الزائــــــــــــــــــــــر

الزائــــــــــــــــــــــر


10-21-2005, 05:49 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=17&msg=1135897251&rn=21


Post: #1
Title: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-21-2005, 05:49 AM
Parent: #0

خيوط الشمس هذا الصباح لا تبشر بضوء كاف ، وأغصان شجرة النيم تسد النافذة وتحجب الضوء ونسمات الصبح معا ، لكن حركتها المستمرة تشعرك بأن كل ما يحيط بك يدب بالحركة . من خلال النافذة أطلت ندى ومدت بصرها بين فرجات الأغصان المتشابكة وشغلها منظر السمبرية وهي تحط إلى جانب فراخها فوق العش الذي أعدته بإحكام بين فرعين من أقوى فروع الشجرة ، كانت السمبرية تصدر زقزقة وكأنها تحاول إيقاظ فراخها من نومتهم وتحثهم على تناول وجبة إفطار سعت إليها بعيد الفجر وهي تحاول إطعام فراخها مباشرة من المنقار إلى المنقار .. تأكدت ندى أن الصبح قد أطل ، لكنها لاحظت بوضوح أن مستوى أشعة ضوء الشمس الداخلة إلى غرفتها ليست كالمعتاد مما جعلها تظن أن الوقت ما يزال باكرا .
طرقتٌ باب غرفة ندى ، فأجابتني فورا لتؤكد لي أنها ليست نائمة ، ثم قفزت من سريرها وفتحت الباب وأطلت بملابس نومها لتجدني قد انسحبت من أمام الباب وعدت أدراجي متجها ناحية الصالة التي اعتدنا الجلوس فيها ونحن نشرب شاي الصباح بكامل طقوسه ... أنا وندى ظللنا نعيش في هذا البيت منذ أن رأينا النور لأول مرة قبل خمسة عشر عاما ، خرجنا إلى هذه الدنيا معا من بطن واحدة ، هي سبقتني إلى النور بلحظات لم تتمكن القابلة من حسابها بأدوات حساب الزمن المتوفرة لديها آنذاك ، حيث كان الظل ، وحركة الشمس ، والنجوم ، والقمر هي أدوات القياس... ومن يومها ظللنا أنا وندى نقضي أوقاتنا سويا ، ننام فوق سرير واحد ، نتغذى من ثدي واحد ، ثم نحبو سويا ، ونلهو ونلعب سويا ، وحين نكون في المدرسة يداهمنا شوق عظيم للقيا لا يطفئه إلا التقاءنا فور انتهاء الدروس حين كانت ندى تنتظرني بلهفة عند باب مدرستها ، فتتشابك أيدينا تماما كتشابك أغصان شجرة النيم المقيمة بشكل دائم وسط دارنا ... ثم نذرع الطريق سويا إلى البيت ، وندخل إلى غرفة نومنا المشتركة والتي لم نتركها إلا قبل ثلاث سنوات فقط حين قال أبي أننا بلغنا الحلم ولابد أن تكون لكل منا غرفة نومٍ منفصلة ...
الشمس ترتفع مسافة في السماء ، لكن خيوطها تضعف بدلا من أن تشتد وتقوى . وفي الصالة داهمنا إحساس بالظلمة اضطرت معه أمي لإشعال الفانوس ، وهي تتساءل : ما بالها شمس هذا الصباح غائمة هكذا ؟ ثم تتوجه أمي إلى ربها : يا ربي ياسيدي ، تفرّج علينا ، وترفع المحن . ومسبحة أبي لا تنقطع طقطقتها وشفتاه لا تتوقفان عن ذكر الله والصلاة على نبّيه ...
جلسنا أنا وندى بالقرب من أمي وهي تصنع لنا الشاي ، وقد مددنا كفوفنا ناحية الجمر الملتهب ليكسبها شيئا من الدفء نحمي به جسدينا الهزيلين من زمهرير أواسط الشتاء . وكاد الحليب يغلي حين طرق طارق باب بيتنا العتيد ، فناداه أبي دون أن يتحرك من مكانه ، فرد الرجل بإسمه ، ثم ردد السلام ، ثم نعى لوالدي شيخ الطريقة . ذلك القطب العابد الزاهد الذي عاش في قرية بعيدة عنا لكنه ظلّ قريبا من قلوب آبائنا وأمهاتنا . اتجه أبي نحو الباب وكأنه لا يثق في سمعه ولا يصدّق ما سمع ، وعمدت أمي إلى كومة الرماد في مطبخ الدار فحثته فوق شعرها ، ولطمت خدها ، ورفعت صوتها نادبةً صائحة ومولولة ..
دار الحوار بين الرجلين ، أبي وناقل الخبر ، سؤال من هنا ، وسؤال من هناك .. وعرفت من حوارهما أن أبناء الشيخ - رغم بعد المسافة - قد أرسلوا من ينقل الخبر إلى أهلهم وأقاربهم ومريديهم هنا . وقال أبي مخاطبا الرجل أنه لم يسمع بمرض الشيخ ، لكن الرجل ردّ عليه أن الشيخ لم يكن يعاني مرضا ، إنما شكى صداعا في أول المساء وتوفي قبيل الفجر .. والآن فقط تبين لأمي سبب ضعف خيوط الشمس هذا الصباح ، فالدنيا غاضبة لرحيل القطب الكبير ، والشمس غائمة ، وقد غطّت وجهها وتوارت وكأنها لا ترغب أن تكشف عن حزنها ، أو أنها تلقت توجيهات ربها أن لا تعلن عن فرحة في هذا اليوم أو أن تشارك القوم حزنهم .
وكنت أنظر إلى ندى وهي تحتل مكان أمي في عمل الشاي لأول مرة ، وبدت لي وكأنها تنتقل إلى مرحلة متقدمة من مسيرتها الأنثوية ، أو أنها قد تقدمت خطوة في طريق تحولها لتصبح ربة بيت . أبي وأمي لم يتناولا الشاي معنا ذلك الصباح ، وانهمكا في الإعداد للسفر إلى قرية الشيخ ليودعا شيخهما ويشاركا في مراسم الدفن . ما رأيت أمي تبكي بهذه المرارة من قبل ، وما رأيت الحزن على وجه أبي أكثر منه ذلك اليوم ، وما رأيت يوما مكفهرا من أيام الدنيا مثل يومنا ذاك . لكن أشد حالات الكدر انتابتني حين دخل المساء ، وكنا أنا وندى وحيدين في منزل كبير لا يوجد فيه أحد غيرنا . كنا ننظر إلى بعضنا بحذر يخالطه خوف ، وكانت ندى تنظر إليّ في ذلك اليوم كرجل يدفع عنها الخوف ويجلب لها السكينة .
انتابتني موجة خوف حين سمعت طرقا على بابنا ، ونظرت إليّ ندى وكأنها تأمرني بأن أسلك مسلك الرجال ، ففعلت كما يفعل أبي وسألت الطارق من مكاني ذاك : من بالباب ؟
قال : أنا .
قلت : أنت من ؟
قال : أنا شيخ الطريقة .
قلت : شيخ الطريقة يموت فجرا ويزورنا مساء ؟
قال : افتح يا بني ، إن أباك وأمك هناك ، وأنتما هنا لوحدكما يتملككما الخوف ، وأعرف أنكما لن تناما الليلة دون أن يكون معكما من تطمئنان على وجوده إلى جواركما .
قمنا أنا وندى سويا وفي لحظة واحدة . هممنا بالصراخ ، لكنا تماسكنا ، واتجهنا نحو الباب متماسكين تماما كما كنا نفعل ونحن عائدين من المدرسة . وعند الباب سألنا الطارق مرة أخرى : قل لنا من أنت ؟
قال : جئت لأجعلكما تنامان مطمئنين .
تذكرت أنني سمعت هذا الصوت من قبل ، إنه نفس صوته ، حين أخذنا أبي في المرة الأخيرة . تذكرت أبي وهو يقول للشيخ أن هذين التوأمين هما كلّ ذريتي ، وطلب منه أن يدعو لنا بالخير والبركة وطول العمر . تذكرته وهو يسلم علينا ، ويقبل خدودنا وجباهنا ، ويمسح فوق رأسينا ، وتذكرت خشونة لحيته البيضاء وهي تداعب خدّي ، ثم يرفع كفيه إلى السماء داعيا لنا ولوالدينا . استجمعت كل شجاعتي وجعلت ندى خلفي ، وبحركة واحدة فتحت الباب وأنا متأهب لأسوأ النتائج ، فإذا بالرجل يقف أمامي بوقاره ذاته الذي رأيته عليه أثناء زيارتنا له ، لم نتمالك أنفسنا ، فارتمينا بين ذراعيه وهتفنا سويا : إنه الشيخ .
أخذ الشيخ كلٍ منّا بيد ، وأجلسنا فوق سريرين كنا قد أعددناهما لنومنا داخل الصالة نفسها التي تناولنا فيها شاي الصباح . وسألنا الشيخ إن كان بالبيت لبن . فاتيناه بإناء مملوء باللبن ، قرأ عليه شيئا من القرآن ودعا الله كثيرا ، ثم شرب منه قليلا وطلب منا أن نشرب ما تبقى . وعند آخر قطرة من اللبن كنا أنا وندى نياما كلٌ منا فوق سريره متدثرين بأغطيتنا التي اعتدنا استخدامها في كل ليلة من ليالي الشتاء الباردة ..
وعند الصباح أشرقت الشمس بكامل ضوئها ، فنهضنا ، فإذا بأمي جالسة جلستها نفسها التي نراها عليها كل صباح وهي تعدّ لنا الشاي ، وأبي يحمل مسبحته في يده يذكر الله ويسبحه . سلمنا عليهما ، وعرفنا أنهما عادا عند منتصف الليل ، وحين وجدانا نغط في نوم عميق تركانا نواصل نومتنا تلك دون أن يحدثا أي حركة بالمنزل .
سألنا أبي وأمي عن الشيخ ، إين ذهب ، وهل التقياه أم لا ؟
قال أبي أن الشيخ قد واريناه الثرى عصرا ، وأن جموعا غفيرة قد كانت هناك . وطرفت دمعة من عيني أبي ، وتقطب وجه أمي ، وهمت بالبكاء ، لكنها استغفرت ربها ، وسألت الله أن يتقبل الشيخ قبولا حسنا. لكن أبي فاجأه إصرارنا أنا وندى أن الشيخ قد قضى ليلة البارحة هنا معنا في هذا البيت ، وتوقفت أمي عن إعداد الشاي ، ووقفت مذهولة وقد عقدت الدهشة لسانها. وسألنا أبي :
هل أنتما متأكدان مما تقولان ؟
قلنا سويا : نعم ، وقد شربنا اللبن من يده بعد أن قرأ عليه ودعا لنا وشرب جزءا منه .
واكتفى أبي وأمي بقولهما : لا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم انفعنا بجاهه ..

Post: #2
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: هشام مدنى
Date: 10-21-2005, 01:52 PM
Parent: #1

خالص التحايا الشقيق ودقاسم

Post: #5
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-22-2005, 01:49 AM
Parent: #2

الشقيق هشام مدني
تحية رمضانية دافئة ،
شكرا لمرورك منا هنا وكأنك شرّفتنا على مائدة الإفطار
..

Post: #3
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: فيصل نوبي
Date: 10-21-2005, 02:16 PM
Parent: #1

لا حول ولا قوه الا بالله

لك الود ود قاسم

السرد رائع و القصه اروع

والحليب اروع

و رحم الله الشيخ

Post: #4
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ابو جهينة
Date: 10-22-2005, 01:35 AM
Parent: #3

أبا طلال

حقو تسيبب دهاليز السياسة و تنتقل إلى صفوف الكتاب ..
قصة سردها ممتع ..
مثل هذه القصص عن شيوخنا تملأ أضابير كثيرة .. و عي بين الواقع و الخيال .. و يبقى تصديقها فقط بين المريدين.
أنا شخصيا أصدق مثل هذه الكرامات .. فلنا تجارب معاشة ..
أرقد عافية

Post: #8
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-22-2005, 06:41 AM
Parent: #4

أبوجهينة
هو فضل فيها سياسة يا شيخ ،، اللهم انفعنا بجاه الصالحين ..
كثيرا ما نسمع قصة مشابهة من أهلنا ، وأحيانا نسمعها من أقراننا ، أو أصدقائنا ، ونبقى بين مصدق ومكذب ، لكن إرادة الله نافذة وله في خلقه شئون ويضع سره في أضعف خلقه ..

Post: #6
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-22-2005, 02:51 AM
Parent: #3

فيصل نوبي
لك التحية والشكر ..
والدعوة موجهة لك لشرب ( جغمة ) من الحليب ، وسينفعك الله به ببركة هذا الشهر الكريم ...

Post: #7
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: فيصل نوبي
Date: 10-22-2005, 04:56 AM
Parent: #1

ود قاسم

كريم انت ابن كريم

وصلني الحليب عبر الاثير

تحياتي

Post: #9
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-24-2005, 01:08 AM
Parent: #7

فيصل نوبي
هنيئا لك ،
وتحياتي ..

Post: #10
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: nashaat elemam
Date: 10-24-2005, 03:46 AM
Parent: #9

العزيز ود قاسم
امتعتنا والله بهذا السرد.. لك الشكر عليه

Post: #11
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: nashaat elemam
Date: 10-24-2005, 03:47 AM
Parent: #9

العزيز ود قاسم
امتعتنا والله بهذا السرد.. لك الشكر عليه

Post: #12
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-24-2005, 06:53 AM
Parent: #11

نشأت الإمام
لك الشكر أنت يا نشأت على هذه الزيارة الكريمة والدعم ...

Post: #13
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: عمار بيلي
Date: 10-24-2005, 07:05 AM
Parent: #12



نتنقل بين البوستات .. فنشتد هنا
ونسخن هناك ..ونطنطن هنالك
لكننا نستشف الهدوء عند مرورنا
علي مثل هذه البوستات

Post: #14
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-25-2005, 01:36 AM
Parent: #13

أستاذ عمار البيلي
لك التحية
وأنت تستجيب للدعوة :
في بلادنا ترتاح ، ضل الدليب أريح سكن ...

Post: #15
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: لؤى
Date: 10-28-2005, 05:50 AM
Parent: #1


أستاذ ود قاسم
تحايا عطرة

أمتعني الدخول إلى هنا متعة حقيقيّة .. واصل إبداعاتك ..



مودّتي

ـــــ
انا في البعيد مشتاق لهمسة من الوطن يانسمة
[email protected]


Post: #16
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: munswor almophtah
Date: 10-28-2005, 10:03 AM
Parent: #15

يا التوم ما تقولى غرقان فى لبن الشيخ







رمضان كريم وربنا يتقبل الصيام والقيام والبشيل البيضه من الشيخ بشيلها وبديها وبتبيض نيتو ونية البتناولها منه.........


منصور

Post: #17
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ناصر محمد خليل
Date: 10-29-2005, 02:28 AM
Parent: #16

الاخ ود قاسم

إستمتعت والله بهذا السرد الرائع ...

شكرا لك وكل عام وانت بخير

Post: #20
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-30-2005, 05:08 AM
Parent: #16

أستاذ منصور
شربنا اللبن ليلا ..
شكرا على مرورك فهو دعم لنا ...
وكل عام وأنت بخير ...

Post: #18
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-29-2005, 12:27 PM
Parent: #15

لؤي
عندما يستمتع بكتاباتي شخص مثل لؤئ فإنقامتي تزداد أشبارا عديدة ،،،
لك الشكر على دعمك ، وتحياتي ...

Post: #19
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: Hozy
Date: 10-29-2005, 12:48 PM
Parent: #1

الخال العزيز ودقاسم

يعني شنو؟؟؟


كيف شافوه وهو توفى ؟ فهمنا يعني؟؟



وبعدين لازم تعقدونا يعني عشان كتبنا قصة


سرد جميل والله ومؤثر

تسلم

Post: #21
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: ودقاسم
Date: 10-30-2005, 01:00 PM
Parent: #19

هوزي
تحياتي


Quote: يعني شنو؟؟؟


كيف شافوه وهو توفى ؟ فهمنا يعني؟؟

شوف عديل كده يا هوزي ، دي دايرة ليها شرح !
Quote: وبعدين لازم تعقدونا يعني عشان كتبنا قصة

يا ستي أهو بنحاول ننافس ، أصلو الدنيا عشرة أواخر ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .. بس بصراحة هوزي كتّابة ، وقصتها قُرأت بكثافة ،،، وتهانينا ...

Post: #22
Title: Re: الزائــــــــــــــــــــــر
Author: Hozy
Date: 10-30-2005, 07:09 PM

بس برضو هوزي
ما تستغني عن الخال

ومنتظرين باقي التعليقات والتدقيقات

ولا خلاص فتحتو لينا
وياسيدي عمرنا ما نبقى منافسين
عشان العين ما تعلى على الحاجب
تحياتي