أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ __كمال الجزولى

أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ __كمال الجزولى


09-04-2003, 04:58 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=173&msg=1138914224&rn=5


Post: #1
Title: أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ __كمال الجزولى
Author: elsharief
Date: 09-04-2003, 04:58 PM
Parent: #0




وَلا هَذِى .. وَلا تِلْكَ!
(1) أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ

كمال الجزولى
[email protected]


(1/1)
روى المؤانس البارع شوقى بدرى ، فى بعض حكاياته عن أمدرمان القديمة ، أن (أجوادْ وَدْ رَعِيَّة) كان مولعاً بحشر نفسه فى كل مشكلة تنشب بين شخصين فى المدينة ، غير أنه لم يعتد أن يفعل ذلك لوجه الله تعالى ، كما قد يتوهَّم البعض ، وإنما لخدمة (أجندة) تخصه هو وحده! وقد سمع ، مرَّة ، أن أحدهم استدان جنيهاً من آخر على أن يردَّه له بعد يومين ، ولكنه فشل فى ذلك ، برغم مرور أكثر من شهر ، حتى تعب الدائن ، وتملكه اليأس تماماً ، وكفَّ عن ملاحقته ، مفوِّضاً أمره إلى الحى الذى لا يموت. هنا ، وكالعادة ، ظهر الأجواد ليطلب من الدائن أن يوكل له المهمة ، متعهِّداً بأن ينجزها خلال ما لا يجاوز يوم الغد ، فوافق الدائن اليائس ، بطبيعة الحال. ولعلمه بمسألة (الأجندة الخاصة) ، فقد زاد بأن وعد الأجواد بريال بأكمله ، على سبيل المكافأة ، إن هو نجح فى مهمَّته. سوى أنه لم ينس ، تحت ضغط الاحساس باليأس ، أن ينصحه بأن يحذر (لولوة) المدين ومماطلته. وجاء يوم الغد ومضى ، ومضت مثله أيام أخرى ، بل وتصرَّمت أسابيع طوال دون أن يظهر أثر للأجواد! فجأة ، وبعد كل تلك الفترة ، التقى الرجلان بالمصادفة فى مناسبة عزاء ، فشرع الدائن يعاتب الأجواد على إهماله له ، لكن صاحبنا قاطعه قائلاً بكلِّ بساطة: "أنا والله ما أهملتك ، لكين ياخى كلامك عن لولوة زولك ده طلع صاح .. ده فعلاً زول صعب .. أنا ذاتى يا ألله ويامين حِتين قِدِرت أطلع منه ريالى"!!
هكذا ظلت هذه الحكاية تقفز إلى ذهنى ، بصورة أو بأخرى ، كلما قرأت أو سمعت عن (مبادرة) سودانية أو أجنبية لتحقيق (وفاق) بين الانقاذ ومعارضيها.

(1/2)
وفى الحقيقة فإن السودان لم يشهد ، خلال السنوات الثمانى الماضية ، وفرة تعدل هذه الوفرة فى المبادرات الداخليَّة والخارجيَّة التى تزعم كلٌ منها ، على اختلاف مناهجها ومنطلقاتها ، القدرة على تحقيق هذا (الوفاق). وباستخدام شئ من مربع أرسطو فى المنطق نستطيع أن نقرِّر ، باطمئنان ، أن كلَّ (مبادرة) هى ضرب من (الجوديَّة). وأن كلَّ (جوديَّة) تنطوى على (أجندة) خاصة (بالأجواد) ، فى واقع محلىٍّ وإقليمىٍّ ودولىٍّ لا يعترف بالحياد (المطلق) فى صراع المصالح الطبقية والوطنية. ولئن كان (أغلب) هؤلاء (الأجوادين) يحتقب أجندة (أجواد وَدْ رَعِيَّة) ، فإن ذلك يعنى ، فى الوقت نفسه ، وبالضرورة ، أن (بعضهم) ليس كذلك. وكون (الكثير) من هذه الأجندات (سيِّئاً) ، لانغلاقه فى محض مصلحة الأجواد (الخاصة) الضيقة ، تقابله حقيقة أن (القليل) منها (مشروع) ، كونه مؤهَّلاً لأن يشكل معامل التقاء بين مصلحة (الذات الأجوادة) وبين مصالح (الآخرين) الذين تفيض عليهم (بجوديَّتها) ، فلا تثريب عليها إن هى انطرحت ، فى هذه الحالة ، كرافعة ، أو كطاقة دفع potential باتجاه (توحُّد) الإرادات والمصالح المشتركة أولاً ، ثمَّ (تحققها) ثانياً.
أيَّاً كان الأمر ، فليس من الواقعية فى شئ محاكمة (الجوديَّات) ، فى حقل الصراع السياسى بالذات ، ببعدها (الأخلاقى) المثالى وحده ، بمعنى أن ينصرف الناس عن (مؤهلات) الجوديَّة نفسها فى الوصول بالأطراف إلى الهدف المنشود ، للانشغال بمقايسة مسعاها ، فى السياق نفسه ، لإصابة (كسب خاص) ، وطنيَّاً كان أم أجنبيَّاً! هذا الضرب من المقايسات (الأخلاقية) يصِحُّ ، فحسب ، حال طغيان (الخاص) الذى يضمره (الأجواد) على (العام) الذى يظهره ، كما فى حالة (أجواد وَدْ رَعِيَّة)!
إن الكشف عن البعد الأخلاقى المحض (للجوديَّة) ، فى معنى التحقق مِمَّا إذا كانت تنطوى على أيَّة مصلحة (خاصة) بالأجواد نفسه أم لا ، ثم التعامل معها ترتيباً على ما يتكشف ، بصرف النظر عن مدى تطابق هذه المصلحة (الخاصة) مع أية مصلحة أخرى (عامة) ، ليس كافياً وحده ، أو بمجرَّده ، للحكم لها أو عليها ، كون هذا البعد ، على أهميَّته القيميَّة ، وعلى كثرة ما يقال باسمه من فوق المنابر ، وإن توَجَّب الالتزام به فى خاصة النفس، إنما يمثل للكثيرين ، فى الواقع ، حقل عمل (المصلحين) لا (المصارعين) ، وسوف يظلُّ لهذا السبب ، وللأسف ، أكثر حقول الأداء السياسى كساداً وبواراً ، إلى حين إشعار آخر تتقدم فيه (منظومات القيم) الأخلاقية المعياريَّة ، حقاً وفعلاً ، إلى واجهة المشهد السياسى!
مهما يكن من أمر ، وبقدر ما هو مهم إرساء وإصلاح وتطوير الأسس النظريَّة للمعايير القيمية بالنسبة لأية حركة سياسية ، إلا أن المحكُّ العملى فى ممارسة الصراع السياسى سوف يظلُّ ، فى كلِّ الأحوال ، هو مدى الانتباه الثاقب الذى يستطيع أن يوليه الطرف المعيَّن لتكتيكات الأطراف الأخرى ، والقدر من التوفيق الذى يمكن أن يصيبه فى التقاط الخيوط الصحيحة المفضية لمعرفة المصالح الاستراتيجية الحقيقية التى تخدمها هذه التكتيكات ، ومن ثمَّ المستوى من الواقعيَّة والتناسب الذى يوفق لبلوغه ، فى نهاية المطاف ، عند اتخاذه لموقفه فى مجابهة هذه الاستراتيجيات والتكتيكات فى ضوء ما يتكشف له من تطابق أو تنافر بينها وبين استراتيجياته وتكتيكاته هو ، بحيث تتكشف المعياريَّة القيمية لهذا الموقف أو ذاك من خلال الأداء العملى ، وليس الخطب التبشيرية. إن مجرَّد الانكباب على معرفة درجة التطابق أو التنافر بين استراتيجيات وتكتيكات هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع السياسى ، وبين المنظومات القيميَّة والمعياريَّة التى يفترض فيه الالتزام بها ، إنما هو عمل خليق ، لا بالممارسة التطبيقية ، وإنما بالدراسات البحثية فى حقول التاريخ أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الحقوق أو العلوم السياسية أو ما شابه ، اللهم إلا إذا كان المقصود من هذه المعرفة توفير رافدٍ يثرى المنطلقات النقديَّة فى مستوى الخطوط الدعائية والفكريَّة للنشاط السياسى ، وليس خارجها أو فوقها أو على هامشها.

(1/3)
فى ضوء هذه المحدِّدات قد تبدو محيِّرة ، لدرجة الارباك ، منطلقات الاستقطاب المجانىِّ المبهظ الذى يشهده راهن التعبير السياسى فى بلادنا حول اثنتين من أحدث مبادرات الوفاق الوطنى: مبادرة (ملتقى السلام) ومبادرة (لجنة العشرة). وسيبقى هذا الاستقطاب مجانيَّاً، وبلا جدوى ، ما لم تتحدَّد الأسس والمعايير التى تنهض عليها المواقف المختلفة.
لقد برزت كلتا هتين المبادرتين عند المنحنى الذى بلغته مبادرة الايقاد ، فى اللحظة التى انتقلت فيها إلى (ناكورو) و(نانيوكى) ، فأضحت مرشحة لواحد من ثلاثة احتمالات: أولها وأضعفها الانكسار النهائى ، فالهبوط الارتدادى إلى سفح المواجهات الحربية. وثانيها وأقواها جمود الطرفين ، بلا حول ولا قوة ، ريثما يكتمل تآكل المساحة الزمنية (المسموح بها) ، فيتدخل (أجوادْ ودْ رَعِيَّة) الأمريكى ، طارحاً مشروعه البديل على طريقة (خذه أو اتركه ـ take it or leave it!) ، حسب السيد قاست ممثل مجموعة إدارة الأزمات بواشنطن لدى زيارته للخرطوم مؤخراً. أما ثالثها فهو مجرَّد احتمال نظرىٍّ قائم على حواف الاستحالة فى أن يقدم الطرفان ، فجأة ، ومع دقات الساعة الخامسة والعشرين ، من التنازلات المتبادلة المرغوب فيها ما يفتح الطريق أمام التوقيع على اتفاق سلام ما!
رجحان الاحتمال الثانى ناتج ، بلا شك ، عن حالة الضعف والانهاك البادية بوضوح على كل جبهات القوى السياسية السودانية. فنظام الانقاذ ظلَّ مفتقراً للارادة السياسية فى التوجُّه المستقيم لتوحيد الجبهة الداخلية ، وظلَّ يدفع فاتورة السنوات المتطاولة من القمع الوحشى مزيداً من الرفض لسياساته وسط الجماهير ، والعداء له بين القوى السياسيَّة ، والعزلة فى محيطه الاقليمى والدولى ، كما ظلَّ يعانى الأمَرَّين من التشرذم ، والانقسام ، وتآكل الشعارات ، وتشاكس الصفوف ، والعجز أمام شيوع الفقر ، وتردى الخدمات ، واستشراء الفساد المالى والادارى ، وانهيار (المشروع الحضارى) فى نفوس الكوادر الموالية بأكثر من انهياره فى الذهنيَّة والوجدان الشعبيين ، فلم يتبق له ، فى النهاية ، من أمل فى مواصلة البقاء فى السلطة ، إلا بإبرام (صفقة) ما مع الحركة الشعبيَّة (وحدها) ، يتقاسمان بموجبها السلطة والثروة ، بمعزل عن بقية القوى السياسية ، كحل نهائىٍّ للنزاع المسلح الطويل ، وعلاج ناجع لكل مشكلات التجربة وأدوائها ، وذلك ، للعجب ، تحت رعاية ذات القوى الاقليمية والدولية التى ظل يناصبها العداء السافر طوال السنوات الماضية! كانت تلك هى قراءة النظام الخاطئة الثانية لخصومه الجنوبيين ، متوهِّماً فى تلك (الصفقة) غاية ما يحقق طموحاتهم ، ويغويهم لإلقاء السلاح ، والابتعاد عن حلفائهم فى صفوف المعارضة ، بعد أن تبيَّن له خطأ قراءته الأولى لهم ، حين راهن ، أغلب تسعينات القرن المنصرم ، على أن تكثيف العمليات العسكرية ، والتعويل على الحراك الجيوبوليتيكى ، كفيلان وحدهما بسحقهم وكسر شوكتهم. غير أنه ما لبث أن وجد نفسه مرغماً ، مرَّة أخرى ، على الاستيقاظ المضطرب من أحلامه الورديَّة تحت وطأة اليد الثقيلة (لوثيقة ناكورو) المزعجة ، فانقلب يحاول البحث عن تحالفات بديلة وسط خصومه التقليديين ، رداً على ما حققت الحركة من نجاحات على هذا الصعيد بين الخرطوم والقاهرة ولندن. ولكنه سعى لذلك ، مرة أخرى ، بشروطه هو ، الأمر الذى لم يَخفَ على كل ذى عينين ضمن ملابسات (لقاء القصر) بين رئيس الجمهورية وأقسام من المعارضين السياسيين والموسيقيين وإداريى أندية كرة القدم ، وما أعقب كلَّ ذلك من تداعيات بزغت من بينها مبادرتا (ملتقى السلام) و(لجنة العشرة)!
أما الحركة الشعبية ، من جهتها ، فلم تعدم الانقسامات الحركيَّة تارة ، وضغوط التيارات الانفصالية تارة أخرى ، وعمق التناقض ، تارة ثالثة ، بين طموح التصدى لتحرير كل السودان ، من ناحية ، وبين عزلتها السياسية عن أغلب شعوب الشمال ، من الناحية الأخرى ، واكتفائها ، من الناحية الثالثة ، بإبرام التحالفات الفوقية مع قيادات القوى السياسية الشمالية ، والتنسيق معها ، يميناً ويساراً ، دون أدنى استطاعة للاحتكاك أو العشرة الحركية أو حتى الفكرية/الثقافية مع قواعد هذه القوى ، فكان (أجْوادْ وَدْ رَعِيَّة) الأمريكى والأوربى والأفريقى أقرب إليها ، بالضرورة ، من حبل وريدها الشمالى!
وأما المعارضة الشماليَّة فقد ألحق بها أفدح الضرر البعد الجغرافىُّ المتطاول لقطاعها الخارجى ، والقمع الوحشىُّ المتطاول لقطاعها الداخلى ، وانسلاخ حزب الأمة الباكر عن أقوى أشكالها التحالفية ، علاوة على أيدى النظام الطويلة التى ما انفكت تجوس بين صفوفها ، تفت فى عضدها ، وتخلف على جدار وحدتها ما لا تجدر الاستهانة به من شروخ ، ولا يستطيع سوى مكابر أن ينكر الحجم المقدر من النجاح الذى أصاب النظام على هذا الصعيد. ولو كان قطاف الانتصار النهائىِّ ممكناً بمجرَّد تطاول الصبر ، وبسالة الصمود ، وسداد المواثيق ، وجسامة التضحيات ، لكان التجمع أكبر قاطفيه منذ أمد بعيد!
تلك هى بعض ملامح الحالة السودانية التى تمخضت فولدت (الأجوادين الجدد) فى (ملتقى السلام) و(لجنة العشرة) ، وهى حالة لا نجد أبلغ من كلمة الأستاذ محمد ابراهيم نقد فى وصفها بأنها (حالة توازن الضعف)!
(نواصل)



Post: #2
Title: Re: أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ __كمال الجزو
Author: فتحي البحيري
Date: 09-04-2003, 05:12 PM
Parent: #1

تحليل مقدر استاذنا كمال
وسعي مشكور اخ الشريف
ولا اجد تعليقا اوجهه لعموم السودانيين سوى
(ما قنا اقروا ؟؟؟)
والقراية هنا ليست قراءة الكتب
بقدر ما هي قراءة الذات الديمقراطية
والاخر التسلطي
لاستثمار كل لحظات وتقاط القوة والضعف السانحة لدى الطرفين

عند سنوحها

Post: #3
Title: Re: أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ __كمال الجزو
Author: عاطف عبدالله
Date: 09-06-2003, 08:32 AM
Parent: #2

شريف منتظرين المواصلة

Post: #4
Title: Re: أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ __كمال الجزو
Author: elsharief
Date: 09-11-2003, 03:23 PM
Parent: #1




وَلا هَذِى .. وَلا تِلْكَ (2)
بَعْضِ مِنُّوْ .. يَجْزى عنُّوْ (أ)


(2/أ/1)
وجدنا ، فى الحلقة الأولى بعنوان: (أصداء من سيرة المرحوم أجوادْ وَدْ رَعِيَّة) ، نسباً يشدُّ كثيراً من مبادرات الوفاق إلى ذلك النموذج الأمدرمانىِّ القديم الذى كان يتدخل ، حسب شوقى بدرى ، فى كل مشكلة تنشب بين طرفين ، عارضاً (جوديَّته) لوجه الله تعالى ، فى الظاهر ، بينما عينه ، فى الحقيقة ، على (رياله) الخاص! لكننا وجدنا ، مع ذلك ، أن (بعض) هذه الأجندات يمكن أن يكتسب مشروعيَّة ما من كونه لا ينغلق ، فحسب ، على مصلحة (الأجواد) الضيقة ، بل ينفتح ، فوق ذلك ، بصورة أو بأخرى ، على الصالح (الموضوعىِّ) العام ، فلا تثريب عليه ، عندئذٍ ، أن ينطرح كرافعة لوحدة الإرادات المشتركة ، فى واقع محلىٍّ وإقليمىٍّ ودولىٍّ لا يعترف بالحياد (المطلق) فى صراع المصالح الطبقيَّة والوطنيَّة المتشعِّبة. ولمحنا ، من ثمَّ ، خطل الاقتصار ، فى حقل الصراع السياسى بالذات ، على محاكمة (الجوديَّات) ، وطنيَّة كانت أم أجنبيَّة ، بالاستناد ، فحسب ، إلى محض بُعدِها (الأخلاقى) ، بحيث ينصرف الناس عن طاقة (الجوديَّة) نفسها فى الوصول ، أو عدم الوصول ، بالأطراف إلى الهدف المنشود ، للانشغال بما إذا كانت تصيب ، أو لا تصيب ، (ريالها الخاص)! فهذا الضرب من المقايسات (الأخلاقيَّة) ، على أهميته ، يمكن أن يرد ، فقط ، لدى طغيان (المُضمر) على (المُعلن) ، بصورة قاطعة ، كما فى حالة (أجواد وَدْ رَعِيَّة) ، ولكنه سيظلُّ يمثل ، فى شِرْعَة الكثيرين ، ولآماد طويلة ، للأسف ، حقل عمل (المصلحين) لا (المصارعين) ، مثلما سيظلُّ ، لهذا السبب نفسه ، أكثر حقول الممارسة السياسيَّة كساداً ، لحين إشعار آخر تتقدم فيه منظومة (القيم الأخلاقيَّة) إلى واجهة المشهد!
لذلك فقد بدا لنا أكثر سداداً ، فى كلِّ الأحوال ، اعتبار أن المحكَّ العملىَّ لجدوى الصراع السياسى هو مدى القدرة على سبر الجوهر الحقيقى للاستراتيجيات المصطرعة ، بما فى ذلك استراتيجيات أهل (الجوديَّات) أنفسهم ، ومن ثمَّ القدر من المبدئيَّة والواقعيَّة الذى تتسِمُ به المواقف المُتخذة ، بحيث تتبدَّى معياريَّتها القيمية من خلال الأداء العملى ، لا التعبيرات التبشيرية ، طالما أن أحداً لم يبادر بالتلويح برايات (أخلاقه) من فوق أسطح البيوت!
فى ضوء هذه المحدِّدات اقترحنا التعاطى مع مبادرتى (الأجوادين) الجدد فى (ملتقى السلام) و(لجنة العشرة) ، على خلفية المنحنى الذى بلغه زحف مبادرة الايقاد ، من (مشاكوس) و(ناكورو) و(نانيوكى) إلى (نيفيشيا) مؤخراً ، بحيث أضحت نموذجاً مدرسياً (لحافة الهاوية) المفتوحة على أحد احتمالات ثلاثة: أولها وأضعفها الارتداد إلى سفح المواجهة الحربية ، وثانيها وأقواها تآكل الزمن المتاح بما يسمح (لأجوادْ ودْ رَعِيَّة) الأمريكى أن يتدخل بمشروعه البديل على طريقة (خذه أو دعه take it or leave it!) ، أما ثالثها فقائم نظريَّاًً فى أن يتبادل الطرفان ، فجأة ، من التنازلات ما يفتح الطريق أمام اتفاق سلام ما فى الدقيقة الأخيرة! وخلصنا إلى أن رجحان الاحتمال الثانى ناتج ، دون شك ، عن حالة الانهاك البادية بوضوح على جبهات القوى السياسية السودانية كافة ، مِمَّا وصفه الأستاذ نقد (بتوازن الضعف) ، وهى الحالة التى أفرزت المبادرتين المذكورتين ، فهل أىُّ منهما مؤهَّلة لتحقيق الهدف المنشود؟!

(2/أ/2)
لأغراض الحصول على إجابة يقينيَّة ينصحنا البعض بالتريُّث ، ومنح هؤلاء (الأجوادين) الفرصة الكافية ، انتظاراً لما ستسفر عنه (جوديَّتهم)! هذا الرأى ، مع كامل احترامنا وتقديرنا لأصحابه ، هو ، بكل المقاييس ، من قبيل الدعوة للارتداد إلى طفولة البشرية ، كون الانسان قد كفَّ ، منذ عصور سحيقة ، عن لمس النار للوقوف على خاصيتها فى تسبيب الأذى ، وصار يستعيض عن ذلك بعمليات عقلية يجريها فى دماغه ، مستنداً إلى ما راكمته خبراته وتجاربه من ذخائر معرفية عبر مئات القرون. وفى الدياليكتيك الشعبى (الجواب من عنوانو) ، بمعنى أنه لا حاجة بك لتجريب المُجرَّب ، أو الاستمرار ، كلَّ مرَّة ، فى تقصِّى كل التفصيلات ، لأجل الاحاطة ، فى النهاية ، بالمحتوى الاجمالى أو الوقوف على الناتج المتوقع ، فلربما يفى بعض ذلك بالمطلوب ، أو كما قال المرحوم عبد الرحمن الريَّح: "بعض مِنُّو .. يجزى عنُّو"!
ومن أهم ما قد (يجزى) عن أىِّ (انتظار) لا طائل من ورائه لناتج أىٍّ من المبادرتين، وعن أىِّ إهدار عبثىٍّ ، بالتالى ، للجهد والوقت وربما المال ، إيلاء القدر اللازم من الاعتبار للخلل السياسى البنيوى الذى لازم نشأة كل منهما ، من حيث الارتهان لإرادة السلطة فى التقرير الحاسم بشأن مصير الجهد المبذول ، كما فى حالة (ملتقى السلام) ، أو شبهة التجيير قطعىِّ الورود والدلالة لجهة السلطة ، فى نهاية المطاف ، كما فى حالة (لجنة العشرة) ، الأمر الذى يقدح ، منذ البداية ، فى أيَّة جدارة مفترضة فى أىٍّ منهما لبلوغ شئ ، ولو يسير ، من مطلوبات الوفاق.

(2/أ/3)
ولكن دعونا ، قبل الخوض فى تفصيل ما ذهبنا إليه ، بل ولأجل التأكيد على ما ذهبنا إليه ، نستدعى خبرة (منبر السودان أولاً) الذى اختار أن يعمل فى صمت فلم ينل حظه من التوثيق ، رغم أنه يمثل ، فى تقديرنا ، مسطرة معياريَّة يجدر القياس موضوعيَّاً عليها ، ولنتأمَّل كيف (قرَّرت) السلطة مصيره ، بجرَّة قلم ، حين لم تقع على بغيتها فيه! فقد سبق أن تداعى مثقفون ومهنيُّون وطنيون ، منذ سبتمبر 2002م ، وقبل أن تكون أىٌ من المبادرتين الأخيرتين شيئاً مذكوراً ، إلى ذلك المنبر الذى كان من أهم خصائصه المائزة ، والملامح الرئيسة لمسار تطوُّره ، والمآل الذى انتهى إليه ، ما يلى:
(1) بدأ المنبر بنفر قليل ، ثمَّ ما لبث أن اغتنى ، حتى صارت القلة كثرة ، بمشاركة أكثر من مئة وخمسين من حملة المعارف العلميَّة ، والخبرات العمليَّة ، فى مختلف التخصُّصات ، ومن مختلف المدارس الفكرية ،
(2) أجمع المشاركون ، من خلال مُمارسة رصينة لعصف أدمغة مُتمَكِّث brain storming تصرَّمت فيه أشهر بأكملها ، على تصويب النقد المستقيم لأساليب (المصالحات) الكاسدة التى لم تزوِّدنا يوماً بعلم يفوق إهالة التراب على الجراح ، من جهة ، ولمجمل خبرة المبادرات المتراكمة ، وما احتوشها ويحتوشها من عناصر النقصان ، بما فى ذلك أكثرها ترائياً بالاكتمال ، كمبادرة (الايقاد) ، من الجهة الأخرى.
(3) وخلصوا ، من ثمَّ ، إلى ضرورة الانكباب الطموح على اجتراح الأساليب والوسائل الأشبه بما يلائم المسألة السودانية ، والأقرب لإعانة المجتمع المدنى وقواه الحيَّة كافة على الانخراط ، تحت أعلى سقف ممكن ، فى عمليَّة تشريح وتبيُّن وافيين ، ومطلوبين أكثر من أىِّ وقت مضى ، لأزمات الوطن وأدوائه المستفحلة ، بما يقرِّبُ الشقة بين مختلف الرؤى والبرامج بشأن المخارج والوصفات العلاجية التى تضمن لنا ، على الأقل ، وطناً نختلف فيه بمستوى لائق من التحضر!
(4) وأمَّنوا على وعى المنبر بذاته عندما حدَّدوا الاطار المفهومى لعملهم فى هذا الاتجاه ، لا كمحض (أجوادين) يلوِّحون (بحياد) مخاتل ، أو يزعمون لأنفسهم (قوميَّة) مُرائية ، بل كمُيَسِّرين facilitators يفوقون فى تأهيلهم مُيَسِّرى (واق الواق) مِمَّن تداعوا على قصعة الوطن فى منتجعات كينيا ، فانتهوا بها ، لاحقاً ، إلى كارثة (ناكورو) ، ويبزونهم عِلماً فى ما يتصل ، على الأقل ، بدقائق تراكيب قضايانا الوطنية شديدة الخصوصيَّة والتعقيد.
(5) واتفقوا على أن يكون المنبر مستودع أفكار tank think يستند ، بالأساس ، إلى المناهج العلميَّة الموضوعيَّة وحدها ، بصرف النظر عن أىِّ انتماءٍ ، أو عدم انتماءٍ ، سياسىٍّ أو حزبىٍّ أو جهوى ، لأىٍّ من مشاركيه ، مع التأكيد على الانحياز الغالب وسطه إلى المبادئ التى ثبتت قيُّومِيَّتها تاريخيَّاً ، بحيث لم يعُد من السائغ اعتبارها عظمة نزاع وطنىٍّ بأيَّة حال ، والمتمثلة فى منظومة قيم الوحدة والسلام والعدالة والديموقراطية والتعدُّد. كما اتفقوا على اعتماد وسائل وآليَّات التمحيص الصبور والدراسة المتأنية لكل البرامج والأفكار والآراء ، بغية التحديد الدقيق لما هو متفق عليه ، وما هو متقارب ، وما هو مختلف حوله ، وذلك عبر المحاضرات والندوات والسمنارات وورش العمل وما إلى ذلك ، وصولاً إلى (المؤتمر الجامع)!
(6) هكذا ، وعلى مدى أكثر من ستة أشهر ، انخرط المنبر فى عمل دءوب ، حيث توزع أعضاؤه على أكثر من عشرة محاور: (الاتفاق الاطارى ـ السلطة ـ الثروة ـ حقوق الانسان ـ الاطار الدستورى ـ الحكم الانتقالى ـ نظام الحكم ـ المناطق المهمشة ـ الترتيبات الأمنية ـ الضمانات ـ دارفور ـ عوامل الوحدة والانفصال) ، دون التقيُّد بمحاور (مشاكوس) وحدها ، والتى خطط المنبر لتجاوزها بجعل محاوره أكثر إحاطة بمشكلات البلاد رأسياً وأفقياً ، ودون الالتزام بقيود (مشاكوس) الزمنيَّة ، فحتى لو قيض لها أن تفضى بطرفيها (الحكومة والحركة) لاتفاق سلام ، فسوف تظلُّ جدوى المنبر قائمة بحكم طبيعة مهامه.
(7) عكف أعضاء المحاور ، من خلال هذا العمل ، على ما يقارب العشرين ألف صفحة من الوثائق الأساسيَّة ، ومن مستخلصات التجارب فى البلدان الأخرى ، ومن زبدة ما راكمت العقول السودانيَّة ومنظمات المجتمع المدنى من دراسات وأبحاث فى شتى المجالات ، مستصحبين ، ضمن هذا الاطار ، كلَّ البرامج والخطوط المعلنة للحزب الحاكم والحركة الشعبيَّة والتجمُّع الوطنى ، وقاطعين شوطاً بعيداً فى رصد واستجلاء مختلف أطروحات القوى السياسية حول كلِّ مسألة ، وكلِّ قضية ، وكلِّ تفصيلة ، بالاستكتاب حيناً ، وباللقاءات المباشرة أحياناً أخرى ، بين ممثلى لجنة تنسيق المنبر ومندوبى حزب الأمة والاتحادى والشيوعى والبعث والناصريين وحق والعدالة والمؤتمر الوطنى المُعارض والجبهة الوطنية الديموقراطية (إتحاد القوى سابقاً) ، ولم ييأسوا ، إلى ذلك ، من امكانيَّة إقناع الشعبى أيضاً بجدوى التعويل على هذا الجهد ، أملاً فى تتويجه بعقد (المؤتمر الجامع) ، أو قل: (مشاكوس الأهلى) الذى يتقاصر عنه (مشاكوس الإيقاد) عمقاً واتساعاً!
( وحيث جرى الاتفاق ، ابتداءً ، على تلخيص وطرح النتائج التى يتوصَّل إليها كلُّ محور، عند نهاية كلِّ مرحلة من مراحل عمله ، أمام ندوة أو ورشة متخصِّصة بمشاركة موسَّعة ، فقد نظم المنبر ، فى مطلع أبريل 2003م ، وبنجاح تام ، أوَّل ندوة لمحور (الاتفاق الاطارى) ، أسهم فى مداولاتها ، برصانة عالية وحماس كبير ، مشاركون من داخل وخارج المنبر ، أبدوا العديد من الآراء الثاقبة والملاحظات الدقيقة ، مِمَّا تقرَّر استصحابه فى العمل اللاحق للمحور.
(9) لكنَّ قراراً مفاجئاً صدر من السلطة ، صباح اليوم التالى مباشرة ، يحظر نشاط المنبر ، ويقضى على جهده المجيد بالاجهاض المأساوى!

(2/أ/4)
الآن ، وبما أن الناس قد عرفوا الله بالعقل ، وليس بالعين ، فإن بمستطاع كلِّ عقلٍ راشدٍ الاجابة ، يقيناً ، على السؤال المركزى الذى نطرحه كخاتمة لهذه الحلقة قبل الأخيرة ، وكمدخل للحلقة القادمة والأخيرة ، على النحو الآتى: هل يُتوقع من الصدر الذى ضاق بمنبر (السودان أولاً) ، على ما هو عليه من رحابة ونزاهة وموضوعيَّة ، أن يتسع لأيَّة مبادرة أخرى ، ما لم يضمن أنها ستتمخض ، فى نهاية المطاف ، عمَّا يشتهى هو وحده ، أو أنها ، على الأقل ، سوف ترعى بقيدها الموصول بقبضته القويَّة وإرادته المنفردة؟!!
(نواصل)



Post: #5
Title: Re: أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ __كمال الجزو
Author: فتحي البحيري
Date: 09-13-2003, 11:27 AM
Parent: #4

شكرا
ولازلنا نواصل الانتظار

Post: #6
Title: Re: أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ __كمال الجزو
Author: elsharief
Date: 09-24-2003, 02:09 PM
Parent: #1



وَلا هَذِى .. وَلا تِلْكَ (3)
بَعْضِ مِنُّوْ .. يَجْزى عنُّوْ (ب)

كمال الجزولى




(3/ب/1)
لأسباب فنيَّة بحتة لم يمكن ظهور هذه الحلقة فى موعدها الراتب بالأربعاء الماضية ، فمعذرة. وكنا استصوبنا ، فى ما تقدَّم ، تغليب جدوى التعاطى مع مبادرات الوفاق من منظور قدرتها ، أو عدم قدرتها ، على الاشتغال كرافعة لوحدة الإرادات ، لا الاقتصار على محض التساؤل عن (النوايا الخاصة) بأصحابها ، رغم عدم إمكانية استبعاد مثل هذه المقايسة (الأخلاقيَّة) لدى الثبوت القاطع لطغيان (المُضمر) على (المُعلن) فى بعض (الجوديَّات) ، كما فى حالة (أجواد وَدْ رَعِيَّة) الذى أوردنا حكايته ، كما رواها شوقى بدرى ، وهو ، على أيَّة حال ، نموذج غير نادر فى سوق المبادرات!
حاولنا ، من ثمَّ ، تبيُّن الفرص المتوفرة (لملتقى السلام) و(لجنة العشرة) ، على خلفية (حافة الهاوية) التى بلغتها الايقاد ، منذ حين ، باحتمالات ثلاثة: أضعفها الارتداد إلى الحرب ، وأقواها تمكن (أجوادْ ودْ رَعِيَّة) الأمريكى من فرْض بديله ، أما أن يتبادل الطرفان ، فجأة ، من التنازلات ما يسمح بالانفراج فى الدقيقة الأخيرة ، فتلك (معجزة) أكثر منها (احتمالاً)! وأعدنا رجحان الاحتمال الثانى إلى حالة الانهاك السائدة فى كل الجبهات ، مِمَّا وصفه الأستاذ نقد (بتوازن الضعف) ، وهى الحالة التى أفرزت المبادرتين بنيَّة الذهاب إلى ما هو أبعد من مجرَّد التفاوض بين طرفين: (الوفاق) الشامل ، فتساءلنا إن كانت أىٌّ منهما مؤهَّلة لذلك!
باتجاه الإجابة وجدنا أننا قد لا نحتاج لأكثر من الدياليكتيك الشعبى: (الجواب من عنوانو) ، فى معنى عدم الحاجة لتقصِّى (كل) التفصيلات ، فى كلِّ مرَّة ، من أجل استكناه النتيجة ، فلربما أغنى (بعض) ذلك عن (كله) ، كما فى إنشاد المرحوم عبد الرحمن الريَّح: "بعض مِنُّو .. يجزى عنُّو"! وقد (يجزى) ، حقاً ، عن (الانتظار) بلا طائل ، لمعرفة مآل أىٍّ من المبادرتين ، إيلاء الاعتبار اللازم للخلل الناشب فى بنيتهما السياسية ، من جهة ، ولشبهة حصارهما ، من الجهة الأخرى ، بقيود الارادة المنفردة للسلطة ، مِمَّا يقدح ، منذ البداية ، فى جدارتهما بتقديم خدمة ، ولو يسيرة ، لمطلوبات الوفاق.
ولكننا رأينا ، قبل الخوض فى ذلك ، أهميَّة استدعاء بعض دروس (منبر السودان أولاً) الذى وفر ، فى تقديرنا ، (مسطرة معياريَّة) يجدر القياس عليها. فقد تداعى إليه ، بمبادرة ذاتية حقيقية ، غير منتحلة ، ما يربو على المئة وخمسين خبيراً من مختلف التخصُّصات والاتجاهات ، سدَّدوا ، من خلال عصف أدمغة متمكث brain storming ، نظراً ناقداً لأساليب (المصالحات) الكاسدة ، وعوامل القصور فى المبادرات الأخرى ، وأجمعوا ، من ثمَّ ، على ضرورة المنبر الوطنىِّ (المستقل) الذى (يُيَسِّر) مشاركة الجميع فى تشريح الأزمة بمناهج تقرِّبُ بين الرؤى وتجترح المخارج. وأسَّسوا لوعى المنبر بذاته كمستودع أفكار think-tank يعتمد المناهج والآليَّات العلميَّة ، مثلما أسَّسوا لوعيهم بجهدهم ، لا كمحض (أجوادين) يدَّعون (قومية) مُرائية ، بل كمُيَسِّرين facilitators يبزون مُيَسِّرى (الإيقاد) عِلماً ، على الأقل ، بدقائق القضايا الوطنية شديدة الخصوصيَّة والتعقيد ، بصرف النظر عن انتمائهم ، أو عدم انتمائهم ، السياسىِّ أو الحزبىِّ أو الجهوى ، مع التزامهم ، فى كلِّ الأحوال ، بمبادئ الوحدة والسلام والعدالة والديموقراطية والتعدُّد ، تطلعاً (لمشاكوس أهلىٍّ) يتقاصر عنه (مشاكوس الإيقاد) عمقاً واتساعاً! وعكفوا ، لأكثر من ستة أشهر ، على أكثر من عشرة محاور بما يقارب العشرين ألف صفحة من الوثائق ، مستصحبين لأطروحات كلِّ الأطراف ، بغية الفرز الدقيق بين ما هو متفق عليه أو متقارب ، وما هو مختلف حوله ، حتى نجح المنبر ، مطلع أبريل 2003م ، فى تنظيم أول ندواته التى وفرت من الملاحظات والمقترحات ما يجدر استصحابه فى الجهد اللاحق. ولكنَّ قراراً مفاجئاً بحظر المنبر جعل الناس الذين عرفوا الله بالعقل ، وليس بالعين ، يستنتجون أن الصدر الذى ضاق بذلك الجهد ، على استقلاليته وموضوعيَّته ، لن يتسع لغيره ما لم يضمن ارتهانه لإرادته المنفردة!

(3/ب/2)
مع ذلك ، ما كادت تنقضى أشهر قلائل حتى أطلت مبادرتا (ملتقى السلام) و(لجنة العشرة) اللتان نغلب وقوعهما ، ابتداءً ، بترتيب من السلطة ، سدَّاً لاحتياج طارئ لديها ، وليس لرغبتها فى بلوغ (وفاق) حقيقى ، وذلك بعدة أدلة:
الدليل الأوَّل: ما سلفت الاشارة إليه من أن الأسلوب الذى تعاملت به مع المنبر يكاد يقطع وحده بعدم استعدادها لقبول ما لا يخرج من عباءتها ، ولا يخضع لمشيئتها.
الدليل الثانى: بروز المبادرتين ، فجأة ، من بين ملابسات الفشل الذريع الذى مُنيت به وثيقة الحزب الحاكم للاجماع الوطنى ، والتى دار جهدها دورة واسعة ليعيد ، فى نهاية المطاف ، إنتاج نفس مشهد التحالف القائم فى مستوى هجين السلطة ، حيث لم تلتف حولها سوى أحزاب التوالى ، وهيئة الدفاع عن العقيدة والوطن ، وهيئة علماء السودان وما شاكل من التنظيمات.
الدليل الثالث: حِرصُ كلٍّ من المبادرتين على خلق الانطباع بأنها الأكثر حظوة لدى النظام ، فإذا تطلع (ملتقى) د. عصام صديق لرعاية رئيس الجمهورية (الرأى العام ، 7/8/03) ، سارع د. الطيب حاج عطية للاعلان عن الدعم الذى تجده (لجنته) من قيادات الحزب الحاكم (الرأى العام ، 25/8/03). وكلتاهما ، لعمرى ، خطة بئيسة ، فقادة الانقاذ ليسوا مظنونين بالتنكر ، فى معمعة الصراع السياسىِّ ، لمصالح حزبهم أو حكومتهم! حتى لقد تندَّر الناس بأن ذلك هو ، بالتحديد ، مثار نقع المنافسة بين من بادروا ، ولو مظهريَّاً ، لتكوين وإدارة كلٍ من (اللجنة) و(الملتقى) ، مِمَّا فتح (كوَّة) لإطلالة شبح (أجواد وَدْ رَعِيَّة) ، رغم الحسِّ الوطنىِّ الديموقراطىِّ المشهود ، سواء فى مستوى الرأى العام أم فى مستوى العُشرة الشخصية الحميمة ، عن بعض أعضاء (اللجنة) مِمَّن لا نستطيع ، لهذا السبب بالذات ، أن نمنع أنفسنا من الدهشة بإزاء خيارهم هذا ، كأخينا الأكبر وأستاذنا الجليل محجوب محمد صالح وصديقنا العالم المتواضع د. عبد الرحيم بلال ، ولا نجرؤ على ادعاء ما ليس لنا به علم وثيق من خصائص الآخرين فى غير المعلوم بالضرورة من سيرة (انفتاح) الكثيرين منهم على (الشموليَّة) ، الأمر الذى لم يرتبوا ، حتى الآن ، نقداً ذاتياً يتجاوزه بإبانة ، أو موقفاً مغايراً يجبُّه بإفصاح ، فلهم العتبى!
الدليل الرابع: سرعة الاستجابة من جانب السلطة ، ومؤسسة الرئاسة تحديداً ، لإسباغ الرعاية على (الملتقى) فى البداية (الأضواء ، 7/8/03) ، ثم سحبها من (الملتقى) وقصرها على (اللجنة) وحدها (الرأى العام ، 22/8/03) ، مِمَّا فاقم من اهتزاز صدقيَّة (اللجنة) ، وطعن فى حيدتها واستقلاليتها ، خاصة بعد خروج الحزب الحاكم من (الملتقى) ، وتصريح أمينه العام بأنهم لا يرون سبباً لاستمراره بعد اعتماد الرئيس للجنة العشرة (الأضواء ، 28/8/03) ، وبعدم استعدادهم للعمل فى منبر لم (تعيِّنه) الحكومة (الأضواء ، 26/8/03). كما جعل ذلك أيضاً من وضعيَّة (الملتقى) حُجة إضافيَّة تدعم ما قلناه فى رأس هذه الأسباب. فبرغم إحاطته بمباركة السلطة ، أوَّل أمره ، إلا أنه سرعان ما انقلب غير مرغوب فيه منذ أن (صدَّق) مزاج لقاء (بيت الضيافة) فى 9/8/03 ، فصار يردِّد المطالب (المحرَّمة) فى شرعة النظام! أما السبب فى إبقاء السلطة عليه ، برغم عدم اعترافها به ، فيعود ، فى تقديرنا ، لتيقنها من عدم جدواه ، من جهة ، ولكونه (الجن) الذى تعرفه وتفضله على ما تجهله ، من الجهة الأخرى! (فالملتقى) الذى حرص على التحشيد الاعلامىِّ الهش فى لقاء بيت الضيافة مساء 9/8/03 ، مِمَّا وصفه رئيس حزب الأمة "بمشهد العلاقات العامة" (الصحافة ، 14/8/03) ، واصل نفس النهج فى نشاطه اللاحق ، فلا هو تكشَّف عن خطة مرموقة لتحقيق الوفاق ، ولا هو تمخَّض عن تحالف معارض يتجاوز التجمع ، فلكأن البلد ينقصها المزيد من الارتباك!
أما (اللجنة) التى لا تكاد تخفى فرحها كلما أحسن وفادتها طرف معارض مِمَّن يُخشى أنه لم تعد عنده (قشة مُرَّة) فى قفر الخيارات الجديب (!) فعلى الرغم من وجه الشبه ، من الناحية الشكليَّة ، بين المعلن فى بيانها وبين مناهج وأساليب وآليات منبر (السودان أوَّلاً) ، إلا أن المسألة تتعلق ، فى جوهرها ، بما هو أكبر ، فى الحقيقة ، من مجرَّد الطرح الشكلانى الذى يسِم علاقة الكاريكاتير بالأصل! ولا يملك المرء ، مع أكيد الاحترام ، سوى أن يُلقى على الأساتذة الثلاثة من أعضائها ، محجوب محمد صالح وعبد الرحيم بلال والطيب حاج عطيَّة ، والذين هم ، أصلاً ، أعضاء فى (المنبر) ، بحزمة من الأسئلة المتناسلة بإلحاح ، مثلاً:
أ/ عن مغزى سماح السلطة لهم فى (اللجنة) بذات النشاط الذى سبق أن أنكرته عليهم فى (المنبر)؟!
ب/ وعن جدوى اضطرارهم لتكرار عمل انقطعت فيه كلُّ تلك الأشواط ، ليبدأوه مجدَّداً ، من مربعه الأوَّل ، بذات المناهج والأساليب والآليات؟!
ج/ وإذا كان من المرجح أنهم هم الذين نقلوا هذه المناهج والأساليب والآليات إلى مانيفستو (اللجنة) من خبرة (المنبر) ، بقرينة سابق العُشرة ، فكيف قدر لهم أن يقنعوا بها بقية الأعضاء خلال أيام معدودات ، وهى التى احتاجت مناقشتها ، قبل هضمها واعتمادها فى (المنبر) ، إلى كل تلك الشهور؟!
د/ بل وكيف تتوقع لجنة من (عشرة) أن تنجز عملاً استفرغ وضعه على أول الطريق ، فحسب ، جهد أكثر من مائة وخمسين خبيراً على مدى أكثر من ستة أشهر؟!
الدليل الخامس: هو ، بالتمام ، معكوس ما ذهب إليه مانيفستو (اللجنة) من حيث تأكيده المغلظ على استقلالية (كلِّ) أعضائها ، وما ردَّده مولانا دفع الله الحاج يوسف بقوله إنها "تضمُّ شخصيات مستقلة استقلالاً كاملاً عن كلِّ الأحزاب السياسية" (الأضواء ، 22/8/03). فبرغم أن ذلك لا ينطوى ، فى حدِّ ذاته ، على أيَّة ميزة خاصة أو مأثرة ، إلا أننا نظرنا ، مع احترامنا للبيان ولمولانا ، فوجدنا أن نصفها ، تقريباً ، مِمَّن درجوا على إعلان (قوميَّتهم) فى الصيف و(حزبيَّتهم) فى الشتاء ، وأن فيها مَن لا يليق به إنكار انتمائه ، وأنها تعجُّ ، إلى ذلك، بذوى السابقة فى دعم الشموليَّة ، بل والمجاهرة بأفضليتها على الديموقراطيَّة ، ثم لا يرون ، بعد ذلك كله ، أهمية ، فى ما يبدو ، لإزالة اللبس عن مواقفهم ، على حين يتصدُّون ، فى الوقت نفسه ، لأحد أخطر الملفات إيغالاً فى مبحث الديموقراطيَّة! هذه قضية مهمَّة يجدر بهؤلاء السادة ، بل من حق الشعب عليهم ، أن يدلوا ببيان شاف حولها!
الدليل السادس: ولعله ، فى الحقيقة ، الأوَّل ، هو ما يتصل بالكشف المباشر ، دونما حاجة إلى تحليل أو استنتاج ، عن الطريقة التى تكوَّنت بها (اللجنة) بأمر صادر من رئيس الجمهوريَّة ، وليس بمبادرة ذاتية كما يقول أهلها. ففى لقائه المار ذكره بممثلى الأحزاب ببيت الضيافة "وعد البشير بتشكيل لجنة من خبراء لإدارة حوار بين القوى السياسيَّة للوصول إلى إجماع وطنى" (الصحافة ، 10/8/03). ثم عاد ، بعد تكوينها ، فأعلن أنها "هى اللجنة المعتمدة لدى رئاسة رئاسة الجمهوريَّة ، و .. ستعمل تحت رعايته المباشرة ، وأن أىَّ اتصالات مع القوى السياسيَّة .. سيكون عبر هذه اللجنة فقط ، وأن أىَّ أنشطة أخرى .. ستكون مساعدة وروافد لعمل اللجنة الأم" ، كما حرص على إعلان "أن لجنة ملتقى السلام إنتهت برفع توصياتها" (الرأى العام ، 22/8/03).
ونضيف ، من باب الاستطراد الجالب للحزن والأسى ، وفى سياق التأكيد على إمكانيَّة التنبؤ ، منذ الآن ، بمآلات هذه (اللجنة) المحكومة (بالرعى) فى (قيد) السلطة ، أن البشير ، عندما طالبته القوى السياسية ، فى ذلك اللقاء ، برفع حالة الطوارئ ، رمى بالكرة فى ملعب (اللجنة) المزمع تكوينها ، متعهِّداً بتنفيذ (توصياتها) فى ما "إذا (رأت) رفع حالة الطوارئ!" (الصحافة ، 10/8/03). وتوهَّمنا ، ربما لفرط غرارتنا ، أن المعضلة قد هانت ، ولم يتبق سوى أن (ترى) لجنة العشرة (فتوصى)! فهل تراها فعلت؟! الاجابة ، كما ورد فى الأخبار ، أن (اللجنة) كوَّنت (لجنة) فرعيَّة برئاسة دفع الله الحاج يوسف "لإعداد (دراسة) قانونيَّة حول حالة (الطوارئ) ، والقوانين التى تحتاج (لدراسة) ، لتهيئة المناخ للحوار!" (الرأى العـام ، 24/8/03).
هل فهمتم شيئاً؟! هل (إلغاء) حالة الطوارئ والقوانين المقيِّدة للحريَّات أضحى (محتاجاً) ، فجأة ، إلى (دراسة)؟! حقاً ما لكم كيف (تدرسون)؟!
الدليل السابع: مداره أيضاً بعض الملابسات التى ولدت فيها المبادرتان ، وأبرزها (وثيقة ناكورو) التى انفجرت ، وقتها ، فى وجه السلطة من حيث لم تحتسب ، علاوة على تحرُّكات قرنق المروحيَّة على المستويين العربى والعالمى ، بالاضافة لانهماكه فى بلورة مواقف تواثقيَّة مع أطراف من المعارضة حول مسائل تفصيليَّة ، (كقوميَّة العاصمة) وغيرها ، مِمَّا أزعج السلطة أيَّما إزعاج. كيف لا ، وقد دفع ذلك بكلِّ رهاناتها ، بغتة ، إلى شفا جرف هار ، وشكل مُهدِّداً جديَّاً لخطتها الرامية إلى عقد صفقة ثنائيَّة مع الحركة الشعبيَّة ، بمعزل عن بقيَّة القوى. ولعل هذا ما يفسر (الجمباز) العنيف الذى انخرطت فيه ، طوال الأشهر الثلاثة الماضية ، تحت عنوان (الاجماع الوطنى) ، وعودتها المباغتة ، بدرجة أربكت المُعارضة نفسها ، إلى حديث (الوفاق) ، بعد أن كانت قد استغنت عنه ، فى ما بدا ، بماراثون الايقاد!

(3/ب/3)
لكن ، هَبْ أن ذلك كله كذلك ، فما الضير ، برغمه ، كما يتساءل بعض (العابرين فى حديث عابر) ، من أن تنطلق مبادرة هنا أو هناك لتحقيق (الوفاق الوطنى)؟! قد يبدو السؤال معقولاً ، للوهلة الأولى ، إذا ما أمكن انتزاعه من سياق الخبرة التاريخية. غير أنه ما يلبث أن يتكشف عن خديعة ، أو ربما عن سذاجة فى أفضل الاحتمالات ، حين نعلم أن هذه ليست المرَّة الأولى التى تلوِّح فيها السلطة (بالوفاق) ، من تلقاء نفسها أو عن طريق (الأجوادين) ، دون أن تتكبَّد مجرَّد الرغبة فى الوفاء باستحقاقات هذا (الوفاق). فكم من مرَّة بدت فيها كما لو كانت على أهبة الاستعداد لذلك ، وأكثرت الحديث عمَّا يشى بأن ثمَّة إرادة سياسيَّة لديها لتهيئة أجوائه ، ولكنها سرعان ما كانت تعود ، فى كلِّ مرَّة ، لتنكص على أعقابها ، متى ما تحقق لها تسجيل نقطة هنا ، أو تفادى خسارة هناك ، مِمَّا قد يتراءى فى حساباتها. أما (الوفاق) نفسه فهى غير جادة ، مثقال ذرة ، فى سداد قسط واحد من فاتورته.

(3/ب/4)
ذلك هو (بعض) ما يمكن أن يُساق فى باب التدليل على أن أىَّ تطلع لأدنى مردود حقيقىٍّ من أىٍّ من (المبادرتين) هو ، فى واقع الأمر ، ضرب من مطاردة السراب ، كونهما مشروطتان ، كما قلنا ، (بالرعى) فى (قيد) السلطة التى لم ينشرح صدرها لهما ، أصلاً ، إلا لأنهما يسدَّان لديها احتياجاً طارئاً لا صلة له ، من قريب أو من بعيد ، (بالحل السياسى الشامل) كضرورة موضوعيَّة. فهل يكفى هذا (البعض) ، أم ترانا نحتاج لإثبات أننا لا نغالى؟!
(نواصل)



Post: #7
Title: Re: أصْدَاءٌ مِن سِيْرَةِ المَرْحُوم أَجْوَادْ وَدْ رَعِيَّةْ __كمال الجزو
Author: elsharief
Date: 10-02-2003, 02:28 PM
Parent: #1




وَلا هَذِى .. وَلا تِلْكَ (4 ـ 4)
الطَّريقُ إلى زُحَلْ!

كمال الجزولى
[email protected]



(4/1)
عرضنا ، فى الحلقات الماضية ، لأصداء من سيرة أجوادْ وَدْ رَعِيَّة التى ما تنفك تتمايح كلما أتى الناس على سيرة مبادرات الوفاق. ومع ذلك فقد استصوبنا التعاطى مع هذه المبادرات بمعايير قدرتها على الاشتغال كرافعة لوحدة الإرادات ، لا الاقتصار على محض التساؤل عن (أجنداتها) الخاصة. واستدعينا ، فى هذا الاتجاه ، بعض دروس منبر (السودان أولاً) ، كونه وفر ، فى تقديرنا ، (مسطرة معياريَّة) يجدر القياس عليها ، حيث انطلق مائة وخمسون خبيراً من نقد أساليب (المصالحات) الكاسدة إلى تأسيس المنبر المستقل كمستودع أفكار think-tank يعتمد المناهج والوسائل العلميَّة لمقاربة الرؤى واجتراح المخارج ، مثلما أسَّسوا لوعيهم بجهدهم لا كمحض (أجوادين) يدَّعون (قوميَّة) مُرائية ، بل كمُيَسِّرين facilitators يبزون مُيَسِّرى (الإيقاد) عِلماً بدقائق القضايا الوطنية ، غض النظر عن الانتماء، أو عدم الانتماء ، السياسىِّ أو الحزبىِّ أو الجهوى ، مع الالتزام ، فى كلِّ الأحوال ، بمبادئ الوحدة والسلام والعدالة والديموقراطية والتعدُّد ، تطلعاً (لمشاكوس أهلىٍّ) يفوق (مشاكوس الإيقاد) عمقاً واتساعاً! وعكفوا ، من ثمَّ ، ولأكثر من ستة أشهر ، على أكثر من عشرة محاور بما يقارب العشرين ألف صفحة من وثائق كلِّ الأطراف ، بغية الفرز الدقيق بين ما هو متفق عليه وما هو مختلف حوله. لكنَّ قراراً مفاجئاً بحظر المنبر جعل الناس يستنتجون أن من ضاق به لن يقبل بغيره ما لم يرتهن لإرادته المنفردة!
وتطبيقاً على حالة (ملتقى السلام) و(لجنة العشرة) لمحنا غلبة الخلل فى بنيتهما السياسية ، وشبهة نشأتهما بخطة (الرعى) فى (قيد) السلطة ، مكتفين ببعض الاشارات ، كما فى إنشاد المرحوم عبد الرحمن الريَّح: "بعض مِنُّو .. يجزى عنُّو"! من ذلك بروزهما من بين ملابسات (ناكورو) ، وتحرُّكات قرنق المروحيَّة عربياً وعالمياً ، وتواثقه مع أطراف المعارضة الشمالية حول (قوميَّة العاصمة) وغيرها ، مِمَّا هدَّد حلم السلطة بصفقة ثنائيَّة مع الحركة الشعبيَّة ، وأخضعها (لجمباز) لاهث تحت عناوين (الوفاق) و(الاجماع الوطنى). ضف إلى ذلك تنافس (المبادرتين) على الحظوة لدى النظام ، وقرار البشير بتكوين (اللجنة) ، ثم إعلانه ـ بعد تكوينها بقوام تغلب عليه (الشموليَّة) ـ أنها هى (الوحيدة المعتمدة) ، وانكشاف الأثر السالب ليد السلطة عليها فى واقعة إعلان البشير استعداده لإلغاء حالة الطوارئ "فى ما لو أوصت اللجنة بذلك"! فإذا (باللجنة) ، بدلاً من أن (توصى) ، تشكل (لجنة) منبثقة (لدراسة) حالة الطوارئ! وإلى ذلك ، أيضاً ، ميل هذه (اللجنة) للاستلاف (الشكلانى) من أساليب منبر (السودان أوَّلاً) ، وميل (الملتقى) ، بالمقابل ، للتحشيد الاعلامىِّ الهش الذى انتهى بها إلى مجرَّد (شبح) تحالف سياسىٍّ ، فلكأن البلد ينقصها الارتباك!
عمدنا ، من ثمَّ ، إلى فحص السؤال الذى قد يبدو معقولاً ، للوهلة الأولى ، عن الضير فى أن تنطلق ، مع ذلك كله ، أيَّة مبادرة للوفاق ، لولا أن الخبرة التاريخية أثبتت أن الانقاذ لا تلوِّح (بالوفاق) إلا (لمآرب ذاتيَّة) ، أما (الوفاق) نفسه فلم تتشكل لديها ، بعد ، إرادة كافية لتحمُّل استحقاقاته. وخلصنا إلى أن التطلع ، فى ضوء ذلك ، إلى فلاح أىٍّ من هتين (المبادرتين) هو ، فى حقيقته ، تطلع للسراب ، كون السلطة التى ترعرعتا فى كنفها لا ينشرح صدرها ، أصلاً ، إلا لما يسدُّ لديها احتياجاً طارئاً لا صلة له بضرورة (الحل السياسى الشامل) الموضوعيَّة.

(4/2)
نحاول ، فى هذا الجزء الأخير من مقالتنا ، التحقق مِن المعطيات التى نؤسِّس عليها نقدنا هذا للذهن الانقاذى فى تربُّصه بقيمة (الوفاق) ، واشتراطه لقبول أيَّة مبادرة باتجاهه أن تقع فى مدى رؤيته وحده! وإذا كنا سنعوِّل على إفادات السيِّد أمين حسن عمر ، فلكونه أفصح رموز الانقاذ بالنسبة للمسكوت عنه فى خطابها ، وقد ظلت تعهد إليه بمهام شديدة الخصوصية فى أكثر مفاصلها حساسية.
قال ، مثلاً ، وعينه على المعارضة: "إن القوى السياسية السودانية لا تعرف الوفاق إلا .. إذا كانت أطروحة الحزب هى نقطة الملتقى الذى يبدأ منه مسار جديد ، وإذا كان هذا هو الفهم للوفاق فيا بُعد مبتغى من يرتجيه!" (الصحافة ، 11/8/03). ولو كانت هذه محض شكوى مِمَّا تجد الانقاذ من متاعب مع الذهن العدمى لدى خصومها ، مقارنة بعقلانيَّة سياسيَّة مشهودة عنها هى ، لوقع الكلام ، بالقطع ، سائغاً وعادلاً. غير أن الانقاذ التى ما انفكت تشترط للحل السلمى تخلى المعارضة عن أجندات العنف ، لم تكن هى نفسها مستعدة ، فى أى وقت ، للتخلى عن هذه الأجندات كيما تعانق أفق (الحل السياسى الشامل) وآليته: (المؤتمر الجامع) أو (المؤتمر الدستورى) ، والذى من أهم مقاصده إرساء دعامات الدولة الحديثة ، وضمان وحدتها واستقرارها ، الأمر الذى يستحيل تحققه بدون مشاركة الجميع. ولكن رأى الانقاذ بلسان السيد أمين "أن أىَّ حل .. يمكن أن يأتى عبر (التفاوض) وليس عبر .. المؤتمر الدستورى" (الوفاق ، 5/9/03). ومع ذلك فإن المعارضين سرعان ما يكتشفون أن (التفاوض) نفسه غير كافٍ لتحقيق مطالبهم ، حين يبلغهم السيد أمين ، صراحة ، بأن "ما كانوا يطلبونه عبر العمل العسكرى لن يتحقق ، ولا حتى من خلال التفاوض!" (الصحافة ، 11/8/03).
والحقيقة أن الانقاذ لم تتكشف ، طوال عمرها ، عن جديَّة مرموقة فى الاعتراف (بالآخر) ، مثلما لم تبدِ استعداداً حقيقيَّاً للقبول بالديموقراطيَّة التعدُّديَّة فى غير المضمضة اللفظية lip service ، دع أن تبدى تهيؤاً عملياً للوفاء بشئ من استحقاقاتها. فلئن كان مفهوم (الوفاق) يعنى ، فى خبرات الشعوب ، فترة انتقالية لتصفية الأزمة بتصفية نظامها ، وهيكلة ديموقراطيَّة بديلة عن دولة الحزب ، وضمانات دستوريَّة للحريَّات والحقوق ، بلا (أحابيل) تشريعيَّة تقيِّدها ، علاوة على ممارسة قضائيَّة (مستقلة) لفضيلة المحاسبة باستقامة وشفافية ، فإن (الوفاق) فى ذهنيَّة الانقاذ لا يكاد يتجاوز دلالة فناء (الآخر) فى مؤسَّساتها ، وفق شروطها هى وثوابتها. وحتى إذا اضطرت لقبول (التسوية السلمية) ، كما فى حرب الجنوب مثلاً ، فإنها:
أ/ إما تضمر استخدامها كمحض تكتيك ، كما فى إفادة السيد أمين عمَّا سُمِّى عام 1997م (بسلام الخرطوم) أو (السلام من الداخل) ، قائلاً: "كنا نحبذ ان نحيِّد جزءاً من المحاربين!" (الشرق الأوسط ، 2/9/03) ، ويتبقى لنا أن نفزع ، ما شاء لنا الله ، من مدى الاستهانة (بالعهود والمواثيق) ، حين نعلم أن تلك (الاتفاقية التكتيكيَّة) قد ضُمِّنت دستور 1998م!
ب/ أو تصر على التعاطى معها (كصفقة) ثنائيَّة (تتفضل) هى (بالتنازل) بموجبها عن بعض (حقوقها!) ، كما يُفهم من إفادة السيد أمين حول مفاوضات الايقاد ، حيث ركز على مبدأ (الشراكة) مع الحركة ، معتبراً "مبدأ الشـراكة فى حدِّ ذاته تنازلاً من الحكـومة!" (الوفاق ، 5/9/03) ، أما بقيَّة القوى السياسية "فليس لهم أن يقولوا: أشركونا ، بل بإمكانهم أن يقولوا: لا تنسونا!" ، على حدِّ تعبيره ، مؤخراً ، فى ندوة الحزب الحاكم بعطبرة (ضمن د. ابراهيم الأمين ؛ الرأى العام ، 14/8/03).
وإمعاناً فى الزراية بالمعارضة الشماليَّة ، وتصويرها كمجرَّد ذيل للحركة الجنوبيَّة المسلحة ، فإن الرجل لا يستنكف حتى عن الادعاء الغليظ ، إذا اقتضى الظرف ، بأن "الحكومة دعت التجمع .. لتفاوض مباشر .. ولكن التجمع رضخ لرغبة الحركة فى عدم خلق منبر آخر" ، أو كما قال (الوفاق ، 5/9/03). غير أن المغالطة هنا ما تلبث أن تتجلى فى أتمِّ عُريها حين نعلم أن التجمع لم يكتف ، فحسب ، بقبول تلك الدعوة ، متخليّاً حتى عن شرط تهيئة أجوائها ، بل فوَّض رئيسه لترتيب أجندة اللقاء وتحديد مكانه وزمانه ، وشرع فى بلورة موقفه التفاوضى (الشرق الأوسط ، 25/4/03). وقد فسَّر السيد عرمان تلك (المرونة) بالمسؤولية الوطنية في ظروف ما بعد حرب العراق (الايام ، 1/5/03) ، كما عزاها السيد أبو عيسى إلى المخاطر التي تهدد البلاد في ظل تلك الاوضاع ، قائلاً: "تخلينا عن أي شروط .. ولعل المسؤولين .. يقرأون .. الاوضاع .. كما قرأها التجمع ، و.. يقدمون على حوار بناء من أجل سودان ديمقراطي جديد يقوم على سيادة حكم القانون والتعدديَّة وتداول السلطة في ظل القضاء المستقل واحترام حقوق الانسان .. عدم استذكار دروس غزو العراق سيعرض وطننا لمزيد من الآلام" (سودانايل ، 6/5/03). ما تطلبه المعارضة ، إذن ، هو (الحوار) وليس (التفاوض) ، ولكن الردَّ المحبط سرعان ما جاء على لسان الأمين العام للحزب الحاكم ، نافياً "أىِّ ترتيبات للحوار أو التفاوض مع التجمُّع" ، لأن "الترتيبات تجري للنقاش مع الميرغني وليس التجمع!" (الأيام ، 12/5/03). هكذا ، وعلى ترمى الانقاذ خصومها بدائها وتنسل ، تبقى الحقيقة الصارخة فى أن (الوفاق) لا يعدو ، فى شرعتها ، محض المضمضة الكلاميَّة قيد أنملة!
وقد لا تكون آخر إفصاحات الرجل تعليقه ، مؤخراً ، على رؤية المعارضة (للتسوية السياسَّة) باعتبارها (حكومة انتقالية) تفكك (دولة الحزب) لصالح (دولة الوطن) ، بقوله: إن "الوصول إلى زحل والمريخ ونجوم السماء أقرب لهم!" (الأضواء ، 12/9/03). هكذا يقطع السيد أمين قول كلِّ خطيب! فهل كان د. قرنق مغالياً حين أبلغ الحكومة المصريَّة "أن النظام فى الخرطوم يريد السلام ، ولكن ليس لديه استعداد لقبول التغيير الذى يأتى به السلام" (الشرق الأوسط ، 10/4/03) ، أم أن د. الشفيع تخرَّص حين استنتج عدم جدِّيَّة الانقاذ بشأن السلام الحقيقى والتحوُّل الديموقراطى ، وأن كل ما تبتغيه إيقاف الحرب والاستمرار بنهجها القديم مع نوع من (الشراكة) مع الحركة (الأيام ، 9/8/03). وهل يا ترى وضع د. الطيب عطية و د. عصام صديق هذه الحقيقة فى اعتبارهما حين عوَّلا على مساندة السلطة لمبادرتيهما؟!

(4/3)
واهمٌ ، من الجهة الأخرى ، بل غارق فى وهمه ، يقيناً ، من يعتمد على مجرَّد ارتباط الحركة (بمواثيق) مع التجمع أو حزب الأمة أو الشعبى ، ليتصوَّر ، ولو للحظة ، (إستحالة) أن يُفضى أىُّ (اتفاق) سلام ضمن ترتيبات الايقاد إلى (شراكة ما) بين الحركة والحكومة خلال الفترة الانتقاليَّة. مثل هذا التصوُّر يستقى منطقه من الفكر (الحقوقى) لا (السياسى)! (فالالتزامات) الناشئة عن أىِّ (اتفاق) تعتبر (مقدَّسة) فى حقل (الحقوق) بقدر ما هى محروسة (بالقانون) وآلية إنفاذه ، أما فى حقل (السياسة) فلا شئ يحدِّد مآل (القانون) نفسه المنوط به حراسة هذه (الالتزامات) سوى (ميزان القوَّة)! لذلك لا نجد أكثر خراقة من (النوم) على إشارات بعض قادة الحركة حول حرصهم على تحالفاتهم ، ليس فقط بسبب تضارب هذه الاشارات ما بين تأمين السيدين منصور خالد وإدوارد لينو ، مثلاً ، على فكرة (الشراكة) ، ونفى السيد ياسر عرمان لاندراجها ضمن أجندة التفاوض ، أو حتى تقييده إياها بأشراط التوجه نحو بناء الديموقراطية واحترام حقوق الانسان وتنفيذ اتفاقية السلام (الأضواء ، 21 ـ 23/9/03) ، وإنما لأسباب أكثر واقعية. فلا الحركة مطالبة ، اليوم ، بأن تدلق ماءها على السراب ، ولا هى مظنونة ، غداً ، بأن تتقيَّد بأى (التزام) حتى لو تبيَّنت عدم جدواه السياسيَّة فى ظل (متغيِّرات) الظرف الجديد! وربما حملت بعض الافادات المتأخرة لمسئولى التجمع شيئاً من مؤشرات الانتباه لهذه (الواقعيَّة) ، رغم احتياجها ، ما تزال ، للمزيد من الضبط. فتصريح السيد حاتم السر ، مثلاً ، لهيئة الاذاعة البريطانيَّة ، بأن التجمع "غير ملزم بما تتوصَّل إليه الحكومة والحركة فى الايقاد باعتباره ينهض على أساس ثنائى أقصيت منه القوى السياسيَّة" (الأضواء ، 21/9/03) ، يفتقر إلى الاقناع ، أولاً ، بأن أحداً قد طلب من التجمع أن (يلتزم)! مثل هذا الطلب لن يرد ، أصلاً ، ما لم تغادر المعارضة محطة (أشركونا) إلى محطة (نحن هنا)! وغنىٌّ عن التأكيد أن هذا لن يحدث فى المستقبل المنظور إذا واصل التجمع أعمال الصيانة وتجديد الطلاء بمقرِّه الجديد بالقاهرة!

(4/4)
مع ذلك ، فالحقيقة الموضوعيَّة التى يجب ألا تنتطح عليها عنزان هى أن أىَّ اتفاق سلام بين الحكومة والحركة ، لن يستنفد ، على أهميَّته وضرورته الاستثنائيَّتين ، مطلب (الحل السياسى الشامل) ، أو يغنى عنه شيئاً. فلئن كانت الحكومة هى التى تمثل الشمال على مائدة (التفاوض) ، فإن ذلك مفروض ، حتى الآن ، (بنفوذ القوَّة) لا (بقوَّة النفوذ) ، ولكن ما أن يجف غداً حبر التوقيع على الاتفاق ، حتى تفيق المنطقة والعالم على أن ثمة نزاعات لا تزال غير مستوفاة ، فى الشمال والجنوب والغرب والشرق. ولعل هذا هو بالضبط ما التفت إليه السيد عرمان فى اللحظات الأخيرة لقمة نيفيشيا بقوله: إن الكيانات السياسيَّة المكونة للتجمع سوف تظل ".. قوى مهمَّة لضمان مستقبل أىِّ تحول ديمقراطي في السودان ‏,‏ كذلك حزبا الأمة والمؤتمر الشعبي‏ .. ومنظمات المجتمع المدني وجميع أقاليم السودان ‏,‏ لاسيما في الشرق والغرب‏" (الأهرام ، 24/9/03). "قوى مهمة" .. نعم ، ولكنها ما تزال "كامنة" على "نفوذها" الواسع وسط الجماهير!

(4/5)
تلك هى الحقائق التى ينبغى أن ينهض عليها أىُّ تحرك جديٍّ صوب الحل السياسى الشامل. فإذا كان لا بُدَّ أن تتبلور داخل (النظام) كتلة تحرِّره من وهم (القوَّة) التى ترسف ، فى الحقيقة ، فى قيود (العجز) ، وأن تتوصَّل (المعارضة) إلى خطة تحرِّرها من أغلال (الجمود) الذى يُخصى ، فى الواقع ، طاقات (المبادأة) ، فلا بُدَّ (للمبادرات) نفسها أن تتحرَّك خارج (قبضة النظام) الخانقة ، والكفيلة بإجهاض كلِّ ما قد يزهر فى رحمها من أجنَّة النجاح. ولعل من الملائم جداً ، أن نستند هنا إلى ذات منطق الورقة المؤرخة 3/3/2003م ، والتى استدعى بها د. غازى صلاح الدين ، من موقعه كمستشار للسلام ، آراء بعض الكتاب والمفكرين ، منبِّهاً لأهميَّة "تحديد النظر نحو الوسطاء والمراقبين والتأكد من حيدتهم وأهليَّتهم" ، مِمَّا وقع عندنا غاية فى السداد ، ليس لجهة الوساطات الأجنبيَّة وحدها ، بل ولجهة المبادرات الداخليَّة أيضاً ، من حيث وجوب تحصُّنها جيداً ضد مزالق الاغواء ، وبخاصة الاغواء السلطانى ، فغاية ما يبتغيه تجييرها لمصلحته أو ، بالعدم ، استفراغ طاقاتها فى ما لا طائل من ورائه.
وثمة ملاحظة أخيرة ، من فضلكم: مُضِرٌ جداً هذا الخلط الشائع بين مزاج (الجوديَّات) وبين استحقاقات (الحل السياسى الشامل). فعلى حين يُفترض أن تتأسَّس الأخيرة على استبصار جميع الأطراف لجدوى مخاطبة الأزمة فى جذورها ، وفق المناهج العلميَّة لا التشهِّيات ، وبالاستناد إلى معطيات الواقع الموضوعى بعيداً عن حماسات العقل العشائرى ، على غرار ما حاول منبر (السودان أوَّلاً) أن يدفع باتجاهه ، فإن مزاج (الجوديَّات) ، حتى لو خلا من أجندات (أجوادْ وَدْ رَعِيَّة) ، لن يبلغ أبعد من استحلاب (التنازلات) بسطوة الذهن والوجدان الرعويين ، حيث لا منطق أبلغ من (جبر الخواطر) الآنى ، ولا عِلم أرفع من حشو الجراح بالتبغ ، مهما تقمَّص ، شكلاً ، مناهج العلم وأساليب الحداثة ، فليس المحك هو (الشكل) ، إنما (المحتوى) ، لئلا يُعاد إنتاج الأزمة ، المرَّة تلو المرَّة!
(إنتهت)