خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،

خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،


05-16-2005, 12:17 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=19&msg=1133998173&rn=5


Post: #1
Title: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: Agab Alfaya
Date: 05-16-2005, 12:17 PM
Parent: #0



مريود

خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة

بقلم : رجاء النقاش *

"مريود" هي الجزء الثاني من رواية " بندر شاه " للطيب صالح ، والجزء الثاني يرتبط بالجزء الأول نفس الارتباط الذي يكون بين الابن والأم ، فهما متصلان منفصلان ، ... متصلان عن طريق الدم المشترك الذي يجري في العروق ، ولكنهما بعد ميلاد الابن ينفصلان ويستقلان استقلال الكائن الحي عن غيره من الكائنات ، وهذا الانفصال أو الاستقلال هو الذي يتيح لنا قراءة " مريود " وحدها من غير أن نشعر بأنها عالم فني ناقص ، فهي – رغم ارتباطها ببندر شاه – رواية مستقلة لها عالمها الخاص وموسيقاها المتميزة .


نبع جديد

والمفتاح الاساسي الذي يساعدنا على فهم " مريود " وفهم أدب الطيب صالح كله هو أنه ليس كاتباً " واقعيا" بالمعنى التقليدي للواقعية ، وقد يفهم البعض من هذا النفي للواقعية في أديب الطيب صالح أنه – يبعده عن الواقعية – إنما يبتعد عن معالجة هموم الإنسان العربي التي يعانيها في مجتمعه وفي الحياة بوجـه عام ، والحقيقة ان ابتعاد الطيب صالح عن الواقعية لا يحمل هذا المعنى ، فالطيب صالح – كفنان صادق اصيل – غارق في الهموم الإنسانية لعصره وفي الهموم الاجتماعية لوطنه وبلاده ، ولكنه يعبر عن موضوعاته عن طريق تصوير الواقع المباشر أو رصد مشاكل فئة من الناس أو طبقة من طبقات المجتمع ... انه يعبر عن مشاكل الإنسان الداخلية العميقة ، يعبر عن روحه ووجدانه ونظرته إلى الحياة والمصير الإنساني كله ، والطيب صالح يترك العالم المنطقي الواقعي الذي وقفت الرواية العربية عند حدوده قبل ظهور الطيب صالح ، وكان الفتح الادبي والروحي الذي قدمه الطيب للرواية هو أنه لجأ إلى نبع جديد لم يشرب منه احد من قبل في مجال الادب الروائي العربي . لقد تجاوز الطيب العالم الروائي الواقعي إلى عالم آخر أسطوري أو كما يقول التعبير العلمي الدقيق : " عالم ميثيولوجي " . فقصص الطيب هي نوع من الاحلام ، ولكنها ليست أحلام فرد واحد ، وانما هي أحلام تراكمت في وجدان امتنا ومجتمعنا جيلاً بعد جيل ، وتجسدت هذه الأحلام في قصص غريبة وخرافات غير منطقية ، وانعدام المنطق في هذه الاحلام والقصص والاساطير يواجهنا إذا نظرنا إليها نظرة شكلية خارجية ، ولكننا إذا تجاوزنا هذه النظرة وحاولنا ان نفهم المغزى الكامن وراء التراث الاسطوري فاننا سوف نجد لهذا التراث منطقاً تنسجم فيه المقدمات مع النتائج ، والحق أن الطيب صالح هو رائد هذه المدرسة الروائية الجديدة في الادب العربي ، وهو مكتشف الطريق ، وأقصد هنا مدرسة الرواية التي تعتمد اعتماداً كبيراً على "الميثيولوجيا" أو " الأسطورة " شكلاً وموضوعاً ، وسوف نجد الترابط المنطقي الخارجي بين اجزاء رواية " مريود " مثلاً هو ترابط مفقود ، ذلك لأنها تشبه الحلم والتصورات الوهمية الحيالية والاسطورة ، أما الواقع الخارجي العادي فهو كامن في باطن الرواية وليس ظاهراً على السطح ، وهذا ما يفسر لنا تلك الابيات الثلاثة التي اختارها الطيب من ابي نواس ووضعها في صدر روايته وهي :

غيـر أني قائـل ما اتاني من ظنوني مكــذب للعيان
أخـذ نفسي بتأليـف شئ واحد في اللفظ ، شتى المعاني
قائم في الوهم حتى إذا ما رمته ، رمـت معمي المكان

فهذه الأبيات "النواسية " تمثل طريقة في رؤيـة الحياة والنظر إلى الواقع الإنساني ، هذه الطريقة هي الرؤية بعين الوهم أو الخيال ، وهي رؤية ما لا يرى بالعين المجردة ، وهي اعتبار الاشياء التي يراها الإنسان بخياله حقيقة كالحقيقة نفسها ، ، فليس صحيحاً أبداً أن الواقع المادي الظاهر هو " كل " العالم الإنساني ، فالعالم الإنساني اشمل من ذلك وأعمق وأكثر اتساعـاً ورحابة ، وعالم الباطن فيه مهم كعالم المرئيات الظاهرة ، بل هو عند بعض أصحاب الرؤى ، مثل الطيب صالح وابي نواس في أبياته السابقة ، أهم وأصدق وأعمق .


علاقة أسطورية كاملة

هذا هو المفتاح الأساسي لفهم أدب الطيب صالح وعالمه الروائي ، وبدون هذا المفتاح فاننا يمكن أن نفقد أنفسنا في عالم الطيب ويمكن أن نحس بالغربة والغرابة معاً ، وسأتوقف هنا أمام لحظة واحدة من لحظات رواية "مريود " ، هذه اللحظة هي علاقة " الطاهر ود الرواسي " بسمكة من سمكات النيل ، انها علاقة أسطورية كاملة يحكمها الخيال والعقل الباطن ، والتاريخ الاسطوري للنيل ، ولا يحكمها المنطق العادي والعقـل الواعي على الاطـلاق ... وهذه هي الصورة كما رسمها الطيب صالح ، وهي شريحة فنية ، تكشف امامنا بوضوح عن عالمه الفني والروحي ، وعن طريقته في استخدام الاسطورة والميثيولوجيا استخداماً فنياً رائعاً ... يقول الطيب صالح في مريود " ص 35 " :

" مال الطاهر ود الرواسي نحوي دون أن يحول وجهه عن النهر ، ولكن سؤالي ظل معلقاً في الهواء بين النهر والسماء ، كان وجهه واضح المعالم يلمع وسط ذلك الظلام ، كأن الضوء ينبع من داخله .

فجأة صرخ :

" بنت الكلب ، الليلة وقعت معاي " .

قلت له :

" وحتى في الحوت ، المره مره ، والراجل راجل " .

كنت أعمى في تلك العتمة ، ولكن الطاهر ود الرواسي كان يسمع ويرى . قال :

" أصلها عندها تاري معاي . قبل خمسين سنة ، واحدة من حبوباتها "جداتها" قلبت بي المركب . وقت وقعت في المويه بقت تجرني من سروالي لي تحت " .

" وأنت شن سويت ؟ " .

" خليت لها السروال ومرقت من المويه عريان جل " .

صوته في تلك الدجنه مفعم بالحياة والمرح كأن السمكة في الماء تتحدث إليه بلغة يفهمها :

" أكثر من ثلاث شهور وأنا وراها . مرة تقطع الخيط ومرة تاكل الطهم وتشرد . بنت الحرام تقول جنية من جنس العفاريت " .

كنت أصادفه في رحلاتي عند الفجر ، أحياناً في قاربه في عرض النهر ، وأحياناً في حقله ، وأحياناً على الشاطئ جالساً يرقب صنارته ، وكنت قد نسيت عذوبة صوته ، إلى أن سمعته يغني ذلك الصباح غناء كأنه غلالة من الحرير انتشرت بين الضفتين . ومرة لمحته من بعد ساهماً يحدق في الماء . ناديته فلم يجب . وبعد زمن أمام دكان سعيد سالته ضحك وقال :

" انت شفتني يومداك ؟ حكاية عجيبة والله . تقول صحيح الواحد وقت يكبر يصيبه الوسواس . عليك أمان الله خمسين سنة وأنا أصيد في النيل لا شفت ولا سمعت شى . ذاك الصباح بت الحرام قطعت الجبارة " السنارة " وغطست . شويتين شبت فوق وش المويه . عليك أمان الله زول بني آدم بت فتاة عريانة جل ... اني آمنت بالله . وسمع آداني دي قالت بي حسا واضح زي كلامي وكلامك : " يا ود الرواسي أخير لك تبعد مني " وقبل ما ألقى الكلام ال أرد به عليها غطست تاني جب في المويه . أنا أخوك يا محجوب . أنا اخو الرجال . قعدت ممتجن أعاين للمويه " .

هذا المشهد السطوري الواقعي معاً والذي يقدمه الطيب صالح ، هو مشهد فريد في الأدب العربي كله ، لأنه يقدم الينا علاقة بين إنسان و " جنية" من " جنيات النهر " ، وهي علاقة لا يشك الطاهر بأنها حقيقية فالإنسان هنا لا يعيش في العالم المنطقي الذي نسلم به جميعاً . ولكنه يعيش – باقتناع كامل – في عالك أسطوري نابع من داخله ومن رؤاه الخاصة .. وهذا هو الجديد الرائع في عالم الطيب صالح . وهو الكشف الصوفي الكبير الذي يعي للعالم عند هذا الفنان بعداً جديداً لم يكن موجوداً من قبل في الأدب العربي إلا عند الصوفيين والعشاق الروحانيين واصحاب الطريق .

على أن هذه اللمسة الأسطورية الكشفية الصوفية التي تعطي اتساعاً للدنيا وتضيف قدرات جديدة للإنسان في عالم الطيب صالح الروائي تواجهنا في شئ آخر ، ذلك الشئ هو أن " المشاكل " في عالم الطيب صالح الروائي لها – دائماً – حل ، وذلك لأن ابطاله يتمتعون بالرؤية الداخلية الروحية الصادقة ، وعندما تظهر أمامهم مشكة لا ترى لها عيوننا الخارجية حلاً ، فان أبطاله – ربما باستثناء الراوي الذي يمثل المؤلف أو المراقب الخارجي للاحداث ... كل أبطال الطيب – باستثناء الراوي – يجدون الحل دائماً رغم أن الطريق يبدو أمام عيوننا وهو مسدود لا منفذ فيه ، والحل باستمرار قائم في قلب المشكلة ، وطريقـة العثور على حل في عالم الطيب صالح لها سبيلان : الأول هو الارادة الإنسانية " المصممة الخلاقة ، والتي هي عند الصوفية جزء من أرادة الله على هذه الأرض ، والنماذج التي تكشف عن دور الارادة الإنسانية في " مريود " كثيرة جداً ، منها أن " مريم " تريد ان تتعلم وتصر على ذلك ولكن مدرسة القرية لا تقدم التعليم إلا للاولاد ، فهل ينغلق الطريق أمام الارادة الإنسانية المتجسدة في مريم ؟ كلا . ان الارادة تبدع حلها وهو أن تلبس مريم ملابس الصبيان وتدخل المدرسـة على أنها ولد ! مثل آخر : حواء بنت العربي تحب " بلال " وتريد ان تتزوجه ، وبلال متصوف عزلته صوفيته عن أمور الدنيا ، ولكن حواء بنت العربي تستخدم ارادتها ببسالة وتصر على تحقيق ما تريد ، استجابة لنداء هواها العميق ، وفي آخر الامر تبتكر حلاً عجيباً ، وهو أن تضع الأمر كله بين يدي الشيـخ " نصر الله ود حبيب " شيخ بلال في الطريق ويطلب الشيخ نصر الله من بلال الزواج من حواء ، ويقدم له تفسير أهل الطريق ، فيرضى بلال ويستكين . يقول الشيخ نصر الله لبلال ما معناه أنه ربما كان في عشق حواء العنيف له سر من أسرار الله . وعلى الصوفي ان يستجيب للعشق والا حاد عن الطريق . ويتزوج بلال من حواء ليلة واحدة يفترقان بعدها ، وتثمر هذه الليلة الواحدة ولداً هو الطاهر ، تعطيه حواء حياتها كلها ولا تفكر في شئ آخر ، فالارادة الإنسانية هنا – مجسدة في حواء بنت العربي – قد وجدت حلاً للمشكلة التي واجهت حواء في عشقها العظيم .


الرضا .. طريق آخر

على أن الإرادة الإنسانية المبدعة ليست هي الطريق الوحيد لحل المشكلات في عالم الطيب صالح ، فهناك سبيل آخر للحل ، وذلك هو ما يمكن أن نسميه باسم "الرضا " ، ذلك الشعور العميق الذي يملأ بعطره عالم الطيب صالح ، وهو "رضا" جميل عفيف مترفع وليس " رضا " عاجزاً مخذولاً ينبع من الاستسلام لهزائم الروح أو هزائم الجسد ... الرضا بما تجري به الأقدار ، لأن ما تجري به الأقدار – ولابد – له سره المخبوء وأن لم يظهر هذا السر للعيون ، ونغمة الرضا تعزف في عالم الطيب صالح بعيداً عن المشاكل المغلقة التي لا حل لها ... وهل ينغلق الطريق أمام أهل الطريق والمتصوفين واصحاب الرؤية ؟ ان عالم الطيب منفتح وفسيح بلا أسوار ولا قيود .


يتبع ..،

* نقلا عن مجلة الدوحة ( القطرية ) - ابريل 1978م
ص 72 ،85

Post: #2
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: Agab Alfaya
Date: 05-16-2005, 12:18 PM
Parent: #1

المتعة العميقة في الجزئيات

نعود بعد ذلك إلى رواية " مريود " نفسها لنجدها صعبة جداً على التلخيص ، ذلك لأنها حقاً وصدقاً تقترب من " الموسيقى " ، حيث لا يمكن تلخيص الانغام والسيمفونيات ، ولكن الصحيح هو أن نسمعها كلها ، أو نسمع أجزاء منها ، فلكل جزء سحره وجماله . وهكذا نجد أنفسنا مع " مريود " فهي من الأعمال الروائية القليلة جداً في أدبنا العربي والتي يحن الإنسان – بعد أن يطوي صفحتها الأخيرة – إلى اعادة القراءة لصفحة معينة منها أو سطور محددة ، فما تعطيه لنا الرواية من متعة روحية وفكرية في معناها العام ، لا يلغي المتعة الاخرى التي تنبع من " الجزئيات" في هذه الرواية ، سواء كانت هذه الجزئيات جملة أو عبارة أو مقطعاً كاملاً أو أسطورة أو وصفاً لمنظر من المناظر أو تأملاً في لحظة من لحظات النفس والحياة .

ومعظم الروايات العربية ، وحتى الممتاز منها ، ترتبط في أذهاننا بمعناها العام ، وفكرتها الرئيسية ، وشخصياتها وأبطالها المختلفين ، ولكن القليل النادر من الروايات العربية هو الذي يستطيع ان يعطينا هذه المتعة العميقة في " الجزئيات " بجانب المتعة بما هو عام وشاكل ، وهذه القيمة الفنية العالية للجزئيات هي ما نجده على العكس في كثير من نماذج الأدب العالمي الراقية ، فنحن نستطيع أن نقف عند صفحات معينة في رواية "الحرب والسلام " لتولستوي ، ونستطيـع أن نقف طويلاً – في استمتاع عميق – أمام عبارات أو صفحات أو فقرات من رواية " الأخوة كرامازوف" لدوستويفسكس ، بل أن كاتباً معاصراً مثل " همنجواي" ، قد وصل في هذا المجال إلى درجة عالية من النضج ، فاهتم بالتركيز الشديد في الوصف والتعبير وبناء الكلمة والجملة ، حتى اصبحت الأحداث والمواقف عنده – أحياناً كثيرة – نوعاً من الشعر الخالص الرقيق الذي ينساب في وجدان الإنسان كأنه موسيقى خفية ، ونستطيع أن نقف أمام سطور من " العجوز والبحر " وأمام عبارات أو صفحات قليلة منها ، فنجد فيها متعة العمل الفني الكامل ، كل ذلك دون أن تذوب في ايدينا – مثل الثلوج – تلك المتعة الفنية النابعة من المعنى العام الشامل .

ولعل هذا العيب في معظم نماذج الرواية العربية المعاصرة – وهو عدم الاهتمام بالجزئيات – يعود إلى اهتمام الكتاب بالأحداث والافكار والشخصيات أكثر من اهتمامهم " باللغة " التي يكتبون بها . ولو أن هناك اهتماماً " باللغة " لاستطاعت الرواية العربية أن " تنجز " تلك القيمة التي أنجزتها الرواية العالمية وهي ما يمكن أن نسميه – دون أن نزعم لانفسنا الدقة في التسميـة – باسـم " الروح الغنائية " أو "الروح الشعرية الموسيقية " . ولعل المهتمين بالرواية العالمية يذكرون ان الروائي الفرنسي الفذ ، صاحب الانتاج القليل والموهبة النبيلة " أنطوان دي سانت اكسوبري" ، وذلك في روايته المعروفة " أرض البشر " ففي هذه الرواية التي يمكن أن نصفها بانها " استحمت " في نبع من الشعر ، فخرجت تقطر اشعاراً ، وتمتلئ في كل سطورها بموسيقى لها عطر يفوح في الكلمات .. في هذه الرواية يطربنا المعنى العام الذي يتناول كفاح الإنسان وصبره ، وصموده في وجه المصاعب والعقبات وذلك من خلال تجربة الطيران عندما كانت جديدة على الإنسان ، ولكن الرواية تطربنا أيضاً بكلماتها وعباراتها المختلفة ، وتطربنا في المواقف الجزئية التي تنتشر كالنجوم على صفحات الرواية ، وكثيراً ما كنت في بعض اللحظات أحن إلى ترديد عبارات محددة فيها ، وذلك كله لأن الروائي قد توصل إلى لغة خاصة ، لها استقلالها وقيمتها الذاتية ، بالاضافة إلى وظيفتها في الرواية ، وهي وظيفة وصف الأحداث وتسلسلها والشخصيات وما تتطور إليه من مواقف وحالات .

وفي هذا المجال يمكننا مرة أخرى – بلا أي مبالغة – أن نعتبر الطيب صالح رائداً من رواد الادب الروائي العربي ، فقد اهتدى بموهبته الرقيقة النبيلة العميقة إلى " لغة روائية " خاصة ، وهي لغة شعرية موسيقية ، تلعب دورها الاساسي الذي تلعبه اللغة عادة في توصيـل المعاني والافكار والاحداث ، ولكنها تحتفظ لنفسها بقيمتها الجمالية والروحيـة الخاصة المستقلة .


هذا النبع الصافي

والطيب صالح في هذا المجال قريب جداً من مدرسة " هيمنجواي " ومدرسة "أنطوان دي سانت اكسوبري" . وهو أقـرب إلى الفنان الفرنسي منه إلى الفنان الامريكي ، ذلك لأن في " اكسوبري" حناناً يتدفق في كلماته وسطوره ، وفيه عطف وعاطفة ، وفي عينيه كثير من الدموع النادرة ، وتلك كلها نجدها عند الطيب صالح ، في وضوح وجلاء ، أما " هيمنجواي" فهو – على شاعريته الجميلة العالية – مقاتـل ، فيه قسـوة على نفسه وعلى العالم ، وشعره ينبع من اليأس والصبر وقورة الارادة ، لا من الحنان والعطف والامل في شئ جميل غامض مثلما نجد عند " اسوبري" والطيب صالح .

هذا النبع الصافي من الشعر أو الشعر الروائي إذا صح التعبير نلتقي معه كثيراً في رواية " مريود " ، يقول الشيخ " نصر الله ود حبيب " لبلال المؤذن : " يابلال ، أنت عبد الله كما انا عبدالله نحن أخوة في شأن الله . أنا وأنت مثل ذرات الغبار في ملكوت الله عزوجل . ويوم لا يجزي والد عن ولده يمكن أنت كفتك ترجح كفتي في ميزان الحق جل جلاله . كفتي أنا أرجح من كفتك في موازين أهل الدنيا ولكن كفتك يا بلال سوف ترجح كفتي في ميزان العدل . أنا أجري جري الابل العطاش يا بلال لكي أحظى بقطرة من كأس الحضرة ، وأنت شربت إلى أن أرتويت يا بلال . أنت سمعت ورأيت ، أنت عبرت وعديت ، ولما ناداك الصوت قلت نعم ، قلت نعم ، قلت نعم " .

أليست هذه الكلمات قصيدة كاملة ممتعة للقلب والروح ؟

وهذا مقطع آخر ، يفيض بالشعر والسمو الوجداني حيث نقرأ في "مريود " هذا الوصف لبلال " ... كان اسمه حسن ، وسماه الناس بلال ، لأن صوته في الاذان جميلاً وفيـه لكنة ، قالوا إن الشيخ نصر الله ود حبيب هو الذي أعطاه الاسم لما سمع من صوته ، وعلمه الآذان وجعله مؤذناً ، وكان يقول له " طوبى لمن شهد صلاة الفجر في المسجد على صوتك يا بلال ، فو الله ان صوتك ليس من هذه الدنيا ولكنه نزل من السماء " ، وأحياناً كانوا ينادونه " هلا هلا ولد لا اله الا الله " أما " هلا هلا " ، فلأنها كانت العبارة الوحيدة التي يفوه بها إذا خوطب ، وأما " لا اله الا الله " فلأنه كان حين يسأل عن أبيه يجيب " أنا ولد لا اله الا الله " .

مثل هذه الفقرات نتوقف أمامها ونقرأها لنجد فيها متعة مستقلة حتى عن سياق الرواية ، كل ذلك رغم أنها تخدم سياق الرواية ومعناها العاك ، فشخصية " بلال" هنا ، تخلصت من الكثافة المادية تماماً ، وأصبحت روحاً رقيقة شفافة ، أصبحت شعراً نقياً صافياً . وعندما نغمض عيوننا ونتأكل الفقرتين السابقتين ، فإننا نشعر أن "بلال" هذا قد تسلل إلى نفوسنا وجرى في ذمائنا ، واصبح معزوفة جميلة ، تعزف في قلوبنا ألحاناً عن العشق والرضا والوصول والوجد والسر العذب في هذا الوجود .

وينبع هذا الشعر نفسه في " مريود " من نبع آخر ، هو نبع " الاشياء" التي أصابتها لمسة إنسانية ، فالاشياء في رواية " مريود " ليست جامدة وإنما هي حية ومتحركة ، ولها تاريخ وذكريات ومستقبل ، مثلها في ذلك مثل الإنسان .

الاشياء في مريود ليست " أشياء " ولكنها ترتبط مع الإنسان بخيوط ، كأنها عروق تجري فيها الدماء . انظر " الزير" في الفصل الأول من "مريـود" . انه كائن حي ، وصديق لنا ، وموجود من موجودات الله يتنفس الهواء ويفكر في الغد ، وله بالناس علاقات وداد ومحبة :

" بلا غطاء ، ذلك السبيل ، عليه قرعة تتأرجح فوق الماء ، تضرب فم الزير يسرة ويمنة ، يشرب منه الغادي والرائح . من اقامه ؟ لا أحد يذكر . ولكنه لم يعدم أحداً يملؤه صباح مساء " .

و " عصـا مريود " أنها هي ايضاً كائن " حي " : " ... غريبة تلك العصا ، الآن ، كأنها امرأة عارية وسط رجال . يحس ملمسهـا ويتذكر مريم . ذلك الصوت . ذلك الشباب . ذلك الحلم . " ...

وهكذا أصبحت العصا في يد " مريود " كائناً حياً ومعشوقاً وله ملمس ناعم كالمرأة المحبوبة .

والنخلة ايضاً تتنفس بالحياة وتربطها " بمريود " علاقات عاطفيـة عميقة :

" رفع رأسه إلى جريد النخلة اليابس . نعم انها شاخت كما شاخ ، وشعرها سقط كما سقط شعره . نقر جذعها في رفق بعصاه كأنه يواسيها ، وحيا مودعاًُ بصوت مسموع . لا عجب فهي تعلم سره ونجواه . بعدها ذهب يضرب على الدرب، حاملاً يأسه صوت النهر " .


النيل .. كائن حي

على أن أهم الاشياء التي أصابتها " اللمسة الإنسانية " في رواية "مريود " هي " النيل " ، وارجو أن يغفر لي أهل وادي النيل الكرام وأرجو أن أغفر لنفسي وأنا وأجدادي من أهل هذا الوادي ، أرجو منهم ومن نفسي غفران جرأتي على تسمية النيل باسم " الشئ" ، فلقد كان النيل كائناً مقدساً عبدته أجيال بعد أجيال من آبائنا الاقدمين .. هذا " النيل" هو في "مريود" كائن حي يفيض بالماء والشعر والغموض والسحر ويعاشر الناس معاشرة الاحياء للاحياء ، يخاطبهم ويتحدث إليهم ويفاجئهم ويغضب ويفرح ويعلن رأيه في المشكلات والازمات ، وهذا الدور الذي يلعبه "النيل" في رواية "مريود" هو جزء من الدور الذي يلعبه " النيل " في أدب الطيب صالح على وجه العموم ، فالنيل في أدب الطيب له عمقه ، وأصالته ، وهو بحاجة إلى دراسة مستقلة تتبع معناه ومغزاه في روايات الطيب المختلفة ، والنيل في "مريود" ، هو الكائن الحي ، كبير الكبراء ، الذي يكتشـف فيه الإنسان نفسه ، ويستمع إلى الأصوات الداخلية العميقة في قلب روحه ، وفي النيل يبدأ الإنسان حياته ، وفيه تنتهي هذه الحياة ، إن كان للحياة مع النيل نهاية . وفي النيل يجرب الإنسان ويحس بالخطر والخوف ويقترب من الموت وفي النيل يولد الحب الكبير ، وفي النيل تولد الأحزان وتذهب الاحزان ، فمنه يخرج العذاب وفيه تتطهر النفس وتهدأ وتغسل كل ما أصابها من جراحات وهموم . النيل في "مريود " هو الامتداد اللانهائي للحياة بكل ما فيها من عواطف وعواصف وصراعات ، " فمريود" عندما أحس لاحزن " ذهب يضرب على الدرب حاملاً يأسه صوب النهر " والنهر في حياة مريود هو "التجربة الكبرى" التي نقلته من الصبا والطفولة إلى القوة والفتوة والرجولة ، ومن الاحلام الهادئة الوديعة إلى النداءات البعيدة والصراعات الحادة في هذه الحياة :

" ... أخذ يضرب بيديه ورجليه في الماء على غير هدى ، والجد على مبعدة منه يناديه بصوت فيه قسوة " اسبح . اسبح " ؟ لا يدري ماذا حدث . ولكنه يذكر لذعة شمس الصباح وهو يستيقظ على الشاطئ ، ويذكر ضحك جده . قال له أنه سبح بالفعل دون معونة ، ليس صوب الجد ولكن صوب الشاطئ " " كان ذهنه مرهفاً مسيطراً على كل عضلة في جسمه . يذكر برودة الماء قريباً من الشاظئ ، ويذكر جذع نخلة طاف على يساره ، ويذكر غراباً ينعق صوب الشرق . ثم أحس بالماء دافئاً ، وكأن كل خلية في جسمه تسمع وترى . وبدا حس الدوامة يعلو والنداء يشتد . في برهة لمح وجه مريم وسمع صوتها ينادي " يا مريود . يا مريود " وأخذ الصوتان يتجاذبانه . وأخذ صوت الدوامة الكونية يعلو حتى طغى على الأصوات كلها . لا يذكر أين كان جده حينئذ . انقطع الحبل الذي كان يربط ما بينهما . أصبح وحده ازاء قدر يخصه هو . ثم حملته موجة إلى مركز الفوضى . كان ألف برق برق ., ألف رعد رعد . ثم ساد صمت ليس كالصمت . أحس كأنه يجلس فوق عرش الفوضى مثل شعاع باهر مدمر . كان اله . وكان يريد أن يقتل ويدمر ويشعل حريقاً في الكون كله . ويقف وسط النار ويرقص ، ويتراقص اللهب حوله . لم يعد مسيطراً على قوى جسمه ، ولا على قوى النهر وحسب . بل على كل احتمالات المستقبل ...

وهكذا يصور لنا الطيب صالح شخصية "النيل" غي حياة " مريود " فالنيل ليس نهراً ، ولكنه هو الحياة بأكملها ، صراعه مع النيل هو صراعه مع الحياة ، وتجاربه في النيل هي تجاربه فيالحياة ، وكأن الطيب صالح في " مريود " يقول لنا " من النهر جئنا والى النهر نعود " ، ففي النهر تتجسد الحياة بمعناها الواسع ، بما فيها من حكمة واسرار وتجربة وغموض ووضوح ، ومن هذا النهر تنبع مياه الحكمة الخالدة النبيلة التي نقرؤها في هذه السطور من رواية " مريود " :

" ... شغلتني الصوات المبهمة التي تنبع من النهر ، كأنني أسمعها من مسافة ألف ميل ، فيها أصداء الاودية البعيدة والشلالات ، وأذعنت زمناً للغط الموجات الصغيرة تعدو بلا كلل من شاطئ إلى شاطئ . ومن آن لآن كان النهر ، هنالك في القلب ، عند ملتقى التيارات ، يعوي عواءه القديم ، وبينا أنا كذلك إذ بصـوت إنسان إلى يميني كأنه يخاطب النهر والفجر الذي قرب يطلع : " الإنسان يا محيمد ... الحياة يا محيمد ما فيها غير حاجتين اثنين ... الصداقة والمحبة . ما تقولي حسب ونسب ، لا جاه ولا مال .. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد .. يكون كسبان " .. تلك هي حكمة النهر تفيض منه على قلوبنا في رواية " مريود " .

ويصعـب علينا أن نرصـد كل " الوظائف" التي يقوم بها لانيل في رواية "مريود " ، ذلك لأنها متعددة متنوعة ، وخلاصتها ، أنه يمثل الحياة في اصفى وأعمق وأهدأ وأعنف صورها ومعانيها ، فهو الحب والحكمة ، والتجربة ، وهو مجال الرؤية والتأمل ، وعلاقته بالانشان وثيقة ، حيث يبدو الناس على شاطئ النيل أو في مياهه وهم يتكاشفون ويبوحون بأعمق ما في نفوسهم من اسرار . ولنترك النيل في هذه الرواية مؤقتاً ، ولعلنا نعود إليه مرة أخرى في دراسة عن " النيل في أدب الطيب صالح " ، ولنواصل رحلتنا الآن مع " مريود " ، فماذا نجد وماذا نرى ؟

مريم ..الارادة

نلتقي في " مريود " بشخصية مريم التي أشرنا إليها في البداية ، وهي شخصية قوية ذات إرادة ، مندفعة نحو التحضر والتقدم والغد ، لا تترك فرصة لاكتشاف الاساليب المختلفة التي تفك من حولها أي حصار مضروب عليها وعلى المرأة في البيئات المتخلفة من المجتمع العربي ، تعلمت القراءة قبل أن تدخل المدرسة من شدة شغفها بالاكتشاف والمعرفة ، وأرادت أن تدخل المدرسة مع الاولاد فقيل لها " المدرسة للاولاد . ما في بنات في المدرسة " فقالت في جرأة وعزم " خلاص ما دامت الحكومة ما تقبل الا الاولاد أصير ولد " " ما دامت الحكومة ما تقبل الا الاولاد ألبس جلابية وعمة وأمشي معاكم ، متلي متلكم . ما في أي إنسان يعرف اي حاجة . ايه الفرق بين الولد والبنت " ونفذت مريم ، التي تعيش في " ود حامد" تلك البيئة البشسيطة البدائية ... نفذت مريم ما ارادته بعزيمتها ، التي هي من الحديد أو اشد صلابة ، ودخلت المدرسة مع الصبيان بملابس الصبيان ، وكانت تقول فيما يشبه التحدي الصريح " البنت مثل الولد . الخالق الناطق" ومن شدة ايمانها بما تقول لفظاً وتطبيقاً ، اقتنع الذي حولها برأيها ووجهة نظرها ، بعد أن سرى فيهم ايمانها الحار بما تقول مسرى الدم في العروق . وعن هؤلاء الذين حولها تقول لنا رواية مريود :

" لم تكن خجلة . واجهتنا بغتة ، فرأينا اضواء ذلك الأفق البعيد تتوهج على جبهتها وحول عينيها . نظرنا بعضنا إلى بعض كالمسحورين ، وقلنا أنا ومحجوب بصوت واحد . وقد بدا ذلك الأفق يتراءى لنا نحن أيضاً : صحيح ليش لأ " .. أي أن الذين حول " مريم" أو " مريوم" كما كان يدللها حبيبها "مريود " اقتنعوا بوجهة نظرها ووافقوها على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة ، خاصة إذا كانت المرأة مثلها في القوة والشخصية والتطلع إلى الامام ، وهو موقف ليس نابعاً من البيئة ولكنه مخالف لها ومعارض ومتمرد عليها أشد التمرد .

وهنا نتوقف قليلاً لنسجل ملاحظة عامة على أدب الطيب صالح ، هذه الملاحظة هي : أن " المرأة عند الطيب صالح " قوية جداً ، وذات إرادة صلبة ، وقدره على الاختيار في كل الأمور ، وبالذات فيما يتصل بأمور الزواج والحب ، والمرأة في أدب الطيب صالح أيضاً ، تتطلع دائمـاً إلى الامام ، وتختار الأحسن والأفضل ، وتحلم احلاماً زاهية عن المستقبل . وعلى سبيل المثال فإن " مريم" في " مريود " تريد أن تتعلم وتصـر على ذلك ، وهل تحلم بأن يكون لها عشرة أولاد . يكونون جميعاً من أهل العصر الجديد والتقدم والنور ، فهي تحلم بهم : أطباء ، ومهندسين ، ومدرسين ، وعندما يعابثها حبيبها " مريود " حول حلمها بمستقبل الاولاد فيقول : الافضل أن يخرج الاولاد " مزارعين ومداحين وصعاليك " . عندما يقول لها ذلك فان مريم تنشب أظافرها – كما يقول مريود – " في وجهي وتضربني بقبضة يدها الصغيرة ، وتعضني وتركلني برجلها . وأنا اضحك متقلباً في الرمل وهي تصرخ : أبداً . أبداً . أبداً " فهذه "الأبداً" الثلاثية . هي قسم منها على الايمان بالتحضر والتقدم والمستقبل ، وهو قسم جميل صادق لا افتعال فيه ، وان كان كما قلت مخالفاً للبيئة الواقعية متمرداً ثائراً على ما فيها من جمود وركود . هذه " المرأة القوية" صاحبة الارادة والتطلع في أدب الطيب صالح لا علاقة لها بالمرأة المتهالكة الضعيفة التابعة والمسحوقة والتي تشيع صورتها في أدبنا المكتوب عن الريف العربي .

و " المراة عند الطيب صالح " تكشف لنا عن أنه يفهم المرأة على أنها هي جوهر الحياة الإنسانية كما يحس بها الفنان في وطنه ، انها حافز للحياة ، وشعلة مدفونة في الرماد ، يرى لها القلب البصير وهجاً ولهيباً يشتعل . وليست صورة المرأة في مجتمعنا العربي هي الصورة الخارجية المعروفة في هذا المجتمع ، حيث يسود النموذج السلبي المغلوب على أمره ، والذي لا يرى فيه ذوو الرؤية المحدودة إلا موضوعاً للجنس والحب السهل . المرأة عند الطيب صالح جوهر صاف ، ونبع حس من ينابيع الحياة تتدفق بالحب والارادة وتكسر الحواجز بقوتها وشفافيتها عن عد ساطع له بريق . والمرأة عند الطيب صالح هي وجه آخر للنيل في قوته وسحره واندفاعه وارتباطه بكل ما في الحياة من حركة وتطلع ، والمرأة عند الطيب صالح هي التي تريد أن تجدد الحياة والإنسان ، كما أرادت مريم أن ترى مدرسة جديدة فقيل لها مثل مدرية " ود حامد " فقالت في ثورة : " ود حامد تغطس في الارض . مدرسة كبيرة من الحجر والطوب الاجمر وسط الجناين " . هذا هو حلم " مريم" التي تريد تغيير الواقع ، وبناء مدينة فاضلة جديدة ، وهذه المدرسة التي تحلم بها " مريم " البسيطة الطيبة في قرية " ود حامد " ، هي نفسها التي بناها يوماً شاع الشرق "طاغور" لتلاميذه : " مدرسة كبيرة من الحجر والطوب الاحمر وسط الجناين " ، ذلك لأن طاغور كان مثل مريم يعشق الحياة ويحلم بالمستقبل الجميل والإنسان القوي السعيد ، والفرق هو أن طاغور كان يملك تحقيق ما يحلم به أما مريم فلم تكن تملك إلا أن تحلم ، وقد يتساءل الذين ينظرون إلى سطح الاشياء : هل صورة المرأة عند الطيب صالح صورة واقعية ؟ وهل المرأة في السودان تشبه نساء الطيب صالح القويات صاحبات الارادة والعزيمة والقدرة على الاختيار بحرية واصرار ؟ والاجابة عندي هي أن الطيب صالح " فنان صاحب رأي ورؤية" ، ولا مجال في أدبه للتصوير الواقعي " الميكانيكي" السطحي المباشر ، ولكنه يعطي من دفقات قلبه صورة للمرأة التي هي عنده وطن وحافز وإرادة للحياة ، وحلم كامن في أعماق أرضنا يتطلع إلى المستقبل ، إن المرأة عنده هي المرأة الجوهر والمرأة الحلم ، والمرأة الرمز وليست المرأة هي أبداً تلك الظواهر الخارجية التي قد تكون غارقة في مظاهر التخلف والبعد عن هذه الصورة القوية التي يرسمها الطيب صالح للمرأة . فمن قلب الطيب صالح ومن رؤياه الإنسانية تولد هذه الصورة للمرأة والتي نجدها في شخصية " مريم" في رواية " مريود " ، ونجدها في شخصية "حواء بنت العربي" في نفس الرواية – وقد أشرنا إليها أيضــاً من قبل – " وكانت صاعقة الحسن فأرادها الكثيرون ومنهم بعض سراة أهل البلد ، فتمنعت واعتصمت ولم تقبل منهم طالب حلال أو حرام " ، " قالوا ولم يعلق قلب حواء هذه إلا ببلال ، فكانت تعرض له وهو في صلاته وعبادته ، فلا يرد عليها ولا يجاوبها وظن الناس أول الامر أنها تعبث به ، ثم تيقنوا أنها ويا للعجب ، قد هامت به هياماً كاد يذهبها عن نفسها ، ولما أعيتها الحيلة ذهبت إلى الشيخ نصر الله ود حبيب ، وشكت له وتذللت ، فأشار على بلال أن يتزوجها فقال له :

" يا سيدي روحي فداك ، لكن لا تخفى عليه خافية من أحوال عبدك المسكين ، أنا ماشي في دروب أهل الحضرة ، وأنت تأمرني بأفعال أهل الدنيا " فقال الشيخ " يا بلال . إن دروب الوصول مثل الصعود في مسالك الجبال الوعرة . مشيئة الحق غامضة . يا بلال ، ان حب بعض العباد من حب الله ، وهذه المسكينة تحبك حباً لا أجده من جنس حب أهل الدنيا ، فعسى الحق أن يكون أرسلها اليك لأمر اراده . عساه جلت مشيئته أراد لك أن تختبر مقدار حبك بميزان حب هذه المسكينة لك فاما صحوت وانقطع سبيلك واما ازددت ظمأ إلى كأس الحب السرمدي ويكون سبحانه وتعالى قد انفذ مشيئته باذلالك في ارادته القصوى " ، فصرع بلال بأمر شيخه وتزوج حـواء" .

" قالوا . ولم يجتمع بها إلا ليلة واحدة ، بعدها استاذن شيخه أن يسمح له بأن يبرئ ذمته منها . فأذن له ، وكانت قد حبلت منه في تلك الليلة ، بابنه الذي سمى الطاهي ، وبعد أن سرحها بلال ، ابت أن تدخل على رجل آخر ، وانصرفت لتربية ابنها ، فكان شأنها في ذلك شان المتصوفة العاكفين ، وذكروا أنها لما رحلت عن الدنيا وهي تناهز السبعين ، كانت على أبهى هيئتها وحسنها ، لم ينقص من جمالها مثقال ذرة ، ولم يغير الزمن منها مقدار شعرة ، فكأنها كانت من تصاريفه في حصن حصين " .


الأصل والصورة

هذه هي جواء بنت العربي ، ذات الشخصية القوية والارادة النادرة والقادرة على الاختيار في الحب والحياة . شخصية ، ولا الرجال ، فد قدرتها على الاستمرار في الحياة وفي اندفاعها وراء ما تريد واصرارها عليه ، وفي قـدرتها على الاحتمال والصبر ورفض ما لا تهواه ولا تريده بالقلب أو بالعقل ، إنها نموذج للإنسان الكامل ، إذا اعتبرنا أن الإنسان الكامل هو الذي يعيش حسب خطته هو لا حسب خطة الآخرين ، أو بعبارة أخرى هو ذلك الإنسان الذي يعيش كما يؤمن ويعتقد ، لا كما يؤمن الآخرون ويعتقدون .

وفي رأيي أن الطيب صالح ، يرسم هذا النموذج للمرأة في أدبه ، عن رؤية خاصة وحلم عميق وايمان كامل – يريد أن ينقله بالفن إلى عقولنا وقلوبنا – بما في المرأة من رمز رفيع للحياة ، وهذا هو الأصل في هذه الصورة التي يرسمها الطيب للمرأة ، ولكن قد تكون هناك عوامل ثانوية تدخل في تكوين الصورة ، فقد حدثني الطيب صالح عن شقيقة له قوية الشخصية صاحبة وعي وعزم وارادة ، كما أن الطيب صالح " مثله في ذلك نجيب محفوظ الذي انجب فاطمة وأم كلثوم" أب لثلاثة اطفال كلهن بنات . كما أن الريف السوداني والريف العربي عموماً ملئ بنماذج نسائية مشرقة ، رغم ظروفها الصعبة وما فيها من تلقائية وبساطة ، وكلما التقيت بهذه الصور النسائية في أدب الطيب صالح تذكرت أمي رحمها الله ، وأحسست ان الطيب يشفيني بهذه الصورة التي يرسمها للمرأة في الارض العربية ، فقد كانت أمي فلاحة فقيرة وأمية ، عاشت وكل خبزها هو العمل والكفاح والكدح من اجل أسرتها واولادها وماتت – على فراش من الشوك – في التاسعة والثلاثين من عمرها ، وكانت – حتى اللحظة الأخيرة – مدرسة من مدارس الصبر والكرامة والتعفف والحزن الذي كانت تحتمله وحدها بلا شريك ، وفي حياة كل الذين عاشوا في الريف العربي – ولا شك – نماذج نسائية من هذا الطراز لم تجد من ينصفها أو يفهمها أو يعبر عنها بصدق ويرد لها الجميل ، وربما كانت هذه العوامل الثانوية جميعاً من بين ما أثر في نفس الطيب صالح ووجدانه فتعاطف مع المرأة وخلق منه في فنه نماذج فريدة في ادبنا العربي المعاصر .

ولكن الأصل في نظرة الطيب صالح إلى المرأة هي النظرة الإنسانية والفلسفية والحضارية التي يحملها في وجدانه وعقله ويؤمن بها ، ويريد أن يبذرها في الارض العربية لتثمر في قلوبنا وواقعنا أجمل الثمرات ، وكل فنان كبير في أدب العالم يريد ان يبذر في هذه الدنيا بذوراً في الواقع وفي وجدان الناس ، ويريد أن يخلق في جيله وفي غيره من الاجيال نظرة عقلية وحساسية وجدانية ازاء بعض القضايا الرئيسية ، والطيب صالح فنان كبير ، وهو " يلقح" قلب جيلنا وعقله ببعض البذور الإنسانية الاساسية ، ومن بينها هذه البذور التي تتمثل في احترام المرأة ، والكشف عن قوتها وتأثيرها وعمق اندفاعها إلى الحياة الصحيحة الخصبة وما يتمثل فيها من " إرادة الحياة " في أحسن صورة واجملها ، وما تشيعه في نفوسنا من أن حرية الاختيار ليست عبثاً ، وإنما هي حرية محكومة بمجد الحياة وسعادة الإنسان ، كل ذلك بالاضافة إلى ما تحمله المرأة عند الطيب صالح من رموز للحياة والوطن والارض . والحق أن نظرة الطيب للمرأة تستحق الاعجاب والتقدير ، ففي ظني أنه لا يمكن أن تقوم حضارة حقيقية للإنسان دون أن تكحون هذه الحضارة مبنية على عدد من القيم والمبادئ من أهمها : احترام المرأة ، والحضارات التي لا تعرف احترام المرأة هي نوع من الجاهلية الإنسانية تسود فيها القسوة والعنف وتختل فيها العلاقات الإنسانية والافكار والمشاعر أشد الاختلال .


يتبع ..،

Post: #3
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: Agab Alfaya
Date: 05-16-2005, 12:21 PM
Parent: #2

الموت .. والاحلام

وذا تركنا موضوع المرأة – رمز الحياة – في مريود وهو متصل اشد الاتصال بصورة المرأة في أدب الطيب صالح كله ، فاننا نلتقي بظاهرة اخرى تلفح مشاعرنا ونحن نقرأ "مريود" ، هذه الظاهر هي "مشاهد الموت" ، فهناك مشهدان أساسيان للموت في الرواية ، الأول هو موت مريم المفاجئ والذي يوحي أن هذه المرأة مليئة بالاحلام الرائعة ، والتي كانت هي نفسها حلماً جميلاً ، قد عجزت عن تحقيق ما تريد ، وانقض عليها الموت . ولعل هذا المصير يكشف لنا أن الطيب صالح نفسه كان يحس في اعماقه أن أحلام مريم لم تتحقق بعد ، وأن مريم ، بموتها ، قد عادت إلى باطن الارض ، وعندما تم دفنها فقد تم دفن احلامها معها ، فهذه الاحلام موجودة في باطن الارض ... أرضنا ولابد للارض أن تعود فتلد " مريم" من جديد وتحقق الاحلام المدفونة . ونكاد نحس بمشاعر مقدسة نحو أرضنا هذه التي تضم جسد مريم ، ونحس أن في باطنها كنزنا الكبير ، وأن علينا أن نستخرج مرة أخرى هذا الكنز أو هذا الجسد لنحقق به أحلام مريم التي لم تتحقق . ولهذا كله فمشهد موت مريم هو مشهد عن " موت الاحلام " ، ومريم لم تكن يوم موتها في جنازة وإنما كانت في عرس ، وهي لم تدفن داخل الارض وانما "زرعت" في جوفها كسنبلة أو كجذع نخلة ، وعلينا أن ننتظر بزوغها ونموها من جديد . لقد كان مشهد موت مريم من أروع ما اتيح لي أن أقرأه في أدب الإنسان ، وهذه هي لحظاتهـا الاخيرة قبل الموت كما تصفها لنا رواية مريود :

" لم تكن بها علة ، ولم تلزم فراشها غير يوم واحد ، كأنها قررت أن ترحل فجأة . كأن كل الذي حدث لم يحدث . كانت خضلة مثل عروس . ليس بها شئ سوى بعض حبات العرق على جبهتها ، كان وجهها متألقاً وعيناها تتلامعان مثل البروق " ونقرأ في مريود ايضاً صورة لجنازتها أو عرسها : " ... دفناها عند المغيب كاننا نغرس نخلة ، أو نستودع باطن الارض سراً عزيزاً سوف تتمخض عنه في المستقبل بشكل من الاشكال . محجوب قبل خدها . وأنا قبلت جبهتها ، وكاد الطريفي يهلك من البكاء ، وحملناها برفق نحن الستة ووضعناها على حافة القبر . أسمع ذلك الصوت الذي ليس مثله صوت يجيئني من بعيد مثل ناي سحري ، في غلالة من أضواء الأقمار في ليالي الصيف ، ولمع الشعاع على سعف النخل الندي ووهج النوار في حدائق البرتقال . تقول وهي تجر عمامتي من راسي : نسكن البنـدر . سامع ؟ البندر . المويه بالانابيب والنور بالكهرباء والسفر سكة حديد . فاهم ؟ اتمبيلات وتطورات . ابتاليات ومدارس وحاجات وحاجات . البندر . فاهم ؟ الله يلعن ود حامد . فيها المرض والموت ووجع الرأس . أولادنا كلهم يطلعوا أفندية . فاهم ؟ زراعة ابداً . وحياة محجوب أخوي زراعـة ما نزرعهـا أبداً " .

هكذا ماتت مريم بحلمها الحضاري ، وكان نداؤها يتردد في وجدان "مريود " وهو يشارك في جنازتها أو عرسها ويحملها مع الآخرين إلى القبر . وانطلاق هذا الصوت القوي في وجدان مريود – يسمعه وحده – في " جنازة عرس" مريم معناه أن مريم قد غلبت على أمرها إلى حين ، وأن احلامها قد عادت إلى باطن الارض أملاً في النمو من جديد . بل أنها تعود بالفعل – وربمـا كان ذلك حلماً من أحلام اليقظة – وذلك في مشهد مكمل لمشهد المـوت ، لأنه يعطي لهذا الموت معنى خاصاً عميقاً صافياً ، وها هو مشهد العودة من الموت عند حافة القبر يصوره الطيب صالح على لسان " مريود " تصويراً رائعاً يفيض بالشعر والموسيقى والوجد الجميل :

" كانت مثل طائر ، رفعها محجوب من نعشها فشهق ضوء المصابيح على حافة القبر ، وسمعت هبوب أمشير تناديني بلسان مريم " لا شئ . لا أحد " خطا بها نحو القبر ، فاعترضت طريقه ومددت يدي . نظر إلي برهة ، ورايت في عينيه ترقان وتغرورقان ، فتركها لي . كانت خفيفة مثا فرخ طائر وأنا أسير بها في طريق طويل يمتد من بلد إلى بلد ومن سهل إلى جبل لم يكن حلماً . أيداً . كانت مريم نائمة على كتفي . سرت بها على ضفة نهر إلى وقت الضحى ، فأيقظها لفح الشمس على وجهها . انفلتت مني وقفزت في الماء . كانت عارية . أشحت عنها ولكنني لم أطق صبراً فأدرت لها وجهي . نظرت ، فاذا هي بركة من الضوء ن وكان أشعة الشمس هجرت كل شئ وتعلقت بجسدها . كانت تغطس وتقلع وتختفي هنا وتظهر هناك . وتضحك لي من جهة اليمين ، ثم إذا هي تناديني من جهة اليسار . نعم . نعم . نعم . أريـد أن أغـرق في نبع ذلك الضوء الذي ليس من اضواء هذا الزمان ولا هذه الأرض . لكنني ترددت ليس أكثر مما يطرف جفن العين . في تلك اللحظة عاد الشعاع إلى منبعه وذهب الطيف . لا اعلم إلى اين . ناديت بأعلى صوتي " يا مريوم. يا مريوم " فعاد الصدى مجسماً بألسنة شتى " يا مريود . يا مريود " . ضربت دون هدى في صحراء تويوي ريحها وتتهايل رمالها ، حتى بلغ اليأس وأخذ مني الجهد . ثم إذا شجرة طلح يلمع نوراها فجأة احسست بمريم . بعيد العشاء أو قبيل الفجر . لا أعلم . لكنني أذكر ظلاماً رهيفاً وضوءاً ينسكب على وجهي من عينيها ، شربت منه حتى بلغ مني الظمأ عايته " ... وهكذا عادت مريم في قلب مريود وروحه إلى الحياة ، بينما كان يحملها إلى داخل القبر . ودار بينهما حوار طويل – غير مسمـوع لأحـد – بعد العودة تسجله الصفحات الأخيرة من " مريود " . وهو حوار يبحث فيه " مريود" عن طريق في نفسه وفي عالمه يمشي على ضوئه ولا يضيع .

تلك هي مريم التي استطاعت أن تجمع في شخصيتها بين المعنى الخاص كامرأة محبوبة ، والمعنى العام كرمز للطريق والرؤية ، ورمز لحلم الحياة وشوقها إلى التجدد وكسر الاسلاك الشائكة التي تحول بيننا وبين الانطلاق الروحي والانطلاق الحضاري معاً وهذا هو مشهد موت مريم ، وهو ليس موتاً كالموت ، وكلنه وعد جديد بالنور بحياة اخرى تنبع من باطن التراب الذي فيه جسد مريم ، هذه هي مريم ، " العذراء " الثانية التي أنجبت لعالمنا بلا زواج : حلماً ، وعشر بنين وبنات لم يولدوا الا في الخيال ووصية بالطريـق تضئ الظلام أمام أهـل الطريق ن واصحاب القلوب التائهة فلا تضل . أنها حقاً عذراء ثانية ، مثل العذراء الاولى التي أنجبت للدنيا عيسى المسيح من غير زواج كالزواج المعروف في دنيا البشر .

والمشهد الرئع الثاني من مشاهد الموت في " مريود " هو مشهد موت بلال . وهو أيضاً مشهد نادر في أدبنا وأدب الإنسان ، فالموت هنا نظام وترتيب واختيار ، وهو موت برغبته ورضاه ، وكأنه في الموت يمشي على قدميه من مكان إلى مكان ، على أن الموت على طريقة بلال ليس ميسوراً للجميع ، فهو نعمة لا ينالها إلا المتصوفون والعشاق وأهل الحظوة والرؤية والحضرة والذين لهم في قلوبهم عيون ترى ما لا نراه ، واني لأكاد أجرؤ على القول – بضمير أدبي مستريح – أننا نستطيع أن نقارن هنا بين مشهد موت " بلال " ومشاهد الموت المشهورة عند شكسبير ، ويخرج " بلال " من هذه المقارنة خالداً مثل غيره من الموتى الخالدين . نستطيع أن نقارن بين مشهد موت بلال ، ومشهد موت " هاملت النبيل " ، ونقارن بينه وبين مشهد مـوت " أوفيليا" الرقيقة ، ومشهد موت " جولييت" الطاهرة ، التي ماتت مرتين ، مرة بالمنوم ، فكان موتها وهماً ولكن الأهل والأحباب عاملوه معاملة الموت الحقيقي لأنهم كانوا يجهلون ولا يعلمون ، أما الموت الثاني لجولييت فقد كان بخنجر حبيبها روميو ، طعنت به نفسها ، عندما اكتشفت أن موتها الوهمي قد أدى إلى انتحار حبيبها ، فاختارت ان تعيش بالموت على صدر حبيبها المعشوق ، بل أكاد أجرؤ على القول مرة اخرى بأن " الموت " في "مريود " له طعم خاص ، ولون لا يختلط مع غيره من الألوان ، انه موت جميل يلبس عمامة سودانية وجلباباً أبيض ويحمل في يده مبخرة تفوح برائحة عربية إفريقية ، وهو موت فيه موسيقى وطبول من تلك التي نسمعها في الغابات وفي موالدنا الدينية ، إلا أن صوت الطبول والموسيقى ، في مريود ، ليس عالياً لأن الموت هنا وديع متواضع يمشي في عرسه على أطراف أصابعه في رشاقة وابتهاج وحكمة ... موت بلال هو – حقاً – موت عربي إفريقي ، وهو لا يمكن أن يظهر إلا في بلادنا حيث يوجد التصوف والسحر والقدرة على مخاطبة . الموتى والايمان الصحيح الثابت بأن ما بعد الحياة هو حياة أيضاً .

وهذا هو مشهد العرس الصوفي ، أو مشهد " موت بلال " كما نقرؤه في رواية " مريود " :

" قالوا أنه مكث حولا واحداً فقط بعد وفاة الشيخ نصر الله ود حبيب ، وأنه توفى مثله في نفس الساعة من نفس اليوم من أيام شهر رجب . كان قد امتنع عن الاذان ودخول الجامع بعد وفاة شيخه واحتجب ، وذات فجر استيقظ الناس على صوته ينادي من على مئذنة الجامع ، صوت وصفه الذين سمعوه بأنه كان مجموعة أصوات ، تأتي من أماكن شتى . ومن عصور غابرة . وأن نفس ود حامد ارتعشت لرحابة الصوت ، وأخذت تكبر وتعلو وتتسع ، فكأنها مدينة أخرى من زمان آخر ، قام كل واحد منهم من فراشه وتوضأ وسعى إلى منبع الصوت ، كأن النداء عناه وحده في ذلك الفجر . ولما وقفوا للصلاة رأوا " بلال" يلبس كفناً . وكان الجامع غاصاً بخلق كثير ، من أهل البلد ومن غير أهل البلد . كان أمراً عجباً . كبر للصلاة كما كان يفعل أيام "ود حبيب" ثم وقف ليصلي بهم . فلم يقف أمامهم حيث كان يقف الشيخ ، بل وقف معهم في وسط الصف الأول ، وهو على تلك الهيئة . وقرأ سورة الضحى بصوت فرح ، فاذا بالآيات نضرة كأنها عناقيد كرم . وبعد الصلاة التفت إليهم بوجه متوهج سعيد وحياهم مودعاً ، وطلب منهم ألا يحملوه على نعش بل على أكتافهم ، وأن يدفنوه بجوار شيخه " نصر الله ود حبيب " ، على أن يتركوا بينه وبين الشيخ مسافة تقتضيها أصول الاحترام والتبجيل ، بعد ذلك تمدد على الارض عند المحراب وتشهد واستغفر ، والناس ينظرون في رهبة ودهشة ، ثم رفع يده كأنه يصافح احداً وأسلم روحه إلى بارئها . وحملوه من موضعه ذاك من الجامع إلى المقبرة ، وقالوا انه مشى في جنازته خلق كأن الأرض انشقت عنهم . ودفنوه عند الشروق فيما رووا ، وأمَّ بهم الصلاة رجل مهيب لم ير وجهه أحد ولكن أكثرهم قال أنه كان كأنه الشيخ نصر الله ود حبيبي . وحدثوا أنه ما من رجل شهد وفاة بلال إلا وقد اشتهى أن تقبض روحه في تلك الساعة ، فقد جعل مذاق الموت في أفواههم كمذاق العسل " .

هذا هو مشهد موت بلال وهو كما قلت مشهد نادر في أدبنا ، وهو ايضاً من اجمل وأعمق مشاهد الموت في أدب الإنسان ، وهو مشهد يكشف لنا أن عالم الطيب صالح قد حلت فيه "بركة" من بركات الوجود ، وأصابه "مس " من الحياة ، فأصبح كل شئ في هذا العالم يتحرك وينبض بالحرارة حتى الموت ، ولأن الطيب صالح من نبع الوجدان والقلب يكتب ، ولأن الطيب صالح من عين الرؤية والمشاهدة الداخلية يكتب ، فهو لا يعبأ بالحدود الكثيفة للاشياء ، بل يحس أن هناك وحدة للوجود ، تجمع كل شئ ، وتجعل الكل ناطقاً وعاشقاً ، وتصيب الموت بالدفء فيصبح امتداداً لعالمنا ، فيه كلام وأحاديـث وفعل وآمال واحلام ، وهو يحيط ذلك كله بجد من الصوفية الكاملة ، ولكنها صوفية " اليقظة " المتفتحة على الحياة " المنفعلة والفاعلة " ، وليست صوفية الخمول والجمود ، تلك الصوفية الذابلة المعتزلة التي لا ترى في الوجود إلا ما يوجب الانصراف عنه . انها صوفية لا علاقة لها بمشكلة "الاعتزال والانتماء " والاختيار بينهما ، وكلنها صوفية يختار فيها الإنسان بين " الحياة بالعشق " " والحياة بالعقل والسلطة والحياد بين الاشيـاء " ، وهي صوفية ، لا تختار ، لأنها تختار " الحياة بالعشق " ولا تتردد في الاختيار .


يتبع ..،

Post: #4
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: Agab Alfaya
Date: 05-16-2005, 12:24 PM
Parent: #3

نشيد الانشاد

وهنا ينبغي أن نشير إلى أسلوب الطيب صالح وما فيه من تأثرات بكتب الأديان والتصوف ، فعندما نقرأ في مريود عبارات مثل " تفاحة قلبي " و " رمانة قلبي " نتذكر " نشيد الانشاد " في التوراة ، فهذه هي روحه وهذا شذاه . وعندما نقرأ في الحوار بين " مريود " وحبيبته – في عالم الروح – قول مريود " أجعلي لي آية" نتذكر عطر الاسلوب القرآني ، أما في الحوار بين بلال وشيخه فنحن نتذكر كتاب " المواقف" " للنفري" وغيره من كتب المتصوفين اصحاب لغة العشق و " أوراد " الوصول . وقد حدثني الطيب صالح – وهو عندي صادق أمين – أن بعض مقاطع القصة كانت تهبط عليه فجأة ، وفي أوقات لا يكون فيها على أهبة للكتابة ، وعندما تهبط عليه هذه المقاطع يستجيب لها كما يستجيب لنداء مقدس ويكتبها كما أملاها عليه الهام الـروح ، وهذه " الحالات" عند الطيب هي من احوال المتصوفين وأهل العشق ، وهي حالات تفيض بالنور على كثير من صفحات مريود وتملؤها بالعطر الروحي الجميل . ومن المقاطع التي هبطت على الطيب صالح فجأة فكتبها كما هي ، عندما استيقظ ذات صباح ، فوجدها حديثاً في قلبه ، ذلك المقطع الأخير من رواية مريود ، حيث تقول "مريم" " لمريود " وكان صوتها كأنه ينزل من السماء ويحيط بمريود من النواحي كافة ، تطويه رياح وتنشره رياح :

" يا مريود . أنت لا شئ . أنت لا أحد يا مريود . انك اخترت جدك وجدك اختارك لانكما ارجح في موازين أهل الدنيا . وأبوك أرجح منك ومن جسدم في ميزان العدل لقد أحب بلا ملل ، وأعطى بلا أمل ، وحسا كما يحسو الطائر ، واقام على سفر ، وفارق على عجل . حلم أحلام الضعفاء ، وتزود من زاد الفقراء ، وراودته نفسه على المجد فزجرها ، ولما نادته الحياة ... ولما نادته الحياة ..." .


ينابيع الروح

هذه هي كلمات الصوت الداخلي الذي استمع إليه الطيب صالح " وكان كأنه ينزل من السماء ويحيط به من النواحي كافة " ، فسجله الطيب على الورق كما هو ، وهذا المقطع هو نموذج لمقاطع متكررة هبطت على الكاتب بهذه الطريقة ، وفي هذا الموقف الأدبي الروحي ، دليل جديد على أن الينابيع التي يتدفق منها عالم الطيب صالح هي ينابيع الروح والوجدان والحلم الصافي العميق ، وليست ينابيع الملاحظة الخارجية ، واليقظة العقلية التي تحسب خطوات النفس والجسم بالأمتار والسنتيمترات .


ملاحظتان

هل انتهت عطايا مريود ؟ كلا أنها لم تنته فما يزال فيها الكثير الذي يستحق البحث والدر والاكتشاف ، ولكن لابد لنا أن نتوقف هنا فالمجال محدود ، وحتى لا نفسد "الوردة" بكثرة التفتيش في أوراقها ، وكثرة البحث والتنقيب في تربتها ، وتحليل عطرها في معامل الكيمياء ، ولكنني أود أن أنهي هذه الدراسة بملاحظتين صغيرتين :

الملاحظة الاولى هي أن الطيب صالح – وقد أشرت إلى ذلك من قبل "قد نسج روايته من قماش سوداني إفريقي عربي " ، ومن هذا القماش "المحلي القومي" استطاع الطيب صالح أن يكتب أدباً " إنسانياً عالمياً " ، يمكن لأي إنسان أن يقرأه في أي مكان من الرض فيطرب له ويتأثر به ، وتجري في عينيه الدموع ، فكأن " القومية المحلية " عند الطيب صالح هي طريق "الوصول" إلى الإنسانية ، والحقيقة هي أن الطريق الوحيد للوصول إلى العالمية هو الابتداء من المحلية القومية ، ولا طريق آخر سوى هذا الطريق ، والمحلية القومية هنا هي أشبه بالصحراء العربية التي كانت تخفي في جوفها محيطاً من " البترول " ، فظاهرها صحراء جرداء وباطنها كنوز ، كذلك فان المادة " المحلية القومية " عندنا تخفي أنهاراً وينابيع كثيرة من الشعر والموسيقى والعواطف الإنسانية الفنية الخصبة ، و " مادتنا القومية الإنسانية " في وجهها الخارجي لا تظهر إلا التخلف والاوجاع والهموم ، ولكن هذا المظهر الخارجي يخفي تحته الكنز الكبير ، وقد اكتشف الطيب صالح هذا الكنز الشعري تحت السطح السوداني الإفريقي العربي ، وهو كنز تكون على مدى العصور ، كما تكون البترول من انصهار مواد مختلفة ، ومن عناصر هذا الكنز الشعري / تجارب الصوفية واختلاط الشعوب والسحر والاساطير والاحداث الكبيرة وكثرة الهموم والصدمات ... لقد انصهرت هذه المواد كلها وخلفت في الاعماق كثيراً من الشعر والفن والرؤى والاساطير ، ولما كان الطيب صالح – في أدبه – يحفر في الارض ، ولا يكتب فوق سطحها بالطباشير ، فقد اكتشف الكنز في باطن الارض ، فانساب من هذا الكنز في أدب الطيب صالح فن جديد جميل .

بالاضافة إلى هذه الملاحظة حول القومية والعالمية هناك ملاحظة ثانية وأخيرة عن المعنى العام لقصة " مريود " ، وكما أشرنا من قبل فإن قصة مريود عسيرة على التلخيص ، واذا اردنا أن نعرف معناها العام بالتحديد الدقيق فسوف يصعب علينا ذلك ، ولكننا نستطيع أن نقترب من هذا المعنى ، إذا نظرنا إليها على أنها عمل روائي ، وأنها في نفس الوقت قصيدة في تمجيد سلطان العشق والمحبة بالمعنى الواسع لكلمتي العشق والمحبة ، ولعل اقرب المفاتيح للمعنى العام لهذه الرواية أو هذه القصيدة هو قول " الطاهر ود الرواسي " عن أمه وعن نفسه ، حيث اقترب الطاهر تماماً من النبع الأصلي للرواية أو القصيدة :

" ما رأيـت حباً مثل حب تلك الام . وما شفت حنان مثل حنان تلك الأم . ملت قلبي بالمحبة حتى صرت مثل نبع لا ينضب . ويوم الحساب ، يوم الخلق بين يدي ذي العزة والجلال ، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم ، وهجودهم وسجودهم ، سوف أقول : يا صاحب الجلال والجبروت ، عبدك المسكين الطاهر ود بلال ، ولد حواء بنت العربي ، يقف بين يديك خالي الجراب ، مقطع الاسباب ، ما عنده شئ يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة " . هذا ما يقوله الطاهر ود الرواسي .

وسوف نخطئ تماماً لو فهمنا أن " المحبة " التي تدول حولها قصة "مريود" هي المحبة العادية التي تربط بين شخص وشخص أو بين مجموعة أشخاص ، فالمحبة هنا هي قوة دافعة من قوى الحياة ، وهي قوة كبرى تحرك الارادة الإنسانية وتضعها في موضع الفعل والحركة والتأثير ، وعي قوة من قوى الحضارة ، تواجه قوة اخرى هي " التسلـط " ، فالمحبون في عالم الطيب صالح يقفون في جانب والمتسلطون في جانب آخر ، والصراع بينهما قائم لا يتوقف ، فاذا انتصر المتسلطون فان الحضارة تتعثر ، ويتعرض المجتمع للتشوه ، وتنهار المدينة الفاضلة كما انهارت " ارم ذات العماد " في القصة الدينية المعروفة ، حيث كانت " ارم" جميلة جدا ولكنها كانت تقوم على التسلط لا على الحب ، وعندما ينتصر المتسلطون يتعرض الإنسان للذبول والضياع وتتبدد قواه فلا تنتج شيئاً له قيمة في الحياة ، فالمحبة عند الطيب صالح حل للمصير الإنساني ، وهي موقف حضاري وفلسفي واجتماعي ، وهي ارادة وقوة وحركة وعزم على الخلاص من عوامل الاحباط في حياة البشر ، وليست المحبة عند الطيب سذاجة وسلبية وموقفاً فردياً وتخلياً عن الارادة ... إن المحبة في عالم الطيب صالح هي الحضارة ، بكل العناصر التي تتكون منها الحضارة من إرادة وذكاء ونبل وتخلص من تفاهات المجتمعات التي تتعقد فيها الدنيا وتتعقد فيها النفوس وتتوقف الحركة ، أو تدور حول أشياء صغيرة تبدد مياه الحياة الصافية فيما لا زرع فيه ولا ثمر ولا زهر ولا عطر ولا روح ولا نبض ... الحضارة عند الطيب صالح هي المحبة والمحبة هي الحضارة ، ومريـود أغنية للمحبة أو أغنية للحضارة . "

انتهي.


رجاء النقاش

مجلة الدوحة ( القطرية) - ابريل 1978

Post: #5
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: انور الطيب
Date: 05-16-2005, 01:08 PM
Parent: #4

الأخ الأستاذ عبد المنعم تحياتي الحارة لك وأنت تبحر بنا في عالم الطيب صالح ، وأنا في ظني أن أجمل ما يميز الرواية بصفة عامة عن غيرها أنها تشدك شدا لمعرفة أشياء كثيرة من أبواب مختلفة مثل المعرفة ، الفضول ، الدهشة وغيرها من الأبواب التي يمكن أن يصورها كل انسان حسب خلفياته وميوله وغيرها من المؤثرات .
وأظن أيضاأن الطيب صالح تأثر كثيرا بالتصوف وربما في هذه الرواية تأثر الى حد كبير عن قصد أو غيره بابن طفيل الأندلسي في رائعته " حي ابن يقظان " ورغم الاختلاف الظاهر بين العملين لكن يبدو أن الصراع بين الحقيقة والشريعة هو مبتغى ابن طفيل ، كما أن الصراع بين الحق والباطل هو مبتغى الجميع .

لك خالص شكري وأحببنا من هذه المداخلة فقط مغازلة الأحبة .

Post: #6
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: Agab Alfaya
Date: 05-16-2005, 09:30 PM

الحبيب
انور الطيب

اهديك هذا المقطع من رواية مريود ، الذي يجسد كيف تكون الريدة بين الشيخ نصر الله ود حبيب ومريده بلال :

" .. قالوا ، وكانت في ود حامد امرأة صاقعة الحسن تدعي حواء بنت العريبي ، هبطت من ديار الكبابيش مع ابويها في سنوات قحط وجدب .فماتا عنها وبقيت وحدها ، تمشط وتغزل وتعمل في دور الميسورين في البلد .ووصفوا ان وجهها كان كفلق الصباح ، وشعرها اسود كالليل مسدل فوق ظهرها الي عجيزتها ، وانها كانت فرعاء لفاء، طويلة رموش العينين ، اسيلة الخدين ، كان في فمها مشتار عسل ، وانها كانت مع ذلك شديدة الذكاء ، قوية العين ،مهذارا حلوة الحديث ، متبرجة ، في حديثها شيئا من فحش وتغنج . فارادها الكثيرون .ومنهم بعض عراة(عزاة) اهل البلد ، فتمنعت واعتصمت ولم تقبل منهم طالب حلال او حرام .

قالوا ، ولم يعلق قلب حواء هذه دون الناس جميعا الا ببلال ، فكانت تعرض له وهو في صلاته وعبادته ، فلا يرد عليها ولا يجاوبها . وظن الناس اول الامر ، انها انما تعبث به ، ثم تيقنوا انها ، ويا للعجب ، قد هامت به هياما كاد يذهبها عن نفسها. ولما اعيتها الحيلة ذهبت الي الشيخ نصر الله ود حبيب ، وشكت له وتذللت وتفرعت ، فاشار علي بلال ان يتزوجها .

فقال له :
" يا سيدي روحي فداك . لكن لا تخفي عليك خافية من احوال عبدك المسكين . انا ماشي في دروب اهل الحضرة، وانت تامر بافعال اهل الدنيا "

فقال له الشيخ :
" يا بلال . ان دروب الوصول مثل الصعود في مسالك الجبال الوعرة. مشيئة الحق غامضة.يا بلال ، ان حب بعض العباد من حب الله ، وهذه المسكينة تحبك حبا لا اجده من جنس اهل الدنيا ، فعسي الحق ان يكون ارسلها اليك لامر اراده . عساه جلت مشيئته اراد لك ان تختبر مقدار حبك بميزان حب هذه المسكينة لك ،فاما صحوت وانقطع سبيلك واما ازددت ظمأ الي كاس الحب السرمدي ويكون سبحانه وتعالي قد انقذ مشيئته باذلالك في ارادته القصوي "

فصدع بلال لامر شيخه وتزوج حواء .

قالوا ، ولم يجتمع بهاالا ليلة واحدة ، بعدها استاذن شيخه ان يسمح له بان يبريء ذمته منها ، فاذن له .وكانت قد حبلت منه في تلك الليلة ، بابنه الذي سمي الطاهر ، وغلب عليه اسم الطاهر ود الرواس .وبعد ان سرحها بلال، ابت ان تدخل علي رجل آخر وانصرفت لتربية ابنها ، فكان شانها في ذلك شان المتصوفة العاكفين .وذكروا انها لما رحلت عن الدنيا وهي تناهز السبعين ، كانت علي ابهي هيئتها وحسنها ، ولم ينقص من جمالها مثقال ذرة ، ولم يغير الزمن منها مقدار شعرة ، فكانها كانت من تصاريفه في حصن حصين ."
- انتهي
من رواية مريود.

ولك محبتي

Post: #7
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: محمد أبوجودة
Date: 05-17-2005, 01:11 AM
Parent: #1

لكَ التحية / أخي العزيز/ عبدالمنعم الفيّا

وشكراً لكَ على إهدائنا هذا الإبحار الجميل في العِشق والمحبة عبر قصّـة " مريود " رائعة الطيّب صالح ، بقلم الاستاذ/ رجاء النقـّاش ..

هل نطمع في استطرادٍ منكَ حول هذه الخواطر " النّقّاشية " ؟ .. فعلى سبيل المثال :
هل نطمح في ان نرى رأيك حول هذه الفقرة من كلام الاستاذ/ رجاء :

Quote: والمفتاح الاساسي الذي يساعدنا على فهم " مريود " وفهم أدب الطيب صالح كله هو أنه ليس كاتباً " واقعيا" بالمعنى التقليدي للواقعية ، وقد يفهم البعض من هذا النفي للواقعية في أديب الطيب صالح أنه – يبعده عن الواقعية – إنما يبتعد عن معالجة هموم الإنسان العربي التي يعانيها في مجتمعه وفي الحياة بوجـه عام ، والحقيقة ان ابتعاد الطيب صالح عن الواقعية لا يحمل هذا المعنى ، فالطيب صالح – كفنان صادق اصيل – غارق في الهموم الإنسانية لعصره وفي الهموم الاجتماعية لوطنه وبلاده ، ولكنه يعبر عن موضوعاته عن طريق تصوير الواقع المباشر أو رصد مشاكل فئة من الناس أو طبقة من طبقات المجتمع ... انه يعبر عن مشاكل الإنسان الداخلية العميقة ، يعبر عن روحه ووجدانه ونظرته إلى الحياة والمصير الإنساني كله ، والطيب صالح يترك العالم المنطقي الواقعي الذي وقفت الرواية العربية عند حدوده قبل ظهور الطيب صالح ، وكان الفتح الادبي والروحي الذي قدمه الطيب للرواية هو أنه لجأ إلى نبع جديد لم يشرب منه احد من قبل في مجال الادب الروائي العربي . لقد تجاوز الطيب العالم الروائي الواقعي إلى عالم آخر أسطوري أو كما يقول التعبير العلمي الدقيق : " عالم ميثيولوجي " .




مع خالص المودّة ،،/

Post: #8
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: newbie
Date: 05-17-2005, 01:58 AM
Parent: #7

اشكرك ياعبد المنعم , وانت تنقل لنا عالم الطيب صالح كما رآه النقاش في وقت يريد فيه الكثيرون ان يحترق الطيب صالح ويصحبح نجمة اسطورسة تصعد الى السماء ليصدقوا ان الطيب صالح الانسان لم ينكسر للإنقاذ الزائل ,,, هو والله اسطورة بحق

Post: #9
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: انور الطيب
Date: 05-17-2005, 01:19 PM
Parent: #8

الأخ الحبيب عبد المنعم فعلا لقد أمتعتنا أيما امتاع وأجمل ما في أعمال الطيب صالح أنك تنتقل معه مباشرة الى مكان الحدث وتذوب وأنت تتابع وصفه العجيب ، وتصدق يا عبد المنعم ما حزمت حقائبي لقرية أو مدينة في السودان الا وقد قابلت فيها الزين بشحمه ولحمه ، ومصطفى سعيد أكاد أن أصافحه والطاهر ود الرواسي تقول ما بتكلم مع الحوت أو السمك لكن بتكلم وأنا قاعد أشوف الحاصل شنو ،

على العموم أشكرك على الاهداء :
Quote: قالوا ، وكانت في ود حامد امرأة صاقعة الحسن تدعي حواء بنت العريبي ، هبطت من ديار الكبابيش مع ابويها في سنوات قحط وجدب .فماتا عنها وبقيت وحدها ، تمشط وتغزل وتعمل في دور الميسورين في البلد .ووصفوا ان وجهها كان كفلق الصباح ، وشعرها اسود كالليل مسدل فوق ظهرها الي عجيزتها ، وانها كانت فرعاء لفاء، طويلة رموش العينين ، اسيلة الخدين ، كان في فمها مشتار عسل ، وانها كانت مع ذلك شديدة الذكاء ، قوية العين ،مهذارا حلوة الحديث


ولكن حواء دي يا أستاذ عبد المنعم ما أظنها الا في الجنة

وأكرر شكري وتقديري على هذا المجهود الرائع ووفقك الله .

Post: #12
Title: Re: المراة في ادب الطيب صالح
Author: Agab Alfaya
Date: 05-17-2005, 08:57 PM
Parent: #9

عزيزي انور الطيب
لقد حاول الطيب صالح ان يعبر من خلال نموذج حواء بنت العريبي ومريوم عن رؤيته المتقدمة جدا للمراة . وفي ذلك يقول رجاء النقاش :

"..هذه هي جواء بنت العربي ، ذات الشخصية القوية والارادة النادرة والقادرة على الاختيار في الحب والحياة . شخصية ، ولا الرجال ، فد قدرتها على الاستمرار في الحياة وفي اندفاعها وراء ما تريد واصرارها عليه ، وفي قـدرتها على الاحتمال والصبر ورفض ما لا تهواه ولا تريده بالقلب أو بالعقل ، إنها نموذج للإنسان الكامل ، إذا اعتبرنا أن الإنسان الكامل هو الذي يعيش حسب خطته هو لا حسب خطة الآخرين ، أو بعبارة أخرى هو ذلك الإنسان الذي يعيش كما يؤمن ويعتقد ، لا كما يؤمن الآخرون ويعتقدون .

وفي رأيي أن الطيب صالح ، يرسم هذا النموذج للمرأة في أدبه ، عن رؤية خاصة وحلم عميق وايمان كامل – يريد أن ينقله بالفن إلى عقولنا وقلوبنا – بما في المرأة من رمز رفيع للحياة ، وهذا هو الأصل في هذه الصورة التي يرسمها الطيب للمرأة ، ولكن قد تكون هناك عوامل ثانوية تدخل في تكوين الصورة ، فقد حدثني الطيب صالح عن شقيقة له قوية الشخصية صاحبة وعي وعزم وارادة ، كما أن الطيب صالح " مثله في ذلك نجيب محفوظ الذي انجب فاطمة وأم كلثوم" أب لثلاثة اطفال كلهن بنات . كما أن الريف السوداني والريف العربي عموماً ملئ بنماذج نسائية مشرقة ، رغم ظروفها الصعبة وما فيها من تلقائية وبساطة ، وكلما التقيت بهذه الصور النسائية في أدب الطيب صالح تذكرت أمي رحمها الله ، وأحسست ان الطيب يشفيني بهذه الصورة التي يرسمها للمرأة في الارض العربية ، فقد كانت أمي فلاحة فقيرة وأمية ، عاشت وكل خبزها هو العمل والكفاح والكدح من اجل أسرتها واولادها وماتت – على فراش من الشوك – في التاسعة والثلاثين من عمرها ، وكانت – حتى اللحظة الأخيرة – مدرسة من مدارس الصبر والكرامة والتعفف والحزن الذي كانت تحتمله وحدها بلا شريك ، وفي حياة كل الذين عاشوا في الريف العربي – ولا شك – نماذج نسائية من هذا الطراز لم تجد من ينصفها أو يفهمها أو يعبر عنها بصدق ويرد لها الجميل ، وربما كانت هذه العوامل الثانوية جميعاً من بين ما أثر في نفس الطيب صالح ووجدانه فتعاطف مع المرأة وخلق منه في فنه نماذج فريدة في ادبنا العربي المعاصر .

ولكن الأصل في نظرة الطيب صالح إلى المرأة هي النظرة الإنسانية والفلسفية والحضارية التي يحملها في وجدانه وعقله ويؤمن بها ، ويريد أن يبذرها في الارض العربية لتثمر في قلوبنا وواقعنا أجمل الثمرات ، وكل فنان كبير في أدب العالم يريد ان يبذر في هذه الدنيا بذوراً في الواقع وفي وجدان الناس ، ويريد أن يخلق في جيله وفي غيره من الاجيال نظرة عقلية وحساسية وجدانية ازاء بعض القضايا الرئيسية ، والطيب صالح فنان كبير ، وهو " يلقح" قلب جيلنا وعقله ببعض البذور الإنسانية الاساسية ، ومن بينها هذه البذور التي تتمثل في احترام المرأة ، والكشف عن قوتها وتأثيرها وعمق اندفاعها إلى الحياة الصحيحة الخصبة وما يتمثل فيها من " إرادة الحياة " في أحسن صورة واجملها ، وما تشيعه في نفوسنا من أن حرية الاختيار ليست عبثاً ، وإنما هي حرية محكومة بمجد الحياة وسعادة الإنسان ، كل ذلك بالاضافة إلى ما تحمله المرأة عند الطيب صالح من رموز للحياة والوطن والارض . والحق أن نظرة الطيب للمرأة تستحق الاعجاب والتقدير ، ففي ظني أنه لا يمكن أن تقوم حضارة حقيقية للإنسان دون أن تكحون هذه الحضارة مبنية على عدد من القيم والمبادئ من أهمها : احترام المرأة ، والحضارات التي لا تعرف احترام المرأة هي نوع من الجاهلية الإنسانية تسود فيها القسوة والعنف وتختل فيها العلاقات الإنسانية والافكار والمشاعر أشد الاختلال . "

خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة

Post: #11
Title: Re: يا له من مشهد !
Author: Agab Alfaya
Date: 05-17-2005, 08:47 PM
Parent: #8

الاخ الاستاذ newbie
الف شكر علي مشاركتك لنا الهيام في عالم الطيب صالح
واسمح لي ان نتوقف معا عند هذا المشهد الذي ياخذ بمجامع القلوب :


" " كانت مثل طائر ، رفعها محجوب من نعشها فشهق ضوء المصابيح على حافة القبر ، وسمعت هبوب أمشير تناديني بلسان مريم " لا شئ . لا أحد " خطا بها نحو القبر ، فاعترضت طريقه ومددت يدي . نظر إلي برهة ، ورايت في عينيه ترقان وتغرورقان ، فتركها لي . كانت خفيفة مثل فرخ طائر وأنا أسير بها في طريق طويل يمتد من بلد إلى بلد ومن سهل إلى جبل لم يكن حلماً . أبداً . كانت مريم نائمة على كتفي . سرت بها على ضفة نهر إلى وقت الضحى ، فأيقظها لفح الشمس على وجهها . انفلتت مني وقفزت في الماء . كانت عارية . أشحت عنها ولكنني لم أطق صبراً فأدرت لها وجهي . نظرت ، فاذا هي بركة من الضوء . وكأن أشعة الشمس هجرت كل شئ وتعلقت بجسدها . كانت تغطس وتقلع وتختفي هنا وتظهر هناك . وتضحك لي من جهة اليمين ، ثم إذا هي تناديني من جهة اليسار . نعم . نعم . نعم . أريـد أن أغـرق في نبع ذلك الضوء الذي ليس من اضواء هذا الزمان ولا هذه الأرض . لكنني ترددت ليس أكثر مما يطرف جفن العين . في تلك اللحظة عاد الشعاع إلى منبعه وذهب الطيف . لا اعلم إلى اين . ناديت بأعلى صوتي " يا مريوم. يا مريوم " فعاد الصدى مجسماً بألسنة شتى " يا مريود . يا مريود "


من رواية مريود.

Post: #10
Title: Re: النبع الجديد
Author: Agab Alfaya
Date: 05-17-2005, 08:26 PM
Parent: #7

اخي العزيز محمد ابو جودة
بك ازدان البوست ونور
Quote: والمفتاح الاساسي الذي يساعدنا على فهم " مريود " وفهم أدب الطيب صالح كله هو أنه ليس كاتباً " واقعيا" بالمعنى التقليدي للواقعية ، وقد يفهم البعض من هذا النفي للواقعية في أديب الطيب صالح أنه – يبعده عن الواقعية – إنما يبتعد عن معالجة هموم الإنسان العربي التي يعانيها في مجتمعه وفي الحياة بوجـه عام ، والحقيقة ان ابتعاد الطيب صالح عن الواقعية لا يحمل هذا المعنى ، فالطيب صالح – كفنان صادق اصيل – غارق في الهموم الإنسانية لعصره وفي الهموم الاجتماعية لوطنه وبلاده ، ولكنه يعبر عن موضوعاته عن طريق تصوير الواقع المباشر أو رصد مشاكل فئة من الناس أو طبقة من طبقات المجتمع ... انه يعبر عن مشاكل الإنسان الداخلية العميقة ، يعبر عن روحه ووجدانه ونظرته إلى الحياة والمصير الإنساني كله ، والطيب صالح يترك العالم المنطقي الواقعي الذي وقفت الرواية العربية عند حدوده قبل ظهور الطيب صالح ، وكان الفتح الادبي والروحي الذي قدمه الطيب للرواية هو أنه لجأ إلى نبع جديد لم يشرب منه احد من قبل في مجال الادب الروائي العربي . لقد تجاوز الطيب العالم الروائي الواقعي إلى عالم آخر أسطوري أو كما يقول التعبير العلمي الدقيق : " عالم ميثيولوجي " .

اشكرك علي وقوفك عند ملاحظة رجاء النقاش بان الطيب صالح ليس كاتبا واقعيا بالمعني التلقيدي للواقعية . وقبل ان احاول القاء بعض الضوء علي هذا الوصف احب ان انوه بان هنالك خطأ مطبعيا في هذا السياق حيث سقطت كلمة "لا "من الجملة في الاقتباس اعلاه فاثارت بعض الغموض والالتباس .

والصحيح هو :

" .. فالطيب صالح – كفنان صادق اصيل – غارق في الهموم الإنسانية لعصره وفي الهموم الاجتماعية لوطنه وبلاده ، ولكنه لا يعبر عن موضوعاته عن طريق تصوير الواقع المباشر أو رصد مشاكل فئة من الناس أو طبقة من طبقات المجتمع ... انه يعبر عن مشاكل الإنسان الداخلية العميقة ، يعبر عن روحه ووجدانه ونظرته إلى الحياة والمصير الإنساني كله ،.."

واقول ان النقاش يريد ان يقول ان قصص وروايات الطيب صالح ، بخلاف اعمال غيره من الكتاب العرب لا تخاطب الانسان المحدود بطبقة او شريحة اجتماعية معينة او بيئة او فترة تاريخية محددة وانما تعانق الانسان من حيث هو انسان في كل زمان ومكان . بمعني اخر ان الطيب صالح مهموم بالقضايا الوجودية والمصيرية الكبري للانسانية . انه يتخذ من سرد الوقائع كحيلة للنفاذ الي قضايا اعمق من تفاصيل الحياة اليومية للشخوص التي تبدو علي السطح . وهذا هو النبع الجديد الذي يقصده رجاء .
هذه الميزة جعلت كتابات الطيب صالح لا تمل ولا يكاد ينقضي منه الوطر ابدا .دائما انت في شوق لمعاودة مطالعتها ودائما تجد نفسك كانك تقراها لاول مرة . هذه ميزة لا تجدها في اعمال الكتاب العرب الاخرين علاقتك بالرواية او القصة تنتهي بمجرد الوصول الي النهاية واحيانا تصل الي النهاية قفزا حتي تقذف بالكتاب بعيدا بعد الانتهاء .

وحيث ان الغناء سمح في خشم سيدو ، كما يقولون ، دعنا نستمع للطيب صالح ليحدثنا عن هذا النبع الجديد الذي وصفه رجاء بالمثيلوجي او الاسطوري .

" " .. اعتمدت علي خصوصيات بيئة شمال السودان ، لا لشيء الا لانني اعرفهم جيدا .وشخصت ذلك في اناس عاديين ، نماذج لمزارعيين يعيشون في تلك البيئة ، وحولتهم الي شخصيات اسطورية ..
والواقع انني منذ بدات الكتابة وانا اسير في هذا الاتجاه ،الان يتكلمون عن الواقعية السحرية وما الي ذلك ، لكني سرت من قبل في هذا الاتجاه.وهو للامانة لم ابتدعه لانه موجود في بيئتنا ...ولعلني لذلك اخذت اناسا عاديين امثال سعيد عشا البايتات القوي ،ومحجوب ، وعبد الحفيظ والطاهر ود الرواسي، وحاولت ان اضعهم في اطار اسطوري(ميثلوجي) رغم انهم مزارعون عاديون .
لذلك تجدني اقول ، ان اهم عمل انجزته حتي الان علي علاته هو رواية (بندرشاه) هذا اهم عمل بالنسبة الي ،علي رغم انه لم يكتمل فقد اصدرت جزئين من هذه الرواية : مريود ، وضو البيت ، واتمني ان اكمل هذا العمل..
في هذه الرواية تناولت البيئة والناس العاديين الذين يعيشون بداخلها ، وشرعت في عملية استكشاف exploration لعلاقات البشر بعضهم بعضا ، من خلال الجانب الغامض في حياة الناس الذي تمثله السلطة. محجوب مثلا في الرواية كا هو رئيس البلد ، واذا حسبت البلد بحساب القوي الحقيقية تجدها ليست مهمة لكن محجوب كان يرمز ايضا الي حاكم الدولة .

لقد لاحظت ان كتاب امريكا اللاتينية، خاصة غابريل غارثيا ماركيز، شغلهم كثيرا موضوع السلطة، خاصة ماركيز في رواية (مائة عام من العزلة ) لكن اعتقد ان السلطة كانت تشغلهم تاريخيا وليس اسطوريا .
حاولت شخصيا ، في حدود اضيق بكثير ، ان اوسع الموضوع مع تضخيم للشخصيات الروائية ، لذلك خلقت اسطورة بندرشاه .بندر ، ترمز الي المدينة وشاه ، للملك ، وهذه الرواية كان يمكن ان تسمي (الملك والمدينة ) مثلا ، وهي عبارة عن وعاء حاولت ان اصب فيه كل هذه الحكاية.
وثمة متعة اخري بالنسبة الي ، فالافكار المعقدة في الرواية لو خلقت لها اناسا متعلمين واساتذة جامعة ، يتناقشون ويفلسفون الامور سيكون اسهل ، لكن ان تخرج تلك الافكار المعقدة علي لسان اناس بسطاء هذه هي المسالة.

لكل ذلك اعتقد ان بندرشاه هي افضل اعمالي وافضل عمل بالنسبة الي هو الفصل الاخير من ضو البيت ، حين يظهر الرجل الغريب الذي اطلق عليه اهل البلد ضو البيت ، ويختفي .هنا بالضبط خلقت منه اسطورة ورمزا . وهذا الرمز يتكون تدريجيا لانه شخص غريب جاء الي البلدة اطلق عليه اهلها عليه اسم ضو البيت، ثم ادخلوه الاسلام ، وتم ختانه وقرروا ان يزوجوه ثم بعد ذلك يذوب كما الوهم !..

".. ثم ان الاسطورة ،يمكن ان نعرف جزء منها ،وجزء آخر لا نعرفه.جزء واضح وآخر مبهم .لذام وضعت في مريود الجزء الاول من بندرشاه، ابياتا لابي نواس لان بها تحليلا دقيقا للاسطورة ، بمعناها المعاصر لدي فرويد وعلماء الانثربولوجيا وذلك حين يقول :

غيـر أني قائـل ما اتاني من ظنوني مكــذب للعيان
أخـذ نفسي بتأليـف شئ واحد في اللفظ ، شتى المعاني
قائم في الوهم حتى إذا ما رمته ، رمـت معمي المكان

الواقع هو العيان ، والظنون كما يقال في الوقت الحاضر هي الوهم ، وشيء واحد في اللفظ ، هو الرمز ، او كما يقال هذه الايام اشعاعات او اصداء او قراءات .
وتتجلي عبقرية ابي نواس في انه فنان ، وشخصيا اعتبره باراكسلانس الادب العربي ، هو قطعا ليس اعظم شاعر قياسا بالمتنبي لكنه فنان بالمعني المعاصر . وهو استعمل كلمة وهم بالمعني المعاصر اي illusion ولا اعتقد انه يوجد ادق من ذلك في تحديد الاسطورة ، والاسطورة لها انعكاسلات reflection الانسان قد لا يحيط بها لكن توحي بجوانب اخري .
البلد في الرواية كانت بالنسبة الي هي الاساس ، لكنني وكما وصفتها في بعض الاحيان معلقة في الهواء بمعني انها غير مستقرة في الزمان والمكان .." - انتهي .

ص 118 ،119 ،120 ،121
علي الدرب ..مع الطيب صالح ..ملامح من سيرة ذاتية
اعداد طلحة جبريل - مركز الدراسات السودانية
1997

Post: #13
Title: Re: ماذا قال بشري الفاضل عن مريود ؟
Author: Agab Alfaya
Date: 05-17-2005, 09:04 PM
Parent: #1

كتب الدكتور بشري الفاضل في غير هذا المكان :
Quote: شكراً لكم جميعاً
كان الطيب صالح جديراً بنوبل منذ طهور موسم الهجرة وصويحباتها وفي ظني أن مريود أو الجزء الثاني من بندرشاه ظلمت ظلم الحسن والحسين لأنها جاءت في ظل موسم الهجرة . أرتقى الطيب صالح بلغة مريود حتى ان بعض النقاد الروس قالوا لي شفاهة أن لغتها أشبه بلغة الإنجيل .طبع الروس خمسين الف نسخة من الأعمال الكاملة للطيب صالح موسم الهجرة عرس الزين دومة ودحامد بندر شاه و مريود ورايت طلاب قسم الدراسات الشرقية يدرسون الرجل القبرصي ويترجمونها . مريود هي نقطة انطلاقي كل مرة مجددا لاعمال الطيب صالح ففيها تعبير عن المحبة والفقد في ظني وصل إلى نهاياته الصافية المطلقة في الأداء الانساني :
قلت زوديني
قالت كلا
قلت زوديني
قالت كلا
قلت زوديني
قالت
واحسرتا عليك يا محبوبي خير الزاد أنا .
وقد كتبت مقالا قديما حول لغة السرد في مريود. سانشره يوماً ما .
موسم الهجرة الى الشمال من الاوابد وكان يكفي تسويقها من قبل وزارة الثقافة السودانية عالميا لينال كاتبها نوبل فالياس كانيتي نال نوبل عن نثره غير الروائي في كتاب Crowd And Power . صدقت رجاء فالجائزة القاهرية منحت له لانقاذها ولا عذر في انها اسست حديثاً إذ انه من غير المناسب ان تمنح له بعد منيف وصنع الله ولو انها منحت لصاحب اسمهامحفوظ اولا لقلنا نعم بحكم الاقدمية لا التفوق الإبداعي . أبدع منصور خالد في كلمته عن الطيب صالح كعادته لكن كلمته أبضا جاءت متاخرة كالجوائز جميعاً فلو ان قلم منصور هذا سال حين كان وزيراً للخارجية بلغات شتى يجيدها فربما كان ذلك مما يقود لنوبل فالكتابة الابداعية تحتاج للبروموشن . تاخرت الجائزة العربية لثلاثين سنةعن الطيب صالح وعندما يجيىء الاستاذ منصور لسدة الحكم او الاستشارات في قترة السلام الانتقالية فإننا نطالبه بان يمنح الكاتب الجليل التفرغ التام مدى الحياة بمنحة وبيت ومكتبة اليكترونية وسكرتارية طوع اشارته فذلك أقل جزاء لما قدمه للوطن.وان تطبع اعماله في طبعات محققة بشتى اللغات في طبعات فاخرات من داخل الوطن ذلك عسى ان ننطلق للتجاني والمجذوب والحردلو وعيرهم فكم هي غنية خزانة الوطن بالادب البري الذي لم يتمدن بالكتب الرصينة بعد ويا محمد جودة لقد وفقت في الاتيان بهذا الروي المتشابه في الجندول والمولد لكن المولد اكثر نضارة لكن التسويق كما ترى أظهر قصيدة على محمود طه المهندس عليها عربياًعلى الرغم من لحن الكابلي وما ابدع لغة منصور خالد وسبكه .


من بوست : كتاباتي عن اعمال الطيب صالح : عجب الفيا

Post: #14
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: Agab Alfaya
Date: 05-19-2005, 07:54 PM
Parent: #1

ما الجديد في ادب الطيب صالح :

الجديد كما يقول رجاء النقاش هو :

" .. وهكذا نجد أنفسنا مع " مريود " فهي من الأعمال الروائية القليلة جداً في أدبنا العربي والتي يحن الإنسان – بعد أن يطوي صفحتها الأخيرة – إلى اعادة القراءة لصفحة معينة منها أو سطور محددة ، فما تعطيه لنا الرواية من متعة روحية وفكرية في معناها العام ، لا يلغي المتعة الاخرى التي تنبع من " الجزئيات" في هذه الرواية ، سواء كانت هذه الجزئيات جملة أو عبارة أو مقطعاً كاملاً أو أسطورة أو وصفاً لمنظر من المناظر أو تأملاً في لحظة من لحظات النفس والحياة .

ومعظم الروايات العربية ، وحتى الممتاز منها ، ترتبط في أذهاننا بمعناها العام ، وفكرتها الرئيسية ، وشخصياتها وأبطالها المختلفين ، ولكن القليل النادر من الروايات العربية هو الذي يستطيع ان يعطينا هذه المتعة العميقة في " الجزئيات " بجانب المتعة بما هو عام وشاكل ، وهذه القيمة الفنية العالية للجزئيات هي ما نجده على العكس في كثير من نماذج الأدب العالمي الراقية ، فنحن نستطيع أن نقف عند صفحات معينة في رواية "الحرب والسلام " لتولستوي ، ونستطيـع أن نقف طويلاً – في استمتاع عميق – أمام عبارات أو صفحات أو فقرات من رواية " الأخوة كرامازوف" لدوستويفسكس ، بل أن كاتباً معاصراً مثل " همنجواي" ، قد وصل في هذا المجال إلى درجة عالية من النضج ، فاهتم بالتركيز الشديد في الوصف والتعبير وبناء الكلمة والجملة ، حتى اصبحت الأحداث والمواقف عنده – أحياناً كثيرة – نوعاً من الشعر الخالص الرقيق الذي ينساب في وجدان الإنسان كأنه موسيقى خفية ، ونستطيع أن نقف أمام سطور من " العجوز والبحر " وأمام عبارات أو صفحات قليلة منها ، فنجد فيها متعة العمل الفني الكامل ، كل ذلك دون أن تذوب في ايدينا – مثل الثلوج – تلك المتعة الفنية النابعة من المعنى العام الشامل .

ولعل هذا العيب في معظم نماذج الرواية العربية المعاصرة – وهو عدم الاهتمام بالجزئيات – يعود إلى اهتمام الكتاب بالأحداث والافكار والشخصيات أكثر من اهتمامهم " باللغة " التي يكتبون بها . ولو أن هناك اهتماماً " باللغة " لاستطاعت الرواية العربية أن " تنجز " تلك القيمة التي أنجزتها الرواية العالمية وهي ما يمكن أن نسميه – دون أن نزعم لانفسنا الدقة في التسميـة – باسـم " الروح الغنائية " أو "الروح الشعرية الموسيقية " .

Post: #15
Title: Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،،
Author: Agab Alfaya
Date: 05-19-2005, 07:56 PM
Parent: #1