحوار القصصي:
تضمن السرد منطق الإحداث ، وبنية الشخصيات.. والنظام الزمني للقصة المسرودة ، يكسر من حدة كل سوابق الحوار القصصي وهو (تمثيل للتبادل الثقافي .. فيه عرض كلام الشخصيات بحرفية). والحوار يزخر بوظائف عديدة منها تحديد المخاطب، ومن يخاطب، ضمن مقولات لغوية تواصلية كالنبر والإيقاع؛ وهو يمثل سمة من سمات التشخيص، إذ يوضح اللهجة الاجتماعية ضمن (مدينة من تراب) مواضع متعددة ورد فيها السردالقصصي لتوضيح وجهة نظر الشخصيات وإبراز هوية الشخصية.

قال الأول: لو لم يمت البطل لكان الفيلم عظيما
قال الثاني: أما أنا فقد نمت طويلاً
وقال الثالث: أجمل ما في الفيلم الجياد

حوار أحياناً يوضح واقعية القصة حينما يشير إلى أحداث الماضي.

قال الأول: مزقني المدفع في كرري
قال الثاني: أهلكني الجوع بصحراء العتمور
وقال االثالث: قد هشم رأسي الترك الأفظاظ

استخدام الحوار في هذا العمل وإدماجه في تضاعيف السرد والوصف أكد الملامح القصصية . ويستلفت الانتباه أيضا لغة الحوار التي حاولت أن تعكس طبيعة بناء الشخصيات القصصية، وأن تقصر الملامح المحلية للمكان المسرود عنه .
(العز لمين) لاستحضارها التعبيرات الموغلة في عامية أم درمان (صباحات الله بي خيرن).

4- خاتمة :
هدف هذا المقال تبيان الملامح القصصية في عمل علي المك الموسوم بـ (مدينة من تراب).. نجمل ما أشرنا آنفا إليه :

(أ‌) أسهم علي المك إسهامات ثرة في مسيرة الأدب السوداني؛ وتعددت وجوه الإبداع لدية ترجمة ، وكتابة للمقال الأدبي ، والقصص القصيرة ،إضافة إلى كتابة مقدمات بعض الكتب، ومؤلفه الشهير (مختارات من الأدب السوداني).

(ب‌) حدد الكاتب عمله الإبداعي، وعنونه بـ (مدينة من تراب)، وأضاف في العنوان الفرعي الشارح عبارة "نثر شعري".

(ج) حاول المقال تقصي ملامح القص في العمل.. وقد يلاحظ توفر عناصر القص فيه، وكذلك الأجواء القصصية العامه. مثلت تجليات القص في (مدينة من تراب) في :
1- السرد.
2- التشخيص
3- المكان
4- الحوار القصصي
5- هيمن على العمل الزمن الماضي واستعادة سرد من ذاكرة تحن إلى الماضي؛ يستعين فيها بإعادة كرة المدينة التي وصفها في أحد كتبه وفي الإهداء (العيش في أم درمان صبابة).

*****

المصدر:
على المك، مدينة من تراب (شعر نثري) دار الطباعة والتأليف والترجمة والنشر، جامعة الخرطوم 1974م.

هوامش ومراجع:
1- تأملات في سيرة علي المك وأدبه (مقال لكاتب السطور) في مجلة الخرطوم عدد مايو- يونيو 1994م.
2- معجم مصطلحات الرواية مادة: سرد
3- سابق مادة: شخصية
4- نفسه مادة: حوار
*********************

Post: #26
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: د.أحمد الحسين
Date: 04-27-2009, 12:33 PM
Parent: #25

برقية عزاء لام درمان
مرثية للفقيد البرفيسور على المك

أحمد مصطفى الحسين


وكان مثل شجرة النخيل
لاتشتكى .........
توزع الثمار للغريب والقصير والطويل
وجذعها مغبر وأغبش نحيل
وكان عاليا (على) ....
وكان شامخا ........
شموخ النيل حينما يرتاح عنده الأصيل
وصوته المديد .. والوئيد .. والظليل
يضمخ المكان بالشذى ..
ويغرق الزمان فى الرضى ..
يذيب كل ممكن وكل مستحيل
يرش نكهة التراب خارج المدى ..
يعبىء العروق بالندى ..
ويلبس الحروف من هواء (ام درمان )...
بردة .. وذيل
ويغزل الكلام فرحة ومتكأ
أواه ..! (أم درمان ) قومى أندبى على ...
وأترعى الفضاء بالنواح والعويل
ولونى حيطانك الغبراء بالسواد ..
وأدهنى النهار ليل
أواه ..! (أم درمان)
قومى أثكلى (على)
(وأردحى) .. وأخلعى وقارك الجليل
واعلمى على (على)
لابأس ان تمزق الجيوب لوعة ...
تعفر الروؤس بالتراب ..
وتحلق االاشجار شعرها ويحزن النخيل
وتعلن الحداد كل وردة .. وزهرة .. وكل جيل
وترفع النساء صوتها ..
وتكشف الشموس حزنها ...
وينكفى القمر
*************
أواه ..! (أم درمان)
قومى أندبى مصابك النبيل
وودعى خليلك الوليد
وعانقى نساء الحى
( ولولى )
وعددى مآثر الفقيد
قد كان عالم المنثور من كلامنا ..
وكان عاشق القصيد
وكنت فى إنتظاره سنين ..
(دائراك يا على تكبر تشيل حملى )
فصرت فى أشعاره حنين
(أحى يا على الفارس البقود تسعين)
فمات ناضجا .. جنين
سلامنا له ..
غفرانه ..امين

Post: #27
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: سلمى الشيخ سلامة
Date: 04-27-2009, 12:57 PM
Parent: #26

امتاز الراحل على بحبه للاذاعة والعمل الاذاعى
كان له عدة برامج اذاعية لعل اهمها برنامج كان يعنى بالقصة القصيرة
وعديد برامج
كنت العام 1989 ضمن مجموعة اختارتها ادارة الاذاعة فى رمضان من ذلك العام
مشينا اليه حاملين اجهزتنا للتسجيل
كانت المدة المتاحة لنا هى ربع ساعة فقط
لكنه كان حديثا لا تمله النفس
طفق يحدثنا لمدة تجاوزت الساعة
والحديث كان عن رمضان فى السودان الذى عرفه على
فطاف بنا بين الاحياء والناس والمشهد الرمضانى
فلم نخرج من لدن مكتبه الا ونحن على ابواب الافطار حيث دخلنا مكتبه فى الظهيرة

حين كان العام 1988 كنت حينها دخلت الى عضوية اللجنة التنفيذية لاتحاد الكتاب السودانيين
وكان ان اوكلوا الىّ كتابة "المحاضر "
فكان كلما عنت له "حكاية "يقول
ـ يا سلمى الكلام دا ما للتسجيل
ويبدا قصة مشوقة تعقبها اخرى "وينقسم الليل" اويكاد
حتى يتدخل الاستاذ كمال الجزولى
ـ يابروف الزولة دى ساكنة بعيد ومافى مواصلات انت عارف خلينا نخلص الاجندة
ويرضخ الحبيب على ونضحك من طرافة قصصه
الله ياعلى يا مك

لعل معرفتى به امتدت لسنين طويلة دون ان نتعارف الا فى الثمانينات
يوم ان كان يراس تحرير الملف الثقافى فى جريدة الصحافة
كنت ايامها اشتغل فى جريدة الايام
وكان عيسى الحلو على راس الملحق الثقافى
مددت له ذات يوم بقصة كتبتها كانت اول قصة لى اطلب نشرها
لكن عيسى ما لبى لى طلبى
فحملتها باتجاه بروف على المك
بعد يومين جاءنى مرتضى الغالى ضاحكا
ـ انتى بتكتبى فى كل الجرايد؟
قلت له
ـ كيف؟
فمد لى صحيفة الصحافة "فاتحا "صفحة الملحق واشهدنى على اول قصة منشورة لى فى تلك الصحيفة
وبات كلما التقينا يسالنى عن اخر قصصى
فتح لى باب النشر على مصراعيه

قلت انى كنت اعرفه من سنوات طويلة
فلقد كان الصديق الحميم للخال الراحل ايضا صلاح احمد ابراهيم
كانوا يعقدون "ندوة " مفتوحة فى بيت الخال صلاح
ذالكم البيت الذى شهد مولد شعراء وكتاب وفنانين عددا
كنا نسميه"الفيلا" فهو مغلق امامنا لكننا كنا نمشى احيانا حين يكون الفنان محمد الامين موجودا هناك
وندعى اننا "جبنا الحاجات "للخال
يالعلى العالى الذى لم يكن يرى الينا سوى بشر احبهم
واحببناه
طالعنا كتابه المشترك مع صلاح احمد ابراهيم ونحن فى يفاعة الصبا
تلك المجموعة القصصية المشتركة لعلها "البرجوازيةالصغيرة
رحم الله صلاحا وعليا
فلقد وهبانى على نحو خاص معارف لاحصر لها
شكرا لك ياصديقى الودود عبد القادر الرفاعى
فمازال طعم الدمع يوم التقينا اخر مرة عالقا بروحى

Post: #28
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: Mohamed Abdelgaleel
Date: 04-27-2009, 01:14 PM
Parent: #27

Quote: لعنة واحد إصابته - إن كانت لعنة - (حرفة الأدب) - التي تفجرت في القصة، والترجمة، وكتابة المقالات،والسيناريو. من كل هذه كان حلمه، وواقعه تفانيا في الغوص العميق ليمسك بالنص أي كان نوعه الأدبي منتجا اللون والطعم السوداني.


متابعة تتوقع المزيد
رحم الله استاذنا على المك

Post: #29
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: Osama Mohammed
Date: 04-28-2009, 12:02 PM
Parent: #28

ملف رائع ومرتب بعناية .... وأخص اعجابي بكتابة استاذة سلمى الشيخ ففيها جانباً آخر ...

لا زالت خطبته في تكريم الراحل عبد الله الطيب ( قبيل وفات على المك بشهور على ما اعتقد) .. لا زالت تلك الكلمات ترن في اذني كلما اتذكره واتذكر منها حديثه عن الكونكان وعن الموظف المصري الذي الف ارجوزة عن الكوناكان يقول فيها ( عن الكونكان أبي أربعة عشر )
والأصل في الكونكان أن لا تنزلا
وجوّز النزول إذ لا أملا



رحمه الله .... وشكرا لمن ساهم في تجميع هذه المواد

Post: #30
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: باسط المكي
Date: 04-28-2009, 12:45 PM
Parent: #29

علي المك
اه رحل ونحن يادوب ماعرفنا..
كنت بسمع برانامج مدينو من تراب
متابعة .في حلقات ...
حزنت عليه شديد .وماذلت
اتمني ان تكون هناك تسجيلات صوتية .
بصوت علي المك ..ياؤريت انا حاولت وفشلت

Post: #31
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: فيصل محمد خليل
Date: 04-28-2009, 03:16 PM
Parent: #30

خمس قصائد لـ غارسيـا لوركــا ... ترجمة على المك
_______________

(1) أغنية ماء البحر

البحر من بعيد يبتسم
أسنانه زبد
والشفاه من سماء
وأنت يا فتاة كدرة المزاج
خداك صوب الريح
ما بضاعتك ؟
سيدي :
أني أبيع ماء البحر
وأنت أيها الأسمر الفتى
ما الذي لديك بالدماء يمتزج ؟
سيدي
ذاك ماء البحر
وأنت يا أماه
من أين تأتي دموع الملح ؟
سيدي
أنما أبكي بماء البحر
ويا قلب وانت،ثم هذا القبر
من أين ينبع الأسى ؟
أجاج ماء البحر
البحر من بعيد يبتسم
أسنانه زبد
والشفاه من سماء

(2) غرة الصباح

وكمثل الحب
فالرماة عميان
في الليل الأخضر
آثار السهام الدافئات زنابق
سفينة القمر
تحيل السحاب مزقا
والكنانات ملؤها الندى
آه ، كمثل الحب
الرماة عميان

( 3 ) تضريعـات

مياه الهواء ساكنة
تحت غصن الصدى
مياه المياه ساكنة
تحت سعف النجوم
مياه ثغرك ساكنة
وتحتها من القبلات أجمة

(4) أغنية المسافر

قرطبة
نائية وحيدة
مهر أسود ، قمر ضخم
وفي خرج السرج الزيتون
ورغم أني أعرف الطريق
فلا سبيل أبلغ قرطبة
عبر السهل ، عبر الريح
سهر أسود ، قمر أحمر
والردى إلى ناظر
من على قلاع قرطبة
آه ألا ما أطول الطريق
آه ، أيا مهري الشجاع
آه ، فذلك الموت ينتظر
قبل بلوغ قرطبة
قرطبة
نائية وحيدة

( 5 ) حقيقة الأمر

ما أعظمه من جهد
أن أهواك كما أهواك
بسبب هواك
تعذبني الأنسام وقلبي
تؤلمني قبعتي
من مني يبتاع وشاحي هذا
وحزني ذاك
وقد صيغ من الكتان الأبيض
كيما يجعله مناديل
ما أعظمه من جهد
أن أهواك كما أهواك

Post: #32
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-28-2009, 05:40 PM
Parent: #31

أحمد بشير العبادي:
حديث عن الأنهار و المعالم و المدن ...
بقلم :علي المك





شهدت حفل التأبين إلا قليلا...

كنت أود حين وصلتني الدعوة للشهادة أن اكون قد أعددت شيئاً للمناسبة، فهنالك في ظروف الكاتبين والكتابة تراكم أشغال، وأعمال سآمة دنيوية، وغياب إلهام، مما يصيب العقول بالجمود و الصمم. فاتني أن أقول كلمة، مثلما قد فاتني قبل ذلك شرف الجلوس إلي حلقات دروس أحمد بشير العبادي. آنا كانت تمر عليها الأجيال، تأخذ من علمه ومن معرفته زاداً ووقوداً لحياةٍ طويلة النصب، شديدة العناء، بما يزيد عن حدود الصبر وآفاقه علي سعتها. لولا تلك الأسس الرصينة من أمثاله وأضرابه لانفجر الصبر نفسه ضجراً و إملالاً ... العلم النافع درع، و المعلم المفيد درع ... و هذان خير أسلحة في الحياة.

رأيت الذين درسوا علي يده قبل.. بعض أولئك.. فالكل مستحيل قدومه لمثل ذلك الوداع، منهم من غيبه الموت، وفيهم من قعد لا يستطيع حراكاً، ومنهم من تنازحت بهم الأوطان.. رأيت قسما من طلابه وعارفي علمه، ألوفاً هطلت عمائمهم البيضاء وجلاليبهم بلون الفجيعة، كانت علي مدافن البكري. ولعل الذين كانوا في الأجداث قد ثووا، قد تنبهوا لهولها ، فعرفوا جلال الموت مرتين...

ما رأيت حشداً كمثل ذلك الحشد منذ عهد بعيد... جمعا غفيراً كان... حركة أقدام تتقافز علي كوم التراب والحجارة، و تتقافز.. لا تريد أن تدوس علي المقابر القديمة. يضيق بالقوم المكان.. كان حزنهم فريداً..و نابغاً . ذلك الحزن كان من مواطن الحزن فينا... رأيته في رجل مخلص لكل ما ينبغي الإخلاص له.. ليس ذلك و حسب، بل كان نهاية عهد، كلما اتسم به العهد.. كان الاتزان والإخلاص لقضايا المجتمع، ومدن العلم المشرئبات الي العلي، و للعلم نفسه.. اكتملت صورة العهد الفريد فيه، وما بقي فينا للنسمي، مخلصين مثل أهلها، مثابرين للمعالي شأن أهلها، مناضلين لمثلها العليات. إن البكاء العاجز عليها، والأسي لي الساعة أرثي للمدينة، وآسي وأنا أبهر بأركانها تهتز، تنهد و نحن دون علم بنا.

ربما في غفلة وفي تفريط نودع أناساً، رجالا كانوا عمد هذا الوطن. ولفرط ما منح أولئك حياتنا من ظل وريف وراحة فكر، ونعيم علم، نظن أن ظلالهم التي منعت شمس الجهالة أن تهطل علينا، باقية لن تزول، وكنا واهمين. أولئك قوم أدوا رسالتهم وعلمونا أن نقوى، وأن نشتد فكراً وساعداً وثبات قلب.. بصورة أدق، خلفوا علينا عبئاً، ظنوا أننا خليقين بحمله والسير به وتسليمه للأجيال في سباق مبادلة مع زمان أسحم، وعدد مبين جم الترصيد؛ ولكننا كنا دائماً نطلب عونهم و نبكي.. علمونا، فأخفقنا كثير أحيان.. عادوا يصلحون من شأننا فسقط جلنا دون أن يبلغ المراد.. صارعوا الاستعمار والظلم، فصارعنا أنفسنا.. ونسينا هذا الوطن.. آه ما أجل الأسي.

آخر مرة رايته فيها كان يتأهب لدخول جامع خضر النحاس يوم الجمعة، صلاة الجمعة.. كان يبدو وقد فرع المصلين المتوافدين الي الحسنات والمكارم طولاً.. وكما ألفته سنين طويلات، كان مهيبا جليل الخطي. هو رصانة ووقار.

منذ أن كنا نحضر إلي البيت في ذلك الحي القريب من دارنا، حي قديم، ودار قديم.. زقاق يفضي إلي حلة المغاربة.. وهي، رغما ً عن أن الناس قد اصطنعوا لها اسما، قنعت به، وأعجبها لونه، زقاق واحدلا يزيد، يمتد متعرجاً خيرانه أخاديد، وحصاه لهب.. يرفد من الشمال إلي الجنوب، ثم ينفذ ضلع من أضلاعه يباغ نوعا من الشرق يقود الأعمي والبصير والمريض والسليم إلي جامع خضر النحاس، وإلي طاحونة كولوبس .

ورغماً عن قول اللافتة السوداء، وبعض المتعلمين طاحونة (فيلبس سيدهم)، إلا أن ذلك لم يزل اسم كولوبس عن عقولنا، لأنه استقر بهاو صار من ارادة الشعب. أما هذه الطاحونة، فدرست وصار شأنها أشغال اخري. وأما المسجد، فبقي وحفظ الله له طول مئذنته قامة وشأن وصلاح يؤمه كل الأوقات، وتستبد مئذنته بالجهات الأربع نظراً، وهو من بعد غض النظر، وأذان تنثره علي آذان الحي، وتلتمع الأعين به نورا- وإن أعشت. و الشارع مكان الزفة.. إلي مطالع رمضان يهفو، وإلي مولد النبي صلي الله عليه وسلم، و طريق الناس إلي المعالي. وأم درمان كلمتني أنها تفاخر به البلدان و الأمم.

كنا نأتي دار العبادي أيام الإجازات من وادي سيدنا ومن الجامعة.. سعد عبادي أسن منا، وأنه يفوقنا حجماً، بشير دفعتنا، وكان شاطراً في الرياضيات وطلاسمها وألغازها، وفي سائر معارف عصره. وكنا دون إعلانٍ أو معالنة نعده لصراع المجد و التفوق.. وعرفنا مصطفي، ثم اتصلت سبل المعرفة جيلاً يحمل مشعلاً إلي جيل، فأضاءت مشاعلنا لحين أن بصرنا ( كرار) و ( كمال) و ( السر)؛ و مخبزالأفراح وكهربة عامر.. رجال ما فيهم إلا شهم و إلا نبيل.

في هؤلاء الهل سمة مدينتي أراها كما عهدتها، تهب لنجدة الضعيف، (تقنع الكاشفات)، ولا تدوس الحاجة عفاف أبناءها، في الملمات و الأفراح.. يلتفون حولك يؤازرون مؤازرين، حتي قبل أن تلتمس منهم عون.. ومن تربي علي الخير وعلي المروءة صار هما.

حزن فريد .. أكاد أعرف الحصي ولون الأسفلت في الشارع و شروخه، و أعرف كذالك وفاءه، ينقل المظاهرات الملتهبة علي الجمعية التشريعية.. و بأعين الطفولة قبلها، وأين جنودنا العائدين من حرب الفاشية في الصحراء الغربية وغيرها؟ ولم تتبدل به الحركة ولا وفاءه للناس.. يحملهم من أبوروف إلي السوق، ومن السوق الي الهجره والنهر وكشة العصاصير هنالك، وصانعو الحلوي و السروجي والحلاقون، وسبيل نايل.. والترام يسرع مخادعا، يهدئ روع نفسه ومن ثم أنفاسه المبهورات يلتقطها.. بأعين الترام أري (سبيل نايل)، لا هو محطة ولا هو سندة .وما للترام به شأن، لأنه أقيم للسابلة و للظمأ اللاغب والعطش الحراق.

أتحدث عن المعلمين الذين جاءوا بعده ودرسنا عليهم ما درسوا عليه.. بذل لهم بسيط العلم، وما بذلوه لنا يتجدد فيهم ويشيخ ..حينما أتحدث عن المعلم أحمد بشير العبادي فأن الكلام كثير والكلام يجدي ولا يجدي أحيانا.. فأي حديث يفي حين نواجه الأنهار والمعالم والمدن؟

******

Post: #33
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: Abdul Monim Khaleefa
Date: 04-28-2009, 10:35 PM
Parent: #32



يا مسافر وناسي هواك
**************

معذرة لم تنجح لسبب فني محاولة تنزيل أغنية سيد خليفة "يا مسافر وناسي هواك من اليوتيوب".. أين أنت يا أخ معاوية؟ مع التحية لك والأصدقاء في دنفر كلورادو.
محبتي
عبد المنعم خليفة

Post: #34
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد القادر الرفاعي
Date: 04-28-2009, 10:47 PM
Parent: #33



يا مسافر وناسي هواك
**********

أعزائي بكري أبوبكر، عبد المنعم خليفة، فضيلي جماع ، فيصل محمد خليل، د. أحمد الحسين، د.احمد طراوة، محمد عبد الجليل، باسط المكي، سفيان بشير، حسن طه محمد، معتصم مكاوي، كمال عباس، أسامة محمد.. و بالطبع كلكم بدون فرز.. وقبلكم العزيزة سلمي الشيخ سلامة.

في ردهات قصر سودانيزأونلاين، وفي حضرة العبقري الراحل الباقي العزيز علي المك التقينا، والتقينا قبل ذلك . لقد أسعدت حقا بلقاء السحاب هذا، لانكم جعلتم من الملفات المتواضعة مهرجاناً للثقافة والفن، وحولتموها منابع للارتقاء والتنوير، و ثراء للمتعة العقلية الخالصة، وإلي قبلة سياحية ثقافية ستشجعنا حتما للقاء العشرات من المفكرين و الأدباء و الفنانين و السياسين ... وفاء لهم و انحناء؛ فلن تفلت السانحات من بين أيدينا .
يقول الشاعر حجازي :

أصدقائي نحن قد نغفوا قليلا
بينما الساعة في الميدان تمضي

إذاً، وحتي لا ينطفئ الوقت، فإن الكنز الذي بين ظهرانينا لن ندعه يمضي بعد أن لمع نضار شعبنا المخبوء منذ الأزل .. فلنجعل منه شعاراً لنا من أجل وطن حر وشعب سعيد .. من أجل نساء خالدات و رجال خالدين.

لكم ودي واعزازي و محبتي

عبد القادر الرفاعي
2009\ابريل\28



Post: #35
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: nada ali
Date: 04-28-2009, 10:47 PM
Parent: #33

Thank you for this Dr. Al Rifai! Really appreciated.

best regards
nada

Post: #36
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: elsharief
Date: 04-29-2009, 06:21 AM
Parent: #35






رسالة من البروفسير على المك الى على الماحى السخى
اعترف باننى كنت اضعف الايمان,العن ولا اقدم شيئا
لايقدر على كسر الاغلال سوى الشجعان الصناديد

نشرت بالميدان بتاريخ 31 اكتوبر 1985

اعتقد اننى قد غنمت صداقتك قبل ان اراك ,والصداقة الحقة هذه الايام اندر من اسنان الدجاج,وانى لطشت هذا التعبير الذي اراه بارعا من كاتب وشاعر ايضا اسمه لانجستون هيوز وعلى كل فان هذا ليس مجال الحديث عن اسنان الدجاج,الخل الوفى, او العنقاء.

قرأت رسالتك الجميلة الى منظمة العفو الدولية,ترد بها على رسالة وصلت اليك منهم,حدثني من لا اتهم ان رسائل المنظمة كانت تخترق اسوار السجون طال بها الزمن ام قصر,وكنتم تقرأونها.تصل كانت كمثل مايصل الهواء لايمنع وصله احد وكما تطلع الشمس لا يحجب ضياءها احد,ومثلما ترتفع السحب فى سماء تعلق نفسها لا يعارض سموها احد,انا بذلك جد سعيد.

اغرتني رسالتك بالنظر الى نفسي نظرة جوالة,عاينت نفسي من داخلها,واذكرتها اياما يابسة جفافها عجيب...يحصونها بعمر الزمان..يقولون ستة عشر عاما,سالتني نفسي لماذا لا تقولون ستة عشر سنة؟ الان( العام) مذكر,والسنة انثى؟ام مازالت دنياكم تفكر بتلك الطريقة العقيمة؟سكت, وماعندي لها من جواب..نفسي سرحت بعدها,اجيل النظر حيث ينبقي لي وحيث لا يكون ذلك,وكما تعلم فان البحث فى النفس ومعاتبتها امر لايقدر عليه الا قليل من الناس....
ان المسافة بين سجن كوبر والبيت الذي اسكن فيه في بري جسر واحد,والمسافة بين وجود هذا السجن والاحساس به لبعض من هم خارجه وهم لا نهائي.. بضع عشر سنة كان الحديث فيها عن التعذيب تفيض به المجالس والجلسات,يتورم الحدث بين جلسة واخرى,ومجموعة واختها.
ماذا فعلت انا مثلا؟ كنت مشغولا بالركض اللاهث, عهد كانوا يرمون الناس فى السجن و يعذبون ويقطعون من خلاف ويشنقون ويقتلون اللغة, وتعلم انهم صلبوا منسوبات الاسماء!!
كنت اضعف الايمان العن الحياة ولا اقدم شيئا فيذكر لصياغة معالمها.

عزيزي على الماحي
لقد اذكرتني رسالتك العذبة زمنا لعهد الحداثة والصبا آمنا فيها حق ايمان اننا قادرون على طرد الاستعمار عن البلاد. وانه يمكن لتلك الفئة المؤمنة ان توقف الحرب الثالثة الكبرى تنذر بعد اختها الثانية,وما قد خلفت تلك من ويلات ودمار وبؤس وعار. كنا نجمع التوقيعات على نداء برين ونداء ستوكهلم,ونلوذ بالظلال والجدران والسوق والبحر الصخاب ان يبطش بنا ما كنا نسميه( البوليس السري) واضحك الساعة فالبوليس السري من ام درمان كلها- آ نذاك - من ابي روفها للموردة الى ود نوباويها بضعة افراد يلبسون الجلاليب تخفيا ويعلنون بمناديل البوليس الحمراء والصفراء عن الهوية وعن البضاعة كلتيهما. ونجمع التوقيعات .لا باس طفنا بالنداء(القصيرية) و(سوق العناقريب) و (الملجة) وقرأ الطلاب والخضرجية والسمكرية والخراطون واهلات الحرف ومن لا عمل لهم ,ثم وقعوا عليه ومن لا يعرفون الكتابة جعلوا على الورق بصماتهم,بعض أولئك ما سمع بأستوكلهم ومنهم ما لا يعلم اى خط عرض يلاقى اي خط طول فتكون برلين, وهي ايام عذبة المذاق ثم تجيء الينا سنوات يصير فيها البوليس السري الى شئ اكبر من المناديل والجلاليب,لكل مدينة نصيبها الوفير..جند منهم وآلات,ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل,وما ليس بمستطاع وكنا عدوهم وهم لا ريب عدو الله وانهم قد نفذوا الى المؤسسات والمصالح والمصانع ودور الرياضة واماكن الترفيه,فكانوا للضاغوت جنودا ومنها العسل, فكان اولائك القوم يكتبون ويرسلون الرسائل ويصورون ويرصدون النشاط اليومى لزملائهم... فلان ذهب للفطور تحدث بالتلفون,دخل مع فلان وخرج مع علان,سمعناه ينشد شعرا... حرم عليكم امرؤ القيس وطرفة بن العبد وصناجة العرب واعمى المعرة ولوركا ومحمود درويش, قالوا, وكتبت العيون فى المؤسسات والجامعات ودور الرياضة تقاريرها للامن,.. ويقيم الشرفاء بذلك السجن الكائن شرق النيل, اقول كنا لعهد الحداثة والصبا نضرب عن الطعام ليخرج الانجليز ومن الناس من سخر منا,وخرج الانجليز, ماذا الم بي عهدا طوله ستة عشر سنة؟ ضعفت؟ فترت حماستي؟ رسالتك تلك الرقيقة جعلتني اجيل النظر فى انحاء نفسي,رسالتك زلزال سانحة تغري المرء ان يصفى دمه من شوائب ذلك العهد,ان للأسرة اغلالا , وللولد اغلال, فذاك زمان شظف العيش زمان تطير الاسقف عن الجدران , او ان الخوف والمسغبة. لايقدر على كسر الاغلال سوى الشجعان الصناديد... اعل الايمان بالشعب, لقد باع لنا اعلام ذلك العهد بضاعة كاسدة ولاذوا وعالنوا بالكذب.

عزيزي على الماحي

انني اتصور ليلاتك فى السجن,فى خيالك زهراتك... والزهرة الكبرى هذا الوطن, واتصور الجدران تحيط بكم والطعام الغليظ. كان المفكرون فى مصر يتحدثون عن سجون الملك فاروق ويكتبون عن اكلهم الطعام( ممزوجا بالاسمنت)... وكلمونا كيف تصنع السجون صنوفا من السقام لايعرفون مصدرها ,وتصنع السل والاكتئاب.... وفى خارج كوبر وشالا وسجن بورسودان وغيرها يركن بعض الناس للكلام عن اي المخابز رغيفها ناعم وابيض واي الطلمبات بنزينها وفير وعمالها فيهم سخاء ونخوة فلا يعترفون بالحصة المقررة ولا بالتموين...فى دمنا يا اخي على بعض هذا...أريد لهذا الدم ان يصفو..وتيسر لى كلماتك النابهات العلاج.

عزيزي علي الماحي
أعتقد انني قد غنمت صداقتك قبل أن أراك,والامر بين يديك ولك من بعد تقديري ومودتي الخالصة.


Post: #37
Title: Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك
Author: عبد الباقي الجيلي
Date: 04-29-2009, 03:27 PM
Parent: #36

تحيات نديات د. عبدالقادر الرفاعي ..
ما زلت أذكر أول وآخر مرة التقينا فيها بمنزل الأخ د. إبراهيم الطريفي بمدينة القويعية بالسعودية ..
قضينا يومها وقتاً دسماً جداً .. أكثرنا الحديث يومها عن ذلك الهرم النوبي الشامخ ..
متع الله الجميع بالصحة والعافية .. وللود قضية لا تفسد ...
اكتب ففي حضرة كتابات الأدباء ، .. نقرأ بأدب ..