جــذور الفـقر

في أواخر العام 1979 عدت من الخرطوم إلى أهلي منتشيا بعد أن تعاقدت مع شركة كبرى بالسعودية وببساطة شديدة دون أن أدفع رشوة أو أستجدي واسطة ،، وقد كنت جاهزا للسفر ، فقلت أعود إلى أهلي ، أخبرهم الخبر وأودّعهم .
لم يكن وصولي إلى أهلي مفاجأة لهم ، إذ أن عيد الفطر كان يقترب ، وكنت عادة أقضيه بين الأهل ،، لكن وبعد سويعات الاستقبال شرعت في إبلاغ أهلي بأنني أنوي السفر خارج البلاد في هجرة قد تطول ،، وظننت أنني سأقدم لهم بهذا الخبر عيدية طيبة ، ( يعيّدوا بيها قبل العيد ) ،، لكن الأمر لم يطل حين أعلن والدي اعتراضه ، وأعلنت والدتي ترددها ،،
قلت أن هذه البداية ، وأن الأمر ربما كان مفاجأة لهم ، لذا كانت ردة فعلهم على غير ما توقعت ،، وطمأنت نفسي أن موافقتهم لابد أن تكون هي النتيجة بعد أن يعيدوا التفكير في الموضوع ،،
وفي اليوم التالي أعدت فتح الحوار حول سفري ،، فكان الوالد مصمما على رأيه ، بل وبدا لي أكثر تشددا ،، قال والدي يسألني :
ما السبب الذي جعلك تفكر في الاغتراب ؟
قلت : والله يا حاج طبعا الواحد عايز يحسّن الأحوال المادية لنفسه ولعائلته ،، ثانيا : الناس كلها بقت تهاجر ، خلينا نحن كمان نجرب حظنا في الهجرة ،، ثالثا الوظيفة هنا ما جايبة همها وتعب في الفاضي وضياع زمن ساكت ،،
قال والدي : والله يا ولدي صحيح الأحوال المادية تعبانة ، والوظيفة ما جايبة همها ، لكن الغربة مش هي الحل ،،
قلت : وما هو الحل ،،
قال : إنت هسة ليك كم سنة في قرايتك لا شفنا منّك ده ولا ده ؟
قلت : ودايرين تشوفوا مني شنو ؟
قال : نحن ولدناك للقراية والسفر ،، نحن دايرنك تقعد معنا ، نشوفك وتشوفنا ،،
قلت ما هو أنا بجيكم من وقت لآخر ، وكل إجازاتي بقضّيها معاكم ،،
قال : نحن دايرنك تجي تقعد معانا هنا ،،
قلت : طيب ، وأشتغل شنو ؟
قال : تشتغل زي ما بيشتغلوا الناس ، تزرع معانا وتربي بهايم ، وتطلع السوق ، وزيّك زي غيرك ،،
قلت : طيب هسة الغربة دي بتحل المشكلة ، وأنا أمشي أشتغل في شغل ليهو علاقة بقرايتي القريتها ، وأساعدكم ، وأبني مستقبلي ،،
قال : تساعدنا بي شنو ، وتبني مستقبلك بي شنو ؟
قلت : بالقروش .
قال : ياولدي قروش شنو ؟ إنت قايل نحن ولدناك عشان تجيب لينا قروش ؟ أقعد معانا هنا نشتغل سوا والقروش ربنا بيجيبها ،،
قلت : بس القروش في الغربة ساهلة ومتيسرة وكتيرة .
قال : يا ولدي القروش ما بالكترة ، القروش بالتدبير ، وإنت ما عندك تدبير ، أخير تقعد معانا هنا ،،
قلت : يا والد كدي قول خير ، وأدينا خاطرك وخلينا نمشي ،،
قال : لا .
وفي المساء أحضرت ثلاثة أشخاص من المقربين لوالدي ليتوسطوا لي عنده ،، وبعد حوار مطوّل جدا ، لم يقتنع والدي ، لكنه بدأ يستجيب للضغوط ،، فاعتبرت هذا ضوءا أخضر ،،
ثم أخيرا حصلت على موافقته مشروطة بأن لا أطيل الغربة ،،

منذ أن فارقت أهلي وأنا أتذكر أن والدي أبان لي جذور الفقر ، حين قال :
يا ولدي القروش ما بالكترة ، القروش بالتدبير ، وإنت ما عندك تدبير ، أخير تقعد معانا هنا ،،

عشت في الغربة كثيرا ، لكني لم أؤمّن مستقبلا ، وأصبحت الغربة هي حالي ومستقبلي ،
يا ترى هل فعلا القروش ما بالكترة ؟ هل فعلا القروش بالتدبير ؟ وهل فعلا أنا ما عندي تدبير ؟

يا اخوي ود قاسم
خليك من القروش وكترتوا والتدبير وهلم جرا
خلينا في
ثم أخيرا حصلت على موافقته مشروطة بأن لا أطيل الغربة ،،
أها عملت شنو في اخر كلمتين
لا اطيل الغربة
والظاهر غربتنا حتطول مع الكابوس الجاسم علي صدورنا

ود قاسم

شايف القاعدة الإقتصادية القالها أبوك بدون ما يخش إقتصاد ولا قراية محاسبة

(يا ولدي القروش ما بالكترة ، القروش بالتدبير ، وإنت ما عندك تدبير ، أخير تقعد معانا هنا ،،)

أسأل مجرب و لا تسأل ود قاسم

عملت شنو في مشروع تلاجات السمك في وادي حلفا ؟؟
غايتو الغربة أكبر مقلب شربناه حتى الثمالة

أبوجهينة
هذا اقتصاد الممارسة ، اقتصاد التجربة ،، هذه حكمة الآباء والأجداد ، هم سلمونا السودان مستقلا من المستعمر ، ولا دين عليه ، ولا ظلم فيه ، ولا جور ،،
ونحن بدأنا بإضاعته شيئا فشيئا ، وليتنا نحافظ على القليل الذي تبقّى ،،
ألا يمكن أن يكون مشروع سمك وادي حلفا مشروعا للمنبر ،، يصبح شركة مساهمة يسهم فيها أعضاء المنبر الحر ؟؟
لا أرى ما يمنع ،،
ولك ألف تحية

حمزاوي
وهل تراني أطلت الغربة ،، هم الذين أطالوها ، أوصدوا باب الوطن أمام عودتنا ، ولم يتركوا لنا مجالا ، ومن عاد إلى الوطن رجع إلى الغربة من جديد أو أنه ينتظر دوره الجديد إليها ،،

ودقاسم

Quote: يا ولدي القروش ما بالكترة ، القروش بالتدبير

والله ............صدق

سجيمان
إنت تكون زي أخوك ودقاسم ، لا لاقي كترة ولا عندك تدبير ،،
تجي نتشارك ، ونكون لمينا التع... على خا ... الر...

ودقاسم

Quote: ونكون لمينا التع... على خا ... الر...

برضو ما بخليك...مش ان قرضها؟.....واطالب بتطبيق القوانين

سجيمان
إنت مالك اليومين ديل قايم في المطالبات ،، هسة ناس الصحافة طلعت منهم بي حاجة ، وللا بس شيلة حال ساكت ،،
بعدين إنت زمان ما مر عليك سؤال يقول لك : ضع الكلمة المناسبة في المكان الخالي ،، إنت ما وضعت ولا حاجة ، عشان كده تاخد صفر ..

يا ولدي القروش ما بالكترة ، القروش بالتدبير ، وإنت ما عندك تدبير ، أخير تقعد معانا هنا ،،

ودقاسم هذه حكمة الشيوخ التي يفقدها أغلب المغتربين ما رأيك انت كاقتصادي 0
واليك مختطفات من رائعة الشاعر المبدع / عبد الله محمد خير
يازينوبة انت ابوك أصلو حالو برا
هو مو زول غربة لكن الظروف جابــرا
مالو الكان صبر 0 كل الخلوق صابرا

إنت عارف يا ود قاسم لو كان سمعت كلام أبوك كان أحسن ليك لكن الميتة ما بتسمع النياحة

أسي إنت عارف المشكلة شنو بعد هم السنين دا كلو والشعر الأبيض الغتى أي شي حتى الشنب . والكوليسترول والضغط. والمسؤوليات الزادت والولاد أبان طبعا شين ولا علم ولا أدب ولا "اخشوشان".

المشكلة بقت في حق الرجعة
يعني اسي الناس كلها كاسرة ركب وما قادرين على الرجعة ذاتا.

طبعا اي واحد كاسر ركبة تقول ليهو مالك ما مشيت السودان ليك كم سنة يقول ليك أنا معارضة

أها بعد دا حتقولوا شنو؟؟؟؟؟

شماشي
تعرف ، أنا عندي راي تاني خالص ،، أنا رأيي إنو المسألة لا مسألة تدبير ولا غيرو ،، نحن بس مكتوب علينا الفقر ، والفلس ، ومكتوب علينا نعيش في بلاد العالم الثالث ، وفي آخر اللستة كمان ،،
ومكتول الله ما بترفع ،،وأنا حا أكون معارضة على طول ،،
ليك مني السلام ،،

محمد الحسن
الحكمة تتناقلها الأجيال ، والصبر جميل لكن في بعض الأحيان تكون حدوده ضيقة ،،
ولكن السؤال المهم ، كيف يمكن أن نكتسب خاصية ( التدبير ) لنجمع ( القروش ) ونبدأ طريقنا إلى إنهاء الغربة ،،
وللا نمشي ونقول نصبر زي ما الخلوق كلها صابرة ؟
لك التحية

Quote: يا ولدي القروش ما بالكترة ، القروش بالتدبير ، وإنت ما عندك تدبير ، أخير تقعد معانا هنا ،،

المشكلة يا حبيب هل نجد بعد كل هذه الغربة من يعيد نصحنا ؟؟؟

والى متى سيدى نجتر احزاننا ولا نستطيع حسم المسألة ؟؟؟

كان الله فى عوننا جميعا

يا ود قاسم

والله أنا في تقديري نحن السودانيين ما مدبرين لكن كما ما مبذرين

يعني معظم السودانيين الواحد مخالطهم في الغربة تلقاهم متوازنين في صرفهم (طبعا ناس الفشخرة وناس قريعتي راحت ما معانا).
يعني العربية مكعكعة . الأثاث بسيط. الاكل جوا البيت. ما سياحة وسفر في الإجازات.

لكن المشكلة يا خوي إنو السودانيين مشبوحين شبحة عدوك.

يعني كل مغترب جاري ليهو كم "ترلة" وراهو. وخاصة من ابتلاههو ربنا بأن يكون أهلو ساكنين الخرتوم.
كم طالب مع ناس أبوك في البيت . كم مرة عمك جابوهو عيان. ديل بس أحسب ليهم العشاء وشاي الصباح وشاي المغرب
والسفنجات البيلبسوهن وكهربة المذاكرة.

كم مرة حبوبة خالت أم عمتك فتشوا ليها الدوا وما لقوهو (وطبعاًهو موجود وأرخص من بلاد الغربة)
كم واحدة ساكنة مع ناس أبوم قالوا ليها لو ما جبتي الرسوم ما حتدخلي الامتحان.

والسوداني بشهامته "أو عوارته لا أدري" لو عندو ولو ما عندو يشيل يرسل

أنا غايتو بقيت لمن أضرب تلفون للسودان أول ما الحاجة "الله يطول عمرا" تجيب لي سيرة الجامعات طوالي أقفل الخط وأقوم بعد كم يوم أقول للمرة أضربي وقولي ليهم أنا مافي ويوم ديكي الخط قطع.

والله يجازي مين؟؟؟؟؟؟؟؟؟

العمدة
نحن أفضل من يعيد إنتاج أزماته ، لأننا لا نجعل للخروج سبيلا ،، لن نستطيع حسم اي مسألة لأننا لا نمسك بخيوط اللعبة مطلقا ، كل أمورنا في يد آخرين ، والفرق بين قوتنا وقوتهم شاسع ،،
نحن مهزومون وحتى لو وجدنا من ينصحنا فربما أننا لن نطيق نصحا ..
يديك العافية

أخي ودقاسم
هذه المشكلة هي مشكلة كل طائر مرتحل ممنياً النفس بالثراء السريع والعودة المظفرة من بلاد الإغتراب إلى وطن لم يضيق بأهله لكن ضاقت أخلاق رجاله بالقدر الذي جعل كل تلك المساحة الجغرافية التي حباها الله له تماثل سم الخياط وفي رواية خرى – خرم الإبره - .
القروش أخي ودقاسم هي فعلاً ما بالكترة والقروش فعلاً بالتدبير وقياس تدبيرك من عدمه تحدده سنوات إغترابك الماضيه والحاضرة واللسه – لكن مفاهيم أباؤنا وأجدادنا بشأن القروش والتدبير والتبذير ربما طالها شئ من التغيير الذي طال كل شئ في الحياة.
أنت على سبيل المثال شأنك شأن غيرك من أبناء الأسر الفقيرة أو متوسطة الحال – أيام أن كان الحال مستور في البلاد – صرفت عليك أسرتك الكثير وسهرت الليالي لتصل إلى هذه الدرجة العلمية ، وأنت تفكر في الإغتراب والبعد عن الأهل والأحباب لابد أن يكون هناك هدف محدد لإغترابك فهل تحقق الهدف أم لم يتحقق؟ وفي الحالة الأولى لماذا لم ترجع وتنتفي غربتك بتحقيق الهدف أو أن ترجع لوطنك لعجزك عن تحقيق هدفك كما في الحالة الثانية.
إن طول الإغتراب وبخاصة في دول الخليج له من الآثار السالبة أكثر بكثير من إيجابياته فكل إغتراب يكون غير محدد المدة يصبح هجرةً تخول لصاحبها أن يكون مواطناً غير أن ذلك أبعد بكثير لا بل غير ممكن في دول الخليج التي تساوي بين المهاجر إليها قبل عشرات الأعوام وبين من تطأ قدماه للتو واللحظة لأراضيها ما بقى المسمى أجنبي.
تأمين المستقبل يظل غير ممكن ما بقى أمر غير محدد المدة في تقديري فأنت في معادلة صعبة مع عامل الزمن وبحسابات هذه الأيام فكر في أن تقتني على سبيل المثال منزلاً ومن ثم تعمل لك مشروعاً تجارياً صغيراً يدر عليك دخلاً تجد أن مثل هذه الأمور قد تصل إلى أرقام فلكية لتحقيقها في أرض الواقع ، وحيث أن العودة الطوعية لوطن ينتعل بوتاً عسكرياً لممارسة هواية تطفيش المواطنين ودفعهم للهجرة أو تفكيرهم فيها أمر غير ممكن ويظل صبر المغترب على الإغتراب حيث يقيم من باب مكره أخاك لا بطل.
ويا ريت يا ود قاسم لو سمعت كلام أهلك وعملت بنصيحتهمأو أوفيت بشرط عدم إطالة الغربة
وفعلاً القروش ما بالكترة ، القروش بالتدبير ، وإنت ما عندك تدبير ، وكان أخير ليك تقعد مع أهلك