حــب ما اعتــــــــيادي

جدي محمد ود جمال الدين ، أبوه من أهلي المسلمية ، وأمه من أهلي العركيين ، وقد نشأ بعيدا عنّا لأن ابوه حين تزوج أمه أخذها معه لتعيش بين أهله في قرية أم شديدة ... وهناك كان الناس يطلقون على الصبي محمد جمال الدين لقب ( العركي ) وهو كما ذكرت نسب أمه ، ولا أعلم لم أطلقوا عليه هذا اللقب بالرغم من أن القوم يفاخرون بأنسابهم ولا يقبلون بغيرها بديلا ... وربما أنّ علاقة المسلمية الوطيدة بأهلهم العركيين جعلتهم يحفظون لهذا الرجل نسب أمه ، تكريما لها وللعركيين ... لكن لا أعلم لم عاد جدي محمد ود جمال الدين بعد وفاة والده .. عاد هو وأمه وأسرته المكونة من زوجته وأبنائه ليعيشوا بيننا نحن خؤولته ...
يبدو لي أن أم جدي محمد جمال الدين ( العركي ) كانت وحيدة أبويها ، وكانا قد توفيا قبل عودتها إلى قريتنا لتعيش هي وابنها هنا، فما كان من جدي العركي وأمه إلا أن فتحا باب الدار القديمة ، ودخلا في البيت القديم ، ثم عاشا هما وبقية الأسرة في هذه الدار وكأنّ شيئا لم يكن ...
وبالرغم من أن أهل القرية كلهم ينتمون إلى العركيين ، إلا أنهم لم يكونوا ينادون جدي محمد ود جمال الدين إلا باسم العركي ، فكنا نقول :
لاقيت جدي العركي .
أو
جيت بي ورا بيت جدي العركي .
أو
كنا بنلعب في ضل شدرة ناس جدي العركي .
وهكذا ..
اصطحب جدي العركي حين عاد ليعيش هنا ناقة ورثها ربما من أبيه . وكان منظر الناقة في قريتنا أمرا غريبا ، لأنها أول ناقة تدخل قريتنا ، فنحن قوم نربي الأبقار والمعز والضأن والحمير والكلاب والقطط ، لكنّا لا نربي الإبل ، ولا نعرف لها طريقا ،،، فكنّا نتجمع حول الناقة ، ونراقب طريقتها في الأكل ، ونتطلع إلى سماع صوتها ، وهي تحن إلى ابنها ( الحاشي ) ، ونراقبه وهو يرضع من ثديها ، ونقترب منه فيهرب منّا ،، ولم يكن جدي العركي راضيا عن تصرفاتنا تجاه الناقة أو تحلقنا حولها . وأصبحنا نحن أطفال القرية نتناقل أخبار الناقة ، وأصبحت الناقة تشغل جزءا كبيرا ، من وقتنا ، ومن أحاديثنا ، ومن تفكيرنا ... وكانت الدار القديمة تضم شجرة ( لالوب ) كبيرة ، كنا أصلا نقضي جزءا من وقتنا تحت ظلها ، ونصطاد من ثمرها ، ونلعب بالنواة بعد أن نمتص حموضتها المختلطة بمادة سكرية خفيفة كما كوب الشاي يُعد لمريض السكر .
وكان جدي العركي يحبّ ناقته حبا لا مثيل له ، فكانت هي دابته التي يركبها في جيئته وذهابه ، وكان لبنها غذاء أولاده ، وكانت مواليدها تمثل موردا ماليا يغطي احتياجات الأسرة من الكساء . وكان يبذل ما في وسعه لراحة الناقة ، وجلب العلف لها ، وسقياها في الوقت المناسب .
تغيرت الأحوال بالقرية ، وجاءنا المشروع الزراعي ، وأصبحت للدور أسوار ، وأصبحت شجرة اللالوب داخل الحوش ، وكذلك مربط الناقة ... وأصبحنا لا نرى من ناقة جدي العركي إلا رقبتها تمدها فوق ارتفاع السور المبني من ( الجالوص ) ،،، ثم كبرنا ، وتراجع حب الاستطلاع الطفولي لدينا ، وانشغلنا بالمدارس ، وبتعب ( الحواشات ) . وفي ذات خريف ، جاء رجل ليعمل أجيرا لدى جدي العركي ، ذاك الرجل واسمه آدم ، كان قادما ليستقر في المشروع كعامل زراعي ، وكان العمال الزراعيين يساكنوننا ، ويعيشون بيننا ، يأكلون ما نأكل ويشربون ما نشرب ، كما كانوا يعملون معنا في الحقل سواء بسواء ، غير أنهم يتقاضون أجرا مباشرا ، ونحن نعمل وننتظر العائد عند انتهاء الحصاد ... وكبقية العمّال الزراعيين ، عاش آدم في غرفة داخل حوش جدي العركي ، لكن آدم كان يختلف عن كثير من العمّال الزراعيين ، فهو في عنفوان شبابه ، قوي البنية ، يعمل بهمة ، ثم يعود آخر النهار ويتناول لوحه ويكتب شيئا من القرآن ، ثم يتعشى وينام .
كان جدي العركي وأسرته لا يعرفون غير لبن الناقة ، فهم يصنعون منه أغلب غذائهم ، يشربونه ، أو يأكلون به القرّاصة ، أو يضيفون إليه ( الويكة ) ليصبح ( ملاحا )، ويأكلونه بالعصيدة ... لكنّ آدم لم يستطع الاستمرار على هذا الحال ، ففي ذات يوم ممطر لا عمل فيه ، ذهب آدم كبقية سكان القرية إلى السوق ، وهناك اشترى ( كانوناً ) وقدراً ( حلّة ) وحطباً ، ولحماً ، مع بقية الاحتياجات ، وعاد بكل أشيائه إلى غرفته ، وطبخ اللحم ، ثم أكل هنيئا مرئيا ...
ولما حان موعد العشاء ، جاء أولاد جدي العركي بصحن كبير من ( الطلس ) ممتلئ بالعصيدة ، وفوقها ( ملاح أبيض ) يلمع تحت ضوء القمر ، مصنوع بالطبع من لبن الناقة . فنادى جدي العركي بصوته الرخيم - كعادته - على آدم ليشاركهم العشاء... لكنّ آدم لم يستجب ،،، فقام جدي العركي من مكانه ذاك ليطمئن على آدم الذي رفض الأكل لأول مرة منذ انضمامه لهذه الأسرة ... وما أن وصل إلى غرفة آدم حتى تسربت إلى أنفه رائحة اللحم ،،، فسأل آدم مابه ؟
فأجابه آدم :
الليلة يا عمي آدم برااااهو .
كيف يعني آدم براهو ...
فضحك آدم وحكى لجدي العركي قصة ملله من لبن الناقة ، وانتقاله إلى اللحم ،،، وأكّد على أنه سيظل :
آدم براهو ...
وبعد بضع سنين ترك آدم العمل الزراعي ، وانتقل ليعمل حمالا في السوق ، وبقي بيننا سنين طويلة ، وربما أنه ما يزال هناك حتى يومنا هذا ، وهو ما يزال يحمل اسم آدم براهو ... وكما حمل جدي العركي اسما غريبا ، فهو ينادى بالعركي بين مئات العركيين ، فكذلك اكتسب آدم اسما غريبا ، اختاره بنفسه وسجّل براءة اختراعه ... وتوفي جدي العركي في في بداية الثمانينات ، وهو في قمة عشقه للناقة ، وكان آدم قد افتقده كما يفتقد الابن أباه ...

أبوطلال

قصة مشوقة و تفاصيل متغلغلة في الوجدان لكل من عاش في القرية.
كما أنها تذكرة مفيدة للكل الآن بأن السودانيين كانوا يعيشون لفترة قريبة لا يعرفون فوارق قبلية أو نعرات إنتماء ضيقة.

Quote: وما أن وصل إلى غرفة آدم حتى تسربت إلى أنفه رائحة اللحم ،،، فسأل آدم مابه ؟ فأجابه آدم : الليلة يا عمي آدم برااااهو . كيف يعني آدم براهو ... فضحك آدم وحكى لجدي العركي قصة ملله من لبن الناقة ، وانتقاله إلى اللحم ،،، وأكّد على أنه سيظل : آدم براهو ...

أنا لو في محل آدم كنت ضبحت ناقة جدك و اليحصل يحصل
ياخي ليل نهار لبن ناقة ؟
دة زى الجابو ليهو فول في الفطور و فول في العشاء فقال : الواحد يفطر مرتين ؟؟؟؟

ابوجهينة
حبابك عشرة ،،،
تعرف ، أهل القرية الباقين ليسو أفضل حالا من وضع جدي العركي ، هم أيضا ربما يأكلون املاح الشرموط في كل وجباتهم أو ملاح الروب ، أو الويكاب ،،، والويكة طبعا عنصر مشترك في كل هذا ،،،
قلت يضبح ناقة جدي العركي ؟ يا أخي والله جدي العركي يكون طول الليل حارس الناقة والوليدات حارسينها بالنهار ،،، بس تعرف أنا بفتكر أن في هذه الناقة سر عظيم ،، لا يعرفه ولا يتلمسه إلا جدي العركي وبعض أفراد أسرته ،،،
أسعدتني كثيرا قفشاتك أيها المبدع ...

امامك بحر مالح

أستاذ عثمان
ونحن نحتاج الملح في كل ما نأكل ،،،

تحية
قـررت تمديد اقـامتي
بالمنبر و هذا كل
ما فـي الأمر
عثمان

هذه كتابة جميلة، وذكية وsincere كما يقولون فى الانقليزية. "ادم براهو" لانه سئم اللبن والدقيق، ولانه حنّ الى طعام بلده الاصل، اللحم. لحم البقر، ولحم الضأن، ولحم الطير. وربما شعر أنّ طاقته لم تعد كما كانت. فالعمل اليدوى المرهق يحتاج الى بدن معافى، وهمة يلعب اللحم والسمك والطير دورآ رئيسآ فى انتاجها. وربما تعرف يا ود قاسم كيف يعيش العمال الزراعيون فى مشاريع الزراعة الالية، على "الكجيك" من طائفة السمك المجفف. ولقد قرأت هنا من كتب عن اعجابه باجساد الدينكا الفارعة. ترى ماذا يأكل الدينكا؟
تعالوا نبحث فى الاغذية السودانية، وعلاقتها بالمجموعات الاثنية المختلفة. والى اى مدى يلعب الغذاء الجيد دورآ فى تكوين الصحة البدنية، والنفسية للفرد، وللقبيلة؟
من المعلوم أن لحم البقر، على وجه الخصوص، يعمل على رفد الجسد بهرمون مهم جدآ، هو هرمون التيستيستيرون(الذكورة). وكذا السمك ولحم الطير، ولحم الصيد.

واصل هذه الكتابة الجميلة يا ودقاسم. ولسوق الناقة فى امدرمان تحيات وذكرى معطرة بروائح الشواء، ووعود الوصال!!

تحية
قـررت تمديد اقـامتي
بالمنبر و هذا كل
ما فـي الأمر
عثمان

امامك بحر مالح

الأستاذ عادل عثمان
لك التحية
حقيقة هناك ضرورة ملحة لتثقيف أهلنا وفتح عيونهم على فرص الغذاء المتوازن بقدر الإمكان ،، فهناك فرص عديدة للتنويع وهناك إمكانية إيجاد الخضروات كعنصر يمكن توفيره يوميا ، خاصة في مناطق المشاريع المروية حيث تتوفر المياه والتربة والخبرة ... ويمكن لكثيرين أن يهتموا بالزراعة في منازلهم ، وهذه من نوعية مزروعات الاكتفاء الذاتي ،،،
لك أن تتصور أنني نشأت وأنا أرى آلاف الرؤوس من الأغنام والأبقار مملوكة لبعض أقاربي ، لكنهم لم يكونوا يعرفون كيف يستفيدون من الألبان بالصورة الاقتصادية والغذائية التي تفيدهم ،،، وكثيرين منهم رحلوا عن هذه الدنيا ولم يتذوقوا طعم الجبنة ...

الأخ العزيز ود قاسم

تحياتي عاطرات

سرحت مع وصفك البديع فهاجمتني ذكريات النشأة في رفاعة درة ريف البطانة فالشيئ بالشيئ يذكر . تذكرت إفطار رمضان الذي يحتشد له الجيران خارج البيوت كل ست أو سبع أسر مع بعض يقوون أواصر جيرة ومحبة بينهم ولعل الله يرزقهم بضيف يتناول إفطاره معهم فيزيد أجرهم . كان واجبنا نحن الصغار( قش ) الساحة و(رشها) فرمضان كان دائم المجيئ في أشهر الصيف وترتيب السباتات ثم الذهاب لإحضار الصواني وغسل أيدي الكبار وإرجاع الصواني الفارغة .

المهم
في ذاك اليوم الغائظ من منتصف رمضان والآذان يبدأ بالتكبير ظهر في الأفق رجل ظاهرة عليه إمارة الغربة فتسابق الجميع في عزومته يازول مرحب -- يا زول بيجاي – يازول أهلاً ولم يكن الزول في حاجة شديييدة لكل هذه المراحب فهو أصلاً كان في طريقه إليهم في بساطة محببة . جلس الرجل فناوله أقربهم له كوباً من الآبري ( حلومر ) يا زول حلل صيامك فلم يكد الرجل يضع الكوب حيى ناوله ثان كوباً آخر من الآبري يازول حرم تضوق دا فتناوله الرجل ولم يكد يضع الكوب الفارغ حتى عاجله آخر بكوب ثالث من الآبرى فشربه الرجل على مضض ولما أراد أن يضع الكوب الفارغ لاحظ أن من على يمينه يجهز له في كوب رابع من الآبري فأراد أن يسبقه فأعلن يا أخوانا الحمد لله من الآبري دا .


أكيد مودتي

ود قاسم الرائع

شعرا

ونثرا

وسردا حميما

وحرفا انيقا

مااروعك يارجلا بلون القمح وطعم القنديلة ..

الصديقة الوريفة نادية
سلام ومودة
طمنينا على الوالد ...
وحبي ليك حب ما اعتيادي ،،،
يا ربي قوانين البورد بتمنع حاجة زي كده ؟ قريت تفاحتك أكثر من مرة ، وما عارف أرد متين ...

ود قاسم البشوش

Quote: طمنينا على الوالد ...

الوالد بخير طلع من المستشفى وهو الان يتماثل للشفاء ..سالت عليك العافية يارب

Quote: وحبي ليك حب ما اعتيادي

،،، حبتك العافية قول امين

Quote: يا ربي قوانين البورد بتمنع حاجة زي كده ؟

هى قوانين البورد دى تحلل الشكل وتمنع الحب الاخوى والمودة بين الناس اصلو على كيفها ؟!!!!!!!!

Quote: قريت تفاحتك أكثر من مرة ، وما عارف أرد متين ...

ترد هسسسسسسسسسسسسع دى انا فى رجاك على احر من جمر الشية

سمح

شجرة الظل والثمر نادية بت عثمان
سلامات واحترامات
حمدا لله على السلامة ،،، وما تنومي بالكرامة ،،،

الصديق عاطف عمر
ألف تحية وتحية
يا لطيبة أهلنا ، ويا لكرمهم ،،، يجودون بالموجود ،،، ويقدمون البشرى على بليلة الكشرة ،،، يلاقونك بالترحاب عند الباب ،،، ويجعلونك صاحب الدار ...
لاحظت هنا في الخليج أن الناس يشربون ( الروب ) مع وجباتهم ، وخاصة في إفطار رمضان ، وكنّا نسمع أهلنا ونحن صغارا يقولون لنا : اشرب الغباشة ( الروب المخفف بالماء ) عشان تقطع العطشة ... وأستغرب كثيرا أنه في مقدور أهلنا أن ينوعوا في طعامهم وشرابهم ، كإضافة الغباشة ضمن مشروبات رمضان ، وهي متوفرة في أريافنا ،،، لكنهم لا يفعلون ،،، ربما هم يميلون إلى الزهد ، ويتحاشون إدخال الطعام فوق الطعام عملا بالسنة ،،،
قلت لي الراجل اتهرى بالحلو مر ،،، زي ما آدم اتهرى بلبن الناقة ...
الله يديك العافية ...

العزيز ود قاسم

تحايا عاطرات ملخبطات بى ريحة
طين ترعه مكسوره و
ممزوجات بالنسيم الهابّى من الحواشات
و تمنياتى الطيبات .

مصدّق
سلامات
آخ من ريحة طين الترعة المكسورة ،، وكمان لما تشوف ليك سمكات طلعن بالكسر ، وتجري وراهن ،،، يا لطيف من تلك الغدوة ،،،
الماء عندنا لا يضر أبدا ، فهو إما خير لنا وإما خير لنا ...
سلام ومودة ...