" المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "

" المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "


08-26-2003, 06:18 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=2&msg=1061918311&rn=0


Post: #1
Title: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 08-26-2003, 06:18 PM

اذا استثنينا كتاب الحق، جل و علا: القراّن الكريم، فان الكتاب الاّخر الذي ترك أثرا بالغا في نفسي و عقلي هو مؤلف الدكتور الفيلسوف: زكي نجيب محفوظ: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري ". يقع الكتاب في 490
صفحة من الحجم المتوسط و يحتوي علي مقدمة و ثمان فصول و فهرس تحليلي، يقع في ذيل الكتاب. اشتمل الفصل الأول علي خطة السير التي اقتفاها المؤلف في تدبيج الكتاب. و أفرد المؤلف ست فصول من كتابه، بداية بالفصل الثاني و نهاية بالفصل السابع، لمعالجة موضوع:" المعقول في تراثنا العربي الفكري "، و ذلك يرجح قناعة المؤلف ان حجم المعقول في تراثناالعربي يفوق اللا معقول منه. و ركز الفصل الثامن، و الأخير، من الكتاب علي جانب اللا معقول في الترث الفكري العربي.000000000000000000000000000000000000000000000000

يتضح من مقدمة الكتاب أنه جاء مكملا لمبحث أساسي خصص له الكاتب مؤلفه السابق: " تجديد الفكر العربي ". و قد طرح المؤلف في كتابه السابق: " تجديد الفكر العربي " سؤالا مؤداه: " كيف السبيل الي ثقافة نعيشها اليوم، بحيث تجتمع فيها ثقافتنا الموروثة مع ثقافة هذا العصر الذي نحياه، شريطة ألا يأتي هذا الاجتماع بين الثقافتين تجاوزا بين متنافرين، بل يأتي تضافرا تنسج فيه خيوط الموروث مع خيوط العصر نسج اللحمة و السدي؟ ". و كان الجواب الذي وصل اليه المؤلف اّنذاك هو : " ان نأخذ من الأقذمين و جهات النظر بعد تجريدها من مشكلاتهم الخاصة التي جعلوها موضع البحث، و ذلك لأنه يبعد جدا - لتطاول الزمن بيننا و بينهم - أن تكون مشكلات حياتنا اليوم نفسها مشكلاتهم. و اذن لم يعد يجدي أن يحصر المؤلف بحثه في مشكلات الأقدمين التي طويت موضوعاتها طيا، و لكن الذي يعود علينا بالنفع العظيم، من حيث الحفاظ علي كيان لنا عربي الخصائص، هو أن نحتكم في حلولنا لمشكلاتنا الي المعايير يفسها التي كانوا قد احتكموا اليها.000000000000000000000000
و زعم المؤلف في محاولته للاجابة علي السؤال المطروح أن النظرة العقلية برغم اختلاطها بكثير جدا من عناصر اللا عقل، كان لها شيئ من الظهور عنداّبائنا من العرب الأقدمين، بمعني أنهم كلما صادفتهم مشكلة جماعية التمسوا لحلها طريقة المنطق العقلي في الوصول الي النتائج. و كادت النزعة اللا عقلية العاطفية عندهم أن تقتصر علي الحياة الخاصة للأفراد. فلقد كانت للاقدمين في طرائق العيش الجماعي " حكمة " - و الحكمة انما هي نظرة عقلية مكثفة.00000000000000000000000000000000000000000000000000000
اراد المؤلف بهذا الكتاب : " المعقول و اللا معقول...." أن يقف مع الأسلاف في نظرتهم العقلية و في شطحاتهم اللا عقلية - كليهما - فيقف معهم عند لقطات يلقطها من حياتهم الثقافية ليري : من أي نوع كانت مشكلاتهم ، الفكرية، و كيف التمسوا لها الحلول. و هو اذ يفعل ذلك، لم يحاول أن يعاصرهم أو يتقمص أرواحهم ليري بعيونهم و يحس بقلوبهم، بل اّثر لنفسه أن يحتفظ بعصره و ثقافته بينما هو يستمع اليهم - كأنه الزائر الذي يجلس صامتا لينصت الي ما يدور حوله من نقاش، ثم يدلي فيه بعد ذلك - لنفسه و لمعاصريه - برأيه يقبل به هذا و يرفض ذاك.000000000000000000000000000
قسم المؤلف كتابه قسمين جعل أحدهما علي طريق العقل، و جعل الاّخر لبعض ما يراه عندهم مجافيا للعقل. و تعمد المؤلف أن يجيئ القسم الأول أكبر القسمين لتكون النسبة بين الحجمين دالة بذاتها علي النسبة التي راّها واقعة في حياتهم العقلية بين ما وزنوه بميزان العقل و ما تركوه لشطحة الوجدان.0
و قد اهتدي المؤلف في رحلته علي طريق العقل بدرجات من الادراك في صعودها من البسيط الي المركب. و نظر المؤلف حوله فلم يجد ما هو أبلغ في تبيين تلك المراحل الادراكية في خط سيره من تلك المراحل التي أشار اليها الامام أبو حامد الغزالي عند تأويله الّية النور : " الله نور السموات و الأرض. مثل ، نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة، زيتونة، لا شرقية و لا غربية، يكاد زيتها يضيئ و لو لم تمسه نار. نور علي نور. يهدي الله لنوره من يشاء ". و النور هو قوة الادراك، و هو يتصاعد في مراحله الادراكية. و المراحل التي أشار اليها الغزالي هي : المشكاة، المصباح، الزجاجة, و الزيتونة. و قد تداعت تلك المراحل الادراكية عند المؤلف الي درجات من الوعي تتصاعد و تزداد كشفا و نفاذا. و استخدم المؤلف بدوره هذه المراحل ليري من خلالها خمسة قرون من تاريخ الفكر في المشرق الغربي - من القرن السابع الميلادي الي بداية القرن الثاني عشر - أذ خيل للمؤلف أن القرن السابع قد رأي الأمور رؤية المشكاة، و الثامن راّها رؤية المصباح، و التاسع و العاشر رأياها رؤية الزجاجة التي كانت كأنها الكوكب الذري، ثم راّها القرن الحادي عشر رؤية الشجرة المباركة التي تضيئ بذاتها. " و ذلك لأن المؤلف رأي أهل القرن السابع و كأنهم يعالجون شئونهم بفطرة البديهة، و أهل القرن الثامن قد أخذوا يضعون القواعد، و أهل القرنين التاسع و الهاشر صعدوا من القواعد المتفرقة الي المبادئ الشاملة، ثم جاء القرن الحادي عشر بنظرة
المتصوف التي تنطوي الي دخيلة الذات من باطن لتري الحق رؤية مباشرة ".0
كذلك تصور المؤلف لكل مرحلة من تلك المراحل سؤالا محوريا كان للناس مدار التفكير و الأخذ و الرد. ففي المرحلة الأولي كانت الصدارة للمشكلة السياسيةو الاجتماعية : من ذا يكون أحق بالحكم؟ و كيف يجزي الفاعلون بحيث يصان العدل كما أراده الله؟ و في المرحلة الثانية كان السؤال الرئيسي : أ يكون الأساس في ميادين اللغة و الأدب مقاييس يفرضها المنطق علي الأقدمين و المحدثين علي سواء، أم يكون الأساس هو السابقات التي وردت علي ألسنة الأقدمين فنعدها نموذجا يقاس عليه الصواب و الخطأ؟ و في المرحلة الثالثة كان السؤال هو : هل تكون الثقافة عربية خالصة أو نغذيها بروافد من كل أقطار الأرض لتصبح ثقافة عالمية للانسان من حبث هو انسان؟ و جاء القرن العاشر فأخذ يضم حصاد الفكر في نظرات شاملة، شأن الانسان اذا اكتمل له النضج و اتسع الأفق، و ها هنا مرحلة خاتمة يقول أصحابها للعقل : كفاك ! فسبيلنا منذ اليوم هو القلوب المتصوفة.000000000000000000000000000000
وأما القسم الثاني من الكتاب ففيه نظرة موجزة علي جانب اللا معقول من التراث العربي الفكري. و حاول المؤلف أن يحلل المعني المقصود بمصطلح : " اللا معقول " حتي لا ينصرف في الأذهان الي شتم و اظدراء. و اكتفي المؤلف من جانب اللا معقول بصورتين : التصوف أحدهما ، و السحر و التنجيم ثانيهما.0000000

تراءاّي للمؤلف أن المراحل التي استهدي بها في تتبع مسار العقل في التراث العربي : بداية بخواطر البداهة، ثم محاجات المنطق، و نهاية بالحدس الصوفي هي نفسها الأسس التربوية التي وصل اليها الفيلسوف البريطاني المعاصر
Alfred Whitehead
في كتابه : " أهداف التربية " و التي حاول فيها الوصول الي أسس مقنعة يقوم عليها تقسيم التعليم الي مراحل يتلو و يكمل بعضهت بعضا في مراحل العمر المختلفة.00000000000000000000000000000000000000000000000000

( سأواصل الكتابة في مرة قادمة، بمشيئة الله.00000000000000000000000000

Post: #2
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 09-02-2003, 12:54 PM
Parent: #1

المحطة الأولي في خطة السير التي ابتدعها الفيلسوف العربي زكي نجيب محفوظ لكتابه: " المعقول و اللا معقول......"، مستهديا في ذلك بتأويل الامام الغزالي لاّية النور، كانت المعركة التي نشبت حول الخلافة بين علي ابن أبي طالب و معاوية أبن أبي سفيان، بما تمثله من مرحلة ادراكية في رحلة العقل العربي علي دروب التاريخ البشري، و بما ترتب عليها من نتائخ.00000000
يري الامام الغزالي أن الصروة الادراكية الأولي في تاريخ الأمم تجسمها المحسوسات التي تدركها حواس الانسانمن بصرو سمع و لمس و غيرها، و التي ركزت اليها اّية النور بالمشكاة. و في هده المرحلة الادراكية تكون الغلبة للادراك الفكري البديهي الذي يصدر أحكامه بغير لجوء الي تحليل و برهان. فأول مراحل الطريق تتسم بضرب من عفوية النظر، تري الفكر فيها و كأنه الومضات التي تلمع ، لا تدري كيف جاءت، لكنها- علي كل حال تضئ و تهدي. و يري الدكتور زكي نجيب محفوظ أن خير معبر لروح المرحلة الادراكية الأولي التي استهدي بها في خطة السير لكتابه الذي بين يدينا هو : الامام علي ابن أبي طالب و ليس غريمه في أمر الخلافة: معاوية ابن أبي سفيان، و التي بلغت أشدها باندلاع معركة صفينبين الفريقين المتخاصمين. فالامام علي، كرم الله وجهه، استحق صفة الشاهد المعبر عن الروح التي تميز القرن السابع ( الأول الهجري ) لما اجتمع فيه من أدب و حكمة و فروسية و سياسة في تأليف عجيب. " فماذا نقول في موقف امتزخ فيه أدب و فلسفة و فروسية و سياسة، مزاجا لا نستطيع معه أن نستل عنصرا منها لنقيمه وحده بعيدا عن سائر العناصر، فرجل السياسة هنا يرسل الرأي في عبارة مصقولة بحس الأديب، و الأديب هنا يصوغ العبارة بحكمة الفيلسوف، و الفيلسوف هنا ينتزع الحكمة ببديهته الصافية و السيف في يده و عنان جواده في قبضته. " و لعل الامام علي ههنا يحسم بصدق حياة السلف في تلك الفترة من زمانهم و ما كانت عليه ثقافتهم ووجهة أنظارهم في المسائل الحياتية و الفكرية التي تواجههم. و يري المؤلف : " أننا اذا رأينا أنفسنا - و هي ممتلئة ماتزال بزادها الفكري من عصرنا - اذا رأينا فيها ميلا الي جانب من المشهد دون جانب، ( من الالمأثورات الفكرية و السياسة المسنودة للامام علي أبن أبي طالب )، كان ما تميل اليه أنفسنا أقرب الي عصرنا، و بالتالي فهو أيسر مأخذا و أدل بأن يبعث حيا في زماننا. و لعل ما يسر مهمة الكاتب عقب اختياره للامام علي شاهدا علي عصره أن أقواله و خطبه جكعها الامام الشريف الرضي ( 970- 1016 )
في كتاب اطلق عليه اسم : " نهج البلاغة ". و يلاحظ المؤلف أن موضوعات " نهج البلاغة " تدور حول : الله، العالم، و الانسان، و هي نفسها الموضوعات التي يناقشها علم الفلسفة. فالرجل - و ان لم يتعمدها - فيلسوف بمادته، و ان خالف الفلاسفة في أن هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقا يحتويها علي صورة مبدأ و نتائجه، و أما هو فقد نثر القول نثرا في دواعيه و ظروفه.000000000000000000000000000000000000000000000000000
و يستطرد المؤلف بأنه عرف و قرأ " نهج البلاغة " في صدر الصبا، و هاهوذا يعيد قراءته هذه الأيام، فاذا النغمات قد ازدادت في الأذنين حلاوة، و اذا العبارات كأنها أضافت طلاوة الي طلاوة، و أما محصول المعني فلا يدري كيف انكمش أحيانا وراء زخرفه الكثيف. و يستشهد المؤلف بخطبة الامام علي التي ألقاها يوم بويع في المدينة : " ذمتي بما أقول رهينة، و أنا به زعيم، ان من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات ( بفتح الميم و ضم الثاء ) حجزته التقوي عن تقحم الشبهات، ألا و ان بليتكم فد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه صلي الله عليه وسلم ، و الذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، و لتغربلن غربلة، و لتساطن سوط القدر، حتي يعود أسفلكم أعلاكم، و أعلاكم أسفلكم، و ليسبقن سابقون كانوا قصروا ( بتشديد الصاد )، و ليقصرن سباقون كانوا سبقوا...ألا و ان الخطايا خيل شكس ، حمل عليها أهلها، و خلعت لجمها، فتقحمت بهم النار، ألا و ان التقوي مطايا ذلل، حمل عليها أهلها, و اعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة.0 حق و باطل. 0 فلئن أمر ( بفتح الألف، كسر الميم، و فيح الراء) الباطل، لقديما فعل، و لئن قل الحق فلربما ،و لعل، و لقلما أدبر شئ فأقبل ". و يري المؤلف ان اللفظ في الخطبة أعلاه بالنسبة الينا نحن أبناء هذا العصر، قد نحت من حجر الصوان، و صف بعضه الي بعض صفا عجيبا. و يخيل الينا أن اللفظ هنا قصد لذاته، فترانا قد شغلنا باللفظ، نعجب لقوته و براعة تركيبه لكننا لا نكاد ننفذذ منه الي شئ وراءه. و يقول المؤلف أيضا: " ان صلابة اللفظ تهيؤني لاستجماع قوتي كلها قبل أن أهم بحمل المعني الذي قدرت له أن يتناسب مع لفظه قوة، فاذا قوتي التي استجمعتها لم يستنفد منها الا أقلها، و ذهب معظمها هباء ".0
لا يري المؤلف في ما قاله نقدا لبلاغة " نهج البلاغة " ، فبلاغته مقطوع بها، لكنه أراد الاشارة الي الاختلاف البعيد بين ثقافتنا اليوم و ثقافتهم بالأمس. فالعرب الأقدمون يضعون اعتبارا كبيرا للصياغة اللفظية، أما
اليوم، فقد حلت محل الصياغة اللفظية المحكمة صياغة رياضية محكمة لقانون علمي استخدم في تسيير مركبة أو تحلية ماء من البحر الأجاج. و يستنتج المؤلف أن فكر المفكر في الزمن الماضي يعتمد علي بداهة الفطرة - و ذلك كان معيار النبوغ عندهم. و لما كانت عبقرية العرب الأصلية في لسانها، كان نبوغ النابغ مشروطا بقدرته علي الصياغة اللفظية. و يخلص المؤلف أن هذا الجانب من تراثنا لم يعد مطلوبا لحياتنا المعاصرة، دون أن يحد ذلك من الفيمة الفنية الأثرية لتراثنا الفكري القديم.00000000000000000000000000
ثم ينتقل المؤلف الي الخيط الثاني في مرحلة الادراك الأولي و هي الصراع حول الخلافة بين علي أبن أبي طالب و معاوية أبن أبي سفيان و الذي اجتمعت فيه فصاحة العرب الي شجاعتهم، كما ظهرت فيه أساليب الدهاة من ساستهم، و ثبتت فيه بذر أولي الأفكار سياسية و مذهبية ، كان لها بعد ذلك أقوي الأثر في توجيه التيارات الفكرية. و كل خيط في هذه الرقعة تراث، فاذا أحسسنا نحن المشاهدين استحسانا هنا و نفورا هناك، كان ذلك دليلا فويا علي أن بعض التراث صالح لنا دون بعض، حتي نستدرك ما يصلح من تراثنا الفكري لنحييه في عصرنا الراهن و ما لا يصلح لحياتنا الحاضرة فنوكل أمره الي وجال التاريخ.0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000

سأواصل الكتابة قريبا، باذن الله.000000000000000000000000000000000000

Post: #3
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 09-02-2003, 01:56 PM
Parent: #1

و لعل معظم القراء في هذا المنتدي ملمين بطرف بقصة الصراع حول الخلافة بين علي ابن أبي طالب و معاوية ابن أبي سفيان. و ما أحسبني بساردها باسرها ههنا، لكني أدعو قرائي الكرام باقتناء كتاب : " المعقول و اللا معقول ..." للاطلاع علي التفاصيل الكاملة لتلك القصة ليقفوا شهداء علي تلك الحقبة الحرجة من تاريخنا الاسلامي. الا أني سأشحذ قريحة حب الاطلاع فيكم بنقل الاسططر القليلة الأولي من قصة ذلك الصراع حسبما وردت في كتاب : " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري ".0000000000000000000000000000
بعد ان بويع علي في المدينة " بالخلافة " ، بعد مقتل عثمان، رفض اتباع عثمان تأييد البيعة، ( حتي يتم القصاص من قتلة عثمان ) و ما هو الا أن أخذ رجل منهم أصابع نائلة ( امرأة عثمان ) التي قطعت و قميص عثمان الذي قتل فيه، و قصد الشام، حيث كانت ولاية البلاد لمعاوية. فكان معاوية يعلق قميص عثمان و فيه الأصابع، فاذا رأي ذلك اهل الشام ، ازدادوا غيظا ، و أرادوا الثأر لغعثمان، و كان كلما رفع معاوية القميص و الأصابع، و فتر الناس عن طلب الثأر، حرضه عمرو أبن العاص أن يعيد القميص و الأصابع الي الأنظار، قائلا له : " حرك لها حوارها تحن. " الضمير في كلمة حوارها يرجع للناقة) فيعلقها. و هكذا بقي أهل الشام بولاية معاوية، علي قلق استبد بهم - يرفضون أن يبايع للمؤمنين أمير بعد عثمان، الا اذا أخذ القصاص من قتلته. و قد حدث ان بويع علي في المدينة، فبعث بمن يتولي امارة الشام. لكن هذا المبعوث لم يكد يدخل ارض الشام حتي اعترضته جماعة من الفرسان من أتباع معاوية, و دار بينهما الحوار التالي :.....راجع الكتاب.000000000000000000000000000000000000000000
من خدعة التحكيم انبثقت دولة ن هي الدولة الأموية. و منها كذلك تفجرت فلسفة للسياسة ، بدت بوادرها في جماعة الخوارج و من عارضوهم.0000000000
و يحلل مؤلف الكتاب مواقف الخوارج أثناء و بعد فتنة التحكيم، فاخذه في جانب منها العجب، و في الجانب الاّخر منها الاعجاب. و مصدر الاعجاب كما يراها المؤلف ما انتهي اليه الخوارج من مبادئ في سياسة الحكم، يحسب المؤلف أن المسلمين الأوائل لو أخذوا بها مخلصين لكان لهم شأن اّخر. و من تلك المبادئ أن الحكم يكزن لصاحب القدرة عليه لا الوارثين و لا للأقوياء أو الأغنياء، و أنه لا يجوز أن يكون بين العقيدة و العمل بها فجوة تفصلها. فاذا اّمن انسان بفكرة علي انها الأصلح، وججب أن يفني في سبيل تحقيقها.0000000000000
و يري المؤلف ان مصدر العجب من الخوارج تناقض مواقفهم. فقد حثوا عليا ان يقبل التحكيم، و لما انتهت حيلة التحكيم الي ما انتهت اليه، صاحوا : " لا حكم الا الله " و تنكروا لما أسفرت عنه عملية التحكيم. و دارت بين علي أبن أبي طالب و مستشاره عبدالله أبن مسعود من جانب، و الخوارج من الجانب الاّخر حوارات ،أوردها الكتاب ، أسفرت عن تذمت الخوارجو عصبيتهم المجافية لمنطق العقل. بسط المؤلف ما دار في معركة صفين بين علي و معاوية و ما تلاها من مضاغفات لنقف نحن من الصراع مشاهدينو معنا نظرة القرن العشرين. و لنعرف الي أي حد يدخل منطق العقل في أفعال ذلك السلف و ردود أفعالهم أم هل كانت الغلبة في سلوككهم لدفقة الوجدان. و خلص المؤلف أن في بعض ما عرضه من تفاصيل القتال و محاورات و مداورات الطرفين المتنازعين كثير من الغرابة بشكل لا نألفه او نستسيغه في حياتنا الحاضرة, و أحسسنا في الوقت نفسه بحقيقة الانسان التي مازلنا نألفها في معاصرينا، بكل ما فيها من تفكير و تدبير و حيلة و دهاء، لا فرق في ذلك أن يكون هذا الانسان ممن عاشوا قبل المسيح أو بعده، في صدر الاسلام أو عجزه، مما يسمي في قاموس السلوك البشري بكلمة : " سياسة "0000000000000000000000000000

سألخص في المرة القادمة الفصل الثالث من الكتاب - بمشيئة الله.00000000

Post: #4
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 09-02-2003, 02:02 PM
Parent: #1

ورد في الخيط الأخير ذكر مستشار علي ابن أبي طالب الذي استعان به لمحاورة الخوارج باعتباره عبدالله ابن مسعود. الاسم الصحيح هو : عبدالله أبن عباس.0

Post: #5
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 11-25-2003, 04:31 PM
Parent: #4

أواصل الكتابة.


تنويه

أرجو أن أنوه هنا أنني جنحت لاقتباس شذرات من هنا و هناك عند استعراضي لهذا الكتاب القيم حتي يحيط القارئ الكريم بأكبر قدر من الأفكار الواردة به.



المرحلة الادراكية الثانية في تراثنا العربي ، وفقا لتأويل الامام أبو حامد الغزالي لاّية النور من سورة النور هي التفكير العقلي.، أو هي بتعبير اّخر : مصباح العقل في مشكاة التجربة. انها مرحلة تقعيد القواعد لما قد كان أشتاتا متناثرة أو قل هي: رد التجارب الجزئية و الخبرات المفردة الي أحكام عامة تضمها معا في شمل واحد. و اذا كان القرن السابع، كما أسلفنا يمثل مرحلة الادراك الفطري، فان القرن الثامن، كما أسلفنا أيضا، يجسم المرحلة الادراكية الثانية التي نحن بصددها: مرحلة تجريد القوانين، المبادئ، و الأحكام العامة. نحن اذن نقف فيس أعتاب الادراك العلمي في أولي درجاته. فقد كان العرب يتكلمون لغتهم في القرن السابع و ما قبله، لكنهم لم يستخرجوا لتلك اللغة قواعدها الا حين أخذوا في التفكير العلمي، و كان لهم شعر ينظمونه، لكنهم لم يجردوا من ذلك الشعر موسيقاه - أي تفعيلاته و أوزانه - الا حين أخذوا يفكرون في نهج علمي.
المشكلات التي تنبض عند اصحابها بالحياة حين تنبت في أرض حياتهم العملية ذاتها. و هكذا كان الحال مع أسلافنا، و لعل أول مشكلة تطرح نفسها أمام أسلافنا للبحث النظري هي مشكلة الذنوب الكبيرة ماذا يكون الحكم السديد بالنسبة لمقترفيها. و قد انبعثت هذه المشكلة الفكرية نتيجة لواقعتي الجمل و صفين, ففي كلا الحالتين كان نفر من أمة المسلمين يقاتلون نفرا من أمة المسلمين. فلابد أن يكون أحد الفريقين علي غير صواب، ان لم يكن الفريقان معا. و أما أن يكون كلاهما علي صواب فضرب من المحال. معني ذلك أن أحد الفريقين علي الأقل، ان لم يكن كلاهما معا، قد اقترف خطيئة كبري في حق من قتلوا بغير وجه حق. أفليس من الطبيعي في هذه الحالة أن يسائل منالمرء نفسه: تري ماذا يكون الحكم في مسلم ارتكب خطيئة كبري؟ علي أن المسألة لم تقف عند حدود الفقه في الحكم علي مؤمن أذنب، بل تفرعت فروعا مست أحقية الخلافة لمن تكون. لقد تعرضنا لواقعة صفين و رأينا كيف نبت الخوارج فيها كما ينبت النبات في تربته. و لا بأس علينا الاّن أن نرسم صورة أخري كما كان في واقعة الجمل عند لالبصرة لنري كيف نشأت أمام العقل العربي أول مشكلاته التي حاول معالجتها بمنطق البرهان. ( لمزيد من التفاصيل عن واقعة الجمل راجع ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة ).
لن أتطرق هنا لمعركة الجمل التي دارت رحاها بين فريق من أهل البصرة تحت راية أم المؤمنين عائشة و الصحابيين الجليلين: الزبير أبن العوام و طلحة أبن عبيد الله من جانب و فريق أهل الكوفة تحت راية الامام علي أبن أبي طالب - كرم الله وجهه. و قد انقشعت الواقعة عن هزيمة الأولين.
أريدك - أيها القارئ الكريم - أن تتأمل معي ما حدث من مشاحنات كلامية - يندي لها الجبين حياء - أثارها الفريق الأول قبل وقوع القتال. فهل تصدق ان يقوم الزبير و طلحة في الناس يستحثونهم علي استئناف القتال، فيقولا في علي أنه لا يبقي حرمة الا أنهكها، و لا ذرية الا قتلها, و لا 1ذوات خدر الا سباهن. و بعد الهزيمة أخذت السيدة عائشة كفا من حصي، فحصبت به أحاب علي، و صاحت بأعلي صوتها: شاهت الوجوه! فقال لها قائل: ما رميت اذ رميت، لكن الشيطان رمي! فمن منا - نحن ابناء هذا العصرالحاضر، الذين كلئت نفوسهم رهبة من هؤلاء الأوائل كادت تبلغ حد التقديس و العصمة من الخطأ. من منا يري هذا التقاذف بكلمات هي من أغلظ اللفظ بين ناس هم من هم في قلوبنا، ثم لا يأخذه العجب و الذهول. لقد أحس اّباؤنا الأولين فيمدينة البصرة بالحيرة حينما نشب الخلاف السياسي بين الفريقين المتنازعين: تحت أي راية ينضوون. فاذا بنا نراهم منقسمين لثلاث فرق. فريق يؤثر مساندة علي، و همالشيعة، و فريق يفضل الولاء لعائشة في طلبها بالثأر لدم عثمان ، هم العثماننين، و فريق ثالث يبعد عن المشكلة و يتخذ له موقفا محايدا، و هم الزاهدون المتطرفون الذين سموا انفسهم " الخوارج ". و لعلهم هم الذين أوجدوا حركة الاعتزال. و بوسعناالقول ان معركة الجمل هي نقطة البدء لكل تطور سياسي و ديني لاحق بالنسبة لعدد كبير من المسلمين. فقد أثارت واقعة الجمل و من بعدها واقعة صفين المشكلة العقلية الأولي و هي : ماذا يكون الحكم السليم بالنسبة للفريق المخطئ من الفريقين المتحاربين. و لم نلبث أن رأينا ثلاثة حلول مختلفة للمشكلة، كل حل فيها يمثل مذهبا فكريا علي طول التاريخ العقلي في تراثنا القديم. فهناك : (1) المتطرفون الي اليسار - بالمفهوم الاسلاهي، لا الغربي ) و هم الخوارج الذين زعموا أن كل من قاتل عليا ، بمن في ذلك عائشة و طلحة و الزبير - فهو كافر. و ان عليا نفسه كان علي حق الي أن قبل مبدأ بالتحكيم، فعندئذ كفر هو مع الكافرين.
(2) و هنالك المعتدلون، وهم جماعة المعتزلة، كما بدأت بواصل أبن عطاء، الذي فرق بين المبدأ النظري من جهة و أعيان الأشخاص من جهة أخري. فمن الناحية النظرية المنطقية الصرف ، لا يمكن القول بأن الضدين ( الكفر و الايمان) لا يجتمعان معا في شخص واحد. و لكننا من ناحية التطبيق لا نستطيع تعيين الأشخاص الدين يقعون تحت هذا الضد أو ذاك. فالمعتزلة لا يروا حقيقة الموقف هي : اما أصاب فهو مؤمن، و أما أخطأ فهو كافر، اذ هنالك منطقة وسطي بين الطرفين هي منزلة المؤمن العاصي، الذي لا يخرجه عصيانه من دائرة المؤمنين ليدخله في دائرة الكافرين. ز انا لنري في هذه البداية - أيها القارئ الكريم - كيف أن النظرة
العقلية ، بحجاجها و استدلالها نشأت في مدينة البصرة، بينما نري الكوفيين يكفيهم الأخذ بالرواية عن الأسلاف. فأهل البصرة كانوا أقرب الواقعية العلمية علي حين كان الكوفيون أقرب الي وجدانية أصحاب الخيال و العاطفة. و لا غرو أن نري بالبصرة نشأة مذهب الاعتزال علي يد الحسن البصري، و الدراسات العقلية الأولي للنحو و اللعة علي يدي الخليل أبن أحمد و تلميذه سيبويه، مؤلف : " الكتاب ". و تلا تلك القمتين في البصرة مؤلف اّخر خطير الشأن هو عبد الرحمن أبو بحر الجاحظ.
(3) و هنالك المتطرفون الي اليمين و هم أهل السنة و الجماعة الذين قالوا بصحة اسلام الفريقين.
و كما أسلفنا فان فتنة المسلمين الأولي مجسمة في واقعتي الجمل و صفين قد أنبتت ثلاث مذاهب سياسية مختلفة من ضمنهافرقة الخوارج الذين خرجوا علي الامام علي أبن أبي طالب بعد قبوله بخدعة التحكيم التي حضوه عليها. و لما انكشفت عملية التحكيم عن خدعة من عمرو أبن العاص خلع بها علي من الأمارة و ثبت بها معاوية، اقتنع الخوارج بأنهم بقبولهم التحكيم كانوا قد أخطأوا. فتابوا الي الله، ثم أراددوا لعلي مثل هذا الاعتراف بالخطأ و التوبة الي الله، قائلين له: لم حكمت الرجال؟ انه لا جكم الا الله. علي أن خلاصة موقفهم من خيث هو فكرة سياسية، كان ينبغي أن يكون لها أعمق الأثر في حياة الأجيال العربية من بعدهم لكنها ذهبت ادراج التاريخ، هي مبدأهم القائل بوجوب الخروج علي الامام، أو الزعيم، أو الحاكم اذا أخطأ أو خان الامامة، أو الزعامة، أو الحكم. و موقف الخوارج هو نفسه موقف جان لوك في القول بحق الشعب في عزل الحاكم اذا ضل سواء السبيل، و في أن يختار من يشاء من أبناء الأمة ممن يرونه جديرا بالثقة، لولا أن الخوارج قد أساءوا الي هذا المبدأ السياسي العظيم، الذي حدث لمثيله في أروبا أن أقام ثورتين كبيرتين ما نزال نعيش في ظلالهما الي حد كبير: و هما الثورة الفرنسية و الثورة الأمريكية، و كلتاهما في القرن الثامن عشر. و قد أساء الخوارج الي هذا المبدأ السياسي العظيم بما أحاطوه من تزمت ديني و ضيق أفق يجاوزان حجود المعقول.

Post: #6
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 11-25-2003, 06:09 PM
Parent: #5

و العجيب الذي يلفت أنظارنا هو أن هذه الفكرة البسيطة في ظاهرها سرعان ما تشققت و تشعبت بين الخوارج انفسهم، حتي انقسموا فيما بينهم عشرين فرقة. فهنالك الأزارقة، نسبة لنافع أبن الأزرق، أكثر فرق الخزارك عددا و أشدهك بأسا. و من أهم ما يميز مبدأهم قولهم أن من خالفوهم مشركون. و لقد عرف هؤلاء الأزارقة بقسوة القلب و غلظته. فقد كانوا لا يترددون في قتل أسراهم ممن يخالقونهم الرأي - مع أن الأسري مسلمون. و ما يميز الأزارقة أيضا قولهم عن القعدة، و هي فرقة أخري من الخوارج قعدوا عن نصرة علي و عن مقاتلته - أنهم أيضا مشركون. ز هنالك النجدات - نسبة الي نجدة أبن عامر، و الصفرية، بضم الصاد و سكون الفاء. و من اّراء الصفرية حكمهم بالكفر و الشرك لمرتكب الذنوب التي لم ترد فيها حدود، كترك الصلاة و الصوم. أما من اقترف اثما احتصه الكتاب باسم خاص، كالسارق، الزاني، و القاتل عن عمد، فهؤلاء يوصفون بأوصافهم هذه بلا زيادة. و هنالك الاباضية، نسبة لامامهم: عبد الله أبن اباض. و ما يميزهم قولهم عن مخالفيهم أنهم في منزلة وسطي بين الايمان و الشرك.
و انه لمما يلاحظ عند تتبع الفرق المختلفة التي تتابعت من مذهب الخوارج، أنها تزداد ميلا نحو التسامح كلما تقدم معها الزمن. علي أن أكثر فرق الخوارج تسامحا هم المرجئةالتي دعا أصحابهاالي وجوب ارجاء الحكم عن أصحاب الذنوب الكبيرة الي يوم القيامة.
ز أما الذين شايعوا الامام علي فيعرفون باسم الشيعة، و التي دعت الي امامته و خلافته، اما لأن ثمة نصوثا تحتم ذلك، و اما لأن النبي عليه السلام قد أوصي بخلافته. و اعتقد الشيعة أنه اذا مات علي فلا يجب أن تخرج الخلافو من اولاده. كذلك اعتقد الشيعة أن قضية الامامة ليست قضية مصلحةتناط باختيار العامة، بل هي قضية تمس أصل العقيدة. و من ثم فهي أحج أركان الدين. ( راجع كتاب شك " الملل و النحل " للشهرستاني. ) و للشيعة فروع كثيرة

Post: #7
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 11-29-2003, 02:10 PM
Parent: #6

كما أسلفنا، فان الاّراء أخذت في التشعب حيال المشكلات العقلية الأولي التي
أفرزتها معركتي الجمل و صفين، و اللتين دارتا حول الخلافة لمن تكون، ثم سرعان ما
نجم عن هذا الخلاف مسألة خاصة بالمخطئ الذي ارتكب الذنب. اذ لابد أن يكون
واحدا من الفريقين المتقاتلين - علي الأقل - قد أخطأ. و هنا موطئ الحرج، لأن كلا الفريقين المتحاربين فيه من صحابة الرسول - صل الله عليه و سلم. و لم يكن
الصراع الفكري - الذي وصل أحيانا حد التقاتل - مقصورا علي التضاد بين
الخوارج من ناحية و الشيعة من ناحية أخري، و لا مقصورا غلي نوع التضاد بين
فرق الخوارج المتباينة، بل شمل كذلك فرعين اّخرين : كالمعتزلة و الخوارج في
مسألة الذنوب الكبيرة، و بين المعتزلة و الصفاتية ( من أهل السنة ) في
صفات الله تعالي. و أما التضاد الثاني فهو بين القدرية الذين يجعلون للانسان
ارادة حرة مسئولة ( و هم أيضا من المعتزلة ) ، و بين الجبرية الذين لم يتركوا
للانسان حرية في فعله.
يري المعتزلة أن صفات الله جزء لا يتجزءمن ذاته، بحيث يكون الله تعالي عالما
بذاته و قادرا بذاته، لا بعلم و قدرة نتصورهما منفصلتين عن ذاته. و يرون
أيضا أن ليس أزليا سوي الذلت الالهية التي هي نفسها صفاتها. و يقول الصفاتية
: بل ان الصفات تشارك الله في أزليتها، فهناك الذات الالهية، و هنالك علمها
و قدرتها.....الخ. ( عن نفسن ، لا أري و جها للخلاف هنا. بل ان الأمر لا
يعدو مجرد التلاعب بالألفاظ. فالمعتزلة - علي حد رأي مؤسس اتجاههم الفكري
واصل ابن عطاء - يرون أن ما أزلي سوي الذات الالهية، التي هي نفسها صفاتها.
بينما الصفاتية ( أهل السنة ) يؤثرون أن تؤخذ اّيات القراّن بظاهر معانيها
. و اذن يجوز لنا القول أن لله صفات غير ذاته، و ان تكن صفاته هي أيضا
أزلية. فالامام مالك ابن أنس، و مذهبه سني لا شبهة حوله، قال في تفسيره للاّية
القراّنية: " يد الله فوق ايديهم " أن اليد الفيريائية معروفة، و اسم
الجلالة معلوم، أما مراد الاّية فالله أعلم بها. فأهل السنة بوجه عام يحجمون
عن التأويل رغم ايمانهم أن ليس لله مثيل.
و يرن المؤلف أننا لو تصورنا زائرا يعود بالزمن القهقري من القرن
العشرين قافلا الي القرن الثامن الميلادي، ليقف ممع الناس متفرجا متعقبا،
فانه لا يستطيع مهما حاول أن يتقمص مشكلات القرن الثامن ليجعلها مشكلاته،
اللهم الا واحدة، يجدها ذات صلة بحياته الراهنة، و هي الخاصة بارادة الله
في فعله و مدي ما يقع عليه من تبعة ما قد فعل. انه لم تكد تطرح علي الناس
ابان القرن الثامن مسألة الفعل الانساني و تبعاته، حتي أجمع فريق من
المعتزلة علي أن الانسان ذو قدرة علي خلق أفعاله، خيرها و شرها، و من ثم
استحق اما العقاب و اما الثواب علي ما قد فعل، و بغير هذا ل ا تقوم
للعدل قائمة. و كان واصل ابن عطاء ( 700 - 749 ) أول من اتخذ هذا الموقف.
فقد حدث اذ هو جالس في حلقة شيخه الحسن البصري أن طرح السؤال عن مرتكب
الذنب الكبير ماذا يكون الحكم في أمره؟ أنعده مؤمنا برغم ذنبه، أم نعده
كافرا؟ فظهر واصل برأي وسط جديد، هو القول بالمنزلة بين المنزلتين. فصاحب
الكبيرة ليس مؤمنا كل الايمان، و لا كافرا كل الكفر، بل هو وسط بين الطرفين،
اذ ليس الايمان صفة واحدة وحيدة، اما أضيفت الي الشخص أو رفعت عنه، بل الايمان
مؤلف من مجموعة كبيرة من خصال الخير، اذا اجتمعت كلها لشخص كان كامل الايمان،
و ان امتنعت كلها عن شخص كان كافرا كل الكفر. أما اذا توافرت له بعض
تلك الخصال دون بعض، فهو عندئذ لا هو بالمؤمن علي اطلاق المعني، و لا هو
بالكافر علي اطلاق المعني. و هكذا يكون الرأي فيمن ارتكب ذنبا من الكبائر
، أفليس عنده من أركان الايمان الشهادة؟ ألم يعمل في حياته أعمالا كثيرة مما
يعد خيرا؟ انه اذن مؤمن بهذه الجوانب. و لا تذهب الكبيرة التي اقترفها هذا الايمان عنه. لكن لما كانت الاّخرة ليس فيها الا طريقان و لا وسط: طريق لأهل الجنة و اّخر
لأهل النار، ففي أي الطرقين يا تري نضع صاحب الكبيرة؟ الرأي عند ابن عطاء
هو أن صاحب الكبيرة اذا خرج من الدنيا علي كبيرته هذه من غير توبة، فهو من
فريق السعير علي أن يخفف عنه عذابها فلا يكون فيها في منزلة واحدة مع
الكافرين. رأي لم يعجب أستاذه الحسن البصري. فابتعد ابن عطاء عن حلقة
الدرس بضع خطوات ليجلس وحده، و ليتبعه من أراد، فقال البصري: " لقد
اعتزل عنا واصل، و من ثم جاءت كلمة " المعتزلة "، و فقا لبعض الروايات
الشائعة. و لقد حاء هذا الحكم من واصل تأسيسا لمبدأ أخذ به، و هو قوله
" بالقدر " أي بحرية الانسان فياختيار فعله. ( لاحظ أن معني كلمة: " القدر "
الصحيح هو نقيض كا قد جري عليه العرف بين الناس في الماضي. و قد رتب واصل
بحثه علي نحو كهذا: أن الله تعالي حكيم عادل، و لا يجوز أن يضاف اليه شر و لا ظلم
. و اذن فال يجوز أن يريد من عباده شيئا غير مايأمر به، أو يحتم عليهم شيئا
ثم يجازيهمعليه، و علي ذلك فالعبد هوالفاعل للخير و الشر علي السواء. فاذا
جوزي فانما يجازي علي فعله. و قد أقدره الله تعالي عليه.
لكن مسألة الفعل و جزائه حين طرحتلم تأت من فراغ، وانما أفرزتها قضية ما
أرقت الناس عندئذ، هي ما يمكن أن يحكم علي الفريقين من أصحاب الجمل و أصحاب
صفين. فماذا يقول واصل ابن عطاء فيهما، تطبيقا لمبادئه النظرية التي
أسلفناها؟ يقول: "أن أحدهما مخطئ لا بعينه. و لا بد أن يكون أحد القريقين علي
صواب دون الاّخر لأنه لا يجتمع علي صدق نقيضان. " و لما كان علي غير علم يقيني
أي الفريقين هو المصيب ليكون الفريق الاّخر هو المخطئ، لم يستطع أن يحدد تطبيقا
لحكمه. فلقد جوز واصل أن يكون علي علي خطأ، و كذلك فعل بالنسبة للعثمانية،
و لم ير استحالة لا منطقية و لا فعلية في أن يقع الخطأ من أمثال هؤلاء علي
رفعة مكانتهم من المسلمين.


أواصل......

Post: #8
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 12-03-2003, 02:23 PM
Parent: #7

و كان من الطبيعي ألا يمضي رأي ابن عطاء في حرية الانسان من حيث ارادته
و فعله بغير معارض يتصدي له. و كان ذلك المعارض هو : جهم ابن صفوان ( المتوفي
في 740 م ) و اليه تنسب الجهمية، و هي الفرقة القائلة بمبدأ الجبرية.
و الجبر معناه نفي الفعل في حقيقة أمره عن العبد، و اضافته الي الله تعالي.
و لقد صدر ابن صفوان هذا في حكمه علي مبدأ أنه لا يجوز أن يوصف الباري
بصفة يوصف بها عباده. فاذا كان من صفاته تعالي أنه قادر و فاعل و خالق،
وجب ألا يكون لأحد من عباده قدرة و لا فعل و لا خلق، فاذا رأينا الانسان
يفعل شيئا فانما هو مجبر علي فعله, لا قدرة له بذاته، و لا ارادة، و لا اختيار،
الله وحده هو الذي يخلق الأفعال فيه كما يخلقها في سائر أنواع الجمادات،
و لا تنسب الأفعال الي الانسان الا مجازا، كما تنسب أفعال الجمادات اليها مجازا
كذلك، كان يقال : أثمرت الشجرة و طلعت الشمس. و ثواب الانسان و عقابه متعلقين بمشيئة الله وحده.
( أذكر و نحن بالصف الثاني من المرحلة المتوسطة - قبل أن يطبق علينا السلم
التعليمي عند بلوغنا الصف الرابع - أن أثرنا مسألة القدر و الجبر و تجادلنا
فيها طويلا . فانبري لنا معلم التربية الاسلامية حينذاك بقوله : " ان الله
سبحانه و تعالي أعطي الانسان حرية اختيار و ممارسة أفعاله، لكنه، جل شأنه
و علا، يعلم في ذات الوقت ما يؤول اليه اختيار و فعل الانسان، خيرا أم شرا ".
لكني أميل لمذهب أهل السنة في هذا الشأن ، و الذي يعارض بالضرورة موقف
المتكلمين. فهم يرون أن الخوض في مثل هذه المسائل سفسطة لا جدوي منها. فالمؤمن
الحق يشغل نفسه بطاعة الله و التمسك بأهداب الفضيلة، عملا بقوله تعالي :
" أيها الذين اّمنوا لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم..." )

و تطرق الكتاب الي مناقشة جوانب من اسهامات أهل اللغة و النحو في القرن
الثامن الميلادي لتراثنا الفكري. و يري المؤلف أن المشكلات العقلية التي
تمخضت عن القتال في موقعتي " الجمل " و " صفين "، حفزت أصحاب الرأي للبحث
عن اجابات شافية لها في أتون كتاب الله عز و جل. فما هي بعد ذلك الا خطوة
جد قصيرة عند مراجعة المفكرين لكتابه الحق ابتغاء الهداية، حتي يجدوا أنفسهم
مضطرين الي الوقوف عند مادة النصوص القراّنية من حيث ألفاظهاو طرائق
تراكيبها. ثم خطوة جد يسيرة بعد ذلك، فاذا هم - علي أيدي نفر ممتاز بحدة
الذكاء و دقة التحليل - يتناولون اللغة من جذورها الأولي، ومصادرها الأولية
- تحليلا، و تمحيصا, و جمعا, و تبويبا، لتأسيس قواعدها و أركانها. و حسبك أن
تري في نظرة واحدة رجلين من القامات العملاقة التي نراها في الخليل أبن أحمد
الفراهيدي و تلميذه سيبويه.

سأواصل في المرة القادمة ، بمشيئة الله.

Post: #9
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: aba
Date: 12-03-2003, 02:54 PM
Parent: #8

العزيز ود زينب
لك الود أتابع معك
ورجائي أن تتابع عملك القيم هذا
وأشيد بمثابرتك

Post: #10
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: Abo Amna
Date: 12-03-2003, 06:48 PM
Parent: #9

تحية طبة


ياخي بالغت معانا عديل 17 ورقة طباعة ... وكمان هناك emadblake 14 ورقة يعني اسي دي يقروها ليكم متين ..
بالمناسبة الموضوعين مربوطات مع بعض ... ولحدي ما اجيك راجع يوم السبت ....


مع تحياتي
ابو آمنة

Post: #11
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 12-04-2003, 07:58 PM
Parent: #10

الأخوين خالد أبا و أبو اّمنة:

أشكركما علي التعليق. و أكرر شكري، أخي خالد، علي الاشاذة.

كما أسلفت، كتاب الدكتور. زكي نجيب محفوط " المعقول و اللا معقول في تراثنا
الفكري " من الأسفار القيمة التي نالت اعجابي. و وددت أن ألفت أنطار اخوتي الكرام في منتدي Sudneseonline لما يحتويه هذا السفر من معادن نفيسة. كان أمامي
ثلاث خيارات لتقديم هذا الكتاب لقراء المنتدي:
1- أن أستعرض الكتاب بشكل مختصر في صفحة واحدة، أي ما يعرف في اللغة الانجليزية
بالBook Review، و أترك للقراء الذين أعجبوا بمادته مهمة البحث عن الكتاب
في المكتبات العامة.
2- أن أعرض الجوانب الهامة في كل فصل من الكتاب رغم ما يستغرقه هذا المجهود
من وقت كبير و مسطحات ورقية كثيرة، و أوفر للقارئ بالتالي ما سيدفعه
من قيمة مادية لأقتناء الكتاب.

3- أن ألجأ لصيغة وسطي بعرض الجوانب الهامة من الفصول الثلاث الأولي من الكتاب،
ثم أقوم باستعراض ما تبقي منه بشكل مقتضب، لشحذ دافع الفضول عند القارئ
بقدر أكبر ليهم بالبحث عن الكتاب بغرض اقتنائه.
و وقع اختياري في نهاية الأمر علي الصيغة الوسطي. و لعلمكم، أخوي الكريمين،
تبقت لي في مهمتي هذه صفحتين من الفصل الثالث في الكتاب. و سأقوم، ما وسعني الجهد،
باستعراض ما تبقي من الكتاب في صفحتين أخريين، رغم قناعتي الراسخة أن الاستعراض
لن يوفي الكتاب حقه، بتجاوزه الحتمي لبعض النواحي الهامة فيه. هذا الكتاب
القيم يصعب استعراضه بشكل مقتضب، لغزارة مادته الثمينة.

Post: #12
Title: Re: " المعقول و اللا معقول في تراثنا الفكري العربي "
Author: wedzayneb
Date: 12-07-2003, 01:09 PM
Parent: #11

أواصل العرض:

عاش الخليل أبن أحمد الفراهيدي علي طول ثلاثة أرباع القرن الثامن الميلادي
الأخيرة. و كان مولده و ترعرعه في مدينة البصرة. و كان أهم ما يشغل الخليل
أبن أحمد في حياته نظراته الفاحصة في اللغة العربية و نحوها، و في الشعر
العربي و موسيقاه الداخلية. و ان الواحد منا - نحن أبناء القرن الواحد
و العشرين - اذا ما كر راجعا ليقع منه النظر علي رجل في علم الخليل
و في علمية نظره، لتأخذه الدهشة مما يري. فمثل هذا الذكاء الخارق و هذه
المنهجية في النظر و التصنيف و الوصول الي القواعد الصحيحة، لو كان هذا
كله في عصرنا نحن، لأصبح الرجل بغير أدني شك من أئمة علماء الذرة، أو
أعلام التكنولوجيا. فالعبقرية أداة فعالة في أي مناخ وضعتها. و ما ظنك
برجل يضع للغة العربية أول معجم. ( بل يعتبر معجم العين الأول في تاريخ
البشرية ). لأول مرة في التاريخ يجمع الخليل أشتات المفردات اللغوية
بقدرما مكنته ظروفه. و لأول مرة وضعها في معجم، و ليس قبله معجم يحتذيه.
ثم نزداد ذهولا عندما نجد الرجل يبتكر طريقة فريدة في ترتيب الألفاظ في
معجمه. فلقد وجد الخليل بين يديه طريقتين في ترتيب أحرف الهجاء، فهناك
الطريقة التي تسمي الأبجدبة، و هي التي ترتب الحروف علي غرار ما تردد في
هذه الكلمات: أبجدهوز حطي كلمن سعفص قرش تخذ ضظغ. و هناك أيضا الطريقة
الأخري التي ترتب الحروف علي هذا النحو: أب ت ث.... الخ. فلا أخذ الخليل
عند تصنيفه لمعجمه الأول بالطريقة الأولي، و لا أخذ بالطريقة الثانية.
اذ لعله لم يجد فيهما أساسا علميا، فهما ترتبان الحروف بشكل عشوائي
لم ترضه نظرته المنهجية. فابتكر الخليل لنفسه طريقة ثالثة تقام علي أساس
علمي لا محل فيها لاختلاف النظر، و ذلك أنه رتب الحروف بحسب مخارجها عند
النطق، فأقصاها مخرجا يرد أولا في الترتيب، و أدناها الي الشفتين يرد اّخرا.
و ما بين الأقصي و الأدني ترتب الحروف بحسب المخارج المتعاقبة. فكان أن وجد
لها هذا الترتيب: ع ح ه خ غ ق ك ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م أ ي.
و اني لأدعوك أيها القارئ مرة أخري الي النظرة المتمهلة لئلا تفوتك هذه
النظرة العلمية من دقة النظر و موهبة في ادراك الصوت، يحتاجه انسان لتعقب
الحروف المختلفة الي مخارجها عند النطق بها ليري أيها أقصي الحلق و أيها أدني.
ثم ماذا بعد فراغه من الترتيب؟ لم يكدس الخليل الالفاظ بعضها الي بعض كأنها
الغلال المكومة، بل قام بحصرها الي أنواع من حيث مبناها، و هو يستعين بما ذكره
الصرفيون من قبله من حصرهم لأبنية الكلمة، فهي اما ثنائية، أو ثلاثية،
أو رباعية، أو خماسية. تري كم صورة لفظية يمكن أن تنتجها لنا هذه الأبنية
الأربعة في تبادلها و توافيقها؟ فالعدد الناتج هو حصر كامل لصور اللفظ
العربي، من حيث الامكان النظري. ثم أخذ يضع في هذه الأقسام ما قد تجمع له من
ألفاظ مستعملة، مرتبة بحسب مخارج الحروف كما ذكرناه. و لما كان الحرف الأول
في هذه التراتيب هو العين، أسمي معجمه: " العين ".
و كما اقتضت ظروف الحياة العملية و مشكلاتها اّّنئذ جمع مفردات اللغة
و تبويبها و النظر في طريقة بنائها و تصريفها، فقد اقتضت كذلك جمعا للشواهد
من الأدب العربي القديم ليستدل منه علي طريقة استخدام اللفظة عند أصحاب
اللغة الأولين. و أين عساه يجد تلك الشواهد الا في أبيات من الشعر القديم. و يجدر
بنا أن نحيل القارئ الي بحوث فلسفية في عصرنا هذا يدافع أصحابها عن وجهة النظر
التي تقول أن معني اللغة لا يتجدد الا و هي في عبارة من ذوات اللغة، و أما اذا
افردت وحدها فهي رمز بغير معني. ( هكذا أصاب خليلنا مرتين: في المرة الأولي
حينما اهتدي الي فكرة الاستشهاد من اللعة لمعرفة معاني مفرداتها، و في المرة
الثانية باستخدامه لشواهد من الشعر العربي القديم.
تمتع الخليل بحساسية مفرطة للصوت و النغم و الايقاع. فبعد أن فرغ الخليل من
النظر في لغة العربي - كيف بنيت ألفاظها، و كيف ينبغي أن تبني. و بعد أن
استعان الخليل في تقصي معانيها بشواهد من الشعر العربي القديم، كان من الطبيعي أن يهديه فكره الي أن يستخرج من الشعر صوره بعد تفريغها من مادتها. فاذا هذه الصورة ما نعلمة من أوزان الشعر العربي و بحوره.
و لقد قيل أنه حدث ذات يوم أن سمع الخليل في بعض طريقه وقع مطرقة علي طست،
و كان عندئذ يردد لنفسه بيتا من الشعر. ( ينبغي أن نشير هنا أن الخليل كان
ملما بصور اللفظ العربي استنادا علي أصوله اللفظية الاربعة القائمة من أصل
الفعل الذي تقوم عليه كلمات اللغة العربية، سواء كان الفعل ، أو ثنائيا،
أو ثلاثيا، أو رباعيا، كنحو: فع، فعل، فعلل، و فعلّل ( بتشديد اللام الثانية )،
فاذا المقارنة بين ايقاع المطرقة و بين ايقاع ألفاظ البيت الشعري في مسمعيه تلمع
في ذهنه كالقبس. و هكذا جاءته الفكرة بأن يقطغ الشعر تقطيعا أدي به في نهاية الأمر
الي اكتشاف و حصر بحور الشعر العربي. فاللهم ان كان الذكاء قوامه - كما يتفق
علي ذلك عدد كبير من علماء اليوم - لمح التشابه و التباين بين الاشياء و الأفكار
والمواقف، فماذا تقول في ذكاء لمح التشابه بين صوت مطرقة علي طست، و بين وزن
بيت من الشعر يردده بحيث كان فاتحة لتأسيسه علم أشبه بالعلوم الرياضية في صورته
و دقته و دوام صوابه علي امتداد القرون. ( ان اكتشاف هذه القواعد الثابته في
الموسيقي الداخلية للشعر العربي التقليدي ليقف شاهدا علي جمال و روعة و تميز
لغتنا العربية، لغة القراّن، بين لغات الأمم الانسانية الاخري ).

رباعيا،