محمد المكي - في ذكري جمال محمد احمد

محمد المكي - في ذكري جمال محمد احمد


10-02-2003, 04:26 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=19&msg=1082006680&rn=0


Post: #1
Title: محمد المكي - في ذكري جمال محمد احمد
Author: Agab Alfaya
Date: 10-02-2003, 04:26 PM



في جمال محمد أحمد أعزى كل محمد أحمد

محمد المكي إبراهيم



لمن تهرع بكتابك الجديد ؟ بقصيدتك الأثيرة ؟ لمن تهدى لوحتك المنتقاة ؟ أي أرض تقلك وأي سماء تظللك تحت وقدة هذا الهجير وأي جبل يعصمك من الطوفان ماذا يبقى لك من هذه المدينة إذا أوصدت دونك " سرة شرق " مثلما أوصدت للأبد دار المجذوب الحكومية وقد أعجلوه عنها بالإنذار تلو الإنذار حتى لتخالهم بسبيل أن يشيدوها مرمرا ويجللوها كلسا ويغدو للطير في ذراها هدير، فإذا هي على حالها إلى اليوم باقية ما هدموا ولا شادوا ولا أنقصوا ولا أزادوا ولكنها الزراية بأهل الفضل والعلم .

موته موت دنيا كاملة كما يقول في عنوان كتابه الدكتور عبد الحليم وكانت دنيا وديعة لينة زينة في الدنياوات ، جمال كان بدرها وريحانتها وكان أيامها وكيلا للخارجية يأتي للمكتب بالجاكيت أو البليزر ذي الأزرار النحاس في جيبه العلوي منديل أحمر مطوي على هيئة الوردة وشعره كان أطول على تلك الأيام وقد شرع فيه المشيب شروعا ، ممتلئ العود مستقيمة كثير إشارات اليدين بسطا وقبضا يلون بذلك الحديث ، ويشترك رأسه وكتفاه وأساريره القسيمة في صنع التعبير .

داره كانت منتدى العلية من أهل الذوق والنجابة .. روحني على تلك الدار البهية أول عودة المحجوب من رحلة العلاج الأولى وكان رئيسا للوزارة في أوج الصولة والعنفوان حين دهمه المرض فعاد من الرحلة وقد فقد جزءا من توهج الحافظة الذي اشتهر به بين الناس . قال له جمال ابنك هذا يدرس سحيما عبد بنى الحساس ويستوحيه . وكان في الجمع محي الدين صابر فألقى شيئا من شعر سحيم وأخباره وقال صادقا أنه من النوبة أصلا ، يقره على ذلك أبو الفرج . وراح المحجوب يستنشدني شعره فأنشده البيتين والثلاثة أخالسه بها بالصوت الخفيض فيحفظها للتو ينشدها صابرا يغايظه بذلك يريه أن انتماء الاثنين للنوبة لا يجعله أحسن منه حفظا للشعر .

خلال ذلك يطوف جمال على الجالسين شأن رجل الصالون العريق يقرن هذا بذاك يدخل المحاورة ويخرج ، يغير مجرى الحديث ويجدده حتى لتصبح المحاورة طوافا على بستان وليس عكوفا على وردة مفردة .. وجه صبوح ، ضحكة رائقة وصور من الجد الساخر مألوفة عن لوردات البريطان . قد يحكى النادرة أو الاندكوت في عرف الغربيين ولكنه لا يروى النكتة أو الجوك في عرفهم أيضا . وبدأ لي أن ذلك من شيم أهل الذوق فالنكتة المروية ربما سمعها صاحبك سالفا ولكنه يتأدب لك . أما النادرة فلا تكون إلا جديدة طلية . ولحكمة ما كان صاحب التوحيدي يطلب منه في نهاية الإمتاع والمؤانسة أن يتحفه بملحة الوداع فلا يروى أبو حيان إلا النوادر بأسماء أماكنها وأبطالها .

حين وقع الخلاف بينه وبين أحد وزراء الخارجية كنا في اتحاد الدبلوماسيين ( وليس نقابتهم كما هو الحال الآن ) ورحنا إليه في مكتبه ننصره على الوزير فبكى من التأثر ومسح دمعه الكريم بمنديله الأحمر المطوي على هيئة وردة وكان ذلك آخر عهدي بالدمع في مكاتب الحكومة .

صهره الدبلوماسي اللامع مصطفى مدني كان أثيرا عنده ومرفوعا بينهما الحجاب فبلغ من كرمه ومأثرته أنه اصطفاني دون الجميع لأعمل معه في سفارة واحدة وكان ذلك أول عهدي بالعمل في السفارات . ومن مصطفى السفير ، كما يسمونه في العائلة ، وليس السفير مصطفى ، تعلمت خير ما تعلمت عن المهنة وتقاليدها الرفيعة . وعن طريق غرسه الكريم عائدة تلقيت أول هدايا السماء . وشاء ربك أن يجعل إقامتي معهم أسعد الأوقات وأطيبها وأبلغها أثرا في صنع حياتي كلها . . مأثرة لأب عظيم ولأبناء يستحقونه .

ثم جاء زمن الجدب والتعاسة … جاء النميري بسكاكين حقده الطوال يعملها في الأفاضل والأماثل وهم دائما أغراض للزمن والسفهاء فكانوا أن عزلوا جمالا وأحالوه على المعاش وقطعوا الصلة بينه وبين مهنة أحبها وأحبته فأسلست له القيادة ورأيت أن ذلك ظلم لا يمكن السكوت عليه فدبجت بذلك مقالة طويلة بعثتها للأستاذ بشير محمد سعيد لتنشر في الأيام ولم تكن قد أممت بعد وأغلب الظن أن بشير أطلع عليها جمالا فأخذته الخشية على مغبة ما كتبت فحال دونها والنشر وسطر لي رسالة رقيقة ابتدع فيها أسبابا وتعلات لما قام به من حيلولة دون نشر المقال . وكان ما ابتدعه قوله أنه علم بنية الحكومة طرد أقرباء الزعيم الأزهري في الخدمة المدنية فخاف أن يكون مقالي عنه حافزا للإقدام على ما انتووا من خراب بيوت الناس . ولم يكن الغالي ليعرف إنني وإن كنت من عشيرة الأزهري وأرحامه فإنني لست من أقربائه المباشرين وأسررت في نفسي أنها محض تحجـج . مأثرة أخرى لأبى المآثر والفيوض .

ثم استوى العود أو هكذا بدا لي فصارت صحبته متعة المتع وقفة للتثبت والاستيقان ، عرضة على شيخ الخلوة الحافظ المجود واستزادة من بحار العلوم وسعدت مرة أخرى بالعمل في ديوانه وهو وزير للخارجية فكان يدخرنى لأنواع من الصناعات كنت بها جد سعيد . مرة أراجع مقاله لهذه الدورية العالمية أو تلك ومرة أطالع سيناريو لأحد أفلام هوليود بعثوا به إليه . ومرة نراجع الكتاب الكريم لنتثبت صحة استشهاده للملك الحسن بالآية الكريمة " فاذهب أنت وربك فقاتلا عنا إنا ههنا قاعدون " يريد أن يتأكد من وجود فاء الاستئناف في أذهب وقاتلا والهاء الثانية في " ههنا " . وكنت قد تعرضت قبل مقدمه على الوزارة لما يتعرض له أهل الحظ المنكود من التخطي في الترقيات والترفيعات فكتمت الأمر عنه ولم يفاتحني فيه إلا بعد أن ترك الوزارة بسنوات فعرفت أنه كان يعلم وكان يعتبر ذلك من سفاسف الأمور التي لا ينبغي أن ينشغل بها الرجل الكريم . مأثرة أخرى لجمال ننجو بها من رضاء مايو أهلها .

وربما كان من واجبي أن أستفيض في الحديث عن دبلوماسية جمال محمد أحمد فهذا لكلينا المجال الأساسي هو كمعلم وأنا كطالب علم .

فأعلم حفظك الله أن جمالا ينتمي إلى جيل اقتحم الدبلوماسية اقتحاما إذ لم يكن هنالك وقت للبعثات والتدريب فالبلد تستقل وتريد أن تستكمل استقلالها بإنشاء سفاراتها وفتح حوارها مع العالم . ولم يكن من سبيل سوى انتخاب صفوة من مثقفيها لادارة ذلك الحوار . وكان جمال في طليعتهم ابن بلد نعم ولكن يتأمل وعن امتحان النوع الذي يعرف كيف يتكلم وكيف يأكل وكيف يشرب يرى إيجابيات الحضارة التي أنجبته كما يرى سلبياتها فينأى عن السلبيات على حين راح آخرون يدافعون عن تلك السلبيات على سبيل الكسل الفكري وانعدام المقدرة على التمييز بين الغث والثمين وأولئك الذين يلبسون الحذاء النمر في شوارع لندن وينقلون القعدة السودانية بذبائحها وكونكانها إلى أوروبا والذين لا تنحل عقدة ألسنتهم إلا بلغة الضاد فلا تحدثني عنهم .

أول عهدنا بالخارجية كانت تجرى بين أيدينا بعض ملفات الوزارة القديمة وكانت وقتها ملفات عاملة . وكنت أقلب صفحاتها للوراء فأجد أن لغة التخاطب بين الموظفين كانت لغة السكسون وأن أثنين من سفراء ذلك الزمان أوفدا إلى جنيف أول أعوام الاستقلال ليوقعا نيابة عن السودان على الاتفاقية الثانية لتحريم الرق … وأقرأ مكاتباتهما مع وكيل الوزارة بلغة السكسون فأعجب كيف لم يسمعا بأوراق التفويض ، ولماذا تبعث لهما الوزارة تفويضا غير قانوني الصياغة صادرا من جهة غير مخولة ، فيرتد التفويض مرتين وفي الثالثة يستحصل السفيران على الصياغة الصحيحة من منظمي المؤتمر ويبعثا بها للوزارة لتستنسخها على الوجه الصحيح وتوافيهما بها ليتمكنا من التوقيع .. عجبت لذلك إذ أنني حديث العهد بالوزارة كنت قد دربت على ذلك وأصبحت أعد تلك الأوراق للوفود المغادرة وأرفعها لتوقيع الوزير .

هنالك بدأ لي لأي مدى اقتحم أولئك الرجال عالم الدبلوماسية دون سابق إعداد ولكنهم في ظرف سنوات تمكنوا من فنونها وصاروا فيها أساتذة ومعا ولو لا بأسهم وجرأتهم ما كنا تعلمنا حرفا منها .. إنه النبوغ السوداني في أحسن أحواله وأصفاها . لقد بادر أولئك الأفذاذ مبادرة لولاها لظللنا نختصم ونتجادل إلى اليوم حول المصادر والأصول .

يقولون أن الدبلوماسية فن وليست علما مقننا فما عدا فنون البرتكول والاتكيت ليس هنالك من قانون مكتوب وكل شئ ما عدا ذاك متروك لتصرف الدبلوماسي واجتهاده . وقد كان هذا الفن يجرى في عروق جمال .. فاستطاع أن يتجاوز به الإطار الكلاسيكي لتقوم سفارته على البساطة والتواضع واجتذاب القلوب وهذا أنفع أنواع السفارات لدولة من العالم الثالث لا تخرج للعالم تفاخره وتباهيه وإنما تستعينه وتحاوره بلا استجداء . ويسحر شخصيته وتنوعها اصطفى لصداقته نفرا من أهل البلاد التي عمل فيها فصاروا أحبابا وشخصيين وأصدقاء دائمين للسودان .. صاروا مصدرا لمعلوماته سواء بقى بين ظهرانيهـم أو أرتحـل .. وكان بريده عامرا وذكره مرفوعا فأينما حللت أو ارتحلت لابد أن يلتمع في سماء حياتك نفر من رجال السياسة والصحافة يحدثونك عن ودهم لجمال ودوام صلاتهم به .

وكثيرون منا يصنعون صداقات خارج السودان ولكنهم بالكسل المعهود يتركون حبال الود تتراخى ويعلوها الزمن بالغبار .. إلا جمالا فإنه كان يحذق في التراسل ويستحليه ورسائله لأحبابه قطع من الأدب الرفيع يتكلف لها من الإتقان والتجويد نفس ما يتكلف لكتاباته المنشورة . وهو من القلة التي تحتفظ بدفتر للمذكرات اليومية يسجل فيها أحداث يومه الفكرية من كل نوع .

لعلك معي أن هذه الصفات نادرة الوجود في السودان وظني أنها وليدة التعمق المتأمل في حضارة الفرنجة من جوانبها الإيجابية وبالوقت ذاته وليدة الإحساس الحاد بعظمة الحياة وجمالها وقصرها اللذيذ فلا ينبغي أن تذهب في تزجية الفراغ أو اللهو الفارغ وعلى كل يوم من أيامها أن يترك بصماته على دفتر اليوميات وفي الرسائل إلى الأحباب . ولو صار من تقاليدنا العلمية استقصاء أخبار العظماء والمفكرين فأنني أنصح لمن يرغب في الماجستير أن يأخذها في استقصاء رسائل جمال لأحبابه ومريديه فإنه الظافر من ذلك بكنوز .

وأعلم حفظك الله أن الدبلوماسية لا تكون إلا حين يكون العلم السياسي فهي
مجرد مراسم وبرتكولات .. وهنا كان تفوق جمال .. فقد ألم بالعلم السياسي إلماما ضليعا متمكنا وأسعفه ذي ذلك لسان ذرب وتعبير جذاب وسلاسة في لغة الافرنج هي موضع إعجاب الافرنج .. فإذا حلل الأمور ووزنها وأفاض في شرحها أو أوجز ، داخل محدثه شعور أنه قد ظفر بغنيمة ووقف على دقائق فلا يملك إلا أن يفيض بما لديه .. وقد علم أهل هذه الصناعة أن الناس لا يتبرعون بمكنوناتهم تبرعا ولكنهم يتبادلونها تبادلا ولذلك نتحدث اللغة الدارجة عن تبادل المعلومات فالذي لا يعطى لا ينال وإذا لم تكن تملك التفاصيل فينبغي لك أن تمتلك الكليات أو على الأقل – المقدرة على عرض الأمور في شكلها الكلى .. وقد كان من حسن تتلمذي على جمال إنني فطنت إلى هذه الخصلة فيه وفطنت إلى مردوداتها الكثـار … فحين يخرج الناس بحبات اللؤلؤ يخرج جمال بعقد نظيم وحين ينظرون إلى الأمور من الثقوب الدقاق وتعميهم الأشجار عن منظر الغابة كان هو يستشرف الأمور من منظور بانورامي يجمع السهل والغابة والجبل .

إنسان عظيم إنسان جميل … نسترجع فيه ونتوجه بالحمد ، للذي لا مانع لما أعطى ولا معط لما منع . فمن نعمته وآلائه تعالى أن ألقى إلينا بهذه النفحة الزكية فعطرت حياتنا وأسعدتنا وعلمتنا التعلق بكل ما هو سام ورفيع .. ومن نعمته تعالى أنه أودع تلك النسمة الفواحة قلبا رقيقا حانيا يميل إلى القلوب الحوانى من كل جيل وسبيل فصار بين أحبابه وتلاميذه شيوخ وكهول وشباب يفع ودون ذلك .

عزاء أهلنا وسادتنا حرس البوابة الشمالية عزاء وصبرا جميلا مصطفى وعايدة .. عزاء جمال وآل محمد أحمد … عزاء لكل محمد أحمد في السودان أحس بكلمة وحرقة فراقه ..

وأما أنت أيها الغالي فالله أسأل أن يجمعني بك تحت لواء المصطفى أمام حوضه المورود … وسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون .


* نقلا عن كتاب :في سيرة كاتب سرة شرق
اعداد:د.علي عثمان محمد صالح والبشير سهل
الطبعة الاولي 1988

Post: #2
Title: Re: محمد المكي - في ذكري جمال محمد احمد
Author: 3bdo
Date: 10-02-2003, 05:18 PM
Parent: #1

شكرا اخي الكريم علي المقال الرائع

رحمه الله رحمة واسعة

Post: #3
Title: Re: محمد المكي - في ذكري جمال محمد احمد
Author: Agab Alfaya
Date: 10-04-2003, 04:06 AM
Parent: #1

شكر ا اخ عبده
ورحم الله الراحل جمال محمد احمد
والتحية لاستاذنا محمد المكي ابراهيم
ولكل اهل الدبلوماسية

Post: #4
Title: Re: محمد المكي - في ذكري جمال محمد احمد
Author: Agab Alfaya
Date: 10-05-2003, 09:40 PM
Parent: #1

up

Post: #5
Title: Re: محمد المكي - في ذكري جمال محمد احمد
Author: Remo
Date: 10-06-2003, 04:35 PM
Parent: #1

up

Post: #6
Title: Re: محمد المكي - في ذكري جمال محمد احمد
Author: ابو جهينة
Date: 10-06-2003, 04:38 PM
Parent: #5

شكر عجب الفايا. تشكر كثير

Post: #7
Title: Re: محمد المكي - في ذكري جمال محمد احمد
Author: Agab Alfaya
Date: 10-07-2003, 04:29 AM
Parent: #1

الاخوين العزيزين
ريمو
ابوجهينة
ان شاءالله دايما في العلالي