السيّدة الأولى (مقاطع)

السيّدة الأولى (مقاطع)


02-17-2009, 11:54 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=188&msg=1239813546&rn=4


Post: #1
Title: السيّدة الأولى (مقاطع)
Author: هشام آدم
Date: 02-17-2009, 11:54 AM
Parent: #0

مقاطع متفرّقة من رواية (السيّدة الأولى)
المقطع الأول

المدينة تعج بأصوات العربات التي تجرها الخيول المريضة، وأصوات الباعة المتجولين، والنساء الضاحكات على الشرفات، والشحاذين المستلقينَ على الطرقات، والعمال العائدين من المصانع بقبعاتهم المبتلة بالعرق المملح، وجرذان الحقول النازحة إلى المدينة، تشاجر رجلين على سلة خضروات، ومعجون حلاقة.

الوجوه الواجمة تستقي ملامحها من شكل الرغيف التعيس، وواجهات البيوت شاحبة كوجوه ساكنيها، وما بين رواق وآخر ينتشر الجنود المدججون بالسلاح، وتضيف أصوات أحذيتهم الغليظة على أرضية الشوارع الحجرية صوتاً آخر إلى أصوات المدينة البائسة.

أرصفة المدينة المريضة تحكي كل شيء، وتعرّي الوجوه والأقدام التي تدوس على جلود الشوارع الناتئة. أرصفة المدينة ثرثارة إلى حدّ الفضيحة، وحيث يعبر الآلاف فوق جثتها المصلوبة على أقدام عابريها؛ تكشف سرّها عندما تطفأ الأنوار، وتضاء القناديل الزيتية الخافتة ليلاً.

الأرصفة وحوش اصطادها صيّاد أعزل، وفرشها سجادات على أرض المدينة وشوارعها، والأحلام والأمنيات الكبيرة والمستعصية كالأرواح والكائنات اللطيفة، تمر كل يوم تصابح الجدران الباردة، وتنتظر أن يُؤذن لها بالتحقق. أرصفة المدينة النظيفة متسخة بآثار الأقدام والأمنيات المنتحرة، والروائح ... الروائح!

ذلك اليوم ضجّت الرائحة، وتعالى صوتها في المكان، فسدّ الجميع أنوفهم؛ وهم يشاهدون سيارة الإسعاف تقف في الرصيف المقابل، ورجال الشرطة يقتحمون شقة كهلٍ لم ينتبه لغيابه أحد؛ إلاّ عندما فاحت رائحته، نقلوه إلى ثلاجة الموتى، واستجوبوا الجميع، ثم دفن مطلع الفجر بكل هدوء.

كان الكهل ذو الرائحة النتنة بائع عطور، وصديق الجميع، ورغم ذلك سدّ الجميع أنوفهم؛ وذات الأنوف فتحت شرايينها على مصراعيها عندما مرّت أنثى ليلية تضع عطراً باريسياً مغرياً، وسرح الجميع ثم ناموا، واغتسلوا صباحاً. تلك الأنثى ألهبت خيال المراهقين والمتزوجين حديثاً. بعض الأنوف فقط تأسرها بعض الروائح، وتلفها بالحزن والحنين، وبعض الروائح تشعرك بالوحدة والخوف.

على الرصيف المقابل تشاجر صديقان ثم افترقا. كلاهما تمنى أمنية ولم تتحقق: أحدهما ظلّ على مدار سبع سنوات يجلس على الأرصفة ليرسم الأقدام العابرة، ويوثق تاريخ الأرصفة الخفي الذي لا يتذكره ولا يلحظه أحد، يرسم اللحظات التي تسقط من أذهان وحقائب الناس: في الحافلات، وعند إشارات المرور، أو خلف أسوار حديقة عامة، أو تحت مظلّة المقهى الليلي وأضوائها الخافتة.

واجبه المقدّس هو الإمساك باللحظة الإنسانية الصادقة: بكاء طفلة تائهة، هرولة رجل بدين يحاول اللحاق بالحافلة، احتماء شيخ مسن من رذاذ المطر بصحيفة يومية، استغاثة امرأة تعرّضت لسرقة حقيبتها اليدوية، ملاحقة غير متكافئة بين طفل مشاغب وكلب شرس، امرأة تمسك بسلسلة ذهبية منتهية بطوق مربوط بعنق كلب بوميرينين تقف أمام محل مغلق للمجوهرات، لحظة نادرة لمراهق يسترق النظر لعورة فتاة انحنت لإصلاح حذائها. يتقاضى بعض النقود الرخيصة مقابل بورتريهات يرسمها لأناس ليسوا من هذا العالم، أناس ليسوا منشغلين بحمى لافتات الأسعار، أو مواعيد القطارات أو عناوين الصحف الرئيسة.

حلم أن يعرض لوحاته ورسوماته في معرض محترم ذات يوم، وعاش الحلم لسنوات. توقع أن يأتيه شخص وقور، مدخناّ غليونه الفاخر، يقف ورائه وهو منهمك في اللوحة، فيربّت على كتفه ثم يعلن اكتشاف رسام المدينة الأول. ينتشله من ضيق الأرصفة إلى فضاءات المعارض وصالتها الفخمة. حلم أن يصبح مشهوراً، وأن يتمنى الجميع أن يرسم لهم بورتريهات تذكارية بالمجان، أو يوقع على الأتوجرافات.

صديقه الآخر، كان يمسك جيتاره النورمال، ويجلس حول نافورة كانتو مورنيك يعزف للسائحين والعشاق والمجانين، ويستكثر نفسه على عزف الشوارع. ظنّ أن ملحناً ما، أو قائد أوركسترا قد يظل طريقه إليه فيكتشفه؛ ولكنه ظلّ يعزف دون أن يشعر به أحد، ولم تسمح له السلطات بالعزف في مكان آخر فأصبح حبيس نوافير كانتو مورنيك الساحرة. كان يتساءل دائماً :"ألا يتمشى قائدو الأوركسترا على الأرصفة؟ ألا ينزلون إلى الشوارع؟"

عزف بجيتاره النورمال للبسطاء عن البسطاء، وعن كوابيس الرغيف والأرصفة الباردة، وعن أحلام المراهقين، ومعانات حاملات البرسيم، وعاملات النظافة. كان يغني للناس في الشوارع، ولكن دون أن ينتبه أحد إلى غنائه. كان غناؤه إحدى الأصوات التي تعبر آذان الناس في الشوارع كأبواق السيارات، وأجراس الدراجات الهوائية، وأصوات الباعة المتجولين، وصافرات شرطي المرور، وكان حظه من كل ذلك بعض النقود المعدنية التي يرميها السائحون داخل طبقه المصنوع من الكروم. قال عازف الجيتار قبل أن يقرر الرحيل: "لو لم يكن هنالك موت، لانتحر الجميع!"

Post: #2
Title: Re: السيّدة الأولى (مقاطع)
Author: هشام آدم
Date: 02-17-2009, 12:04 PM
Parent: #1

مقاطع متفرقة من رواية (السيّدة الأولى)
المقطع الثاني

في إحدى المقاهي المشهورة بمظلاتها الحمراء، ومقاعدها التي من الحديد الخفيف، يجلس الشباب والعجائز والموظفون بعد الظهيرة، وهم يحتسون الشاي والموكا، ويتعاطون السياسة. الجميع مستاءون من تدهور الأوضاع. ثلاثة أشهر مرت الآن منذ خلع الرئيس والإطاحة بحكومته، لطالما ظنوا أن سعادتهم ورخاء معيشتهم مرتبطان بزوال الحكم العسكري، ولكن يبدو أن الأمور تزداد تعقيداً.

عشرات التصريحات، وحالة الطوارئ، وأرتال الجنود المنتشرين في الشوارع والطرقات ونقاط التفتيش، وحظر التجوال الليلي؛ كل ذلك يوحي بأن الأمور لم تزل في طور لا يمكن التكهن بنتائجه. وأولئك الذين رفعوا أعلاماً ملونة على أسطح منازلهم ليسوا إلاّ محض متفائلين أو سذج فرحين بزوال دكتاتورية فيليوباوتش. سعادتهم بزوال الحكم العسكري مرهون الآن بما ستسفر عنه المماحكات السياسية التي تدور في كواليس القصر الرئاسي ومبنى البرلمان، والأسعار ما زالت في ارتفاع.

تصبح السخرية بديلاً منطقياً للسخط في مرحلة ما من مراحل اليأس، عندها يسخر الجميع من كل شيء، ويلتف الناس داخل ذواتهم الخاصة، يغرقون في القشريات، يتناقلون التفاهات، يهتمون باللامُهم، يضحكون من أنفسهم وعلى أنفسهم، وهذا ما كان يفعله رجلان جلسا في المقهى يحتسيان الموكا الساخنة:

- قبل ثمانية أعوام خلت تقدمت للزواج من فتاة راقت لي كثيراً. وقالت لي إنها ستفكر في الأمر.
- وماذا حدث بعد ذلك؟
- من الواضح أنها ما زالت تفكر!

في ساحة مونوبوليس؛ حيث تنتشر الحمامات الأليفة -التي لا تخشى الناس، ولا مشاغبات الأطفال، وكأنها اعتادت كل ذلك- يقف قسٌ بمعطف أسود وياقة بيضاء متأبطاً الكتاب المقدسة ورزمة من الأوراق، رافعاً يده اليمنى إلى السماء:

"فليتمجد الرب في الأعالي، ولينعم المؤمنون بالراحة التي لا تخالجها الريبة، أتبحثون عن السعادة في الرغيف والرب يقول: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون. الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟ تأملوا الغربان إنها لا تزرع و لا تحصد وليس لها مخدع و لا مخزن والله يقيتها؛ كم أنتم بالحريّ أفضل من الطيور، ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعاً واحداً؟ فإن كنتم لا تقدرون ولا على الأصغر، فلماذا تهتمون بالبواقي؟

تأملوا الزنابق كيف تنمو؛ لا تتعب ولا تغزل و لكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها، فإن كان العشب الذي يوجد اليوم في الحقل ويطرح غداً في التنور يلبسه الله هكذا؛ فكم بالحريّ يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان، فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا؛ فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم، وأما أنتم؛ فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه، بل اطلبوا ملكوت الله، وهذه كلها تزاد لكم. لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سرّ أن يعطيكم الملكوت. بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة، اعملوا لكم أكياساً لا تفنى، وكنزاً لا ينفد في السماوات حيث لا يقرب سارق، ولا يبلي سوس، لأنه حيث يكون كنزكم هناك؛ يكون قلبكم أيضاً"

في سخرية بادية تبسم شاب بوهيمي ذو شعر متموج، وأشار إلى صاحبه بالنهوض ومغادرة المكان إلى حيث لا يمكن للقس أن يزعجهما، في الوقت الذي لمح القس فيه الشابين وهما يغادران وعلى عينيهما نظرات ساخرة، وقف أحدهما وصاح بالقسّ: "يا أبت دعك من هذا؛ مشكلاتنا هنا على الأرض، وليست في السماء." وانصرفا ساخطين.

كلامهما ذلك فجر أحاديث متفرقة بين الجالسين؛ مما جعل صوت القس لا يبدو واضحاً كفاية كما في السابق، ولكنه لم يصمت، بل مضى في كلماته الواعظة؛ وكأنه لم يسمع شيئاً. كان الحمام كذلك لا يأبه لكلامه أو لوجوده فلا يطير، كان يبحث بين أقدامه، وعلى حافة نافورة كانتو مورنيك عن الحبوب، وكسرات الخبز المتناثرة. بعضه فقط كان لاهياً بمغازلة حمامات أخريات؛ فيفرد جناحه، ويرفع ذيله إلى الأعلى، وهو يدور حول نفسه، وأصوات حويصلاته تضيف زخماً على زخم الأصوات المتعالية، وصوت القس أكثر انخفاضاً.

Post: #3
Title: Re: السيّدة الأولى (مقاطع)
Author: هشام آدم
Date: 02-17-2009, 12:30 PM
Parent: #2

مقاطع من رواية (السيّدة الأولى)
المقطع الثالث

في جانب آخر من المدينة، كانت المومسات اللواتي لا يظهرن إلاّ بعد الساعة السابعة مساء، واقفات على رصيف ترو مونيبون الزاخر برائحة الجنس والإجاص، حيث كانت أشجار الإجاص تنمو في الحدائق العامة، وأفنية المنازل القريبة. وارتبطت رائحته بالجنس فيما بعد. البعض سماهن بالخفافيش؛ ليس لأنهن لا ينشطن إلاّ ليلاً فقط، ولكن لأنهن يعشن على دماء الرجال!

صفّرت إحداهن للأخرى في الجانب الآخر من الرصيف:

- أين الرجال اليوم؟ لقد أمضينا ساعتين دون أن يمر أحدهم من هنا، هل أعلنت الحرب في البلاد؟
- لا أستمع إلى المذياع كثيراً، ولكن وإن خلت المدينة من الرجال، فلا بد من وجود سكارى في الأرجاء.

الدعارة هي أسهل الحرف وأكثرها انتشارًا، ولولا الرجال ذوي روائح الفم النتنة لكانت أكثرها إمتاعاً أيضاً. أغلب المومسات كن طعماً سهلاً للجنود السائبين ليلاً في الشوارع، ولم يكن حظر التجوال الليلي يخص شارع ترو مونيبون وحده. هازئاً قال أحد الجنود لزميله: "ربما علينا أن نخشى ثورة الخفافيش ذات يوم، أكثر من ثورة المثقفين. ألا توافقني الرأي؟"

تتناقل المدينة قصة الأرمل الذي ظل يعتدي على ابنته على مدار ثلاث سنوات حتى قبل بلوغها، وكيف قتلها وألقى جثتها من فوق جسر على نهر تدواريو عندما علم أنها احترفت البغاء.

في مركز الشرطة لم ينطق الرجل بأية كلمة لينفي عن نفسه التهمة، ولكنه في المحكمة، دفع محاميه الرخيص ليقف أمام القاضية التي سألته: "هل تقر بقتلك ابنتك عندما اكتشفت أنها تعمل في البغاء؟" طأطأ رأسه بعد أن التفت إلى الحضور ثم قال: "بل عندما اكتشفت إفلاسي. لم أرغب أن أعيش من مال البغاء". بعد أسبوعين من المحاكمات، رأت المحكمة أنه مذنب في الاعتداء على ابنته، وبرأته من تهمة القتل من الدرجة الأولى؛ ليقضي سبع سنوات في السجن. ولكنه وُجد منتحراً في زنزانته بعد ذلك بثلاثة أيام.

هذه المدينة تعج بالقوانين؛ القوانين الكثيرة، تعادل جرائم كثيرة. القوانين لا تخدم إلاّ من يسنونها، أو من يقدرون على شراء الذمم. يقولون: "إن العدالة عمياء" لماذا نظن أنها عمياء، وليست معصوبة العينين؟ القوانين للجريمة، إذن القوانين عقوبات. العقوبات ليست من الإنسانية في شيء. لِم يجب أن يُعدم القاتل إن كان لا محالة ميتاً من تلقاء نفسه؟ كلنا سنموت ذات يوم، إذن فالموت سنة كونية، وليس عقاباً. لا يملك أحدنا أن ينصّب نفسه ممثلاً للعدالة.

يقول جالدوس ماكايا –يصنف مجنوناً في شارع ليك دان–: "لا بد من استحداث قوانين جديدة لا تحتوي على عقاب. أقترح (قانون الوشم) وشم من النوع الذي لا يزول. أجل! القاتل يوشم جبينه بـ"قاتل"، والسارق يوشم بـ"سارق"؛ هكذا نفضح المجرمين، لأن فضحهم يعادل الجزاء الأمثل مما يخشون. لِم تظنون أن الجرائم لا تقع إلاّ في الخفاء، بعيداً عن أعين الناس؟ لأننا بطبعنا لا نحب أن يعرف الآخرون أننا مجرمون أو حتى مخطئون. العقاب لا يقدم رادعاً كافياً؛ التاريخ يثبت ذلك. إذا قمنا بتعرية المجرمين أمام الآخرين فلن يقدم أحد على ارتكاب الجريمة. لا أحد يطيق أن يمشي في الطرقات بوشم في جبينه يحمل نعت "متحرش جنسي" أو "مغرر أطفال"

Post: #4
Title: Re: السيّدة الأولى (مقاطع)
Author: هشام آدم
Date: 02-19-2009, 09:08 AM
Parent: #3


الأخوات والأخوة الكرام

أتقدّم إليكم جميعاً بخالص وأصدق التعازي القلبية في رحيل
أديبنا الكبير، عبقري الرواية "الطيّب صالح" ونسأل لأهله
وذويه ومحبيه وعشاق أدبه وقلمه الصبر والسلوان

إنا لله وإنا إليه راجعون