مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)

مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)


09-29-2007, 07:51 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=120&msg=1191091912&rn=54


Post: #1
Title: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 09-29-2007, 07:51 PM
Parent: #0

فى الفترة من 26 و 27 سبتمبر 2007 من العاشرة صباحا وحتى الرابعة عصرا انعقدت جلسات مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان وذلك بمقر المركز فى الخرطوم / العمارات ش 57 جوار السفارة التشادية .
كان الحضور لفيف من نجوم المجتمع السودانى من الساسة ورموز المجتمع المدنى والصحافة
اليوم الاول الاربعاء 26 / 9 / 2007 كانت ضربة البداية واشتمل البرنامج على ما يلى
* كلمة ترحيب من مدير المركز د/ الباقر العفيف .
* كلمة افتتاحية المؤتمر من د/ منصور خالد .
* ورقة ( من نحن ؟ هل من تفسير سايكولوجى للحرب الاهلية فى السودان ؟ ) من اعداد وتقديم مدير المركز د/ الباقر العفيف .
* ورقة ( هويتنا الانسانية ومستقبل وطننا وشعبنا ) من اعداد وتقديم د/ فاروق محمد ابراهيم .
* ورقة ( الديمقراطية والتعليم ) من اعداد وتقديم د/ محمد الامين التوم .
ثم بعد استراحة قصيرة تواصلت الجلسات حيث كان الحضور على موعد مع
* ورقة ( علاقة الدين بالدولة وصراع الهوية فى السودان ) من اعداد وتقديم الكاتبة الصحفية الاستاذة/ رشا عوض .
* اعقبتها ورقة ( الدين والعنصرية ) من اعداد وتقديم الباحث فى الفكر الدينى د/ عمر القراى .
وتخللت الاوراق مناقشات غاية فى الروعة ما بين معارض ومستحسن لما تم تقديمه من افكار
اليوم الثانى الخميس 27/9/2007
* الورقة الاولى كانت من نصيب د/ ناهد محمد الحسن ( الاسقاطات النفسية لقضية الهوية فى الاحاجى الشعبية ) .
* الورقة الثانية للاستاذة/ أروى الربيع ( الاعلام ودوره فى تنمية الوعى الاجتماعى فى ظل الحرب الاهلية وصراع الهوية) .
* ورقة مدهشة ( بناء السلام من خلال التعاونيات ) للاستاذ/ محمد الفاتح العتيبى .
جلسة استراحة انفتح معها شلال من النقاش الساخن مع ورقتى
* ( جدلية الحرب والسلام / تحديات قوى الهامش ) للباحث المتميز د/محمد جلال هاشم .
* د/ابكر ادم اسماعيل وموضوعه المفضل ( جدلية المركز والهامش / اشكال الهوية فى السودان ) .
تم اختتام المؤتمر بوجبة افطار رمضانية تواصلت فيها المناقشات والقفشات
.

Post: #2
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 09-29-2007, 08:12 PM
Parent: #1

(1)
كلمة الترحيب من مدير المركز د/ الباقر العفيف :-
اخر عبارات (الخاتم) كانت عن الاستنارة وبعدها لم يتحدث مرة اخرى الى ان انتقل .. لذلك اصررنا على كلمة الاستنارة فى الاسم .
(اشهدوا منى وانشروا عنى انى عشت حياتى كلها انشر الاستنارة واحارب الخرافة ولو تبقى من عمرى يومين , او ساعتين , او دقيقتين وانا قادر لنشرت فيهما الاستنارة) .
المركز يبداء الان بثلاثة برامج
* البرنامج الاول عن السلام وحقوق الانسان .. وهو يعنى بتحليل النزاعات والبحث فى الجذور الثقافية فى الحرب الاهلية فى السودان وانتهاكات حقوق الانسان .
* البرنامج الثانى عن الاصلاح التربوى ( مناهج التعليم) وهو يعمل على اصلاح برامج التعليم (المناهج والمقرارات) , هناك مناهج تفيد العقول واخرى تضر بها وتمنع التفكير , هناك مناهج تحليلية تمررنك على اساليب البحث وان تعثر على الاشياء بنفسك وتعمل على تحليلها وتستخلص منها النتائج .. وهناك تلك القائمة على التلقين (احفظ) , دون ان ان تحلل ما تحفظه او ان تنظر اليه نظرة ناقدة فاحصة .. وحقيقة هناك بعض مناهج التربية والتعليم مستفزة لانها تنكر حق الاخرين ولابد من اعادة نظر نقدى حولها .
* البرنامج الثالث هو نافذة على افريقيا وهو محاولة للتعريف بافريقيا بمعناها التاريخى لاننا ادرنا ظهرنا لافريقيا ونتج عن ذلك فقد معرفى كبير .. فيجب ان يكون هناك ربط معرفى للسودان ببعده الافريقى وسنعمل على قيام انشطة وان تكتب كتابات للتعريف بجوانب كثيرة من الثقافة والفلسفة الافريقية .
هذه نبذة صغيرة عن المركز الذى لم يفتتح رسميا بعد ونرحب بكم مرة اخرى .

Post: #3
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 09-30-2007, 07:05 AM
Parent: #1

(2)
كلمة د/ منصور خالد فى افتتاحية المؤتمر :-
ابداء فاقول , ما كنت فى حوجة لالحاح للمشاركة فى مفتتح هذا المؤتمر لان التلكؤ عن المشاركة فيه جرم مزدوج , هو جرم لاننى من بين من يقولون ان عجز اهل السودان عن ابتداع هوية وطنية جامعة وتحقيق وعى ذاتى متوازن هو الذى رمى بهم الى ما هم فيه من فرقة وشتات .. ولان يقع هذا فى وطن تقتضى عبقرية الزمان والمكان ان يكون برازيل افريقيا فان فى ذلك عبث كبير .
كما انه جرم فى حق الرجل الذى اطلق اسمه على هذه الدار , الراحل الخاتم عدلان , لقد اقتضت ظروف الا اشارك فى مناسبات اخرى فى ذكراه وانا لذلك جد حزين .
ورغم ان علاقتى بالخاتم لم تتوثق الا فى الاعوام العشر التى سبقت رحيله , الا اننى بالاطلاع على ما كتب ايقنت ان الرجل كان ضوءا يكافح فى ظلمة عاتمة .. هذا الضوء الذى ظلت افكاره تضىء الطريق بتوهجها الساطع .
ولعلكم احسنتم صنيعا باختيار موضوع كان فى اهتمامات الراحل العظيم , الا وهو الهوية والحرب الاهلية .
ورغم ان هذا الوصف وصف متواطى فالحرب الاهلية اضحت حروبا , ما انطفأت واحدة منها الا وهاجت دائرة اخرى , وذلك امر يقتضى حضرا معرفيا مثل الذى تقدمون عليه حتى نستدرك جذور الازمة , ويقينى ان ذلك الحضر ينبغى ان يتجاوز دور الدولة رغم اخطاءها المتعددة التى قادت الى تكريس الازمة , اقول يتجاوزه وليس يلغيه .. اقول يتجاوزه الى دور ما نسميه (الامة) , فالدولة كائن جغرافى , فى حين ان (الامة) كائن عضوى .. الامة السودانية فى يقينى امة افتراضية تنتظم اقواما تساكنت وتمازجت , واخرى عجزت عن التساكن فلجأت الى التشاكس .
لأجل ذلك ان الذى ستذهبون اليه فى الحديث عن البعد الانسانى للهوية امر على درجة عالية من الاهمية فى عالم لا ينكر او يتنكر لمنظومة القيم التى تحكمه .
يوازى ذلك فى الاهمية انماط التعليم .. ولا غاية فى التعليم , غير التشكيل الذهنى والوجدانى المعافى لطالب العلم ولا معدى ايضا من اقتحام المحظور اذا اردنا صوغ وجدان تاريخى حول الهوية .
والهوية فى جوهرها هى مجموعة من الخصائص الروحية والوجدانية والمادية التى تميز قوم عن قوم , وفى السودان اقوام تتعدد اديانهم وتتنوع ثقافتهم وتختلف انماط حياتهم , وقد افرزت هذه الخصوصيات تمركزا فى الذات شوه الوعى الجمعى وخلق يقينا زائفا ومدمرا , واى دمار اكثر من حرب الاخوة الاعداء , انا الصواب والاخر مخطىء .. هذه النظرة الطاؤوسية للذات تعبر عنها احداثنا واحاديثنا وبعض قيمنا المعيارية وهذا ميدان اخر يتطلب حضرا معرفيا .
الى ذلك الدين .. وما نعنيه بالدين هنا هو الدين كما يفسره البعض ويحتكم اليه بعض العاجلة وما ابتنوا عليه يقينيات حياتية لقنوها لمن لقنوها ولا يقين بالتلقين , فى تلك اليقينيات ما لا يثبت عند مجابهة الواقع , والثوابت التى لا تدرك المتغيرات من حولها هى ثوابت تعيش فى الوغوم .
فى عالم اليوم مجتمعات اخرى ادركت ان وحدتها رهينة بالاعتراف بالحق المتساوى لكل مواطن فى ارض بلاده وفعلت هذا بحثا عن الحد الادنى الذى تتلاقى عنده الاقوام التى تتعايش تحت سماءها من تلك الدول كنموذج الهند .
فالتنوع فى السودان سواء كان تنوعا عرقيا , لغويا , او تنوعا ثقافيا يهون امام التنوع فى الهند .
ما الذى جعل الوطنية الهندية تسمو على كل التمايزات المو######## عبر الاقاليم بما فى ذلك التمايزات ذات الاصل الدينى ؟ .
فى ادبياتنا السياسية ونصوصنا الدستورية , اسمينا هذا ابتغاء المواطنة كاساس للحقوق والواجبات , ولكن بين النص الدستورى والواقع العملى فجوة فائقة .
الحل النجيع فى ازمة الهوية لا يكون الا باجتياز هذه الفجوة , القول والفعل وقبل ذلك الادراك الواعى لاسباب تلك الفجوة , واظن ما تقومون به الان هو ضرب من السعى للوصول الى هذا الادراك .
اقول لكم فى النهاية , ان الرؤية الصحيحة هى التى قادت الاداء والمؤسسين فى الهند الى ان يصلوا الى ما وصلوا اليه .. وانعدام الرؤية او بصورة اصدق تغبيش الرؤية قادنا الى ما ظللنا عليه , وبهذا المنهج تقطعنا ماضينا فى خاصرته وما زلنا حتى الان نتربص بالحاضر ويجدر بنا ان نكف عن تلغيم المستقبل لابناءنا من اجل الغد .

Post: #4
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 09-30-2007, 10:13 AM
Parent: #3

من الشخصيات التي حضرت المؤتمر
1/ أ. مكي علي بلايل
2/أ. سارة نقداللة
3/أ. نبيل اديب
4/أ.كمال الجزولي
5/أ.نوال جحا
6/أ.طه ابراهيم
7/أ.عدلان الحاردلو
8/أ.نعمات كوكو
9/أ.فاروق جاتكوث

10/أ.احمد طه
11/أ.الجيلاني الواثق
12/أ.عبداللة ادم خاطر
13/أ.أمال شيبون
14/أ.رأفت حسن عباس (لجنه مناهضه سد كجبار)
16/أ.أكرام الفادني (رئيسه اتحاد طلاب جامعه الخرطوم)
17/أ.مجدي النعيم
18/أ.اخلاص صلاح وداعه
19/أ.عفاف التجاني
20/أ.اميمه سيداحمد قطبي

Post: #5
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 09-30-2007, 01:29 PM
Parent: #1

ورقة دكتور/ الباقر العفيف (من نحن ؟ هل من تفسير سايكولوجى للحرب الاهلية فى السودان ؟ )

ملخص للورقة

في السودان حرب أهلية هي الأطول عمراً في أفريقيا، وربما في العالم كله. ظلت هذه الحرب تدور طيلة عمر استقلال البلاد، منذ عام 1955 وحتى هذه اللحظة التي نتحدّث فيها، نحن الآن في الربع الأخير من العام 2007. يقدّر عدد القتلى في هذه الحروب بمليونين من البشر، والمشردين عن ديارهم بسورقة دكتور/ الباقر العفيف (من نحن ؟ هل من تفسير سايكولوجى للحرب الاهلية فى السودان) بعة ملايين بين نازح ولاجيء. وقد قتل منذ أن استولت الجبهة القومية الإسلامية على الحكم عام 1989م، بسبب الحرب والمجاعة الناتجة عنها في الجنوب، وأخيرا في دارفور، عدد أكبر مما قتل في الحروب البوسنية والرواندية والصومالية مجتمعة.
و بطبيعة الحال كان لابد من فهم أسباب الحرب. ونعرف أن هناك نظريات متعددة لفهم جذور الحرب في البلاد ساهم بها كتاب سودانيون وغير سودانيين، وقد سقطت بعض هذه النظريات بفعل التجربة التاريخية، مثل تلك التي تَرُدُّ جذور الحرب للاستعمار الذي "بذر بذور الكراهية في نفوس الجنوبيين ضد الشماليين" عندما كان يحاول فصل الجنوب عن الشمال. فلقد أتيحت الفرصة للنخب الشمالية في الخمسين سنة الماضية أن تثبت صحة هذه النظرية في تحليل النزاع، وأن تمحو آثار الإستعمار، بتصحيح الأوضاع ووضعها في نصابها.. فعندما يُعرَف الداء يصبح الدواء واضحاً للعيان.. كان بإمكان الطبقات الحاكمة أن تعمل على اقتلاع بذور الكراهية التي غرسها الإستعمار في صدور الجنوبيين، وأن تبذر في مكانها بذور الحب والإخاء والسلام. ولكن على العكس من ذلك، فقد صبّت هذه النخب الزيت على النار، وواصلت الحرب بنشاط وهمة كبيرين، ولم يكن تحقيق السلام من أولوياتها. ليس هذا وحسب بل اتسمت حربها بالقذارة و التحلل من كل قيد قانوني أو أخلاقي. فاستهدفت المدنيين، وقتلت الأسرى، وحرقت القرى، واغتصبت النساء، وأغلقت منافذ الغذاء عن الجوعى حتى حصدتهم المجاعة، و زرعت في النفوس من الأحزان والضغائن ما يعجز عنه الإستعمار حتى لو بقي أبد الدهر. ولقد ظلت تُدَار هذه الحرب باسمنا نحن أهل الوسط والشمال النيلي، وباسم ثقافتنا، فهي تارة حرب لنشر العروبة التي تحمل الإسلام على ظهرها، وتارة حرب جهاد لنشر الإسلام الذي يحمل العروبة على ظهره. ولكن بالنسبة للمكتوين بنارها في الجنوب هي ببساطة حرب الجلابة العرب حفدة صائدي الرقيق، وتجاره الذين انفردوا بهم بعد أن تخلى عنهم الإنجليز. إذن كلنا مسؤولون عن هذه الحرب بدرجات متفاوتة من المسؤولية، ما لم نُدِنْها، و نتبرأ منها، ونعمل من أجل إزالة آثارها. الآن تحول مسرح الحرب الأهلية إلى دارفور، ونحن مواجهون بنفس التحدي الأخلاقي، فنحن مسؤولون عنها إذا سكتنا ولم نصدع بالحقيقة، وإذا عجزنا أن نرفع صوتنا عاليا حتى يسمعه سكان المعسكرات النازحين واللاجئين الذين أضحوا، لأسباب معروفة ومفهومة، يساوون بين الحكومة وأهل الشمال عموما ويعتبرونهم أعداء.

والأسئلة التي تطرح نفسها بقوة هي: عماذا تدور الحرب؟. ولماذا استمرت كل هذه المدة؟ وما هي المرجعية الأخلاقية التي ظلت توجه هذه الحرب، سواء كان بالنسبة للحركات المسلحة، أو الجيش الحكومي؟

وبعبارات أخرى، ما الذي يحمل نخباً تحكم شعباً فقيراً ومتخلفاً، على إشعال حرب باهظة التكاليف، مادياً وبشرياً، ليس ضد عدو خارجي غازٍ ومعتدٍ، بل ضد قسم من شعبها؟ لماذا عجزت هذه النخب عن وقف الحرب وتحقيق السلام؟ هل لم يكن السلام من أولوياتها؟ ما هو الحافز على استمرار الحرب كل هذه المدة؟ هل كنا نتقدم صناعيا و تكنولوجياً في ظل الحرب؟ هل كنا نزدهر اقتصادياً؟ ألم تكن الحرب خصماً على حقوق الشعب في التنمية، والصحة، والتعليم؟ لماذا لم تنشأ عندنا حركة شعبية ضد الحرب كما نشأت في أمريكا، مثلا، إبان حرب فيتنام؟ أليس استمرار حرب أهلية لأكثر من خمسين عاما أمر يستدعي المقاومة؟ لماذا يترك الشعب أمراً خطيراً كهذا للسياسيين والعسكريين؟ أليس الحرب أخطر من أن تترك لهما؟ لماذا تخرج عندنا مظاهرات الإحتجاج الشعبي الغاضبة ضد قتل الأبرياء في فلسطين ولبنان على يد القوات الإسرائيلية، وضد قتل العراقيين على يد القوات الأمريكية، ولا تخرج هذه المظاهرات ضد قتل المدنيين في الجنوب ودارفور وجبال النوبة والأنقسنا؟ مَن هو الأقرب إلي أهل الوسط والشمال النيلي ومن هو الأبعد؟ أأهل دارفور أم أهل فلسطين ولبنان والعراق؟ لماذا نتماهى مع البعيد الذي لا يشعر بنا، ولا يأبه لنا، بل وينظر إلينا نظرة دونية، ولا نتماهى مع القريب الذي يشاركنا الوطن في الجنوب ودارفور وما يشابهما من مناطق السودان؟ ما هي جذور الحرب الأهلية في السودان، وأي النظريات أبعد غورا في الوصول إلى هذه الجذور؟ هل هي نظرية عدم الاعتراف بالإختلاف الثقافي؟ هل هي نظرية الإختلال التنموي؟ هل هي نظرية الصراع حول الموارد؟ هل هي نظرية التهميش السياسي والإقتصادي والثقافي؟ هل هي نظرية الصراع بين الهويتين الجنوبية والشمالية، أو الأفريقية والعربية الاسلامية؟ هل هي أزمة هوية في مركز الحكم وحاضنته الثقافية والعرقية؟ أم أن هناك أسباب سايكلوجية؟

محاولة لفهم الحرب الأهلية
أشرت بصورة عابرة في إطار طرح الأسئلة، للنظريات المختلفة التي حاولت فهم جذور الصراع. ولي نَقْدٌ مُؤَسَّسٌ لكل واحدة من هذه النظريات، لا يسعفني الوقت باستعراضه هنا، ولكنه جزء من كتاب أرجو أن يرى النور قريبا. بيد أني أشير هنا إلى جانب أعتقد أنه لم يُطرَق بعد وهو الجانب السايكولوجي. وأحب أن أطرح لكم هذا السؤال: هل يمكن أن يكون الجذر الأعمق للحرب سايكولوجياً؟ أنا أعتقد أن منطلق الحرب عندنا في الشمال النيلي والأوسط هو هوية مأزومة، تعاني منها النخبة الحاكمة، والنخب المتعلمة بصفة عامة، وسواد الناس. فالرؤى المتوارثة لهؤلاء عن أنفسهم رؤى ملتبسة، نتجت عنها علاقة ملتبسة مع الآخرين. أنا أعتقد بأننا في هذا الشمال لا ندري من نحن؟ أي لا نعرف حقيقة ذواتنا. وأن لنا وعي زائف بأنفسنا. نحن مغتربون عن ذاتنا الحقيقية، وهي دون أدني ريب ذاتٌ نوبيةٌ. وأننا في ظروف تاريخية معينة خلعنا هذه الذات النوبية، و تَبَنَّيْنا الهوية العربية عن طريق التَّمثُّل الثقافي. حدث ذلك لأسباب استراتيجية مثل "التمكين". وحتى هذه اللحظة ظل "التمكين" هو المحرك الأساسي لعدد من المجموعات غير العربية لتتماثل ثقافيا مع العروبة، وتتبني الهوية العربية مثلما نرى في مناطق النوبة ودارفور. وحتى الهوية الإسلاموية التي تبناها الإسلامويون في التاريخ الحديث تبنوها لهذا السبب الإستراتيجي، أي "التمكين". ولقد ظلت هذه العبارة "التمكين" من أحب العبارات بالنسبة للإسلامويين، يستخدمونها بحالة من "التَّمطُّق"، والاستمتاع. "فهؤلاء الناس" أوغلوا في الاغتراب عن الذات المغترب عنها أصلا حتى اختفت ملامحهم عنا، وعجزنا عن التعرف عليهم، ومن ثم تساءلنا "من هم هؤلاء الناس؟" "ومن أين أتوا؟"

الإرث التاريخي
وبطبيعة الحال فالإرث التاريخي لأجدادنا "يحط بثقله في تحديد من نحن وماذا يمكن أن نكون". والأمر الراجح أن أجدادنا هؤلاء تعرضوا لحالة مكثّفة من حالات الزلزلة النفسية، أدّت لخلعهم لهويتهم الثقافية والعرقية، ولتَمَثُّلِهِم ثقافياً وعرقياً مع العرب. فالعالم الذي يعرفونه قد انهار، والهويات القديمة حامت حولها الشكوك، والناس لم يعد بإمكانهم أن يكونوا أنفسهم. الحوافز لإجراء انقلاب في الهوية كانت قوية وكثيرة. والشروط قد اكتملت. اضمحلت الذات (النوبية) أمام المثال (العربي)، وتم امتصاصها كليا بواسطته.

و"التمثل الثقافي"، كما يُعَبِّر ديفيد ليتين، "شبيه باعتناق الدين، وكما توضح أدبيات التحولات الدينية بصورة قاطعة، فإن ما يُعْتَبَر مسلكاً برغماتياً بالنسبة لهذا الجيل، يعتبره الجيل الذي يليه أمراً طبيعياً. ولذلك فإن الأجيال التي تنشأ في ظل التحوُّلات الدينية التي أضْطُرَّ لها الآباء، ستلجأ، مدفوعة بضغوط السلطات الدينية، إلى النظر لآبائها باعتبارهم كانوا منافقين". هذا الرأي يشابه مفهوم دي فواه عن الهويات المصنوعة "كهويات منحرفة". فهي تدل بالنسبة إليه "على نفعية بلغت مبلغ الشطط" وتمثل علامة على "الاختلال الداخلي"، الذي يحدث في شروط اجتماعية محدده تمارس تأثيراً هائلاً على الإدراك الذاتي للهوية الشخصية. فرغم طبيعتها المصنوعة، فإن "مكونات الهوية تستطيع إدراج الفرد في سياقها بل حتى استعماره".

المجموعات التي تتعرض لمثل هذه الحالة من "الإدراج" لا ينبثق النظام الرمزي من ذاتها الجماعية، بل يكون مستعاراً في العادة من مركز الهوية التي تهفو إليها تلك الجماعة، وترغب أن "تكونها"، وهذا هو حال السودانيين الشماليين. هذه الشروط تعد المسرح لبروز تناقضات الهوية، ولزحف عدم الاستقرار إلى خلايا المجتمع، ولتفاقم أزمة الهوية حتى تسد عليه الأفق.

الأسطورة والحقيقة
وكما ذكرنا في أعمال أخرى، فإن هناك أسطورة وهناك حقيقة في الشمال. الأسطورة هي أن الشماليين عرب، أما الحقيقة فهي أنهم مستعربون. الأسطورة هي ان الشماليين تحدَّروا من أب عربي وأم نوبية. الحقيقة هي أنهم في غالبهم الأعم نوبيون عرقيا، أبوهم وأمهم نوبا. بيد أنهم خضعوا لعملية استعراب وأسلمة، فقدت معها مجموعات منهم لغاتها الأصلية. وبالرغم من أن الأسطورة تلعب دوراً في كل هوية، إلا أن الشماليون يبنون هويتهم كلها على الأسطورة، وهنا مكمن الأزمة. فبخلعهم للأنساب النوبية واتخاذهم نسباً عربياً، يكون أهل الشمال قد مارسوا عملية قتل الأب الحقيقي، واتخاذ أبٍ بديل. أما الأم النوبية بالرغم من اعتراف الشماليين بها إلا أنهم مارسوا عليها إقصاءً تاماً عن وعيهم. فهل نحن مصابون بعقدة شبيهة بعقدة أوديب؟. وهل يمكن أن يكون سبب تماهينا مع الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين هو تماهي مع كل ما يمثله هذا الأب البديل؟. ومن الناحية الأخرى، هل سبب عدم التماهي مع الجنوبيين والنوبة والدارفوريين ناتج من قتل الأب وقمع الأم النُّوبِيّيْن؟. وهل استبعاد التاريخ والحضارة النوبية عن وعينا، وإدارة ظهرنا لأفريقيا المعاصرة يمكن ردهما لهذه الحالة السايكلوجية؟

إن سلاماً دائماً في السودان لن يتسنى مطلقا تحقيقه دون مواجهة تلك الأساطير واستبدالها بالحقائق، ودون استعادة الأب النوبي المُقْصَى عن وجداننا، والذي مارسنا علية حجراً صحياً، وألقينا به في غياهب جب عميق، في أقصى أعماق اللا وعْي، وهذا لعمري عقوق ليس بعده عقوق.. كما أن مثل هذا السلام لا يمكن تحقيقه دون احترام الأم النوبية وإعادة الاعتبار لإرثها وحضارتها وتاريخها. فما لم يتعرف الشماليون على ذواتهم الحقيقية، وما لم يقبلونها، و يعيشون في سلام معها، فإنهم لن يتمكنوا من العيش في سلام مع الآخرين. إنني على قناعة بأن الحرب التي تشنها الطبقة الحاكمة الشمالية على المكون الأسود للبلاد، ما هي في حقيقة الأمر إلا تعبير خارجي عن الحرب التي يشننها الشماليون على المكون الأسود داخل ذواتهم. إن المقاومة التي تصدى لها المواطنون المهمَّشون ضد المركز يجب أن تحفز المقاومة داخل الذات الشمالية نفسها. إن الكثيرين من المثقفين الشماليين يرون في الحرب الأهلية بين المواطنين المهمَّشين والمركز، صيحة إنذار وناقوس خطر يُقرع للذات الجمعية الشمالية. هذه الحروب تجد أساسها في الهوية، ويجب التعبير عنها هكذا. إن فشل اتفاقية سلام دارفور في التقاط هذا الجذر للنزاع في دارفور يترك، ببساطة، أصل الداء دون دواء ويكتفي بعلاج الأعراض فقط لا غير.
هذه محاولة للتنقيب عن الجذور الأكثر عمقاً للحرب في السودان ولإثبات أن سلاما دائما لن يتسنى التوصل إليه دون معالجة تلك الجذور. إنني على قناعة بأن أسباب الحرب الأهلية في السودان تنبع من مكمن الهوية العرقية، وأن الجذور الأعمق للحرب ليست سياسية، أو اقتصادية، أو تنموية فحسب وإنما هي أيضاً سايكولوجية.

لقد تحدث الكثيرون، ومن بينهم قادة التمرد في الجنوب ودارفور، عن سياسات التهميش كأحد جذور الحرب، وذلك صحيح بطبيعة الحال ولكنه ليس كافياً. لأن السؤال الذي يتبع ذلك هو ما السبب في سياسات التهميش نفسها. إن التهميش لا يحدث مصادفة ولا عشوائيا، بل هو سياسة واعية مخططة مبنية على رؤية الطبقة الحاكمة الشمالية لنفسها وتقديرها للقيمة الإنسانية للناس المهمَّشين. لقد بدا التهميش أولا على مستوى التصورات، قبل أن تتم ترجمته إلى أفعال وسياسات تجاهل واستغلال للمناطق المهمشة ومواطنيها.

صحيح تماماً أن جميع مناطق السودان، ربما باستثناء الخرطوم وبعض مناطق الجزيرة، هي على درجة ما من درجات التهميش في التنمية باختلافات نسبية بينها، ولكن ليس صحيحاً القول بأن أسباب التهميش هي نفس الأسباب في كل المناطق. وكمثال فإن منطقة الشمالية، مسقط رأس الطبقة الحاكمة، مهمَّشة، ولكنها ليست مهمَّشة لنفس أسباب تهميش مناطق الجنوب والغرب والشرق. إنها مهمشة لأن معظم سكانها نزحوا إلى وسط السودان والخرطوم والجزيرة واتخذونها وطناً بديلاً، وكونوا الطبقة التجارية في البلاد كلها ومن ثم احتل أبناؤها مقاعد السلطة في الخرطوم. بمعني آخر، في حين أن منطقة الشمالية مهمَّشة فيما يتعلق بفقدان البنية الأساسية والصناعة، فإن أهل المنطقة ذاتها ليسوا مهمَّشين. المثل الشمالي الشهير يقول: "الفي إيدو القلم ما بكتب نفسو شقي". لقد ظل الذين بقوا في "البلد"، أي قرى الشمالية، ومعظمهم من كبار السن، يدعمون بالتحويلات النقدية من أبنائهم وبناتهم في وسط السودان قبل زمان أطول بكثير من بداية هجرة السودانيين لدول الخليج. وخلاصة القول أن هناك عاملاً عرقياً يعزز من أسباب التهميش في جنوب وغرب وشرق السودان، وهذا العامل غير موجود في الأسباب التي قادت إلى التهميش في شمال السودان.

والسؤال الأخير هو: هل يمكن أن نفسِّر القسوة التي أبدتها الطبقة الحاكمة الشمالية في قمع المكون الأسود للبلد، كانعكاس لرغبة الشماليين الجارفة في قتل المكون الأسود في ذواتهم.


Post: #6
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: عوض حمزة
Date: 09-30-2007, 09:44 PM
Parent: #5

الاخ شاهين شاهين
رمضان كريم ....

عمل جدير بالوقف لدية .. الرجاء ايراد البقية الباقيه
من الاوراق والصور..

متابع

Post: #7
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-02-2007, 01:31 AM
Parent: #1


د. ابكر ادم اسماعيل فى ورقة ساخنة اثارت الحضور


د. الباقر ود. ناهد ومجابده حول الزمن

د. مهندس عبد الحليم صبار رئيس هيئة مناهضى سد كجبار فى مداخلات حصيفة وذكية استمتع بها الحضور كثيرا

الدكتور محمد الامين البشير كان من اشد المعارضين لمعظم الاوراق التى قدمت ..

د. محمد جلال هاشم فى احدى مداخلاته العديده

واستاذه ادريس سالم يعقب عليه

ويستمعون لبقية الاوراق

د. وليد مادبو يواصل مداخلاته الساخنة

والاستاذة عفاف التيجانى


الدكتورة نعمات كوكو فى استغراق عمييق
[ur[l=http://www.sudaneseonline.com/][/url]

د. مرتضى الغالى

الاستاذ ابو بكر الامين

د. فاروق جاتكوث فى مداخله ساخرة وهو يتساءل لماذا لا يؤم الجنوبى المسلم اخوته المسلمين ؟؟ ولماذا روى عن ابوهريرة
اللاف الاحاديث ولم يرو عن بلال وقد كان الاقرب والاكثر مصاحبه لرسول الله ؟؟؟

د. عثمان من نقابة اساتذة جامعة الخرطوم

د. فاروق محمد ابراهيم متداخلا فى ورقة جدلية المركز والهامش

Post: #8
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-02-2007, 01:53 AM
Parent: #1


ومشاركات مقدرة من الاستاذ المحامى المخضرم عبد الفتاح زيدان

والاستاذ عبد الله ادم خاطر وبجانبه الاستاذ احمد شاكر احد الجنود الذين كانوا وراء هذا العمل الكبير


د.بابكر رئيس نقابة اساتذة جامعة الخرطوم

البروفسير محمد الامين التوم بعد ان قدم ورقته الرائعة حول التعليم والهوية كاشفا حقائق مذهلة ساورد الورقة
كاملة وتبدو بجانبه اكرام الفادنى رئيسة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم


من الشمال د. محمد الفاتح العتيبى وورقة عن التعاونيات

واكرام الفادنى تتحدث

Post: #9
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-02-2007, 02:24 AM
Parent: #1


وفى البرييك ... الاستاذة نوال جحا والاستاذ احمد امين

والاستاذة هاله عبد الحليم والاستاذ نبيل اديب

د. صبار والاستاذ خاطر والصحفى المميز علاء محمود خالد


من الخلف يظهر الفنان الجيلانى الواثق الذى تابع اوراق المؤتمر على مدار اليومين دون انقطاع بحرص واهتمام
كبيرين

[url=http://www.sudaneseonline.com/]
الاستاذة نوال جحا والاستاذة منى التيجانى

Post: #10
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: عبدالعزيز حسن على
Date: 10-02-2007, 03:09 AM
Parent: #9

العزيز شاهين لك التحية على هذا البوست الاستنارة
والتحية للقائمين على امر مركز الخاتم عدلان للاستنارة
وتحية خاصة لصديقى الباقر العفيف الذي ترك الخيارات السهلة واستثمر فى المستقبل بدون تردد

Post: #11
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: HAYDER GASIM
Date: 10-03-2007, 01:19 AM
Parent: #10

الأخ شاهين

تحياتي ... ورمضان كريم

لكم أعجبت بهذا العمل الممتاز ,
والذي من أظهر معالمه كفاءة
المشاركين وخبرتهم مع جودة
أدائهم .

بالطبع فإن موضوع السمنار لهو
في غاية الأهمية , فهناك حرب خمدت
لتوها فى الجنوب وإن تحت الرماد ربما
يختبي بعض الشرر , وهناك حرب فعلية
تحتل مكانها بإمتياز فى دارفور , وهناك
الأحاسيس الكثيفة التي تعظم جدوى حمل
السلاح وكأن لا سبيل لنزع حقوقك غيره .
أما موضوعة الهوية فهو في قلب الصراع
السوداني الراهن ... رفعت عنها الأحداث
وتطورات الموقف غطاءها الهش ووضعتها
في ميدان الحرب وفي موائد التفاوض وفي
هموم الناس ... لهذا تستوجب التقييم والإبانة,
حتى نعرف من نحن ... وإلى أين نتجه .

أتابع ... وبمزاج

مع مودتي

Post: #12
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: صلاح شعيب
Date: 10-03-2007, 01:35 AM
Parent: #11

التحية لمركز الخاتم عدلان للاستنارة
وهو يبتدر نشاطه بهذه الفاعلية الضخمة
والتحية للدكتوي الباقر العفيف الذي
فضل العودة للسودان للاسهام بهذه الاشراقات النيرة
والتحية لكل المشاركين

Post: #13
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: طلال عفيفي
Date: 10-03-2007, 02:01 AM
Parent: #12


شاهين العزيز ..
لظروف الدنيا والأيام فاتني أن أحضر هذا المؤتمر ، لكنني سعيد كل السعادة أن يوجد في بلادنا مركز جديد للإستنارة ..
مركز تمت تسميته على إسم واحد من رموزنا المنيرة : الخاتم عدلان ..
أتمنى أن تكون هذه الإفتتاحية بداية لنشاط حيوي وقوي يساهم في النضال النظري والواقعي على أرض السودان التي تحتاج
للكثير من التنظير وسبك الرؤى والعمل ..
مرحباً بمركز الخاتم في على طريق التنوير والتنمية الفكرية .



Post: #14
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: عبدالغفار محمد سعيد
Date: 10-03-2007, 02:20 AM
Parent: #13

سلام شاهين
ياخ ده شغول نضيف خالص
بالله نزل الاوراق كلها بى ضبانتها
والله حسدتك عديل كده على حضور مؤتمر ذى دى

Post: #15
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: omar ali
Date: 10-03-2007, 03:41 AM
Parent: #1

Quote: فى الفترة من 26 و 27 سبتمبر 2007 من العاشرة
صباحا وحتى الرابعة عصرا انعقدت جلسات مؤتمر
الهوية والحرب الاهلية فى السودان وذلك بمقر المركز
فى الخرطوم / العمارات ش 57


بداية طيبة لمركز الخاتم عدلان للاستنارة الذي افتتح
اعماله بهذا المؤتمر الدسم عن الهوية والحرب الاهلية
وهما موضوعان مترابطان
التحية للاستاذ الباقر العفييف باحياء ذكري الخاتم عدلان
بانشاء هذا المركز الذي يحمل اسمه..فقد كان الخاتم عدلان
احد رموز الحركة التنويرية في البلاد وبقيت كتاباته
ومساهماته شموعآ تضئ الطريق

والتحية للاخ الفاضل شاهين لرفدنا بهذا النشاط الافتتاحي
الكبير

Post: #16
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-03-2007, 03:06 PM
Parent: #1

ورقة الكاتبة الصحفية الاستاذة/ رشا عوض عبدالله
بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقة بين الدين والدولة وصراع الهوية في السودان

مقدمة:
لا سبيل لحفظ كيان السودان من التمزق والتشرذم والصراعات العرقية والدينية إلا بتوطين
الدولة الوطنية الحديثة، فهذه الدولة (بمحتواها الوظيفي والمفاهيمي) ـ وإلى حين إشعار آخر ـ هي أفضل وسيلة لتنظيم الاجتماع البشري وإدارة تنوعه واختلافاته بصورة سلمية وعادلة، هذا التوطين يحتاج إلى حزمة من التطورات تشمل الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد في كل متناسق ومترابط عضويا، ولا بد أن تكون هذه التطورات شاملة وعميقة بالقدر الذي يجعل انتقال السودان إلي مرحلة (ما بعد اتفاقية السلام) انتقالا تاريخيا يشكل أساسا قويا لبناء تجربة وطنية ناجحة في الحفاظ على وحدة السودان وتحقيق تطلعات شعبه، لا انتقالا ظرفيا قابلا للنكسة والردة، وهذا الانتقال التاريخي من أهم مطلوباته جملة من المراجعات النقدية الصارمة للأفكار التي تشكل الوعي السياسي والاجتماعي وأركز في هذه الورقة على الفكر الإسلامي ليس زعما بأنه الوحيد الذي يحتاج إلى المراجعة النقدية ولكن لأسباب موضوعية وعملية على رأسها أن رفض المفاهيم والمبادئ المرتبطة بالدولة الحديثة في السودان ينطلق من مبررات إسلامية، وبما أن الإسلام له الأثر الأكبر والأعمق في تشكيل الوجدان والوعي لأكثرية الشعب السوداني وباستصحاب الحقائق التاريخية حول الإسلام ومحورية دوره في حياة معتنقيه وتأثيره المباشر في توجهاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية لا يمكن تجاوز أو تجاهل الإسلام في أي تناول جاد ومسئول لقضية النهضة الشاملة لمجتمع أكثريته من المسلمين.
إطار نظري:
تتناول هذه الورقة إشكالية العلاقة بين الدين والدولة وصراع الهوية في السودان في إطار الفرضيات التالية:
• الفرضية الأولى:إن الذي يجعل من الإسلام عامل صراع وانقسام بين المواطنين المسلمين والمواطنين غير المسلمين في السودان هو التوظيف الآيدولوجي للدين في السياسة، ذلك التوظيف الذي ينطلق من اعتقاد أن للهوية الدينية(الإسلامية) الحق في الوصاية على الآخرين عبر الهيمنة على فضاء الحياة العامة، وهو اعتقاد يجد سنده القوي في الفقه التقليدي والتفاسير السلفية، وهنا يشتعل الصراع بين الهوية الإسلامية والهويات الدينية الأخرى ليس اعتراضا مبدئيا على وجود الإسلام كعقيدة وشعائر ووجود المسلمين ككيان له هويته المستقلة، وإنما اعتراضا على الامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يطالب بها المسلمون على مستوى الدولة، لأن هذا التمييز على أساس الدين يتعارض مع مبدأ المساواة في المواطنة في الدولة المدنية الحديثة وهو تمييز تضرر منه كثيرا المجموعات غير المسلمة في ظل دولة تفتقر أساسا للتوازن التنموي والعدالة في توزيع السلطة والثروة والديمقراطية السياسية والثقافية.
• الفرضية الثانية: إن بداية الحل لمشكلة استغلال الدين في صراع الهوية هي إقامة الدولة المدنية الحديثة المحايدة تجاه الأديان وتأمين الحماية الدستورية والقانونية لحقوق المواطنة وحقوق الإنسان، كما سيرد بالتفصيل لاحقا، ولكن هذه البداية لن تكون مجدية ما لم تكن مسبوقة أو على الأقل مصحوبة بالتنوير الديني والفكري والثقافي الذي يعمق مفاهيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان في الوعي والوجدان.
• الفرضية الثالثة: تتبنى الورقة الدعوة للاستنارة الدينية(تجاوز منهج اجترار أفكار ومفاهيم ونظم بعينها من التراث الإسلامي معزولة عن سياقها التاريخي واستخدامها في حل الإشكالات الحضارية للواقع المعاصر، و إخضاع مجمل التراث الإسلامي لدراسة تحليلية نقدية محيطة تشمل علم الكلام والفقه والفلسفة والتاريخ السياسي والاجتماعي بهدف معرفة الكيفية أو بالأحرى الكيفيات التي تفاعل بها المسلمون مع القرآن الكريم والسنة النبوية ذلك التفاعل الذي نشأت وتطورت عبره الحضارة الإسلامية وهو تفاعل اختلفت وتعددت صوره وأشكاله ونتائجه باختلاف العقول والأزمنة والأمكنة والمعطيات التاريخية الواقعية لكل عهد من عهود الحضارة الإسلامية سواء في حالات مدها أو جزرها ومن ثم بلورة رؤية شاملة لنهضة المجتمع المسلم على ضوء معطيات الحضارة المعاصرة التي يجب التعامل معها بعقلانية وموضوعية (تتجاوز الأبلسة كما تتجاوز التأليه) وتفتح الطريق أمام الاستفادة القصوى منها)، وهذه الدعوة للاستنارة الدينية ليست لمجرد فك الاشتباك الإسلامي العلماني واحتواء صراع الهوية المترتب على الاستعلاء الديني ومن ثم تحقيق الاستقرار السياسي وازدهار الدولة المدنية، ولا لمجرد إزالة العقبات التي تحول دون الحداثة والتحديث في المجتمع ـ رغم مشروعية هذه الأهداف ووجاهتهاـ بل تهدف هذه الدعوة في الأساس لاستنهاض دور الدين في المجتمع المعاصر إيمانا بأهميته لتوازن الحياة الإنسانية وإثرائها بالقيم الروحية والخلقية، واعتقادا بأنه قوة دافعة للخير والفضيلة والعدل والرحمة والاستقامة.
مأزق الحركة الإسلامية الحديثة:
إذا تتبعنا التصورات النظرية لهذه الحركة بشأن الدولة وجدناها تعرف الدولة بهوية إسلامية وبشكل قاطع، ولذلك يحق لكل من اطلع على هذه التصورات وشهد بعضا من تطبيقاتها العملية في عهد الإنقاذ وهو غير مسلم أن يشعر بغربة تامة عن هذه الدولة ويشعر بالتهميش، وفيما يلي عرض لنماذج من مقولات الإسلاميين في هذا الصدد:
الدولة تعبر عن المجتمع في وظيفة القيادة وهي الأداة لحراسة الدين وسياسة الدنيا كما عبر عنها فقهاء الأحكام السلطانية، مقصودها كما قال ابن تيمية هو: (إصلاح دين الخلق وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم) ولذلك فإن جميع ولاياتها كالقضاء والحسبة والحرب في (الأصل ولاية شرعية ومنصب ديني) ولإقامة الدولة الإسلامية في العصر الحديث يحتاج المسلمون إلى الاقتباس من نظم الحكم ولإدارة الحديثة دونما حرج لان ذلك لا يتعارض مع الإسلام
مشروع إقامة الدولة الإسلامية يبدأ بـ (الإصلاح السياسي التوحيدي وهو مشروع شامل في التزكية الإيمانية والخلقية وفي التشريع السياسي فمن أول يوم استقبلت فيه أقدامنا قبلة الإسلام ووضعت على طريقه يجد، سيستدعي الأمر مرحلة انتقال حتى نبلغ الواجبات الأساسية ثم نمضي قدما إنشاء الله في كمالات توحيد السياسية والدين ) .
وانطلاقا من هذه الفكرة فإن الخطاب الإسلامي الحركي الذي تسوقه جماعات الإسلام السياسي في سعيها للهيمنة على السلطة السياسية يستند إلي فرضية أن النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والتعليمية القائمة في دول المسلمين نظم مو######## من الاستعمار وتمثل ثقافة المستعمر وفلسفته العلمانية المناهضة للدين وأن مشروع التأصيل الحضاري الإسلامي يبدأ بتقويض هذه النظم وإقامة بدائل إسلامية على أنقاضها، والبديل الإسلامي هو الدولة الإسلامية و (تطبيق الشريعة الإسلامية) وكل جماعات الإسلام السياسي تستبطن مشاريع وصاية على المجتمع والدولة بحجة أنها تريد إقامة شرع الله وأي تمرد على وصايتها تلك هو تمرد على شرع الله وعداء للإسلام، وفي حالة الحركة الإسلامية الحديثة فإن الخطاب الفكري الذي تطرحه عبارة عن مزيج غير متجانس من مفاهيم وأفكار سلفية لها سلطانها على وجدان الجماهير وهذه تستغل لحشد التأييد الشعبي ومفاهيم وأفكار تجديدية أملتها الضرورة السياسية وهذا الخطاب يفتقر إلي المنهجية والأساس النظري الواضح وهذا أعطى الإسلامويين المقدرة على أن يكونوا الشيء ونقيضه حسب مقتضيات المصلحة السياسية وبمبررات دينية، فإذا اقتضت مصلحتهم العمل في نظام ديمقراطي حشدوا آيات الشورى، وإذا أرادوا الانقضاض على السلطة انقلابيا حشدوا آيات التمكين وقالوا أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، إذا أرادوا الحرب في الجنوب حشدوا آيات السيف والجهاد وإذا أرادوا السلام حشدوا آيات التسامح والدعوة بالتي هي أحسن، إذا أرادوا معاداة الغرب استندوا إلي قوله تعالي "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" وإذا أرادوا تحسين العلاقة معه استندوا إلي قوله تعالي "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ويخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم" والشواهد على هذا الاحتيال والعبث بالدين لا حصر لها مما يجعل المأزق مزدوجا! أي مأزق مع الآخر المتمثل في المواطن غير المسلم الذي من حقه أن يرفض الإخضاع القسري لمرجعية دين لايدين به، ومأزق مع الذات المسلمة بسبب هذه الفوضى التي تفصح عن حقيقة واحدة هي أن الفكر الإسلامي بمختلف مدارسه إلي الآن لا يمتلك بدائل فكرية وبرامجية ومؤسسية جاهزة لتحل محل البرامج والأفكار والمؤسسات التي يدعو لتقويضها بسبب علمانيتها، فهو لا يمتلك سوى شعارات فضفاضة وعبارات مطاطية وتعميمات مبهمة لا تصلح لأن تكون أساسا لمواجهة تعقيدات الحياة المعاصرة.
ورغم كل المزايدات العاطفية والمكابرات الآيدولوجية نجد في أدبيات الحركة الإسلامية اعترافات صريحة بعدم وجود بديل إسلامي جاهز ليحل محل النظم السياسية والاقتصادية والإدارية القائمة:
 إن الكاتب طالع شيئا من أصول الإسلام ومن تراثه الفقهي في شئون السياسة والحكم واطلع على شئ من تجارب أهل الغرب في هذا المجال، وجرب العمل في سبيل سياسة وحكم إسلامي دهرا من الزمن فانتهى إلى أن المسائل أشكل من علمنا وحكمتنا وأن الداء أعضل من طبنا) .
 (إننا في أزمة علم وعمل وإن المرء ليخشى على هذه الطاقات التي فجرتها الصحوة الإسلامية ألا يواتيها الوعي والفقه الإسلامي الكامل الذي يستوعبها فيصوبها إلى كمال صورة تنزل القيم على الواقع)

مأزق العلمانيين:
القوى التي تصدت للتحديث والعلمنة في السودان ممثلة في اليسار بفروعه المختلفة تفادت مواجهة الفكر السلفي على المستوى الفلسفي والمعرفي بل تفادت حتى التصريح بالعلمانية إذ تنصل الشيوعيون عن مفهوم الدولة العلمانية مروجين (للدولة المدنية) كبديل للدولة الدينية
وسبب ذلك الانشغال بالحسابات والتكتيكات السياسية العاجلة التي تقتضي أحيانا مهادنة الفكر السلفي . صحيح أنه في عام 1967م وفي أعقاب حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان كون الحزب لجنة للدراسات الإسلامية (ولكنها انغمست في الصراع ضد الأخوان المسلمين ولم ترتاد آفاق النظر المستقل إلى الإسلام باعتباره معينا ثرا للتراث الشعبي).
ولكن السبب الأساسي في إعراض القوى العلمانية عن عملية استكشاف العوامل المكونة لثقافة المجتمع والموجهة لسلوكه والمحددة لخياراته ومن ثم التأثير فيها باتجاه عقلنة المجتمع وتحديثه وتفكيك بنية التخلف فيه هو الخلل في تكوين المثقف السوداني الذي لم يرتق إلى مستوى المثقف العضوي(المثقف الحقيقي)، لأن المثقف السوداني نشأ في ظل المدرسة الإنجليزية التقليدية التي تمثل أكثر العقليات الأوروبية برودا على مستوى الإبداع الفكري والممارسة العملية في مقابل أهم عقليتين تقليديتين في أوروبا: العقلية الألمانية ذات البعد الفلسفي المؤدلج والعقلية الفرنسية ذات النزعة الثقافية القائمة في جوهرها على روح الإبداع والمعاناة .
المدرسة الإنجليزية يمكن أن تنتج إداريا ناجحا أو اقتصاديا دقيقا أو سياسيا بارعا ولكنها لاتنتج مثقفا حقيقيا يكمن داخل كل هؤلاء ويقود وعيهم إلى ما هو أعمق في جدلية التكوين والاتجاه، نعم خطط التطور والنمو تحتاج إلى الإداري والاقتصادي والسياسي ولكن ليس بمقدور هؤلاء إعطاء مجهوداتهم قيمتها الحقيقية في التطور الكلي للمجتمع دون النفاذ إلى شخصية المجتمع واستكشاف الحوافز الكامنة فيه لمصلحة التطور أو المعاكسة للتطور .والسبب الثاني: هو مؤثرات المرحلة الانتقالية المعقدة التي تعانيها القيادات الفكرية في العالم المتخلف مابين الحداثة الأروبية، والأصالة التقليدية السلفية الجامدة.
فعبارة حداثة وحدها لا تكفي لتفسير وعي المثقف المطلوب إلا بالمدى الذي تتصل به هذه الحداثة بآخر ما أعطته على مستوى الحضارة العالمية المعاصرة أي(العقلية العلمية النقدية التحليلية) القادرة على التركيب والتوليد، واستخدام هذه العقلية الجدلية في فهم ونقد وتحليل الواقع، وفي هذا الصدد يعاني المثقف السوداني من(هامشية مزدوجة) أي هامشية التلقي عن الآخرين وهامشية التلقي عن الواقع.
ونتيجة هذا الخلل في طرائق تفكير المثقفين اختزلت قضايا العلمنة وتوطين الديمقراطية وحقوق الإنسان في بروتوكولات سياسية وأشكال إجرائية معلقة في الهواء ومهددة بالانهيار في أية لحظة وغير قادرة على الفاعلية والتأثير المحسوس الملموس في الحياة العامة إذ أن هذه الفاعلية أصبحت من نصيب القوى السلفية صاحبة أكبر سلطة خطاب في المجتمع!
والآن بعد أن هزم المشروع الحضاري للإنقاذ سياسيا وأخلاقيا لم يصب هذا التراجع في مصلحة التيارات العلمانية أو في مصلحة قوى إسلامية أكثر اعتدالا واستنارة من الحركة الإسلامية الإنقاذية، بل صب هذا التراجع في مصلحة قوى أكثر جمودا وتعصبا وعداوة للتحديث السياسي والاجتماعي،
وفيما يلي نماذج من أطروحات هذه الجماعات في موضوع الورقة(الدين والدولة):
• لا تجوز المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في الأمور السياسية وغيرها لقوله تعالى: "وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" وقوله أيضا: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" وقوله تعالى: " لا تتخذوا بطانة من دونكم" لا ينبغي لغير المسلم أن يتقلد منصبا في الدولة الإسلامية حتى لا يطلع على أسرار المسلمين ولم يحدث في تاريخ المسلمين أن قلدوا كافرا منصبا أو وظيفة من الوظائف. أما المرأة فلها وضعها الخاص في الإسلام فلا تقلد منصبا رئاسيا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "ما أفلح قوما ولوا أمرهم امرأة" وهذا ليس تحقيرا لها وإنما احتراما لها ولمكانها فلها حقوقها وواجباتها ووظيفتها كأم وربة منزل ولذا لا تؤم الناس في الصلاة ولا تؤذن للصلاة فهي أم وأخت وزوجة وبنت فلها مكانتها في النفوس.
• لا يجوز لغير المسلمين أن يبشروا بباطلهم فالإسلام هو الدين المعترف به عند الله تعالى "إن الدين عند الله الإسلام فمن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" كما أنه لا يجوز أن يتقلدوا منصبا رئاسيا أو وزاريا كما عزل عمر كاتبا لأحد الولاة وكان نصرانيا- فتح عمر فلسطين وصالح النصارى واليهود على ألا يبنوا كنيسة ويصلحوا ما خرب منها ولا يضربوا جرسا وأخذ الجزية ولا نبدأهم بالسلام ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يمنعوا أحدا إذا دخل الإسلام ، فرض عليم توفير المسلمين إذا حضر المسلم قام النصراني ولا يحملون سلاحا أمام المسلمين ولا يبيعوا الخمر وألا يظهروا الصليب وألا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم. لقد كانت هذه الشروط مطبقة عليهم برضاهم مما يدل على عظمة الإسلام أرجو الله أن يعيد للأمة مجدها الغابر!!
• السودان بلد كما نعلم فيه الأحزاب المختلفة والطوائف المتعددة والطرق وكلها تخالف المنهج الرباني وفيه العقائد الباطلة والبدع والخرافة والفساد الخلقي وارتكاب المحرمات والناس في بلادنا بحاجة إلى تربية ولا بد من إيجاد المناخ الصالح وإعداد الناس وتهيئة الأجواء حتى لا يرغموا على أمر لا يريدونه والأمم لا تبنى من فوق وإنما تبنى من القواعد والأسس ولذلك حتى هذه اللحظة لم تنجح حكومة في إخراج السودان من دوامة الفوضى إلى الحياة الكريمة لأنها لم تسلك السبل الصحيحة في بناء المجتمع فجماعة أنصار السنة يرون أنه لا بد من عمل جاد مثمر في القواعد وإيجاد الأرضية الصالحة والمجتمع المعافى من الأمراض الاجتماعية ومن هذا المجتمع الصالح يخرج الحاكم الصالح الذي يقود البلاد إلى بر السلامة كما لهم الأسوة في رسول الأمة الذي بدأ أولا بإصلاح العقيدة وما قامت شريعة وما نزلت أحكامها إلا في المدينة المنورة نزلت الأحكام في مجتمع أعد وهيئ فأنصار السنة لهم نظرتهم الخاصة في هذا الأمر لذلك كان جهادهم في القواعد لإصلاح المجتمع وفي النهاية الوصول إلى تحكيم شرع الله فتربية الفرد وإيجاد المسلم وبناء الأسر المسلمة وإصلاح البيئة ومحاربة العادات والتقاليد البالية أفضل بكثير من الجري وراء السراب
• من واجبات الدولة الإسلامية:
1. حفظ الدين على ما استقر عليه العمل وأجمع سلف الآلة على أصوله المستقرة: أجمع أهل العلم على أنه كل نبي بعث وكل شريعة شرعت من أجل الحفاظ على الكليات الخمسة: الدين والنفس والعقل والمال والعوض وان الدين أهمها جميعا فهو مقدم على النفس والمال يحفظ بتعليم الناس العقيدة وتعليم الناس الحلال والحرام والأحكام وبناء المساجد وتفريغ الأئمة. كان عمر بن الخطاب يطوف السوق ويسأل التجار عن أحكام البيع والشراء، من وجده لا يعرفها أخرجه من السوق وكذلك مالك بن أنس يقول: من لم ينفقه لا يجلس في سوقنا، ويحفظ الدين بمنع أهل البدع الشعوذة والخرافة ومن يتكلمون في الدين بما لا يعلمون ويهرفون بما يعرفون، فهؤلاء يجب أن يقيم الإمام عليهم المحتسبين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وجد إنسان في المسجد يتكلم بدون علم أو يكتب بدون علم بمنع ويحاسب، وقد كان ابن تميمة إذا وجد إنسانا يغني بدون فقه ينكر عليه حتى قيل له. اجعلت محتسبا على الفتوى فقال سبحانه الله يجعل على الخبازين محتسب وعلى الطيب محتسب وعلى أهل الصنائع محتسبون ولا يجعل على دين الله محتسبون.
2. تحصين الثغور بالعدة المناعة والقوة الدافعة حتى لا ينتهك عدو م أعداء الله بثغرة ينتهك فيها محرقة أو يسفك دما. فلابد للإمام المسلم أن يقوم على أمر الجهاد يرغب الناس فيه يبين لهم أحكام ثم يدفعهم إليه ترغيبا وترهيبا ويقوم بالجهاد على ما شرع الله وسن رسول الله في الآداب والأحكام جميعها، وأول ما يفعل أن يزيل الشبهات التي علقت بأذهان المسلمين في زماننا هذا، المسلون لا يغذون عقولهم بالعلم النافع بل يعتمدون على وسائل الإعلام التي تشرف عليها الصهيونية وتصور الجهاد على أنه تطرف وتنطع وان عهده قد ولى علينا أن نبين أن الجهاد شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر وهو ماض إلى يوم القيامة إما جهاد دفع: ندفع المتعدي، وإما جهاد طلب وهو أن تطلب العدو في مكانه لتنشر دين الله وتكون كلمة الله هي العليا (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)
3. القيام على شعائر الدين من صلاة وصيام وزكاة وحج: يشرف على الآذان ان يكون في مواقيته فلا يكون آلام فوضى ويشرف على تعين الأئمة الصالحين الذين يعلمون الناس ما ينفعهم، ويشرف على الناس كي يقيموا الصلاة فلا يترك الأمر فوضى من شاء صلى ومن لم يشأ يجمل الناس على ذلك حملا لأن هذا مقتضى التمكين: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة. وعيه أن يسهل الحج ويرغب الناس فيه، وعلى الإمام المسلم أن يتصدى للذين يروجون لأن الدين صلة بين العبد وربه ولا شأن للحاكم به فهؤلاء كذابون أو جاهلون ضالون في دين الله، مطلوب من الحاكم أن يحمل الناس على الدين فإذا رأي الحاكم امرأة متبرجة لا يتركها لتفتن المسلمين رجالا ونساء، فلابد أن يحرس الدين .

الإصلاح الديني والخروج من المأزقين(الإسلاموي والعلماني):
أزمة الفكر الإسلامي في الراهن المعاصر يمكن تلخيصها في الآتي:
1. فشل المجتمعات المسلمة في استيعاب المنجزات الفكرية والسياسية الاقتصادية والعلمية ـ التي أنتجها مشروع الحداثة الغربي، وأقلمة هذه المنجزات في التربة الثقافية الإسلامية.
2. فشل الفكر الإسلامي في إنتاج بديل حضاري مختلف عن مشروع الحداثة الغربي في مرجعياته الفكرية ويتفوق عليه أو يوازيه أو حتى يقاربه في منجزاته الحضارية وهذا الفشل يعود إلي أن مشاريع التحديث في العالم الإسلامي في الغالب مشاريع سطحية اقتصرت على نقل التكنولوجيا واقتباس النظم الإدارية والاقتصادية والأشكال الإجرائية والهيكلية للممارسة السياسية وحتى هذه لم تصب فيها نجاحا يعتد به، ولكن هذه المشاريع لم تكن مصحوبة بالتنوير العقلاني الذي يحول العقل الإسلامي إلى عقل حديث قادر على التفكير النقدي والتفكير الإبداعي ومن ثم قادر على التأسيس المعرفي والفلسفي لمشروع نهضة شاملة في المجتمع المسلم تجعله يفيق من غيبوبته الحضارية ويساهم في مسيرة التقدم الإنساني.
ولكن بالرغم من واقع البؤس والتخلف الذي يعانيه المسلمون يبقى لهم الحق المشروع في أن يشقوا طريقهم الخاص نحو النهضة وفي أن تكون تصوراتهم لمسيرة تقدمهم مرتبطة بالإسلام الذي يمثل أهم منابع ذاتيتهم وفي أن يتطلعوا لأن يكونوا في نادي الحضارة الإنسانية عضوا مساهما لا ضيفا متفرجا، ولكن هذه الطموحات لا يمكن تحقيقها بصخب الهتافات والخطب الحماسية والتجييش العاطفي بالادعاءات الكاذبة بأن هناك برنامجا إسلاميا جاهزا تحل مشاكل المسلمين فور تطبيقه، إن نقطة الانطلاق للعقل الإسلامي نحو آفاق الاستنارة والتجديد ينبغي أن تكون الإدراك العميق لحقيقة أن معوقات نهضة المسلمين في الغالب معوقات ذاتية أهم أسبابها إخفاقهم في التعامل المنهجي المستنير مع تراثهم وعدم وعيهم بطبيعة التحديات الحضارية التي تواجههم ومن أقوى الشواهد على ذلك المتاجرة السياسية بشعاري(إقامة الدولة الإسلامية) و (تطبيق الشريعة الإسلامية) والتناول السطحي والغوغائي لهذين الأمرين في الساحة الإسلامية.
الدولة الإسلامية:
لتجاوز فكرة الدولة الإسلامية لابد من مشروع مراجعة نقدية للفكر الإسلامي تنطلق من بلورة رؤية جديدة للكيفية التي يمارس بها الإسلام دوره في فضاء الحياة العامة، هذه الرؤية وتلك لا ينبغي أن تكون اجترارا وتكرارا لأفكار سابقة أثبتت عدم جدواها كفكرة (الدولة الإسلامية) و(الدستور الإسلامي) بل يجب أن تكون متجاوزة لهذه الأفكار تجاوزاً منهجيا وفي إطار نظري متماسك منطقيا وعلى ضوء قراءة واعية ومتأنية لتجربة المسلمين التاريخية في أبعادها المختلفة بوجه عام، وقراءة مماثلة للواقع السوداني وتحدياته الراهنة بوجه خاص، وكلا القراءتين يجب أن يتسم بعمق الحس التاريخي والنقدي، وليس تجاوزا اضطراريا تفرضه الضغوط الظرفية، إذا كانت الفكرة المحورية الأساسية للخطاب الحركي الإسلامي هي أن المسلمين بحكم عقيدتهم مكلفون بإقامة دولة إسلامية وظيفتها الأولى تطبيق الشريعة الإسلامية وهذه الدولة يجب أن تحتكم للإسلام في سياستها واقتصادها وقوانينها وكل شئونها، (وبداهة الإسلام المتحاكم إليه هنا هو مجرد اجتهادات بشرية في فهم الإسلام ولا تمثل الدين في تجريده وقدسيته المطلقة وهذا سنأتي لتفصيله لا حقا)، فهذه الفكرة بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل تم تجاوزها تماما، إذ أن الفكرة الأساسية في بروتوكول مشاكوس هي إقامة دولة سودانية على أساس عقد اجتماعي يحدد الحقوق والواجبات على أساس المواطنة وهذه الدولة يحكمها دستور مستوعب للتنوع السوداني الديني والاثني والثقافي ومحقق للمساواة التامة بين المواطنين ومستبعد لأي شكل من أشكال التمييز على أسس دينية أو اثنية أو نوعية أو ثقافية. فلا مجال لتعريف الدولة أو الدستور بهوية إسلامية أو أي هوية دينية، وبقراءة موضوعية لنصوص البروتوكول فيما يتعلق بموضوع الدين والدولة نجده ساوى بين الأديان المختلفة (كقوة روحية ملهمة للشعب السوداني) في كفالة حرية العبادة والدعوة بالحسنى وفي مشروعية التأثير في المجتمع وفق الضوابط القانونية والدستورية أما الشريعة الإسلامية فقد اعترف بها كمصدر للقوانين والتشريعات في الولايات ذات الأغلبية المسلمة في الشمال في إطار التعددية القانونية التي يكفلها نظام الحكم اللامركزي أما دستور السودان فهو (دستور قومي) وهو القانون الأعلى في البلاد الذي يجب أن تتوافق معه كل القوانين (كما نص على ذلك البروتوكول الذي وقعته الحكومة وأصبح من النصوص الملزمة لها) ومن هنا يتضح جليا أن تحقيق تطلعات المسلمين المشروعة في التأصيل وإبراز الخصوصية الثقافية والحضارية لم يعد ممكنا عبر الهيمنة على الدولة واحتكار السلطة السياسية وفرض الوصاية على المجتمع بل ينبغي أن يكون عبر التأثير الديمقراطي في توجهات المجتمع ضمن إطار دولة مدنية حديثة وفقا لشروط التنافس الحر بين الأُطروحات الفكرية والبرامج المستمدة من الإسلام أو المتأثرة به أوالمستصحبة لقيمه الخلقية والروحية والأطروحات والبرامج المستمدة من منطلقات دينية مغايرة أو فلسفات علمانية بمعني أن المرجعية الإسلامية تتساوى مع غيرها من المرجعيات في حق التأثير في حياة المجتمع، فالمناخ الديمقراطي يتيح لكل جماعة دينية أو ثقافية التعبير عن هويتها والانحياز للخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعبر عن قناعاتها الدينية أو الفكرية ما دامت تلتزم نهجا ديمقراطيا لا إكراه فيه ولا تعصب ولا انتقاص لحقوق الآخرين وما دامت لا تفترض لأطروحتها وبرامجها قدسية تجعلها فوق النقد والمساءلة وبالتالي فإن تعامل المسلمين مع الدولة ليس تعامل يد عليا وعلاقتهم بها ليست علاقة هيمنة ووصاية بل هي علاقة محكومة بضوابط المواطنة وشروط العقد الاجتماعي وفي هذا السياق يمكن أن تضع الثقافة الإسلامية بصماتها بوضوح في الفكر والسياسة والقانون والإعلام والسلوك الاجتماعي كانعكاس طبيعي ومباشر لوجود المسلمين في الدولة ذات الطبيعة الديمقراطية التعددية ولكن التأثير الإسلامي يجب أن يضع في اعتباره حقيقة أن الدولة مستقلة عن الدين بمعني أنها لا تمنح أي امتيازات سلطوية سياسية أو اقتصادية للمسلمين بحكم إسلامهم ولا تصادر أي حق سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي من غير المسلمين بحكم عدم إسلامهم، وغير المسلمين هؤلاء لا تنحصر حقوقهم في السماح لهم يشرب الخمر والتفضل عليهم بالخدمات الصحية والتعليمية بل هي باختصار حقوق الإنسان كما هي معرفة ومفصلة في المواثيق الدولية وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يكفل للمواطن غير المسلم حقوقه ابتداء من حق الحياة وصولا إلي الحق في تولي السلطة العليا في الدولة ، وإذا رجعنا إلي الأدبيات السياسية السودانية في حقبة الإنقاذ ابتداء من المرسوم الدستوري الرابع عشر مرورا باتفاقية الخرطوم للسلام وصولا إلي دستور 1998م، ثم اتفاقية السلام الشامل نجد أن النهاية المنطقية للالتزام بهذه المواثيق والتطبيق العملي لها هي حياد الدولة تجاه الدين على النحو المذكور أعلاه والتزامها بحقوق الإنسان والديمقراطية ولكن توقيع الاتفاقيات والمواثيق لا يجدي ما لم تكن مضامينها حاضرة في الوعي والثقافة والسلوك العملي، وحتى تكون مضامين العقد الاجتماعي الجديد في السودان جزءا من الوعي والثقافة الإسلامية ويتقبلها الوجدان المسلم دون حرج أو ارتياب نحتاج إلي نقلات نوعية في الفكر الإسلامي بالمراجعة النظرية العميقة، وبالفحص الدقيق لمفردات الخطاب الفكري الإسلامي على ضوء تجارب المسلمين المعاصرة في الحكم والمعارضة وما أسفرت عنه من نتائج عملية وعلى ضوء التحديات الحضارية التي تواجه المسلمين في عالم اليوم في إطار السعي لبلورة فكر إسلامي جديد ينقذ العقل والوجدان المسلم من حالة التيه والتخبط في مواقفه من الحضارة المعاصرة، وحالة الانفصام التي يعانيها نتيجة للمتناقضات التي تتجاذبه، وهذا السعي للتجديد الديني قد بدأ في العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن مستهدفا إحياء دور الإسلام الحضاري وهذا المشروع لا يزال مستمرا ويجب أن يستمر لأن استمراره ضرورة حضارية ونهضوية، وحتى يكون هذا المشروع ناجحا هناك جملة من الحقائق علينا أن نعترف بها بجرأة وشجاعة:
1. فكرة الدولة الإسلامية ليست جزءا من العقيدة الإسلامية، فحوجة المسلمين لإقامة دولة نابعة من كونهم بشر يحتاجون إلي مؤسسات تدير اجتماعهم البشري وتنظم مصالحهم المعاشية، وليست نابعة من كونهم مسلمين، فالدولة تجسيد لإرادة بشرية وإنجازاتها المختلفة نتاج للمعرفة والخبرة البشرية.
2. هناك شعارات ارتبطت بفكرة الدولة الإسلامية كشعار الحاكمية لله، هذا الشعار عندما يقحم في ساحة العمل السياسي يكون الهدف منه إضفاء قدسية دينية على برامج سياسية أنتجها عقل بشري، مفهوم الحاكمية لله مفهوم عقدي فلسفي معناه أن كل ما يحدث في هذا الوجود خاضع لإرادة الله ومشمول بعلمه المحيط وتدبيره المحكم، أما في الحقل السياسي فإن الحكم يمارسه بشر لا يحق لهم بأي حال ادعاء العصمة لممارستهم البشرية بزعم أنها تمثل حكم الله، ومثل هذه الشعارات غالبا ما تستخدم لحشد الولاء والتأييد على أسس عاطفية وإقصاء الرأي الآخر، مثل هذه الشعارات يجب أن تنسحب من ساحة العمل الإسلامي لأنها شكل من أشكال استغلال العاطفة الدينية في الكسب السياسي.
3. الفهم التقليدي للشريعة الإسلامية المتمثل في الأحكام التي أجمع عليها جمهور فقهاء أهل السنة لا يصلح للتطبيق في الظروف المعاصرة، وتجاوز هذا الفهم لا يتم بمساجلات فقهية في إطار المسلمات المو######## من الفقه التقليدي نفسه، فالتجاوز يحتاج إلى طرائق تفكير جديدة ومناهج جديدة في فهم النصوص المؤسسة للشريعة الإسلامية (القرآن الكريم والسنة النبوية)
الشريعة الإسلامية:
الإسلام كما هو معلوم عقيدة أساسها توحيد الله، وشريعة تفصل الأحكام فيما يتعلق بعلاقة الفرد بربه (العبادات) وعلاقة الفرد بمجتمعه (المعاملات) كما تشمل تعاليم خلقية وسلوكية وكل هذه الأحكام والتعاليم تتجه نحو تحقيق مقاصد كلية هي الغاية النهائية للتشريع، هذه المقاصد هي العدل والرحمة والتسامح والإخاء وحفظ مصالح الفرد والمجتمع وكل ما فيه خير الإنسان. ومعلوم أن جانب المعاملات يشمل السياسة والاجتماع والاقتصاد وهو جانب متحرك بطبيعته ومتروك في الغالب للاجتهاد البشري وهنا يبدأ الاختلاف بين دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية المو######## أي (مجموعة الأحكام التي استنبطها جمهور الفقهاء من الكتاب والسنة وفق أصول وقواعد معينة) ودعاة تطوير الشريعة الإسلامية استجابة للمتغيرات والتطورات ومحور هذا الاختلاف هو ضوابط الاجتهاد في أحكام المعاملات وهل هو محصور فيما لم يرد فيه نص أم أن هناك اجتهاد مع النص وغير ذلك من التساؤلات التي على أساسها تعددت المذاهب والمدارس، والمسلمون اليوم أحوج ما يكونوا لإدارة حوار عقلاني منظم ومسئول عن الشريعة الإسلامية بعيدا عن غلواء الهوس والانتهازية السياسية وبعيدا عن هستريا الانفعال العاطفي بلا وعي والحماس بلا بصيرة، فالخطاب الحركي الإسلامي في السودان وغيره ينادي بالتحاكم إلي الشريعة في شأن المجتمع والدولة أي أنه يطرحها كبديل للنظم السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية القائمة التي ينسبها للفكر العلماني الوضعي، وهذه النظم بصرف النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معها هي نظم ذات أفكار واضحة ومؤسسات محددة الشكل والوظيفة وبرامج وآليات عمل مجربة في أرض الواقع في كل ما يتعلق بإدارة مصالح الناس وتأمين معاشهم بشروط اللحظة التاريخية الراهنة، فهل الشريعة الإسلامية تمتلك بدائل لهذه النظم تساويها أو تفوقها كفاءة ودقة ووضوحا؟ إنني على يقين أن مجرد طرح هذا السؤال يكفي لاتهام المرء في دينه عند أكثرية المسلمين إن لم يكن عن غالبيتهم لأن ذهنية التساؤل والجدل والنقد غابت عن حضارتنا الإسلامية منذ القرن الحادي عشر الميلادي وسادت ذهنية الاتباع والتقليد والركون إلي المسلمات، لكي نؤسس لمشروعية طرح السؤال السابق لا بد من التحديد الدقيق لمفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية فعندما يطرح هذا المفهوم كبرنامج سياسي تتبناه جماعة ساعية للسلطة فإنه يعني تطبيق ذلك الجانب من الشريعة الخاص بشئون الحكم أو ما يعرف في العصر الحديث بالجانب الدستوري، والجانب القانوني بتفريعاته المختلفة (جنائي، تجاري، إداري) وجانب العلاقات الدولية أي كل ما يتعلق بالشأن العام وهذا الجانب من الشريعة في شكله المقنن في الفقه الإسلامي ليس وحيا إلهيا مباشرا، حيث لم يرد في القرآن الكريم أو السنة النبوية قواعد تفصيلية لنظام سياسي أو اقتصادي أو قانوني ملزم للمسلمين بل وردت مبادئ وموجهات عامة ولكن جماعات الإسلام السياسي عندما تطرح هذا الجانب من الشريعة كبرنامج سياسي تدعي أنها تطرح شرعا إلهيا من خالفه خرج عن الإسلام بينما الحقيقة أن ما اصطلح على تسميته بالشريعة الإسلامية هو مجموعة أحكام مستنبطة أو مستنتجة من القرآن والسنة بعقول بشرية محكومة بظروف بيئتها التاريخية فهي في غالبية أحكامها قانون وضعي وميزتها عن غيرها من القوانين الوضعية أنها مستنبطة من مصادر الإسلام الأساسية (القرآن والسنة) وبالتالي مستصحبة لقيم ومقاصد الإسلام ولكن هذا الاستنباط والاستصحاب جهد بشرى لا يحق له إدعاء الإحاطة الشاملة بالمقصود الإلهي وبالتالي فإن باب تطوير الشريعة استجابة للتطورات الإنسانية لا بد أن يظل مفتوحا ولا بد أن يوصد الباب محكما في وجه أي تحكم كهنوتي باسم تطبيق الشريعة الإسلامية، فالشريعة التي يدعو لتطبيقها السلفيون هي الشريعة التي أجمع عليها جمهور الفقهاء وهذا التطبيق يؤدي إلى تقويض أسس ومبادئ الدولة الحديثة والمجتمع الحديث، فالشريعة التقليدية المو######## لا تعرف مبدأ المواطنة أو حقوق الإنسان وفقا للمفاهيم المعاصرة وهذا ليس قصورا أو عيبا في الشريعة فهذه المفاهيم ناتجة عن تطور التجربة الإنسانية ومرتبطة بسياق تاريخي محدد يختلف عن السياق التاريخي الذي وجدت فيه الشريعة وعالجت قضاياه وأجابت على تساؤلاته، فالشريعة مثلا عندما تمنح غير المسلم حرية إقامة شعائره التعبدية وتمنحه الحق في العيش بسلام وطمأنينة في كنف المجتمع المسلم وتسمح له بالعمل في بعض الوظائف وتحميه من الظلم والاستغلال تكون حققت قمة العدل بمعيار ما كان سائدا في تلك الحقبة من التاريخ الإنساني أما بالمعايير السائدة في عالم اليوم فهذه حقوق منقوصة ولا ترقى لحقوق المواطنة المتساوية التي تكفلها النظم الدستورية الحديثة وهنا يقفز السؤال حول مصداقية القول بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، هذه الصلاحية تعتمد على قدرة الفكر الإسلامي على الحركة والتجديد والتقدم المستمر باتجاه المحتوى القيمي والخلقي للإسلام وباتجاه المقاصد والمعاني والكلية التي تشكل الغاية النهائية لأحكامه وتشريعاته، فلن يكون الإسلام صالحا لكل زمان ومكان إذا كان من مقتضياته التسليم المطلق بأن الدنيا دار سلم هي دار الإسلام ودار حرب هي دار الكفر. وأن نظام الرق نظام اجتماعي مستمر وأن المرأة نصف الرجل وأن لا مجال لحرية الضمير فالمرتد يقتل فهذه بعض الأحكام التي تضمنتها الشريعة التقليدية وهذه الأحكام تضعنا في مأزق حضاري حقيقي، والخروج من هذا المأزق يتطلب بلورة منهج جديد في التعامل مع النص القرآني ومع السنة النبوية لأن هذه الأحكام مستنبطة من آيات قرآنية وأحاديث نبوية صحيحة (حسب المعايير المتفق عليها في تصحيح الأحاديث) وبالتالي فإننا يجب أن ندرك حقيقة أن نصوص القرآن والسنة في جانب المعاملات نصوص مراعية لظروف الزمان والمكان حال نزول الرسالة، فالقرآن الكريم لم ينزل في فراغ بل نزل في سياق تاريخي له معطياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ولا يمكن فهم التشريع القرآني في معزل عن هذا السياق وكذلك التشريع السني (نسبة إلي السنة النبوية).
إذن السبيل الوحيد لخروج الإسلامويين من مأزقهم هو التصدي لعملية الإصلاح الديني بحزم وجدية وانضباط منهجي.
أما القوى العلمانية فعليها أن تدرك أهمية جبهة الإصلاح الديني ومحورية دورها في نجاح أي مشروع تحديثي ديمقراطي، وعلى الجميع أن يدركوا أن حركة الإصلاح الديني لا ينبغي أن تقتصر على الاجتهادات والمبادرات الفكرية المستنيرة بل يجب أن تشمل تطوير مؤسسات التعليم الديني بإدخال العلوم الحديثة إليها ولا سيما العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة.

Post: #17
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: بهاء بكري
Date: 10-03-2007, 04:41 PM
Parent: #1

العزيز شاهين ....... سلام
التحايا لك ولاسرة مركز الخاتم عدلان للاستنارة علي هذا المجهود الكبير الذي يتكامل مع ما ظل ينادي به الراحل حتي لحظاته الاخيرة

Post: #18
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-04-2007, 10:11 AM
Parent: #1

شكرا استاذ/ عوض حمزة على المداخلة
سوف يكون هناك اصرار على المشاركة فى زخم العمل الفكرى والثقافى بواسطة المركز .

Post: #19
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-04-2007, 10:30 AM
Parent: #1

ورقة دكتور/ عمرى القراى :-
الدين والعنصرية


مدخل :

هذه اطروحة للنقاش ، ويمكن ان تطور في المستقل ، برصد بعض الاحصائيات ، التي تتضمنها بعض البحوث ، لتصبح نظرية ، من ضمن النظريات العلمية ، التي يمكن ان تفسر، وتعالج ظاهرة العنصرية .. على انها في هذه المرحلة ، انما كتبت بغرض اثارة الحوار ، الذي يمكن ان يبلورها بالنقد ، ويطورها ، ويسددها ، لتكون بحثاً أولياً يمكن ان يوسع ليصبح ورقة متكاملة مقدمة لدراسة موسعة ..

لقد عانى العالم ، في مختلف مراحل التاريخ ، من ويلات الحروب والغارات .. وكانت النعرة العنصرية ، من أكثر الدوافع وراء هذه الحروب . فقد ابيدت الامم ، بسبب فرض سيطرة مجموعة ، من عنصر معين ، لارادتها وثقافتها على الآخرين ، باعتبارها الافضل .
إن الافتراض الاساسي لهذه الورقة ، هو ان العنصرية في كل اشكالها ، ومختلف ومراحلها، كانت ولا تزال تعتمد في الاساس على مفهوم ديني . فالانسان لم يتعالى على اخيه الانسان ، الا بزعمه قربه من الاله !! ولكن هذا المكون الديني ، قد لا يظهر لدى النظر غير المتعمق ، ولهذا انشغل الناشطون في حقوق الانسان ، بمواجهة العنصرية ، باعتبارها فكرة تقوم عل أفضلية العنصر، او اللون ، من دون اعتبار لموضوع الدين ، ومن اجل ذلك ، لم ينجحوا في مواجهتها بصورة حاسمة .

وعندنا في السودان ، سارت مناهضة العنصرية ، على قلتها ، وندرة كتابها ، في هذا الطريق المطروق .. فلقد ظنوا ان (الجلابة) ، استأثروا بالسلطة والثروة ، وابعدوا كل العناصر الأخرى، بسبب اعتقادهم بانهم عرب ، والآخرون عجم ، وانهم بسبب هذا الزعم ، الذي يعتمد على العروبة ، أفضل من العناصر الأخرى ، لانها ليست عربية . ولأن هنالك شواهد عديدة ، على ان السودانيين ، حتى في وسط السودان ، ليسوا عرباً ، فان بعض الاتجاهات المقاومة للعنصرية، تحاول توعية الناس ، بهذه الحقيقة ، باعتبارها بمثابة مناهضة فكرية رصينة ، للادعاء العروبي العنصري الزائف .. على ان هذا الاتجاه ، لا يكفي ، لانه لا يجيب على السؤال : لماذا يصر السودانيين ، في الشمال ، على عروبتهم ، التي لا يدل عليها لونهم ولا ثقافتهم؟! لماذا لا يقولوا بانهم نوبيين ، وهم أهل حضارة قديمة ، ولهذا فانهم أفضل من الزنوج ؟! بل لماذا ترى قبائل وسط السودان ، انها افضل من قبائل الشمال الاخرى ، ذا ت الاصل النوبي أو البجاوي؟

إن هذه الورقة ، تنظر في العنصرية ، بصورة عامة ، وعلى المضمون الفكري لها ، فتتناول العنصرية العربية ، وعلاقتها بالاسلام ، ثم تنظر في التجربة السودانية ، وتطرح استراتيجية لمواجهة العنصرية ، تأخذ في اعتبارها التركيز على الدين ، باعتباره العنصر الاهم ، والقادر على صياغة افكار الناس ، وتوجيه سلوكهم الاجتماعي ، نحو التغيير ..





المفهوم والممارسة :

لا أحد يعرف متى بدأت العنصرية ، ولكن اغلب الظن انها نشأت مع بداية الصراع البشري ، حول الموارد المحدودة ، والتي كان لابد من الاقتتال حولها ، بدوافع غريزة الحياة .. فالمجموعة البشرية البدائية ، التي تهزم مجموعة أخرى ، وتستولي على ما حصلت عليه من صيد ، لابد لها من ايجاد مبرر، يقنع افرادها ، بانهم افضل من المجموعة الأخرى ، واحق بنيل ممتلكاتها، مما يركز فيهم شعوراً قوياً بالتميز يدفعهم للاستماتة من اجل الانتصار.. ولقد كان الافراد الاقوياء، في المجتمعات البدائية ، يزعمون انهم آلهه ، حتى يحكمون سيطرتهم على شعوبهم ، أو يزعمون انهم ابناء الآلهه ، أو ظلالها في الارض .. ولم تكن هنالك قيمة في المجتمع البدائي تعتمد عليها فكرة الافضلية ، غير القرب من الإله .. وحين تنتصر جماعة على أخرى ، يلغي اله المجموعة المغلوبة ، ويفرض عليها عبادة إله الجماعة المنتصرة واعرافها . وهكذا تسقط آلهه ، وتختفي ديانات ، وتتوحد الشعوب حول معتقدات جديدة . ولقد استمر هذا الوضع ، الى عهود متأخرة ، حتى ان الامبراطورية الرومانية ، قد فرضت المسيحية ، على معظم العالم في القرون الوسطى ، وتبع ذلك انتشار الاسلام ، عن طريق فتح البلاد ، حتى ضاهت دار الاسلام الامبراطورية الفارسية والرومانية ، اذ امتدت حتى الصين شرقاَ ، وحتى المغرب غرباً ، ثم توغلت بعد الاندلس ، الى وسط وشمال اوربا ..

وحين هاجر الاوربيون الى أمريكا ، كانت أهم حججهم في القضاء على الهنود الحمر، انهم رفضوا ان يقبلوا المسيحية ، ولم يكن مستغرباً ان تصحب الحملات التبشيرية ، الجيوش المستعمرة ، في القرن التاسع عشر، في كل انحاء افريقيا ، سوى ان كان ذلك الاستعمار انجليزياً أو فرنسياً او أيطالياً .. ان الامر المشترك ، بين كل حالات احتلال الشعوب لبعضها ، بالاضافة للدوافع الاقتصادية ، هو ان الشعب المحتل الغازي ، يعتقد انه افضل من الشعب المغلوب المحتل، وهذه الافضلية انما تبرر بعدة عناصر، مثل القوة ، او الحضارة ، او الكفاءة الادارية ، أو نقاء العنصر، او بياض اللون، ولكن يكمن في عمق هذه المبررات ، ان دينها أفضل .. وهذا ما يجعلها تسعى لتغيير دين البلاد ، التي وقع عليها الاحتلال ، ومن هنا ، فان الدين عنصر جوهري ، في كل دعاوي العنصرية ، ومختلف اشكالها .. ولعل من ابرز تجارب ارتباط العنصرية بالدين ، التجربة اليهودية ، فقد ظلت اليهودية عبر مئين السنين ، تقوم على افضلية الجنس العبري ، ودعم هذه الافضلية بمفهوم ديني متكامل .

لقد تلطف مفهوم العنصرية ، بفضل الله ثم بفضل التطور العلمي ، الذي حسم بعد ابحاث مضنية، في الجينات والخلايا ، كافة دعاوى العنصرية .. اذ ثبت بما لا يدع مجال للشك ، بانه ليس هناك أي فرق جوهري ، بين البشر، يمكن الاعتماد عليه ، لتبرير اي ادعاء افضلية طبيعية ، يمكن ان تعتمد عليه العنصرية .. فلم يعد من العلمية ، الحديث عن افضلية الجنس الآري ، أو العنصر العبري ، او غيرهما . لهذا تحولت الدعاوى العنصرية السافرة ، الى صور اخف مثل الدعاوي القومية ، التي تركز على فضائل قومية معينة ، دون ان تصرح بانها افضل من بقية القوميات . ومع ذلك ، فقد كان التعصب للقوميات ، سبباً في كثير من الحروب ، التي اضطرت العالم للتدخل كما حدث في البوسنا والهرسك .. وفي المنطقة العربية ، قامت حركة القومية العربية ، على تعبئة العرب ضد اسرائيل، ولكن بهزيمة العرب في 1967 انهارت فكرة القومية العربية وضعفت تياراتها الناصرية ، والبعثية ، واخلت ساحة مقاومة اسرائيل للتيارات الاسلامية .

الاسلام والعنصرية :

اتفق المفسرون ، في ان تفسير آية " كنتم خير أمة اخرجت للناس " ، انها نزلت لتؤكد افضلية العرب ، على سائر العالمين .. ولعل دعم موضوع أفضلية العرب ، يتخذ سنده من ان القرآن نزل باللغة العربية .. وجاء في الحديث النبوي ( اصطفى الله ولد اسماعيل من العالمين واصطفى العرب من ولد اسماعيل واصطفى كنانة من العرب واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم فانا خيار من خيار ولا فخراً ) .. وأفضلية العرب في الاسلام ، ليست أمراً دينياً صرفاً ، وانما هي تشمل ايضاً ، الوضع السياسي ، فقد جاء في الحديث ( الخلافة في قريش ) .. ومن عجب ان هذا الفهم ، لازال يدرس حتى اليوم ، من ضمن مادة الثقافة الاسلامية ، التي فرضت على الجامعات ، اذ جاء في احد كتبها ، ان من شروط الخليفة ان يكون " ذكر ، حر ، عاقل ، ومن قريش " !!

هذا المستوى من فهم الاسلام ، دعم العنصرية العربية ، وايدها ، واعطاها تبريراً ، دينياً ، قوياً ، وهو المستوى الذي قامت عليه الشريعة الاسلامية .. ولقد كان لهذه النعرة العنصرية ، القدح المعلى ، في الخلافات التي نشبت في الدولة الاسلامية ، حين توسعت خارج جزيرة العرب وضمت اجناساً مختلفة .. فقد قاوم هؤلاء هذا الاتجاه ، وتصارعوا معه ، فيما عرف بصراع العرب والموالي ، وكان من الاسباب التي ادت الى تدهور الدولة واضمحلالها .. ولم يستطع المسلمون ، حتى الآن ، تبني فكرة اسلامية ، مستمدة من خارج الشريعة .. ولهذا فان انتشار الاسلام ، انما يعني انتشار فكرة العنصرية، خاصة في الدولة التي بها اثنيات اخرى ، غير العرب متعايشة معهم ، كما هو حالنا في السودان .

على انه من حسن التوفيق الإلهي ، ان هذا المستوى ، الذي قامت عليه الشريعة ، ليس جوهر الاسلام ، وانما هو تنزل عن الأصل ، املته ضرورة مسايرة مستوى مجتمع الجزيرة العربية ، في القرن السابع الميلادي .. أما في جوهر الاسلام ، فقد جاء قوله تعالى ( يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ) وجاء في الحديث ( لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب ) .. وحين قال أبوذر رضي الله ، عنه لبلال رضي الله عنه : يا ابن السوداء ، زجره النبي وقال : انك امرؤ فيك جاهلية ) . ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، رجلاً في سوق عكاظ ، وعليه جمهرة من الناس فسأل : ماذا يفعل هذا ؟ قالوا: يعلم الناس انساب العرب . قال : علم لا ينفع وجهل لا يضر !! هذا المستوى الذي يرفع القيمة عن الجنس ، ويعلقها بالاخلاق ، ويفتح بذلك الباب ، لكل انسان لتحقيق ارفع القيم ، هو جوهر الاسلام ، الذي لم يقم عليه التطبيق في الماضي ، ولا يزال يجهله المسلمون اليوم .

المشكل السوداني :

من المؤكد ، ان دخول العرب السودان ، لم يكن باعداد كبيرة هائلة ،تمكنهم من التغيير الاثني للسكان في المناطق التي استقروا فيها في وسط السودان .. اذ لم يذكر التاريخ ، هجرة كهذه ، ولم يكن هنالك سبب لمثل هذه الهجرة . الثات تاريخياً ، ان اعداد قليلة من العرب ، عبروا البحر الاحمر، كتجار، استقروا في الساحل اوقريب منه ، قبل الاسلام .. ثم حملة عبد الله ابن ابي السرح لاحتلال دنقلا ، والتي منيت بالفشل .. ان العرب الذي اثروا على شمال السودان، انما دخلوا كافراد ، فروا من بطش بني أمية ، بعضهم من اتباع أهل البيت ، وبعضهم من الصوفية الذين آثروا الابتعاد عن مظالم الملوك .. ولقد دخل الاسلام على ايدي هؤلاءالمتصوفة ، عن طريق سلمي ، وبطئ ، ولكنه بالغ التاثير على النوبة ، الذين كانوا يقطنون هذه المنطقة . فقد قاوم النوبة حملة ابن ابي السرح ، لانها جاءت بالقوة والبطش ، وتقبلوا اسلام التصوف ، لانه جاء بالتي هي احسن، ولأمر آخر، هو ان الاسلام الصوفي، تفاعل مع البيئة ، واظهر المستوى الذي لا يعتمد على العنصرية العربية ، وانما يقوم على جوهر الدين الذي يساوي بين الناس .. ولما كان التصوف يقوم على النموذج ، لا على الوعظ ، فقد دل هؤلاء الصوفية عملياً ، على انهم يحبون كل الناس ، رغم اختلاف اجناسهم ، بان جعلوا بعض كبار مشايخهم ، من هؤلاء النوبيين ..

لقد استمر هذا الوضع خلال السلطنة الزرقاء ، التي كانت متاثرة بالصوفية ، ولكن المهدية حين اتجهت الى تطبيق الشريعة ، نزعت الى تفضيل العرب ، بل ان المهدي نفسه ، زعم من ضمن أدلة مهديته، ان نسبه يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبع وفاة المهدي، الصراع بين الخليفة عبد الله التعايشي ، وآل المهدي الذين عرفوا بالاشراف ، ثم توسع الخلاف لاسباب كثيرة ليصبح صراع أهل الشمال واهل الغرب أو ( الجلابة) و(الغرابة ) كما سماه بعضهم .. ولقد ادى انتشار تجارة الرقيق ، التي شارك فيها ابناء الشمال ، الى تكريس النعرة العنصرية ، وتغذيتها واستمرت هذه خلال التركية والمهدية .. وحين اوقف الانجليز، تجارة الرقيق بقانون ، رفع الزعماء الدينيين ، مذكرة احتجاج، يؤكدون فيها ان هذا القرار سيضر بالمصالح التجارية والزراعية لكبار الملاك !!

ان التطلع الى وضع افضل ، جعل قبائل وسط السودان ، تربط نفسها بالعرب ، وتعتز بمعرفة لغتهم ، واشعارهم وثقافتهم ، وتعزل نفسها من جيراننا من الافارقة ، فلا نعرف عنهم ما يكفي لانشاء علاقات مفيدة معهم .. ولقد ساهم الاعلام في السودان على ترسيخ فكرة عروبة اهل الشمال ، وافضليتهم ، بسبب هذه العروبة ، وبسبب ان العروبة نفسها مفضلة في الاسلام .. وبذلك تم عزل الثقافات الاخرى ، وابعادها عن متناول المواطن ، فلا نسمع في الاذاعة ، ولا نرى في التلفزيون ، في بلد ملئ بالثقافات ، الا ما يرتبط بالثقافة العربية الاسلامية ، والتراث والفلكلور والفن العربي الاسلامي . ولم يكن هذا العزل المنظم ، وهذه الافضلية المقررة ، في الاعلام فحسب ، وانما في مناهج التعليم ايضاً ، حتى وصلنا الآن الى من يكتب في الصحف باننا في الشمال ، عرب تماما ،ً ولا يربطنا رابط باخواننا في الجنوب ، ويدعو لهذا للانفصال !!

لقد تكونت ذهنية المواطن السوداني ، في الشمال ، على انه الافضل ، لانه ينتمي للعرب ، والعرب الافضل، لان الاسلام قد ذكر ذلك، ولهذا هم أحق بحكم البلاد من غيرهم .. ولعل هذا الفهم ، كان وراء الخدعة التي خدعها الساسة الشماليون ، لاخوانهم الجنوبيين ، حين وعدوهم بالحكم الذاتي ، بعد الاستقلال ، ثم لم يمنحوهم في الجنوب الا 6 وظائف من 600 وظيفة ، وكان هذا مما ادى الى تمرد عام 1955 . ولقد استمرت حكوماتنا بعد الاستقلال ، تتقرب الى الدول العربية ، وتبتعد عن الدول الافريقية ، وتعزل مواطنيها في الشمال عن الجنوب ، وتساهم سلبياً في تفاقم الحرب الأهلية ، بالفشل المتواصل في حل المشكلة . وحتى حين وفق نميري لاتفاقية السلام عام 1970 انتكس عنها حين تراجع من كل انجازاته ، وسقط في يد الهوس الديني، عام 1983 مما صعد الحرب من جديد ، بمستوى جديد، ظهرت به الحركة الشعبية ، لأول مرة في تاريخ الصراع .

وحين ظهرت الحركات الاسلامية في السودان ، وقعت تلقائياً في فخ العنصرية ، اذ لم يكن لديها فهم يمكنها من تصور خارج اطار الشريعة .. فاتجه خطابها الى تركيز أفضلية العرب والاسلام وكان برنامج معالجتها لمشكلة الجنوب ، هو التعبئة للحرب ، بغرض اسلمة الجنوب وتعريبة بالقوة .. ولقد تفاقم الوضع دون شك ، حين وصلت هذه الجماعات الاسلامية ، الى السلطة ، وكانت تستهدف القضاء على الحركة الشعبية بالقوة ، ثم اخضاع الجنوبيين للاسلام والتعريب .. ولقد فعلت ما لم تفعله أي حكومة اخرى ، لتصل لهذا الغرض .. فحولت الحرب الى جهاد ، وعبأت الشعب بوسائل الاعلام ، واختلقت القصص في التضليل ، بان الملائكة تحارب معهم ، وان الحيوانات تفجر لهم الالغام ، وان نصرهم سيتم خلال عامين .. وجندت الشبان في الشمال بالاكراه ، واختطفتهم من الشوارع ، ودفعت بهم الى اتون الحرب ، في عجلة حجبت عن التدريب الضروري، وجعلت الشباب وقود لنيران الحرب .. ومع كل هذا ، لم تستطع الحكومة ان تكسب الحرب، واضطرت اخيراً ، ان تقبل اتفاقية السلام .. ولما كانت تخالف كل تاريخها السياسي، وفكرها الاسلامي ، فانها فضلت ان تسوف ، في تنفيذ بنودها ، وتحاول قتلها بالاهمال وتطويل الاجتماعات ، دون معنى ، متمنية ان يخطئ شريكها ، بصورة تبرر لها التنازل عن الاتفاقية او بعض بنودها .. ولكنها لم تستطع تحقيق ذلك ، فاخذت في خرقها هنا وهناك ، املاً في بروز خلاف جوهري، يغير الوضع ، لان قادتها قد ادركوا ان الاتفاقية كتبت بصورة محكمة ، لن يسوق تطبيقها الا لتغيير طبيعة النظام الحاكم للسودان ..

ان مشكلة دارفور ذات ابعاد عديدة ، وقد نتجت بسبب اخطاء الحكومة ، وتفاقمت بتدخلها لمصلحة القبائل ، التي تزعم انها عربية ، ضد القبائل الاخرى الافريقية العنصر .. ولقد استغلت الحكومة الصراع العنصري، وفاقمت المشكلة ظناً منها انها تستغل هذه القبائل لتحقيق مصالح سياسية ، ولكن الامر فلت من يدها ، وتجاوز قدرتها ، حتى اصبحنا ، على اعتاب التدخل الاجنبي .. فهل مشكلة دارفور عنصرية فقط ؟ ان مفهوم القبائل التي تزعم انها عربية ، هو انها افضل من القبائل المسلمة ،غير العربية ولهذا فان " الجنجويد" لا يعتبرون اسلام الزرقة ، ولهذا لا يرون انهم اخوانهم في الدين .. ولو كانوا يرون ذلك ، لما امكن ان تحدث كل هذه الفظائع من القتل والحرق وقتل الاطفال والاغتصاب والتعذيب .. ان الخلاف العنصري بارز في دارفور ولكن العامل الديني ، الذي يشكك في اسلام القبائل غير العربية ، قائم ، ولا يمكن تجاوزه .

ما هو الحل ؟

أما الحل العاجل ، فهو ضرورة قيام حملة منظمة ، للضغط على الحكومة لتفعيل كل اتفاقيات السلام في كافة المجالات ، قبل قيام الانتخابات .. فاذا اعترفنا بموجب هذه الاتفاقيات بالتنوع الثقافي ، وانه اثراء لحضارتنا ، ورمز لقوتنا ، فلا بد لوسائل الاعلام ومناهج التعليم ، ان تعكس كافة الثقافات التي يعج بها هذا الوطن .. ولابد ان يكتمل توزيع السلطة والثروة ، كخطوة نحو المساواة الاجتماعية ، التي تبدأ ممارستها في واقع المجتمع ،كاسلوب عملي ، في القضاء على العنصرية .

أما الحل الآجل ، فهو ان يعيد المسلمون في السودان النظر في الاسلام ، لينقدوا المستوى اللانساني الذي يدعم العنصرية ، ويقدموا بدائل عنه ، من عدة مدارس وافكار طرحت فكرة الاصلاح الديني ، الذي يناسب واقع العصر الجديد .. اما انا ، فادعوا هؤلاء المهتمين من المثقفين والدارسين من الشباب ، ان يدرسوا فكرة تطوير التشريع الاسلامي ، التي طرحها الاستاذ محمود محمد طه .. والتي تقوم على الدعوة لبعث الآيات التي نسخت في العهد الماضي لانها كانت اكبر من حاجة وطاقة المجتمع آنذاك ، واحكامها اليوم ، لانها تحوي ما توصلت اليه البشرية الحاضرة ، من مفاهيم انسانية رفيعة ، بصورة اكمل واشمل .. وهذا يعني تجاوز الآيات الناسخة ، لانها وان كانت مناسبة للبشرية في الماضي ، فانها اليوم دون المفاهيم الانسانية السائدة.. ولقد اوضحت المقارنة بين هذين المستويين ، في قضية العنصرية ، ويمكن التدليل عليهما في مستويات اخرى عديدة . ان قيمة فكرة الاستاذ محمود ، انها تركز على قيمة الانسان من حيث هو انسان ، وانها تجعل حظ الانسان من الكمال لا يحده حد ،وانها تعتبر البداية هي شعورة بان قيمته الانسانية يمكن ان يستمدها من منهاج السلوك الاخلاقي الفردي ، وان يفرضها على المجتمع.. وان القوانين التي تستلهم من اصول القرآن ، لا تعطي فرصة لاحد ان يستغل او يستعبد او يهان ، لانه مهما كان حظه ، ووضعه ، وجنسه ، واصله ، ودينه ، انما هو مظهر للكمال الإلهي .

د. عمر القراي








Post: #20
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: nadus2000
Date: 10-04-2007, 12:28 PM
Parent: #19

الأخ شاهين

تحياتي، وكما قال الصديق عبدالغفار، فيابختك، وشكرا على هذا الجهد، بس يا ريت تقوم تنزل لينا الأوراق كاملة، وانت عارف الأبستراك (abstract) دايما ما بيقول كل شيء...وكمان كان نزلتوا فيديو تكون كملت كيفنا.

فشكرا للأخ والصديق د.الباقر العفيف، وهو ينشر الاستنارة...

Post: #21
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-04-2007, 02:35 PM
Parent: #1

شكرا استاذ/ عبدالعزيز حسن
وصلت التحايا للدكتور الباقر

Post: #22
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-04-2007, 02:46 PM
Parent: #1

الود والتقدير استاذ/ حيدر قاسم
كنا نتمنى وجدك بيننا .

Post: #23
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: Raja
Date: 10-04-2007, 05:16 PM
Parent: #22

العزيز شاهين..

سلام وتحية لك وانت تورد لنا هذه الحصيلة القيًمة..

ألف مبروك لمركز الراحل الخاتم عدلان وهو ينير الطريق بعضويته وفعالياته..



* يا شاهين.. إنت شاهين ..؟

Post: #24
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-07-2007, 09:03 AM
Parent: #1

جدليّة الحرب والسّلام وتحدّيات قوى الهامش

محمّد جلال أحمد هاشم
مقدّمة
تتناول هذه الورقة موضوعين أساسيّين، هما ظاهرة الحرب والسّلام من جهة وتحدّيات قوى الهامش من جهةٍ أخرى. وأخطر ما تناقشه الورقة أنّها تذهب إلى أنّ الحرب الأهليّة وما قد يتبع ذلك من اتّفاقٍ للسّلام (أو "اتّفاقيّات السّلام") في السّودان لم يعودا حرباً بالمعنى ولا سلاماً بالمعنى، بل أصبح الموضوع أقرب ما يكون إلى الظّاهرة التي لها أنماطها المتشابهة من حيث الأسباب، وأشكال اندلاعها، ثمّ آليّات التّفاوض، وأطراف التّدخّل وصولاً إلى الاتّفاقيّات الإجهاضيّة. ولا يذهبنّ أحد، استناداً على العنوان أعلاه، أنّنا نُضفي صفة الجدليّة على ظاهرة الحرب والسّلام، أو على العلاقة بين المركز والهامش؛ بل الجدليُّ في الموضوع يعود إلى العلاقة بين الحرب والسّلام من جهة باعتبارهما ظاهرة، وبين تحدّيات قوى الهامش من جهة أخرى.
تذهب الورقة في فرضيّاتها الأساسيّة على أنّ ظاهرة الحرب والسّلام بصورتها الرّاهنة تبدو كما لو أصبحت شركاً لا فكاك لقوى الهامش من أن تقع في حبايله طالما كانت تجري على مجراه. ومع ذلك، مهما جوّدت قوى الهامش من أدائها في، وكيفما توّجت، حروبها النّبيلة بالانتصارات، يبدو كما لو أنّ مردود ذلك جميعاً سيذهب لتكريس المركز ممثّلاً في نظام الإنقاذ. والحال كهذا، تمتدّ الفرضيّات لترفع احتمال أنّ الحرب الأهليّة الحقيقيّة ربّما لم تبدأ بعد. وتنبثق من هذه الفرضيّات العديد من الأسئلة، والتي لا تحاول الورقة الإجابة عليها نسبةً لمحدوديّتها، فنتركها للنّقاش ليذهب فيها النّاس مذاهبهم. من ذلك، مثلاً، هل ظاهرة الحرب والسّلام لا تعدو كونها طقساً عبوريّا به تنضاف دفعة صفويّة جديدة (كانت مهمّشة) إلى جسم الصّفوة بالمركز، والتي بدورها ليست سوى العمود الفقري للمركز إن لم تكن لُحمتَه وسُداه؟ هل يصحّ القول بأنّ ظاهرة الحرب والسّلام بصورتها الرّاهنة ستظلّ تدور في حلقتها المفرغة طالما استندت في أرضيّتها التّفاوضيّة على الشّراكة مع نظامٍ لا يصلح كشريك؟ وهل المخرج إلى ذلك حرب لا تجعل التّفاوض مع النّظام الحالي وارداً في حساباتها، لتستهدف أوّل ما تستهدف تغيير النّظام Regime Change، بوصف ذلك شرطاً أساسيّاً لتفكيك ماكينة التّمركز والتّهميش؟
أختم هذه المقدّمة بالتّنويه إلى أنّ هذه الورقة أشبه ما تكون كفصل كامل مستلّ من الطّبعة الخامسة لكتابي منهج التّحليل الثّقافي الذي نعكف على إخراجه قريباً بإذن الله. فعدم توسّع الورقة لمناقشة الفرضيّات والأسئلة يعود، كما ذكرنا، لمحدوديّتها؛ ولكنّا في الكتاب نقوم بتوسيع المناقشة بما نرجو أن يكون كافياً لاستعراض جوانبها وآفاقها.

المركز والهامش: خلفية المصطلح
يجوز القول بأنّ مصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin أصبحا الأكثر شيوعاً واستعمالاً عند تحليل أوجه الصراع الثقافي والسلطوي في السّودان، خاصّة ما بعد الألفيّة الثّانية. فمتى وكيف بدأ استخدام هذين المصطلحين في توصيف الصّراع الفكري والسّياسي في السّودان يا تٌرى؟ يُحيل بعض الكتّاب المراقبين استخدام هذا المصطلح إلى الكاتب المصري سمير أمين [أنظر: فيصل محمّد صالح، جريدة الصّحافة، 2/9/2007، العدد 5109]، وهو ما نختلف فيه معهم. وفي الحقيقة يذهب الكثيرون إلى هذا الرّأي، وذلك باعتبار أن المصطلحين قد وردا في الفكر الإشتراكي المحدث، أي ما بعد الحرب العالميّة الثّانية. ولكن في الحقيقة ما شاع عن الفكر الإشتراكي المحدث لم يكن بالضّبط مركّب مصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin، بل كان تحديداً مصطلح Periphery والذي يمكن أن يُترجم إلى "الهامش" كما يمكن أن يُترجم إلى "الأطراف". وجاء استخدام مصطلح "الهامش" بهذا الفهم في المدرسة الإشتراكيّة المحدثة لمعالجة أوضاع البلاد التي تعيش مرحلة ما قبل الرّأسماليّة. ذلك لأنّ دخول هذه البلاد في السّوق الرّأسماليّة بوصفها مصدراً للمواد الخام قد أدّى إلى تراكم ثروات طائلة فيها دون أن تكون قد دخلت مرحلة الرّأسماليّة.
من المرجّح أن بعض الكتابات المتميّزة في هذا الصّدد (مثل جلال الدّين الطّيّب، 1989 ـ جرت الدّراسة فيما بعد منتصف السّبعينات) كان لها الدّور الأكبر، ليس فقط في إدخال المصطلح إلى حلبة الفكر السّياسي الاقتصادي السّوداني، بل لفت الأنظار إلى كتابات سمير أمين في هذا المجال. فجلال الدّين الطّيب لا يظهر احتفاءً علميّاً ملحوظاً بمصطلح "الهامش الرّأسمالي" Peripheral Capitalism حسبما وردت في بعض كتابات سمير أمين فحسب، بل يستند عليها في تأسيساته المنهجيّة (على سبيل المثال سمير أمين، 1972؛ 1978). في عام 1983م ظهرت الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، ومعها ظهر المنافيستو (الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، 1983) الذي لخّص رؤاها الأساسيّة (حينذاك) لطبيعة الصّراع السّياسي والاجتماعي بالسّودان. وبالرّغم من اشتمال المنافيستو على مصطلح "المركز" Centre، إلاّ أنّه لم يشتمل على مصطلح "الهامش" Margin، بل استخدم مصطلح Periphery والذي تجوز ترجمته " الأطراف". وهذا يمكن اتّخاذه كبيّنة على الاندياح الدّلالي للمصطّلح في محمولاته الاقتصاديّة الماركسيّة.
ولكن كلّ هذا، وبافتراض أنّ له علاقة بالمصطلح في مرسوماته العربيّة واللاتينيّة التي فشت بعد ذلك (المركز Centre في مواجهة الهامش Margin) ـ أي تجاوزاً لمفارقة المصطلح Periphery، ليس له علاقة بالمحمولات الفكريّة التي يُستخدم المصطلحان وفقها الآن. فالمدرسة الإشتراكيّة المحدثة كانت تركّز على أوضاع الهامش الرّأسمالي Periphery، وذلك لحقيقة انبثاقها أصلاً بغرض معالجة أوضاع بلدان ما قبل الرّأسماليّة، دون أن تولي كتلة الغرب الرّأسماليّة (والتي منطقيّاً تحتلّ هنا موقع "المركز") أيّ اهتمام تنظيري بحسبان أنّ الماركسيّة في أصولها الفكريّة قد أوفت ذلك. إذن فالسّياق المنهجي الذي استُخدم فيه المصطلحان (تحديداً مصطلح "الهامش" Periphery) كان المادّيّة التّاريخيّة. ولكن كلّ هذا يختلف تماماً عن السّياق المنهجي الذي يُستخدم فيه المصطلحان (تحديداً مصطلح "المركز" Centre ثمّ مصطلح "الهامش" Margin) الآن حسبما شاع منذ أواسط ثمانينات القرن العشرين. فالاستخدام الحالي للمصطلح، وإن كان يتّصف بالجدليّة، إلاّ أنّه يجري وفق سياق منهجي ثقافي يختلف تماماً عن ذاك المادّي، هو ما يُعرف الآن بمدرسة التّحليل الثّقافي. ولهذا ربّما كان الأكفأ في معالجة أوضاع التّعدّد الثّقافي والهويّة ودور كلّ ذلك في تحقيق مشروع السّودان الجديد. وجديرٌ بالذّكر أنّ الحركة الشّعبيّة، مع احتفاظها بالمصطلح، تخلّت عن دلالاته المادّيّة الماركسيّة بمنتصف تسعينات القرن العشرين، لتأخذ بدلالاته الثّقافيّة، الأمر الذي أدّى إلى خلق مواضعة فكريّة بينها وبين خطاب مدرسة التّحليل الثّقافي التي يرجع إليها الفضل في رسم الإطار الخطابي لمصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin، وفق ما تشهد به السّاحة الآن. فكيف ومتى حدث هذا؟
يمكن تحديد عام 1968م كبداية لتدشين هذين المصطلحين في بعديهما الثّقافيّين، وذلك عندما استخدمهما علي مزروعي [1971] في معالجته النقدية للصراع الثقافي والسّياسي بين مستعربي السّودان وما شاكله من دول ذوات شعوب مستعربة أسماها الهامش (السّودان، الصومال، موريتانيا، جيبوتي)، وبين العرب العاربة الذين أسماهم المركز. من المؤكّد أنّ الاندياح المعرفي لهذا الاستخدام الذّكي استغرق فترة السّبعينات بما شهدته من مناقشات حادّة ومثمرة بخصوص هويّة السّودان من حيث عروبته وأفريقيّته. هذه المناقشات كان في الواقع امتداداً لمناقشات مدرسة الغابة والصّحراء في السّتّينات، وقبلها بعقود في مدرسة الفجر في العقد الرّابع من القرن العشرين [لمزيد من التّفصيل يُرجى مراجعة: جلال هاشم، "السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين"، 1999]. لكن ما يميّز مناقشات عقد السّبعينات أنّها دُشّنت باتّفاقيّة أديس أبابا عام 1973م التي بدأ التّحضير لها في مطبخ السّياسة السّوداني منذ مجيء نظام مايو للحكم. يكمن أثر اتّفاقيّة أديس أبابا القوي في أنّه وضع خطاب الاستعراب، ولأوّل مرّة بصورة حادّة، أمام أفريقيا السّوداء غير العربيّة أو المستعربة. فظهور المثقّفين الجنوبيّين بلونهم الأسود الفحمي وبتفوّقهم في لغتهم (نعم، لغتهم!) الإنكليزيّة التي كانوا يتكلّمونها بوصفها لغة الفكر والثّقافة الوحيدة لهم، لا عن حذلقة وتقعّر أنقليكاني كما هو الحال عند بعض مستعربي من شملهم مسمّى شمال السّودان، ثمّ تسوّد العديد منهم وظيفيّاً على صفوة مستعربة السّودان؛ كلّ هذا مهّد الطّريق إلى بروز وعي جديد يتجاوز مفاهيم مدرسة الغابة والصّحراء الاستعرابيّة (صاحبة منظور "بوتقة الانصهار") لتحقيق رحابة أيديولوجيّة يمكن أن تسع هؤلاء القادمين. في هذا الجوّ ظهرت دعوى السّودانويّة التي تجاوزت منظور بوتقة الانصهار بتداعياتها الاستيعابيّة Assimilatory لتقوم في المقابل بتدشين منظور "الوحدة في التّنوّع" بترتيباته التّكامليّة Integrative [راجع: جلال هاشم: أن يكون أو لا يكون (بالإنكليزيّة)].
في أخريات سبعينات القرن العشرين ظهرت في الجامعات والمعاهد العليا السّودانيّة، وفي أوساط الطّلاّب السّودانيّين خارج السّودان، الحركة التي عُرفت باسم "مؤتمر الطّلاّب المستقلّين". رفعت تلك الحركة شعار الدّيموقراطيّة واستلهام فكر وطني من التّراث السّوداني؛ وبالتّالي دعت إلى احترام كافّة أجناس التّراث إن شرقاً أو غرباً أو شمالاً أو جنوباً. وكان من الطّبيعي أن ينتقل الحوار والنّقاش النّاشب حينها حول عروبة وأفريقيّة السّودان، والذي كانت تدور رحاه في صفحات الجرايد، إلى حركة المستقلّين. بنهاية عام 1982م تبلورت داخل أروقة حركة الطّلاب المستقلّين بالجامعات السّودانيّة وخارجها الحركة الفكريّة التي عُرفت فيما بعد باسم مدرسة التّحليل الثّقافي. التقطت تلك الحركة هذين المصطلحين ضمن اهتمامها الفكري بظاهرة الصّراع الثّقافي في السّودان وعروبة السّودان من أفريقيّته، فقامت باستخدامهما لتوصيف الصّراع بين مستعربي السّودان ومن عداهم من مجموعات لا تزال على الأفريقيّة لغةً وثقافةً. في عام 1986م ظهرت أعداد محدودة من الإصدارة الشعبية الأولى لكتاب منهج التحليل الثقافي (محمّد جلال هاشم، 1986)، مخطوطة باليد ومطبوعة بالرّونيو. قام هذا الكتاب، والذي لا يعدو كونه تلخيصاً للمفاهيم الأساسيّة لتلك المدرسة، بتوطين هذين المصطلحين في تحليله للصّراع الثّقافي في السّودان بالنّظر إليه على أنّه بين مركز إسلاموعروبي وهامش أفريقي؛ وقد استصحب مع مصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin مصطلحي "الوسط" Middle و"الأطراف" دون أن تكون الأخيرة مستمدّة من ترجمتها الإنكليزيّة Periphery بتداعياتها الواردة في الماركسيّة المُحدثة. فيما بعد لدى صدور الطّبعات الثّلاث اللاحقة (1988؛ 1996؛ و1999) يركن جلال هاشم إلى مصطلحي "المركز" و"الهامش" دونما عداهما.
بعد ذلك قام عبد الغفّار محمد أحمد [1988]، متبنّياً رؤية علي مزروعي بخصوص الحزام الهامشي للدّول العربية، بمعالجة قضايا الصّفوة والطّبقة المثقّفة في هذه الدّول الهامشيّة (تحديداً السّودان) من حيث تحامل رصيفاتها في باقي الدّول العربيّة (العاربة) عليها (أنظر نقد محمّد جلال هاشم في "السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين"، 1999، لما ذهب إليه عبد الغفّار محمّد أحمد). كما استخدم منصور خالد (1993) مصطلح "المركز" دون "الهامش" بمحمولات جغرافية ديموغرافية ("أهل الحضر والريف"؛ "المركز والتّخوم"). فيما بعد تمّ تكريس المصطلح ("المركز" Centre و"الهامش" Margin) عبر كتاب أبّكر آدم إسماعيل جدلية المركز والهامش [1997] بأجزائه الثلاثة.
هناك اختلاف كبير، وإن لم يكن جوهريّاً، بين مفهوم التّمركز والتّهميش وفق ما جاء عند جلال هاشم وذلك الذي قال به أبّكر آدم إسماعيل فيما بعد. فكتاب منهج التّحليل الثّقافي (محمّد جلال هاشم، 1999) يعتمد في نظريّته الأساسيّة على الزّعم بأنّ الصّراع الثّقافي ما هو إلاّ صراع جدلي، وفق مفهوم الجدليّة التي قال بها هيغل وطبّقها في المثاليّات، والتي قال بها لاحقاً ماركس وطبّقها في المادّيّات. ويستند النّظر إلى الصّراع الثّقافي، بوصفه صراعاً جدليّاً، على تعميم الثّقافة لتشمل العالم المثالي والمادّي ومجمل أنشطة الإنسان. بهذا يصبح الصّراع الثّقافي حالة صحّيّة لا يجوز، كما لا يمكن، أن تنفصم عراها. ولكن الكتاب مع ذلك لا يُضفي أيّ خصوصيّة جدليّة على التّمركز والتّهميش، إذ يذهب إلى أنّ هذه الظّاهرة ينبغي أن تُفصم عراها لتزول. في المقابل يُضفي خصيصة الجدليّة على العلاقة بين الرّيف والمدينة، باعتبارها ظاهرة ذات مدلولات ديموغرافيّة ثقافيّة، كما يُضفي على مفهوم الوسط والأطراف دلالات ديموغرافيّة خدميّة ليصبح المفهوم بمثابة محطّة وسيطة بين جدليّة الرّيف والمدينة من جانب ولاجدليّة التّمركز والتّهميش من الجانب الآخر. في كتابه جدليّة المركز والهامش (1997) يذهب أبّكر آدم إسماعيل إلى نفس الشّيء مع فارق اصطلاحي ومفهومي يكمن في تعميمه لكلّ الظاهرة أعلاه في مصطلحي المركز والهامش. وبهذا اتّفقا في المفهوم عموماً وإن اختلفا في توظيفهما للمصطلح؛ فبينما يمكن وصف منهج جلال هاشم بأنّه موضعي Topical، يجوز وصف منهج أبّكر إسماعيل بأنّه إجمالي Holistic. ولكن هذا الافتراق المفهومي والاصطلاحي وانحصار جلال هاشم لاحقاً في مصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin، لم يُساعدا الكثيرين على استكناه أوجه الائتلاف والاختلاف.
غنيٌّ عن القول بأنّنا سنعتمد هنا في تفسيرنا لظاهرة التّمركز والتّهميش على منهج التّحليل الثّقافي في صورته التّشريحيّة عند جلال هاشم. ولكن هذا نفسه لا ينبغي أن يصرفنا عن استكناه المشتركات المفهوميّة، وهي كبيرة وكثيرة، بين مختلف المناظير والمقاربات الفكريّة لقضيّة التّمركز والتّهميش بما في ذلك البعد الاقتصادي للمسألة. ومن ذلك، مثلاً، ما قد يبدو تجاوزاً لاستخدام علي مزروعي وعبد الغفّار محمّد أحمد للمصطلح، من قبل مدرسة التّحليل الثّقافي. فإذا جاز الاتّفاق على أنّ الإثنين يحصران معالجتهما على العلاقة بين العرب العاربة من جهة (أهل الجزيرة العربيّة) والعرب المستعربة من جهة أخرى (عرب السّودان وموريتانيا إلخ)، لا يجوز القطع بأنّ معالجة مدرسة التّحليل الثّقافي تنحصر في العلاقة بين مستعربة السّودان من جهة، وأفارقة السّودان من جهة أخرى. فمع أنّه يجوز القول بأنّ هذا ما كان عليه أمر معالجة مدرسة التّحليل الثّقافي في بداياتها، إلاّ أنّها في عاقبة أمرها تقوم بمعالجة ظاهرة التّمركز والتّهميش في العلاقة بين العرب العاربة ومستعربة السّودان. فحسبما سنقرأ أدناه نجد أنّ هذا ما ستؤول إليه المسألة في حال اكتمال دائرة التّمركز والتّهميش داخليّاً (أي بين السّودانيّين). بمعنى، إذا اكتملت دائرة التّمركز والتّهميش دون النّجاح في فصم عراها (ذلك لأنّها غير جدليّة وفق منظور جلال هاشم)، فإنّها ستؤدّي إلى اتّساع دائرة الظاهرة لتُفضي إلى تهميش الشّعب السّوداني في مجمله إزاء العرب العاربة بتحويلهم إلى عرب من الدّرجة الثّانية في أفضل الأحوال أو الدّرجة الثّالثة، أو إلى أسوأ من ذلك بتفكيك منظومة الدّولة السّودانيّة لعجز المركز ومشروعه الأحادي عن إدارة التّعدّديّة. كما يمكن ملاحظة المواضعات الكثيرة التي ينطوي عليها المفهوم عند أبّكر آدم إسماعيل مع مفاهيم الاقتصاد السّياسي، وذلك عندما يتعرّض لمسألة بلدان ما قبل الرّأسماليّة.

ما هو المركز؟
المركز ليس إلاّ مجموعة من الصّفوة المعاد إنتاجها ثقافيّاً ـ ومن ثمّ أيديولوجيّاً ـ داخل حقل الثّقافة العربيّة الإسلاميّة عبر عمليّة من الأدلجة والتّشكيل، الأمر الذي يُفضي في النّهاية إلى شيئ لا علاقة له بإنسانيّة هذه الثّقافة نفسها وبذلك ينسفها. بهذا لا يكون المركز مرتبطاً بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، وما تصويره على أنّه كذلك إلاّ مجرّد خدعة. فالمركز مركز سلطوي، صفوي يحتكر السّلطة والثّروة، وفي سبيل تأمين مصالحه يسخّر الثّقافة والعرق والدّين والجغرافيا. بهذا تُصبح هناك طريقٌ واضحة للطّامحين للسّلطة إذا ركبوها وصلوا إليها: الأسلمة والاستعراب، أي تبنّي الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. وهكذا تكوّن المركز من صفوة متباينة الأمشاج والأعراق والثّقافات، متلاقية في الأهداف المتمثّلة في الثّروة والسّلطة. هنا لا يهمّ من أيّ مجموعة ثقافيّة أو عرقيّة ترجع أصول المرء، طالما كان مستعدّاً للتّضحية بأهله تحت شعار الإسلام أو العروبة، وكلاهما بريئ من ذلك. وفي الواقع فإنّ أغلب الرّموز القياديّة التي قام عليها المركز من أبناء المجموعات الموغلة في التّهميش إلى حدّ التّعريض بها ثقافيّاً وعرقيّاً. هذا هو المركز الذي يسيطر على مؤسّسة الدّولة في السّودان، مهمّشاً في ذلك جميع السّودانيّين. هكذا تكوّن المركز من أمشاج إثنيّة منبتّة عن أصولها، وهو مركز غير وطني بالمرّة ولا همّ له غير أن يحوز على السّلطة والثّروة. وهو مركز على استعداد لأن يبيع السّودان بالقطّاعي وبالجملة طالما كان ذلك سيُؤمّن له احتياز السّلطة والثّروة.
وما هو الهامش؟
توالى قولنا في الكثير من البحوث بأنّ الهامش ليس في جهة جغرافيّة بعينها (شمالاً كانت أو جنوباً، شرقاً أو غرباً أو وسطاً) دون غيرها، بل هو في كلّ مكان، ومن يغالط في هذا عليه أن يخرج مما يسمّى بالمناطق الحضرية عدّة كيلومترات فقط ليرى التّهميش بأم عينه. كما لا يصبح الهامش وقفاً على مجموعات إثنيّة بعينها دون أخرى. وهذا هو مناط القول بأنّ الهامش ليس جغرافيّاً كما ليس عرقيّاً، بل هو هامش سلطوي أيضاً.
ولكن ينظر الكثير من المثقّفين إلى الهامش باعتباره المنطقة الجغرافيّة الواقعة في أقصى الغرب والشّرق والجنوب بخلاف وسط السّودان وشماله الوسيط، كما يربطون فهمهم هذا بالمجموعات المستعربة التي تعيش بهذه المنطقة ثمّ بالنوبيّين في أقصى الشّمال. ولكنّا نرى أنّ هذا الفهم يتقاصر عن الإحاطة بظاهرة التّمركز والتّهميش وارتباطها بعمليّة تداول السّلطة. أكثر من ذلك فإنّ هؤلاء النّاس يقعون في شركٍ نصبه لهم المركز الذي يريد أن يصوّر الأمور وكأنّها تجري هذا المجرى. ذلك لأنّ ابتناء رؤية كهذه من شأنه أن يجيّر أبناء هذه المناطق ـ والتي هي أيضاً مهمّشة ـ لمصلحة المركز، وهو تجيير قد حدث فعلاً واستمرّ ولا يزال يستمرّ. كما لا ينفي هذا بأيّ حال من الأحوال الامتيازات المادّيّة النّسبيّة ثم الأيديولوجيّة الوهميّة التي أضفاها المركز على أبناء هذه المناطق من حيث إيهامهم بأنّهم عرق متفوّق ذو ثقافة متميّزة، فضلاً عن إيهامهم بأنّهم هم سادة البلاد الأصليّون مقابل مجموعات ثقافيّة أخري منها ما هو وافد ومنها ما هو أقلّ شأناً لا يعبأ الله بهم ـ حسب زعم المركز. كما ينهض فهمنا على أن أصول التهميش ترجع إلى قرون وليست عدة عقود كما يرى البعض. كما يذهب فهمنا إلى أن عمليات التمركز والتهميش ليست مرتبطة بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، وما تصويرها على أنها كذلك إلا مجرد خدعة.

التّهميش تنموي وثقافي
يجري التّهميش على نوعين: بسيط ومركّب. التّهميش البسيط ذلك الذي ينحصر في الحرمان التّنموي والاقتصادي. في هذا يتساوى جميع السّودانيّين بمختلف ثقافاتهم وأقاليمهم باستثناء صفوةٍ منهم يشكّلون المركز وينتمون إليه. أمّا التّهميش المركّب، فذلك الذي يجمع بين الحرمان التّنموي والحرمان الثّقافي ممثّلاً في توجّهات الدّولة الأيديولوجيّة لإعلاء ثقافة بعينها على حساب ثقافات أخرى بما يندرج تبعاً لذلك من حرمان تنموي ومادّي. وتكشف النّظرة الأوليّة لواقعنا المعاش بوضوح انحياز الدّولة للثّقافة العربيّة إزراءً وتحقيراً للثّقافات غير العربيّة بالسّودان، أي الثّقافات الأفريقيّة. في هذا كان التّهميش الثقافي مدخلاً للتّهميش التّنموي، إذ جعلت مؤسّسة الدّولة الاستعراب مقابلاً للأفرقة، ومن ثمّ قامت بإعلاء الهويّة العربيّة وإزراء الهويّة الأفريقيّة. وقد كان من أثر هذه التّكتيكات الأيديولوجيّة أن وجدت المجموعات الأفريقيّة (التي تعاني من التّهميش المزدوج تنمويّاً وثقافيّاً) نفسها في الدّرك الأسفل عرقيّاً، وثقافيّاً، واجتماعيّاً وسياسيّاً حسب درجات تهميش كلّ واحدة منها على حدة وجماعاتٍ، الأمر الذي يستوجب منها عملاً موحّداً، ولو تفاوتت درجات تهميشهم وتعرّضهم للاضطهاد. لكنّنا نرتكب جريرة التّسطيح الفكري إذا ما قفزنا من هذه المقدّمة (انحياز الدّولة الظّاهر للثّقافة العربيّة على حساب الثّقافات الأفريقيّة) إلى استنتاج أنّ الدّولة بذلك تنحاز لحملة الثّقافة العربيّة. فحلقة التّهميش الثّقافي والتّنموي الموجّهة ضد الثّقافات الأفريقيّة إذا ما اكتملت، ستكشف عن أنّ الأمر قد انتهى بحملة الثّقافة العربيّة إلى نفس المصير، ألا وهو التّهميش المزدوج؛ ذلك لأنّ آليّات التّمركز والتّهميش في مآلاتها النّهائيّة تعمل على تهميش الشّعب السّوداني في مجمله ـ عرباً وأفارقة، عرقاً وثقافةً ـ بالنسبة إلى المركز العربي الكبير (العرب العاربة).
فنظرة متفحّصة للفضائيّات والبرامج التّلفزيونيّة التي يشاهدها عموم السّودانيّين وبالأخصّ من ينتمي للثّقافة العربيّة تكشف عمّا نقصده بالتّهميش المزدوج الذي يحيق بالمجموعات ذات الثّقافة العربيّة. فمن يُعدّ ويخطّط ويُخرج برامج محطّة تلفزيونيّة بعينها يفعل ذلك بالنّظر إلى الجمهور المستهدف استقراءً لما يريد. لكن الذين يُعدّون برامج هذه الفضائيّات ربّما لا يدور في مؤخّرة ذهنهم شيئ اسمه "الشعب السّوداني". ولنا أن نلاحظ اقتفاء الفضائيّة السّودانيّة لخطوات القنوات العربيّة بأسلوب وقع الحافر على الحافر، حتّى دون أن تنجح في ذلك. ومثال آخر نُشير إلى التّعليم العالي الذي كان يميّز السّودانيّين في الماضي القريب بالمقارنة إلى العرب ضمن العديد من الامتيازات الأخرى. الآن ها نحن ننتظر من الدّول العربيّة أن تتكرّم بمدّنا بالكتب المترجمة إلى العربيّة فضلاً عن التّكرّم بابتعاث الأساتذة للتّدريس في جامعاتنا. هذا دون أن نشير إلى مسألة تغيير العلم حتّى يُشابه أعلام الدول العربيّة بدرجة تجعل من الصّعب تفريقها في بعض الأحيان؛ ثمّ تعديل فرق الزّمن بيننا وبين توقيت قرينيتش لا على أساس البعد الجغرافي شرقاً أو غرباً عن خطّ التّقسيم بل اتّباعاً غير رشيدٍ للتّوقيت في الجزيرة العربية، فتصوّروا! ومثل هذه الأشياء بدرجة عالية من الخطورة لأنّها تمسّ الشّعب في مرموزاته. لكلّ هذا يأتي قولنا بأنّ التّهميش المزدوج (ثقافي وتنموي) يحيق بكل فئات الشّعب السّوداني، من استعرب منها ومن تأفرق، وما ابتدار المركز باستهداف المجموعات الأفريقية إلاّ مجرّد تكتيك باعتبار ذلك مرحلة أولى ستعقبها حتماً المرحلة الثّانية ألا وهي استهداف المجموعات العربية بالسّودان بتهميشها هي نفسها وذلك بجعلهم عرباً من الدرجة الثانية إن لم تكن الثالثة. وضع كهذا يقتضي من القطاعات الذّكيّة لهذه المجموعات أن تستشفّ حُجُبَ المستقبل القريب فتعمل علي تلافي الكارثة. وتبدأ مثل هذه الخطوة الذّكية بالانخراط في صفوف القوى المهمّشة التي تناضل لتفكيك ماكينة التّمركز والتّهميش ليس من منطلق النضال بالوكالة تعاطفاً وإنسانيّةً مع المجموعات الأفريقية في مآسيها ومحنها، بل من منطلق النضال بالأصالة إنقاذاً لذاتها ضمن نضال قوى السّودان الجديد لإنقاذ الإنسان السّوداني من الذّل والهوان والتّبعية ومن ثمّ تحقيق دولة السّودان الجديد وصنع الاستقلال الحقيقي.

تعدّدت الأشكال والتّهميش واحد
تشتكي كل المجموعات المهمّشة من قلة حظّها في السّلطة وانعدام نصيبها في الثّروة. ولكن في الأمر لبساً لا بدّ من إجلائه. فإحالة المتنفّذين في أجهزة الدّولة والسّلطة الحاكمة إلى خلفيّاتهم الثّقافية والإثنيّة من حيث قيمتهم العدديّة وليس الأيديولوجيّة، لا ينبغي الأخذ به كمؤشّر ودليل على النّسبة التي حازتها المجموعة من حيث السّلطة والثّروة. فالمركز يجتذب إليه العديد من أبناء المجموعات المهمّشة والتي نالت حظّاً وفيراً أو متوسّطاً من العلم كيما يصبحوا جزءاً منه، مقابل أن يُمنحوا السّلطة والثّروة تعميةً لواقع حرمان أهلهم من كليهما. فعلى سبيل المثال لم تخلُ حكومة منذ الاستقلال وحتى الآن من المثقّفين الجنوبيّين، في الوقت الذي لا يغالط فيه إثنان أنّ نصيب الجنوب من السّلطة والثّروة لم يتغيّر البتّة عبر كلّ هذه السّنين. فحتّى انقلاب الإنقاذ نفسه في عام 1989م شارك فيه ثلاثةٌ منهم.
مثال آخر يوضّح المسألة ما عليه إقليم النّوبيّين في الشّمال وإقليم أهلنا البجا في الشّرق؛ فكلاهما يعاني من التّهميش المزدوج. فبينما قبع البجا بأرضهم، اضطُّرّ النّوبيّون إلى هجرة بلادهم إلى درجة خلوّ الإقليم في بعض قراه من السّكان. وكلا المجموعتين مهدّدتان في تراثهما وهويّتهما من حيث احتمال زوال لغتيهما، إضافةً إلى فقر إقليميهما. من جانب آخر، إذا أحصينا عدد النّوبيّين الذين شاركوا في الحكومات منذ الاستقلال وحتى اليوم، مقارنةً مع ما عليه حال البجا، ستعكس الصّورة مفارقة ضخمة في ظاهرها، واحدة في جوهرها. إذ قلّما نجد نظام حكمٍ لم يشارك فيه وبصورة أساسيّة أشخاص يعودون في جذورهم العرقيّة و/أو الثّقافيّة إلى النوبيّين، فضلاً عن بعض رؤوس الحكومات مثل عبدالله خليل والنّميري والصّادق المهدي والزّبير، ناهيك عن الوزراء الذين ربما لا حصر لهم، الظّاهر منهم والخافي. بخصوص البجا، قد لا يتجاوز العدد أصابع اليد الواحدة، والمتّفق عليه بينهم عامةً عدد ستّة أو سبعة وزراء منذ الاستقلال وحتّى اليوم.
لكن يبقى السؤال: بماذا انتفع النّوبيّون من كثرة عدد الوزراء والرّؤساء ممّن يعودون في خلفيّاتهم العرقيّة والثّقافيّة إليهم؟ هل قامت تنمية في بلاد النّوبة؟ الإجابة لا! فقد حازت تلك الصّفوة النّوبيّة كلا السّلطة والثّروة، فهل تقاسمتها مع عامّة الشّعب النّوبي؟ الإجابة لا أيضاً! من الملاحظ أنّ تلك الصّفوة فيما تنزّلت من أجيال تنشّأتها وربّتها، قد ابتعدت عن أهلها ثقافةً وموطناً، إذ استعربت وتأسلمت تماماً، فلا أبناؤهم يتكلّمون النّوبيّة ولا هم يعرفون في غالبيّتهم شيئاً عن بلادهم وعن التّهميش المزري الذي ترزح تحته. هذه الصّفوة كما لو كانت قد باعت أهلها وبلادها من أجل السّلطة والثّروة. فليت الأمر وقف عند ذلك، فقد وجد النّوبيّون المهمّشون أنفسهم في موقع الدّفاع عن أنفسهم باعتبار أنّهم جزء من المركز الذي احتكر السّلطة والثّروة، لا لشيئ إلاّ لأنّ بعضاً من أبنائهم الذين صرفوا عليهم من عرقهم ودمائهم قد حازوا على الثّروة والسّلطة فانكفأوا بها على أنفسهم. فما أفاد منه النّوبيّون من ذلك العدد الضّخم من الرّؤساء والوزراء يساوي ما أفاد منه البجا من ذلك العدد القليل من الوزراء، وهو لا شيئ. ولو انعكست الآية، لما تغيّر حال كليهما تهميشاً تنمويّاً وثقافيّاً.
في هذا نقول إنّ التّعليم نفسه قد تمّت قولبته وتشكيله ليخدم أيديولوجيا الهيمنة والقهر التّنمويّة والثّقافيّة. ويشهد واقع النّوبيّين اليوم ـ على سبيل المثال ـ بهذا؛ فهم من أكثر المجموعات نيلاً للتّعليم وفق هذه القولبة الجائرة؛ كما هم الآن، بفضل هذا، من أكثر المجموعات تعرّضاً للاندثار كمجموعة أفريقيّة لها لغتها وثقافتها وموطنها الجغرافي [راجع في ذلك: محمّد جلال هاشم، رسالة كجبار. تحت الطّبع].
إذن المحتكم في هذه المسألة أنّ من تسلّم السّلطة ينبغي محاسبتهم على ضوء البرامج الأيديولوجيّة التي بمقتضاها فعلوا ذلك، لا بمقتضى خلفيّاتهم الإثنيّة التي لا دخل لها فيما جرى. فحتّى الآن لم يتسلّم أيٌّ من أبناء البجا أو المناصير أو جبال النّوبة أو النّوبيّين (أو أيّ مجموعة أخرى) موقعاً سلطويّاً باسم المجموعات التي يصدرون منها باعتبار أنّ ذلك الموقع يمثل جزءاً من قسمة السّلطة والثّروة الخاصّة بالمجموعة. فمثلاً إذا استلم السلطة شخصٌ من الفور باعتباره عضواً في الجبهة الإسلامية انطلاقاً من أيديولوجيا تمكين الدّين وإعلاء راية الجهاد، ثمّ أثرى بعد ذلك عن فسادٍ زاخم، فضلاً عن بعض عمليّات تقتيلٍ وإبادة هنا وهناك، في الجنوب والإنقسنا إلخ، فكيف بالله نحمّل أهلنا في دارفور مسئوليّة هذا المارق؟ لكن، تُرى هل سننتظر كلّ هذه السنين حتّى تكتشف القوى السياسيّة ما يحيق بالنّوبيّين وباقي المجموعات المهمّشة كالمناصير والرّباطاب وغيرهم من عرب السّودان، ثم بالسّودان أجمع؟ أوليس من المؤسف أنّ الإقرار بأنّ مجموعةً ما تقع داخل دائرة التّهميش لا يتحقق إلاّ بعد أن تُسفك دماء الأبرياء من المجموعة، والذين غالباً ما يكونون من الأطفال والنساء والشّباب اليانع؟

الكتاب الأسود والرّؤية المقلوبة
وقع الكثير من المثقّفين السّودانيّين في شرك النّظر إلى التّهميش من زاويته الرّقميّة غير المنهجيّة، فأضاعوا جهدهم وجهد غيرهم فيما لا طائل من ورائه غير تغبيش الرّؤية. وقد توّجت هذه الرؤية الرقميّة السّطحيّة للتّهميش فيما عُرف باسم الكتاب الأسود [حركة العدل والمساواة، 2003]، وذلك في سبيل نصرة قضيّة دارفور، وهي رؤية قد تضرّ بمسيرة نضال القوى المهمّشة، ذلك لأنّها تشوّه الواقع أكثر مما تعكسه. وبدءاً نشير إلى أنّ الكتاب قد انبنى على منهجيةٍ فضائحيّة، متحاملة لونيّاً وعرقيّاً، في تناوله للتّهميش من حيث ارتباط مسمّاه بمعرّة السّواد. وفي هذا كشف كُتّابُه، في أحسن الاحتمالات، عن تبعيةٍ غير نقدية وغير راشدة لأيديولوجيا المركز التي تحطّ من قدر كل ما هو أسود في بلد السّود الذي اسمه السّودان. فهذه الأخلاقية الفاشيّة التي تُزري باللون الأسود قد تُتّخذ بيّنةً تكشف عن أنّ الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة تمثّل الخلفيّة الأيديولوجيّة التي قدم منها حاكةُ الكتاب. كما يمكن للكثيرين أن يشيروا، لتبيان وجهٍ من أوجه الخطل التي انبنى عليها الكتاب، إلى أنّ أبناء دارفور الذين انخرطوا في سلك الجبهة الإسلاميّة المسئولة الأولى عن هذا النّظام وعن سياسات التّطهير العرقي التي يُتّهم بها في دارفور وقبلها في جبال النّوبة والإنقسنا والجنوب، ربّما كانوا أكثر عشرات وعشرات المرّات من أبناء المناصير أو البجا أو النّوبيّين. فهل معنى ذلك أن نحمّل هذه الكوادر مسئوليّة الإبادة التي لحقت بأهلهم في دارفور؟ فسياسات التّطهير العرقي القائمة على العنصريّة من حيث العروبة والأفرقة، يجوز القول فيها إنّها متجذّرة في بنية مؤسّسة الدّولة منذ قيام سلطنة سنّار عندما استندت في مشروعيّتها الفكريّة على الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. وقد انطوت تلك الأيديولوجيا على منزلق سلوكي خطير، به أصبحت الدّولة تتحدّر انزلاقاً يوماً بعد يوم. وفي هذا نشير إلى حقيقة أنّ التّطهير العرقي بدأ في دارفور بمذبحة الضّعين عام 1987م في ظل حكم الصّادق المهدي، أي في الدّيموقراطية الثّالثة [محمد جلال هاشم، 2005]. واليوم لو كان أبناء دارفور ممّن بدّد سني شبابهم وكهولتهم في تبعيّةٍ عمياء لدولة الجبهة الإسلاميّة، على سُدّة الحكم لما أجدى ذلك أهلهم فتيلا من حيث إمكانيّة تلافي التّطهير العرقي، ذلك لأنّ هذا المنزلق، دون إعفاء الأفراد القائمين به من المسئوليّة، متأصّل في بنية مؤسّسة الدّولة. ولعلّنا لا ننسى أنّ مذبحة المساليت عام 1995م، والتي بدأت بها فعلياً موجة التّطهير الأخيرة في ولاية غرب دارفور، قد تمّت والوالي أحد أبناء المساليت. ومع ذلك ما انتفع المساليت من ذلك شيئاً.

هل الشّايقيّة يحكمون البلاد؟
لعلّ مثل هذا النهج الجائر هو الذي انتهى بالعديد من القطاعات المتعلّمة، أي القطاعات المثقّفة، إلى إحالة مسئولية التهميش إلى مجموعات ثقافيّة بعينها، وتحديداً إلى مجموعة الشّايقية. وفي حالات أخرى قد تُضاف إليها مجموعة الدّناقلة، وفي حالات أخرى قد يُضاف جميع النّوبيّين. في هذا الخصوص يتساءل فيصل محمّد صالح [جريدة الصّحافة، العدد 5114، 9 سبتمبر 2007]: " لماذا يرد بكثرة في خطاب الحركات [أي حركات الهامش] إشارة للشّمال مرة، وللشّايقيّة والجعليّين، على العموم، وللثّقافة العربيّة الإسلاميّة باعتبارها مسؤولة عن التّهميش والاستعلاء ... إلخ؟".
ومع أنّ ضلوع الصّفوة من أبناء هذه المجموعات في بنية المركز قديم، ومحكوم بعوامل بناء الصّفوة في السّودان، فضلاً عن الامتيازات التّنمويّة النّسبيّة التي حُظيت بها أقاليم وسط السّودان، إلاّ أنّ ما كرّس هذا الفهم ربّما يعود إلى أنّ النّاس ارتأوا أنّ أبناء هذه المجموعة، أو المجموعات، ممّن انخرط في سلك الحركة الإسلاميّة التي دبّرت انقلاب الإنقاذ، جرّاء الاستقطابات النّاشبة فيها، قد وحّدوا صفوفهم باعتبار أنّهم شايقيّة أو دناقلة أو خلافه. فهذا التّكتّل ما هو في الواقع إلاّ من تجلّيات صراع السّلطة وأدوائها التّنظيميّة داخل جسم حركتهم السّياسيّة، ولا علاقة له بالمجموعات الثّقافيّة التي صدر منها أعضاء الحركة. وهكذا يمكن أن يؤدّي غياب الرؤية النّاهجة إلى الاعتقاد بأنّ المجموعتين الثّقافيّتين في مجملهما مسئولتان عمّا حاق بباقي أعضاء التّنظيم الإسلامي من تجريدٍ للسّلطة ووخيم عاقبةٍ بين عصابة السُّرّاق. وللمسألة دفوعات أخرى، بالرّغم من قوّة الدّفع بأنّه لا يفيدهم في هذا القول بأنّ عصابة المتآمرين ممّن ينتمون فعلاً إلى الدّناقلة أو الشّايقيّة قد شرعوا في توسيع أحلافهم من ذوي القربى تسلّطاً وإثراءً؛ فذلك لأنّ هذا ما استنّته حركتهم بنفسها عندما جعلت من المحسوبيّة، عن قرابةٍ كانت أم عن أيديولوجيا، سياسةً معترفاً بها من الدّولة. بالرّغم من قوّة مثل هذه الدّفوعات، تبقي حقيقتان؛ الأولى أنّ النّزوع نحو هذا التّكتّل عادةً ما يحدث في الواقع للاحتماء بالمجموعة الثّقافيّة، من قبل عددٍ قليل من صفوة المجموعة التي تهتّكت عنها أسمالها الفكريّة ليتبدّى عريُها الأيديولوجي؛ الحقيقة الثّانية تكمن في أنّ المجموعة الثّقافيّة بريئة تماماً من هذه الفعلة النّكراء التي تتظاهر فيه الصّفوة أنّها تقوم به من أجلها. وفي الحقيقة ذهاب البعض إلى تحميل المجموعة الثّقافيّة مسئوليّة ما تقوم به بعض العناصر الانتهازيّة من صفوتها ليس إلاّ وقوعاً في شرك نصبه المركز.
في يوم 22/11/2000م أدلى السّيد خليل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، بتصريحات لقناة الجزيرة الإخباريّة (برنامج لقاء اليوم) www.aljzeera.net/channel/aspx أحال فيها طغمة المركز إلى مجموعة من أهل الشّماليّة وذلك في قوله بأنّ البلاد: "... تعيش حالة استعمار داخلي منذ عام 1956 السّودان وقع بعد أن خرج من الاستعمار الخارجي وقع تحت استعمار داخلي من قبل مجموعة صغيرة جدّاً من الإقليم الشمالي، الآن المواطن السّوداني في هذا القرن الواحد والعشرين يعيش في ظلام دامس ما فيش كهرباء في هذه الأقاليم في الأرياف نهائي في السّودان". نظر الكثير من المتابعين إلى تصريحاته تلك بأنّها تنطوي على فهم مغلوط لمسألة التّمركز والتّهميش، وذلك لمحاولة حصرها في إقليم بعينه. فصفوة المركز وإن كانت عامرة بأبناء شمال ووسط السّودان، إلاّ أنّ هذا محكوم بعوامل نموّ هذه الطّبقة في كلّ إقليم. فما حدث لصفوة أبناء الشّماليّة يمكن أن يحيق بصفوة أبناء الأقاليم الأخرى، إن لم يكن قد حاق بالفعل. وقد لا يحتاج الواحد منّا إلى الإشارة بأنّ معظم الرّيف السّوداني أينما كان، في الشّرق، الغرب، الجنوب، الشّمال أو الوسط، يعيش في ظلام دامس. بعد ذلك قام رئيس حركة العدل والمساواة بتسمية هذه المجموعة التي تتحكم في مقاليد البلاد مدّعيةً أنّها من العرب والعربُ منها براء: "... ولكن هذه المجموعة مجموعة من المجموعة النوبية ...". وربّما يقصد بقوله هذا إنّ المجموعات العربيّة بشمال السّودان ما هي إلاّ نوبيّون استعربوا؛ ولكن لنتمعّن، بالرّغم من جواز مثل هذا القول، كيف تشتّت كلامه وتطايرت دلالاته. وقد واصل رئيس حركة العدل والمساواة كلامه قائلاً: "... حقيقة العرب الأُصال [الأصلاء] الآن خارج دائرة الحكم وخارج دائرة الثّروة، العرب الأُصال [الأصلاء] الآن ينزحون [يرزحون] تحت الاستعمار في كل الأقاليم الآن العرب الأُصال [الأصلاء] الآن على ظهور الجمل وعلى ظهور الثيران مع البهائم رحلة الشّتاء والصّيف ليس لهم ماء ليس لهم تعليم ليس لهم صحة ...". وبالطّبع يصبح من الصّعب لمن يقول مثل هذا الكلام أن يقف عند هذا الحدّ، فإذا برئيس حركة كريمة تناضل من أجل تحقيق العدل والمساواة يقول عن العرب باكياً مستعطفاً إنهم: "... الآن هم يقودون ثورة وهم يجلسون أمامك [مشيراً إلى نفسه] العرب الأُصال [الأصلاء] في دارفور ضد هذه الحكومة ولكن العجيب العالم العربي لا يتقصى الحقائق ولا يقترب من الحقائق بس الحكومة هذه استطاعت أن تغشّ العالم العربي يا لا العجب ...".
فالسّيّد خليل إبراهيم كأنّما يقول هنا بأنّ الذين يُقتلون في دارفور من العرب الأُصلاء، بينما الحكومة التي يسيطر عليها النوبيون الذين ليسوا عرباً هي التي أتت بالعرب الجنجويد لقتل الأبرياء بدارفور من العرب الأُصلاء. ولا يأتي استشهادنا هذا تجريماً لحركة العدل والمساواة أو حتّى لرئيسها الذي يجد كلّ الاحترام والتّوقير الواجب؛ فكلّ الذي قصدناه من هذا أن نبيّن خسران المنهج العرقي في مقاربة موضوع التّمركز والتّهميش؛ فمن المؤكّد أنّ سهام قوى الهامش ستطيش إذا ما ركنت هذه القوى في رؤيتها على المنظور العرقي لمسألة التّهميش.
أجدى من ذلك أن ننظر إلى التّهميش في بعديه التّنموي والثّقافي، فإذا وقعنا عليه ما التفتنا إلى كم عدد المثقّفين من ذلك الإقليم المهمّش ممّن ارتضى أن يبيع أهله طمعاً في السّلطة وبدرةٍ من مال السُّحت. بعد هذا يمكننا أن ننظر إلى الواقع المعاش من حيث التّمتّع النّسبي بالسّلطة والثّروة الذي فازت به بعض الأقاليم على حساب البعض الآخر، خاصةّ النّيليّة منها، إمّا لقربها الجغرافي من مركز السّلطة والثّروة، أو لزيادة حصّتها من التّعليم الأولي فما فوق منذ عهد الاستعمار التّركي المصري، أو لمحاباةٍ من المركز في سعيه الدّائم لتحييد بعض قطاعات الشعب ذات السّكون الأيديولوجي الإسلاموعروبي وتحويل ذلك السّكون إلى تواطؤ، ريثما يتمكّن المركز من تدجين القطاعات الأخرى جامحة الأفرقة لغةً وثقافةً.

ولكن ماذا عن المواضعة العرقيّة للتّمركز والتّهميش؟
نعني بالمواضعة هنا عندما يبدو، أو يكون بالفعل في حالات بعينها، خطاب السّودان الجديد الذي يناضل للقضاء على ظاهرة التّمركز والتّهميش، كما لو تحوّل إلى وضعيّة أيديولوجيّة ملتبسة بالعرقيّة والعنصريّة. أي بدلاً من السّعي والعمل بنبل للتّخلّص من ربقة التّسلّط الأيديولوجي الذي يُمارس باسم العروبة والإسلام، فإذا به يسعى للتّخلّص من العروبة والإسلام في منحى عنصري وفاشيستي بغيض. أو في صورة أخرى أن يحصر مفهوم المركز والهامش في أبعاده الجغرافيّة؛ أو جميع ما ذكرناه أعلاه. بهذا الخصوص، أيضاً، نعى فيصل محمّد صالح [جريدة الصّحافة، العدد 5109، 2 سبتمبر 2007] على الحركة الشّعبيّة تنكّبها للأسس والفكريّة والأخلاقيّة لنظريّة المركز والهامش التي لا تحصره في الجغرافيا أو العرق، وهي الأسس التي لا يني قادة الحركة الكبار عن الإعلان بأنّها نفس المبادئ التي ينطلقون منها، هذا بينما ينحون في لحظات التّعبئة الجماهيريّة إلى إزكاء نار الجهويّة والعرقيّة بإحالة المركز والهامش إلى وضعيّات جغرافيّة وعرقيّة. ويخلص إلى أنّ هناك مفارقة كبيرة لا ينبغي السّكوت عليها بين النّظريّة والتّطبيق.
وفي الحقيقة لا يمكن إنكار أنّ هناك مواضعة من هذا القبيل، ليس على مستوى الممارسة فحسب، بل حتّى على مستوى التّنظير. فالمواضعة العرقيّة والجغرافيّة لازمت مفهوم التّمركز والتّهميش في الكثير من مراحل تطوّره. فحتّى عند جلال هاشم (منهج التّحليل الثّقافي، ط 4، 1999]، يمكن ملاحظة تعلّق مفهوم المركز والهامش بأهداب الجغرافيا والعرق. وربّما مردّ ذلك إلى أنّ مفهوم المركز والهامش ظلّ في حالة تخلّق مستمرّ، ترفد فيه الممارسة العمليّة بأكبر وأسرع ممّا ترفد به النّظريّة؛ ولعلّ هذا هو نفسه العامل الحاسم الذي جعل المشتغلين بأمر هذه النّظريّة أقرب إلى منتجي وممارسي النّضال اليومي لمناهضة التّمركز والتّهميش، ليس على المستوى النّفسي والمزاجي فحسب، بل على مستوى المشاركة في العديد من أوجه الممارسة ذات الطّابع التّنظيمي، أكان ذلك بين صفوف الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، أم قوّات التّحالف السّودانيّة، أم حركة تحرير السّودان. فالعناصر الشّبابيّة النّشطة في مدرسة المركز والهامش عادةً ما كان ينتهي بها المطاف كعناصر قياديّة في هذه الحركات. والملاحظ أنّ أغلب المكاتب التّنظيميّة التي وقع عليها عبء تجويد الأداء الفكري في هذه الحركات والتّأهيل المعنوي والتّعبئة الجماهيريّة كان عليها شباب نشطاء من مدرسة المركز والهامش. بهذا يمكن أن يُقال بأنّ مفهوم المركز والهامش تطوّر اعتمالاً Praxis أكثر منه تأمّلاً ونظراً. في هذه المسيرة، التبس المفهوم في بداياته بالعرقيّة والجغرافيا في مُواضَعَة لا تخفى، وهي المُواضعة التي يبدو كأنّما قد تحرّر منها الآن تماماً على المستوى النّظري. ولكن، أكثر من ذلك تُشير دالّة التّطوّر إلى أنّ تيّار التّكامل والتّحمّل يتزايد كلّ يوم مقابل انحسار تيّار التّحامل العنصري والثّقافي، ذلك لأنّ المسألة في الواقع عبارة عن عمليّة Process، وليست مجرّد خطوات ميكانيكيّة واجبة الاتّباع.
ولكن هذا لا يعني بأيّ حال من الأحوال النّظر إلى ردّ الفعل النّاجم عن السّلوك الاستعلائي بوصفه استعلاءً متوازياً. فالمواضعة العرقيّة التي نتكلّم عنها هنا ليست إلاّ مُنتَجاً ضمن منتوجات ظاهرة التّمركز والتّهميش، واستخدامها للعنصريّة والعرقيّة كأسلحة أيديولوجيّة فتّاكة. نعم، لازمت العرقيّة والعنصريّة البشريّة عبر التّاريخ، ولا يصحّ إحالة شرورها وحصرها في التّمركز والتّهميش. فحتّى في قمّة عداء السّاميّة في الغرب، كان اليهود ينظرون إلى الأوربّيّين نظرةً دونيّة وهم يرزحون تحت نير عدائهم لهم بوصفهم ساميّين. ولكن هذا لم يؤخذ، ولا ينبغي أن يؤخذ، كسلوك موازٍ لعداء السّاميّة به يتمّ تبرير الأخير ولو بصورة جزئيّة مواربة. ولعلّ ممّا لا يختلف فيه إثنان من ذوي النّظر السّليم أنّ المركز استخدم التّمييز العرقي كواحد من أنجع الأسلحة التي برّر بها السّلوك الاستعلائي الذي على أساسه جرى تقسيم النّاس في السّودان، وربّما في العديد من الدّول العربيّة، إلى تراتبيّة عرقيّة أدناها معرّة Stigma وأعلاها مغرّة Prestigma [راجع: جلال هاشم، أن يكون أو لا يكون (بالإنكليزيّة)]. بهذا أصبحت لدينا شجرةُ مجتمعٍ جذرُها وجذعُها العبيد؛ ومع ذلك، بدلاً من أن يكون لها طلعٌ كطلع الشّياطين، لها على العكس طلعٌ يُقال لهم "الأشراف"، وبينهما مرحلة بين مرحلتين تتجاذب دنوّاً وعلوّاً، فكان أن تقاسمت الأخيرة إرث الحضارة الإسلاميّة أمويّين وعباسيّين، فلا صاروا بذلك أفارقةً سوداً، ولا أصبحوا عرباً عاربة، فكأن خسروا بأكثر ممّا كسبوا، أو كما قال القائل: فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا [لمزيد من التّفصيل، أنظر: الباقر العفيف، 2002]. ثمّ بلغت المأساة قمّتها في دارفور عندما شرع الأفارقةُ السّود ممّن تلبّستهم لوثةُ عروبة الجنجويد في قتل الأفارقة السّود وإفراغ المنطقة منهم، بزعم أنّ الأرض التي وسعتهم بمدى التّاريخ لم تعد قادرة على أن تسع السّادة والعبيد معاً، فتصوّروا!
وقد تطرّقنا من قبل للعديد من مظاهر التّحامل والتّحامل المضاد، من ذلك مثلاً ما يتعلّق منها بالعلاقة بين النّوبيّين بشمال السّودان وبين إخوتهم بجبال النّوبة، أو بالحرازة بشمال كردفان، أو بشمال دارفور مثل الميدوب، أو بوسط دارفور كالبرقد. وناقشنا أشكال البجاح التي تشيع بين نوبيّي الشّمال والنّظرة الدّونيّة التي يوليها الكثيرون منهم لإخوتهم في الثّقافة واللغة والتّاريخ المشترك (راجع: جلال هاشم، 1997]. ولم يكن السّؤال الذي شغلنا ما إذا كان أهلنا في جبال النّوبة يكنّون للنّوبيّين في الشّمال الكراهيّة المشحونة بالحقد، بل إذا ما كان النّوبيّون في الشّمال قد وقعوا في حبائل المركز الأيديولوجيّة التي توهم سواد أهل وسط السّودان وشماله بأنّهم ليسوا سوداً بل قوم بيض من أرومةٍ شريفة، مقابل أناس آخرين كغُثاء السّيل لا يعبأ الله بهم لسواد لونهم ورسوخ أعراقهم في شرك العبوديّة لا لشيء إلاّ لسواد سحناتهم؟ وهل، على هذا، شرع نوبيّو الشّمال في إيلاء إخوتهم من أهل الجبال نظرة دونيّة، قافزين فوق حقائق التّاريخ التي تصرخ بالوشائج والصّلات؟ فحقيقة أنّ النّوبيّين بشمال السّودان يقعون داخل دائرة التّهميش لن تعفيهم من دفع فاتورة العنصريّة البغيضة هذي إذا ما رُصدت بينهم. وإذا ما وقف الواحد منّا بين جموع أهلنا بجبال النّوبة، وشرع في تعبئتهم لمواجهة التّمركز والتّهميش، ومن ثمّ طفح إلى السّطح خطاب التّحامل المضادّ إزاء نوبيّي الشّمال، أو أيّ مجموعة أخرى من لفيف المتحاملين، فآخر ما ينبغي المطالبة به أن يشنّ دعاة فكر المركز والهامش حرباً شعواء لكلّ صوت بينهم ملتبس بالعرقيّة أو حتّى بالجغرافيا في فهمه لطبيعة المركز والهامش.

الحركة الشّعبيّة والتّراوح بين خطابين: هل هناك تناقض؟
ما ذكرناه أعلاه ينطبق على الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، وإن كان بتعقيدات لا يصلح معها التّطفيف والابتسار. فالحركة الشّعبيّة، ومنذ لحظة تأسيسها، تراوحت بين خطابين يبدوان كما لو كانا متناقضين؛ الأوّل منهما ما نطلق عليه الخطاب الاجتماعي، وهو الذي يستفيد من حرايك الغبن وإمكانات إزكائه حتّى يتحوّل إلى حقد، ومن ثمّ توظيفه في التّعبئة والتّجييش. هذا الخطاب موجّه أساساً للقطاعات التي عانت من التّهميش وانتفاء التّنمية حتّى بلغت قاع المعاناة إلى درجة إلغاء الإنسانيّة De-humanization، أكان ذلك بإلصاق العبوديّة بها معرّةً اجتماعيّة، أو بالسّعي نظريّاً وعمليّاً للاسترقاق. أمّا الثّاني فما نسمّيه الخطاب الثّقافي، وهو الذي يقوم على مفاهيم التّكامل الثّقافي والتّحمّل بدلاً عن التّحامل. هذا الخطاب يبدو كما لو أنّه يُطرح لكسب باقي المجموعات المهمّشة وباقي قطاعات المجتمع السّوداني المستنيرة، والتي تصطدم أوّل ما تصطدم بالخطاب الاجتماعي في حال انضمامها لصفوف الجيش الشّعبي أو الحركة الشّعبيّة. ولكن الأمر ليس كذلك وإلاّ كان حيلةً من حيل الصّفوة؛ فالحركة الشّعبيّة طرحت هذا الخطاب بوصفه امتداداً أفقيّاً ورأسيّاً في مستقبل أشواقها لتحقيق التّكامل الوطني وتبريد نار الغبن والاستعلاء.
وفي الحقيقة النّظر إليه على أنّه يُطرح بغرض إيقاع المثقّفين ولتجميل صورة الحركة ربّما يعكس في نفسه بعض تكتيكات التّحايل التي ما فتئ المولى يبتلي بها الحركة الشّعبيّة. فتصوير التّراوح بين الخطابين على أنّه تناقض يطعن في مصداقيّة الحركة، من قبل بعض المثقّفين الذي صدروا من المجموعات التي تنتج ثقافة البجاح، ومن ثمّ محاصرتهم للحركة للإيقاع بها، يعكس المدى الذي يمكن أن يصل إليه المركز في التمترس الأيديولوجي. فهؤلاء في الواقع يُريدون من الحركة في حال تعبئتها لأفقر فقراء التّهميش من الذين أكلتهم نار العنصريّة الباردة، وفاح فيحُ غبنها في دواخلهم ـ يُريدون من الحركة الشّعبيّة أن تلعب لُعبة المسيح، فتباشرهم، وتبشرّهم بالخطاب الثّقافي لتغسل أوّلاً عنهم نار الغبن، ثمّ بعد ذلك تقوم بتجييشهم. وما درى القوم أنّه إذا كانت العنصريّة من أبغض ما اعتُمل في نفس الإنسان، فإنّ الغبن المتولّد عنها وتجلّيّاته كتحاملٍ مضاد من أنبل ما اعتُمل في نفس الإنسان. فهل نحتاج إلى التّذكير بأنّ مشروع السّودان الجديد الذي انبنى في أساسيّاته على الخطاب الثّقافي وصار أقرب إلى تعويذة جماهيريّة ـ هذا الخطاب استُخلص من قبل المجموعات التي حرقتها نار الغبن والتّحامل والعنصريّة، في عمليّة أشبه باستخراج "الشّربات" من "الفسيخ". وقد كان الثّمن ما يربو على الثّلاثة ملايين ماتوا على مذبح الغبن. ويجب ألاّ ننسى أنّ كلّ فردٍ [وأعتذر عن صيغة المذكّر وتحيّز اللغة النّوعي] من هؤلاء الضّحايا المجهولين قد ولدته أمٌّ، فأرضعته، فربّته، ثمّ على أقلّ تقدير سُفحت عليه دمعة أو دمعتين من عينٍ باكية. ولنا أن نتصوّر شلاّل الدّموع إذا ما قُدّر لنا أن نجمع الدّمعة والدّمعتين. ففي وضع كهذا لا يجوز لنا، نحن الذين ننتمي إلى مجموعات مهمّشة، نعم، لكنّها لم يصل بها تدهور الأوضاع إلى مرحلة اكتشاف تهميشها، ثمّ مع ذلك تنتمي إلى مجموعات ثقافة البجاح والعنصريّة ـ لا يحقّ لنا نحن أن نتوقّع من المجموعات المهمّشة التي أكلتها نار التّغابن أن تستخلص لنا خطاباً بخلاف الخطاب الاجتماعي الذي يُزكّي من نار الغبن النّبيلة ومن الحقد النّبيل. ولكنّ الدّنيا تعرف المعجزات! وإحدى أكبر هذه المعجزات كون الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان قد تجاوزت الخطاب الاجتماعي لتستخلص لنا الخطاب الثّقافي. وليس أدلّ على ذلك من أنّها رفعت شعار تحرير جميع السّودانيّين من ربقة السّودان القديم، وهو الأمر الذي سخر منه القوم أوّل أمرهم، إذ كيف يقوم العبد بتحرير سيّده! فكأنّما عامّة مثقّفي السّودان من قبيل الذين تحاموا الانخراط في صفوف الحركة الشّعبيّة لا لشئ إلاّ لتحاميهم عن أن يقودهم أهل الجنوب، قد جلسوا في كراسي الانتظار ريثما تُنهي الحركة الشّعبيّة المعركة بالانتصار، فيُقبلوا عليها لمحاجّاتها بالتّناقض الكامن بين الخطابين الاجتماعي والثّقافي، وما ذلك إلاّ لتذهب ريحُها، ولكن هيهات!
لكلّ هذا نرى أنّه لا يجوز اتّخاذ مثل حالات المواضعة هذه لتسجيل إدانة مجّانيّة للحركة الشّعبيّة وتجريدها من أهليّة الخطاب الثّقافي. وأهتبل هذه السّانحة فأسجّل نقداً ذاتيّاً، إذ جاء صكّي لمصطلحي "الخطاب الاجتماعي" و"الخطاب الثّقافي" في كتابي منهج التّحليل الثّقافي (الطّبعة الثّانية، 1988م)، في سياق نقدي للحركة الشّعبيّة، وإبراز تناقضاتها واحتمال أيلولتها للفشل في تحقيق تحريرها للسّودان.
وعلى أيٍّ، تبقى الحقيقة، وهي طالما كانت هناك مكامن عنصريّة في العديد من الكيانات التي لا تزال واقعة في شراك وحبايل المركز الأيديولوجيّة، يصبح من الصّعب الأقرب إلى المستحيل ألاّ تكون هناك مردودات مضادّة لها في الجانب الآخر. وعلى هذا يجوز النّظر إلى المواضعة العرقيّة بوصفها إحدى آليّات "تبريد" الغبن عن طريق ردّ التّحامل الممنهج (مثلما عليه الحال في الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة) بتحامل آخر مضاد، لكنّه غير ممنهج وذلك لكونه مجرّد ردّ فعل يجيء استناداً على المبدأ العدلي البسيط الذي يقول "العينُ بالعين، والسّنُّ بالسّنّ". وعلى هذا يكون من حقّ حركة التّغيير أن تستفيد في ترفيع فاعليّاتها التّعبويّة من بؤر الاستقطاب ذات المواضعات العرقيّة والجغرافيّة طالما كان ذلك يدفع بها للأمام تخلّصاً من شيطانها الأكبر ألا وهو المركز.
ولكن البعض يتساءل، مثلما تساءل فيصل محمّد صالح [مصدر سابق]، عمّا إذا كان في هذا أذىً لأولئك الذين انضمّوا إلى ركب المهمّشين، بالرّغم من أنّهم ينتمون إلى مجموعات جرى العرف عنها، وربّما تعريف النّفس للنّفس، على أنّها تنتمي لأرومة المركز المستعلية؟ هذا ما لا ينبغي أن يحدث إلاّ إذا كان انضمام هؤلاء النّاس لا يعدو كونه مجرّد خدعة القصد منها تدجين وتحييد حركات الهامش. فإذا كان الاستعلاء والتّحامل العنصري والعرقي والنّظر إلى باقي النّاس كما لو كانوا عبيداً يُباعون ويُشترَون في الأسواق ـ إذا كان هذا السّلوك يتّصف باللا إنسانيّة، فما هو أكثر لا إنسانيّةً منه مطالبة ضحايا هذا السّلوك بالعمل على ضبط النّفس وذلك حتّى لا تُجرح مشاعر بعض من صدروا في خلفيّاتهم الثّقافيّة والإثنيّة من ثقافة الاستعلاء. فهذا يُذكّرنا بقصّة الوالد الذي تكفّل بإحضار ابنه المضادّ احتماعيّاً Anti-social إلى ساحة العدالة التي هرب منها، وذلك أملاً في أنّ مثل هذا السّلوك من شأن تقدير الضّحايا له أن يُعلنوا عن عفوهم وصفحهم لابنه. ولكن عندما لم يحدث هذا، قفل عائداً لمنزله وصدره يعلو ويهبط من خيبة الأمل والغضب العارم، ليُعلنها عالية، مدويّة لأهله: "الجماعة طلعوا حاقدين". فمثل هذا لا يعدو كونه استهبالاً أيديولوجيّاً، كم خبره النّاس، وبالأخصّ "ناس" جنوب أفريقيا السّود إزاء جموع البيض الذين أعلنوا في لحظة تضعضع نظام الفصل العنصري عن انحيازهم لعامّة السّود ومناهضتهم لنظامهم العنصري، بينما كان ضمن الأهداف وراء ذلك الرّغبة في تجنيب عامة البيض من أن تشملهم معرّة الجناية ـ أي الجناية التي صدقاً، حقّأً قد لحقت بهم، ألا وهي معاملة السّود كما لو كانوا من غير البشر. وما يخشاه المرء في هذا الخصوص أنّ برنامج المصالحة الذي انبنى على المصارحة والحقيقة ربّما لم يجئ إلاّ حلاًّ وسطاً نتيجة قوّة البيض المؤسّسيّة إزاء ضعف السّود المؤسّسي. فإذا تدهورت الأوضاع في جنوب أفريقيا في المستقبل القريب أو البعيد باتّجاه الوضع في زيمبابوي، فقد يكون السّبب وراء ذلك أنّ المسألة كلّها كانت عبارة عن حلّ وسط لوضع استثنائي شاذ ومتطرّف لدرجة تجعله لا يقبل بالحلول الوسطى. ولهذا يجوز القول إنّه إذا كانت معاداة السّاميّة في أوربّا الغربيّة جرماً لا يقبل المسامحة، فإنّ العبوديّة والعنصريّة والفصل العنصري هي الجرم الذي لا يقبل المسامحة في أفريقيا، ولا يمكن أن تسعه في دنيانا مواعين الرّحمة الرّحيبة.

نعم الاعتذار واجب، لكن من يعتذر لمن وكيف؟
جرى في الآونة الأخيرة حديث كثير حول مسألة الاعتذار، بين من يدعو له بلا تحفّظ وآخر يدعو له بتحفّظ، ثمّ آخرين منهم من يدعو له بشروط من بينها الاعتذار المتبادل، وآخرين يرفضونه جملةً وتفصيلا، إمّا عن عنجهيّة واستخفاف بالموضوع ككلّ، أو عن سذاجة وطيبة تعكسها مقولة "عفى الله عمّا سلف"، وهي مقولة لا تختلف كثيراً في سوئها عن العنجهيّة. ومع أنّ الملاحظ تقدّم حركة المطالبين بالاعتذار، إلاّ أنّها ربّما التبست بحواشي القضيّة حتّى كادت أن تصرفنا عن لبّ الموضوع. كما كاد الموضوع أن يفقد خصوصيّته السّودانيّة عندما عمد البعض إلى مضاهاته بقضايا الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وبلدان أخرى. ولكن ما أقلقنا وكاد أن يختطف الموضوع من فضائه الثّقافي الرّحيب هو اختزاله في الفضاء السّياسي الضّيّق. من ذلك ما كتبه محمّد علي جادين [جريدة الصّحافة، 11/ أغسطس 2007، العدد 623]، معلّقاً على اعتذار باقان أموم (الأمين العام للحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان) لمجمل المدنيّين الذي تضرّروا من الحرب التي قادتها حركته، ثمّ مطالبته باعتذار مماثل من القوى الأخرى بما من شأنه أن "يُبرّد" الغبن المعتمل في صدور أبناء الجنوب وجبال النّوبة ... إلخ. في مقاله الجيّد يُثني جادين على ما صدر من الحاج ورّاق من اعتذار لأهل الجنوب بالنّيابة عن القوى الدّيموقراطيّة والتّقدّم في شمال السّودان "... عمّا لحق بهم من مآسٍ ومظالم وتهميش باسم الثّقافة العربيّة الإسلاميّة في فترات سابقة". كما أشاد بأنّ "... الصّادق المهدي هو أوّل زعيم سياسي شمالي أكّد ضرورة هذه الاعتذارات في 1999م". ثمّ يختم بقوله: "ولذلك علينا أن نعترف أنّ مشكلة الجنوب هي صناعة سودانيّة، تتحمّل مسئوليّتها النّخبة الشّماليّة المسيطرة بشكل رئيسي، والقيادات السّياسيّة الجنوبيّة بدرجة مقدّرة. ومن هنا تنبع ضرورة الاعتذارات المتبادلة بين الطّرفين، بهدف كشف الأخطاء القاتلة، التي أدّت إلى وضعيّة الأزمة الرّاهنة وفتح الطّريق لإجراء مصالحة وطنيّة تاريخيّة تضع الأساس لبناء سودان ديموقراطي موحّد وفاعل في محيطه العربي والأفريقي والدّولي" [المصدر السّابق].
بالطّبع ليس أيسر من تدبيج الرّدود على ما قاله جادين أعلاه، كان ذلك بالطّعن والتّشكيك مصداقيّة باقان أموم، أو في أهليّة الحاج ورّاق التّرميزيّة لتقديم اعتذاره أعلاه، أو في صدقيّة تأكيد الصّادق المهدي على ضرورة الاعتذار، وهو الزّعيم الطّائفي الذي لا يجوز نطق اسمه دون أن يكون مسبوقاً بلقب السّيادة والإمامة لا لشيء إلاّ للزّعم بنسبٍ شريف. كما يمكن الرّدّ بأنّ مسألة الاعتذارات المتبادلة تُفضي بنا إلى حالة تحييد Neutralization، من شأنها "تنفيس" الموضوع برمّته. ولكن الدّفع القوي (وليس الأقوى) لما قال به جادين أعلاه بخصوص من هم المسئولون عن مشكلة الجنوب يمكن أن يكون بإحالة مسئوليّة التّهميش إلى الصّفوة فحسب، دون أن نتوه في مشارع صفوة الشّمال وصفوة الجنوب بما من شأنه أن يُحيِّد القضيّة ويُلغي استقطابيّتها. فالصّفوة هي الصّفوة ولا اعتبار للجهة الإثنيّة أو الجغرافيّة التي صدرت من تلقائها، وليس أضلّ في مقاربة موضع الصّفوة والتّهميش من الوقوع في شرك الاستقطاب الخطّي (شمال ضدّ جنوب)، ذلك لأنّه يشوّه الصّورة بدلاً من أن يعكسها بأمانة. ولنا أن نلاحظ كيف اخْتُزل الموضوع في الفضاء السّياسي.
ولكن أقوى الدّفوعات يكون بردّ الموضوع إلى رحابته الثّقافيّة للانطلاق منها نحو فضاءاته الأخريات. علينا أن نواجه الاستعلاء في أصوله الثّقافيّة، تلك التي تربّينا عليها، مستعليين أو مُستعلى علينا. فباقان أموم آخر من يمكن مطالبتهم بتقديم اعتذار لمن وقع عليهم ضرر بسبب الحرب الأهليّة، وهو الذي يحمل على ظهره تركة ثلاثة ملايين قتيل في تلك الحرب الظّلوم، أللهمّ إلاّ أن يكون ذلك تحايلاً لتوريط القوم المكابرين في اعتذارات مماثلة. فولحاجّ وراق أيضاً غير مطالب بأن يقدّم اعتذاراً سياسيّاً حافياً، إذ تعوزه مقوّمات التّرميز السّياسي، كأن يكون رئيس وزراء أو خلافه. ثمّ لا يمكن للصّادق المهدي أن يتصدّى لمهمّة الاعتذار السّياسي لما حاق بأهلنا في جنوب السّودان وباقي بقاعه جرّاء سياساته الوخيمة عندما كان على سُدّة الرّئاسة، ثمّ الاعتذار بعد ذلك عن الاستعلاء، قبل أن يقدّم اعتذاره لخاصّة أهله وأتباعه ممّن ينظرون إليه كما لو كان كائناً نورانيّاً هبط من السّماء. فالاستعلاء الطّائفي الذي يشكّل لُحمة وسدى حزب الأمّة وطائفة الأنصار يقف حاجزاً دون أن يتأهّل الطّائفيّون وزعماء الطّرق الصّوفيّة ومن لفّ لفّهم، لتقديم اعتذارٍ مقبول بهذا الشّأن. لكنّ الحاج ورّاق وغيره ـ مثلُهُم في ذلك كمثل جميع من صدروا عن ثقافات اجتماعيّة ركبها وهم الاستعلاء عرقاً وعنصريّةً ـ في مقدورهم أن يعتذروا عمّا خالج النّفس الأمّارةَ بالسّوء من وهم الاستعلاء والعنصريّة جرّاء النّشأة والتّثاقف. وعلم الله هناك اعتذارٌ يُوجبُ الاعتذارَ عن نفسه، إذ لا يصدر إلاّ عن نفسٍ مستعلية سرّها في هذا الشّأن كونها التي تعتذر وليس التي يُعتذرُ لها. على جميع هؤلاء أن يعتذروا لا عن كونهم صادرين من مجوعات ثقافيّة مصابة بجرثومة الاستعلاء فحسب، بل لأنّ التّنشئة وفق حرايك الاستعلاء تحتاج إلى درجة عليا من جهاد النّفس (وهو الجهاد الأعظم)، عسى به تُنزّه عمّا أصابها من أوشاب العنصريّة البغيضة ممّا جرى مجرى الدّم والنَّفَس والهواء. فهناك فرق كبير بين أن تكون رافضاً وبين أن تكون مرفوضاً؛ بين أن تتقدّم للزّواج برفيقة درب، ثمّ يُرفض طلبُك (ولو بكلّ أدب ورفق) بسبب لونك أو جنسك الذي يُنظر إليه على أنّه وضيع (فيك عرق)، وبين أن تكون من أسرة البنت التي رفضت، حتّى لو كنت من المتحمّسين لهذه الزّيجة الضِّيزى. فالمسافة بين نشوئك الاستعلائي منذ طفولتك وبين لحظة اكتشافك لذاتك السّويّة قد يفصل بينهما جسر صغير، بينما تجري تحته مياهٌ كثيرة. فقدومُك إلى ساحة الاعتذار مستصحباً معك امتيازات الاستعلاء يجرّدك من شرف الاعتذار، دع عنك نبله.
بعد هذا يمكن أن نلج إلى الاعتذار في فضائه السّياسي. وهنا علينا أن نستصحب ذات المحذور أعلاه، وألاّ نأتي إليه مستصحبين امتيازات الاستعلاء. وهذا ما كنّا قد انتقدنا فيه دوافع العديد من المثقّفين السّودانيّين، الذين يبدو كما لو كانوا متّفقين معنا في عدم جدوى استمرار القهر والاستعلاء، لا بوصفه جرماً إنسانيّاً ووطنيّاً ينبغي المعاقبة عليه في أحسن الأحوال والاعتذار عنه في أسوئها، بل بوصف ذلك ممّا لم يعد عرب السّودان يحتاجون إليه الآن لبلوغه غاياته القصوى واستنفاده لطاقته، ثمّ لأنّ الإدانة الشّفاهيّة لن تحول دون الاستفادة من الامتيازات المكتسبة والتي أصبحت شيئاً أقرب إلى الحقّ المكتسب، والتي تقوم في بعض حوانبها النّفسيّة على أفضليّة أن تكون مُعْتَذِراً بدلاً عن أن تكون مُعْتَذَراً لك. وكنّا وفق فهمنا هذا قد وسمنا إدانتنا لحركة الآفروعروبيّة ومن بعدها السّودنوعروبيّة ]جلال هاشم، "السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين:، 1999]. إذن فالاعتذار ليس واجباً فحسب، بل هو أضعف الإيمان طالما كان في فضائه السّياسي. لكن نبل الاعتذار يأتي عندما نُقاربُه في فضائه الثّقافي، وعندما تبلغ بنا شجاعة الذّات مستوى اجتراح النّقد الذّاتي الشّجاع بأن نخوض في جوّانيّاتنا فنقتلع جذور الاستعلاء الخفيّة والعميقة، ثمّ بعد ذلك نأتي إلى ما ظهر منها فإذا به ذابل معصوف.

طبيعة الصّراع والتّراوح الأيديولوجي
نخلص من كلّ هذا إلى أنّ الهامشيّة أو المركزيّة لا تتحدّدان بالعرق أو الجغرافيا أو الثّقافة ولو التبست في حيلها بكلّ هذا؛ فالهامشيّة أو المركزيّة تتحدّدان بالموقف الأيديولوجي. وفي رأينا، ينبغي لقوى الهامش أن تُدرك مواضع أقدامها الأيديولوجيّة بوضوح وبنضج فكري. وهذا يتأتّى باجتراح برنامج أو منافيستو يُسمّي الأشياء بمسمّيّاتها دون الغمز إليها واللمز. وضرورة اختطاط مثل هذا المنافيستو تتمثّل في ضرورة فرز "الكيمان" بما يجعل الذين يقفون على أرضيّة أيديولوجيّة واحدة ومتّفقة يعرفون أنفسهم، وبالتّالي يقومون بالتّنسيق اللازم فيما بينهم. وفي المقابل يُتيح مثل هذا المنافيستو فرصة إبعاد العناصر والمجموعات ذات التّباين والاختلاف والتّضادّ الأيديولوجي، بما يسمح لنفس هذه الجهات بمعرفة مواقع أقدامها الأيديولوجيّة، وبالتّالي القيام بالتّنسيق اللازم لتوحيد جهودهم. إذن وضع مثل هذا المنافيستو سيكون في خدمة الجميع، وذلك لأنّه سيقوم بفرز "الكيمان"، أي لا ينبغي له أن يكون برنامج حدٍّ أدنى، بل على العكس من ذلك برنامج حدّ أقصى.
والأمر كهذا، على حركات الهامش ألاّ تنطلق في تقييم وبناء أحلافها من الأبنية الأيديولوجيّة العتيقة التي صدرت منها أغلب التّنظيمات فقط، بل ينبغي أن يستند تقويمها أيضاً على التّوقيع على هذا المنافيستو الواضح الذي لا لبس فيه ولا غموض. فالأيديولوجيا ليست جسماً إستاتيكيّاً جامداً وثابتاً، ولذا يصبح من الممكن والمحتمل أن تتغيّر المواقف الأيديولوجيّة، الأمر الذي يجوّز، وربّما يحتّم، مراجعة تصنيف أيّ حركة أو تنظيم بناءً على ذلك. وفي الحقيقة يمكن للإقصاء عندما يطول به العهد ويستمرّ بوصفه سياسة متّبعة داخل نظام حكم بعينه أن يغيّر من مواقع العديد من القوى التي ربّما كانت تنتمي لأيديولوجيا المركز. ويمكن بكلّ يسر ملاحظة هذا الحراك والتّراوح ما بين مواقع المركز أو مواقع الهامش بين صفوف العديد من الحركات والتّنظيمات ذات الأساس الأيديولوجي الإسلاموعروبي (بعض حركات القوميّة العربيّة، والحركات الإسلاميّة).
بخصوص هذا المنافيستو لا مشاحة من أن نذكر أنّ الأسس الفكريّة والأيديولوجيّة التي ينبغي أن يقوم عليها تتمحور حول: الدّيموقراطيّة التّعدّديّة؛ العلمانيّة؛ حقوق الإنسان والمجموعات الثّقافيّة؛ الفيدراليّة؛ الشّفافيّة والمحاسبيّة؛ السّلم المحلّي والإقليمي والعالمي؛ كلّ ذلك بما من شأنه أن يُتيح تماسكاً أيديولوجيّاً جيّداً، بغية الوصول إلى أداء تنظيمي أجود، في سبيل تفكيك آليّات التّمركز والتّهميش، وتقليم أظافر الاشتطاط وغلواء الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة المنافية حتّى للعروبة والإسلام ـ أيّ المبادئ التي لخّصتها قيم حركات الهامش: الحرّيّة؛ العدل؛ والسّلام.

الحرب الأهليّة: النّظريّة والممارسة
الاستقطاب الأيديولوجي: خطّيّاً ودائريّاً
في سبيل تأمين تحكّمها على مؤسسة الدولة وعلى رقاب العباد، اتّبعت الصفوة المهيمنة على المركز العديد من الحيل. من ذلك تقسيم السّودانيّين إلى مجموعات خطيّة متقابلة: الأفارقة السّود (العبيد) مقابل العرب البيض (الأشراف)؛ ثم العرب نفسهم يتمّ تقسيمهم إلى عدّة مجموعات متقابلة، مثل الأشراف وأبناء القبائل العاربة مقابل الأعراب البدو. هذه التّقسيمات الخطّيّة القائمة على العرق تقابلها تقسيمات أخرى قائمة على الجغرافيا بتحميلات عرقيّة لا تخفى: الشمال (عربي، مسلم) ضد الجنوب (أفريقي، مسيحي)، أولاد الغرب (الغرّابة) ضد أولاد البحر (أولاد البلد، أي أولاد العرب). روّج المركز الذي سيطر على مؤسّسة الدّولة لهذه التّقسيمات حتى أصبحت بمثابة مفاهيم نمطيّة فشت في ثقافة وسط السّودان النّيلي وشماله. وقد استمرّت هذه العمليّة لزمن طويل حتّى وصلت في النّهاية حدّ التّمييز العنصري والاضطهاد، ولهذا نهضت المناطق التي وصلت حدّاً لم يمكنها معه تحمّل المزيد من هذا الاضطهاد بوجهيه الثقافي والتنموي، فقاومت بضراوة بلغت الآن مستوى الحرب الأهلية. عليه، كان الغرض من هذه التّقسيمات تحييد أكبر قدر من المجموعات المهمّشة، ريثما يتمكّن المركز من احتواء مجموعات بعينها تشكّل تهديداً مباشراً. فالتّقسيم الأيديولوجي الحقيقي الذي يعكس هذا الوضع هو تقسيم دائري: مركز يحيط به هامش، وليس التقسيم الخطي [لمزيد من التفاصيل، يراجع: محمد جلال هاشم، "السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين"، 1999].

الحرب الأهلية: حرب الهامش ضد المركز
الحرب الأهليّة في السّودان لم تكن أبداً حرب الجنوب ضدّ الشّمال، كما إنّها ليست حرب دارفور ضدّ الشمال، أو حرب الشّرق أو جبال النّوبة أو الإنقسنا ضدّ الشّمال. فغداً إذا حمل المناصير والنّوبيّون أو الرّباطاب أو الشّايقيّة السّلاح (وهذا أمر لا ينبغي استبعاده بالنّظر إلى ما يجري الآن هناك)، فضدّ أيّ شمالٍ يا تُرى سيكون ذلك؟ فمن ينظر لمسألة لحرب الأهليّة بهذا المنظور الخطّي يكون قد فاتت عليه الدّلالات الدّائريّة من حيث كونها حرب قوى الهامش ضدّ المركز. ومن يفوت عليه هذا، يكون قد فاته قطار السّودان الجديد فكراً ونضالاً. فالمناطق التي وصلت حدّاً لم يمكنها معه تحمّل المزيد من هذا الاضطهاد والتّهميش بوجهيه الثّقافي والتّنموي، نهضت مقاوِمةً بضراوة بلغت الآن مستوى الحرب الأهليّة. وتتساوق وتيرة اندلاع الحرب الأهليّة طرديّاً مع درجة التّهميش والاضطهاد، إذ بدأت في الجنوب فجبال النّوبة والإنقسنا، فالشّرق ثم دارفور و عموم الغرب. ولنلاحظ أنّ الحرب في الجنوب بدأت عام 1955م، بينما لحقتها جبال النّوبة والإنقسنا بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود. هذا لأنّه يمكن القول بأنّ جبال النّوبة والإنقسنا كانتا لا تزالان تحت خطّ التحييد، فالتّقسيم الخطّي (شمال ضدّ جنوب) كان لا يزال تأثيره عليهما سارياً؛ ثمّ بعد ذلك جاء أهلنا في جبهة الشّرق ثمّ في دارفور ... وهكذا إلخ. والآن هاهم أهلنا النّوبيّون، وهاهم أهلنا المناصير قد بدأوا في حراكهم، وحتماً سيلحق بهم آخرون إلى أن يكتمل تفكيك ماكينة التّمركز والتّهميش.

الحرب الأهليّة: مرحلة الأنانيا
تبدأ الحرب الأهليّة كردّ فعل تحكمه الضّرورة؛ وهذه هي المرحلة الأوّليّة منها دائماً، وهي المرحلة البسيطة من الحرب الأهليّة. وغاية ما تبلغه الحرب الأهليّة في مرحلتها هذه وقف العدوان بالرّدّ ما أمكن، ثم باستصراخ النّاجدين (المجتمع الدّولي)، وقلّما تنجح حتّى في هذا إلاّ بعد أن تُذهق أرواح الآلاف إن لم يكن الملايين من المدنيّين الأبرياء والذين يُشكّل الأطفال والنساء العدد الأكبر منهم. ثمّ من بين أنين الجرحى ونحيب الثاكلات وصراخ الأطفال ومرارة فقدان الأمّ والأب والزوجة والأخ والأخت ثم الابن والبنت، ثم مضاضة الإحساس بالضعف أمام القوّة الغاشمة، يتولّد الغبن النّبيل، والذي يتفجّر عن قوّة هائلة لكنّها أحاديّة الرّؤية لا ترى إلاّ شيئاً واحداً هو ردّ الأذى، والذي غالبا ما يتداخل مع دائرة الانتقام والتّشفّي. في كل هذا والحرب الأهليّة لا تزال في مرحلتها الأوّليّة، وهيهات لها أن تحقّق وهي في حالتها هذي نجاحاً يُذكر بخلاف الرّدّ بالمثل ردّاً للأذى من جانب، وإلحاقاً له من جانب آخر إشفاءً للغِلّ والغبن. هذه هي حرب الأنانيا، بحكم أن حركة الأنانيا قد خاضت حروبها وهي لا تزال في هذه المرحلة الأوّلية البسيطة.

الحرب الأهليّة: مرحلة الحركة الشّعبيّة
ولكن من ظلامات القهر ومرارات الهزيمة وجراحاتها تُشرق شمس الخلاص، وذلك عندما تتحوّل الحرب الأهليّة إلى مشروع نهضوي يعمل نظريّاً وعمليّاً على تغيير الواقع الذي أدّى إلى إشعال الحرب بدءاً، وهذه هي المرحلة المركّبة من الحرب، وهو ما دشّنته الحركة الشعبية لتحرير السّودان بحكم أن الحروب التي خاضتها كانت من هذا النوع. وما المشروع النهضوي هنا إلاّ مشروع السّودان الجديد بتحريره من ربقة آليّات التّمركز والتّهميش؛ هذا وإن كانت الحروب التي خاضتها الحركة الشّعبيّة لم تبلغ مرحلة حروب التّحرير واستشراف آفاق السّودان الجديد، وفي هذا نظر، فتأمّل. فهي قد دشّنت المشروع، بيد أنّها ظلّت مشدودة بخيوط الماضي إلى مرحلة بين المرحلتين، هي ما نسمّيها بمرحلة الحركة الشّعبيّة.
فالحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان صدرت أوّل أمرها من واقع حروب الأنانيا في إطارها الثّقافي والإثني المتعلّق بجنوب السّودان، فكان لزاماً عليها أن تتعامل مع ذلك الواقع باعتباره معطى. ولكن مع ذلك تمكّنت الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان من كسر الطّوق المضروب أيديولوجيّاً حول جنوب السّودان من قبل المركز، وتمكّنت من أن تضمّ إليها حركات جبال النّوبة وجبال الإنقسنا، فضلاً عن النّجوم الزّاهرة الشّفيفة التي كسرت بدورها الطّوق وقَدِمَت من المناطق والثّقافات التي يا طالما ركبها الوهم الأيديولوجي بأنّها متميّزة ثقافيّاً وعرقيّاً. بيد أنّ جميع ذلك كان محكوماً إلى حدٍّ كبير بذات العوامل الجيوبوليتيكيّة الخاصّة بمرحلة بين مرحلة الأنانيا ومرحلة حروب التّحرير التي دشّنتها الحركة.
كلّ هذه العوامل أغرت الدّول الغربيّة التي صاغت إتّفاقيّة نيفاشا بإمكانيّة إعادة حشر الحركة الشّعبيّة داخل أحذية الأنانيا مرّةً أخرى، إذ ضغطت عليها كيما تُقبل على إتّفاقيّة السّلام باعتبارها حركة جنوبيّة لا غير. هذا الأمر ترك الحركة الشعبية (رائدة نضال القوى المهمّشة والأب الرّوحي لمشروع السّودان الجديد) في وضع حرج للغاية، وهو وضع يُفصح عنه واقع الحال دون المقال. ولكن في مقدور الحركة الشّعبيّة أن تحوّل هذا الحرج إلى فتح كبير في مجال الرّيادة والقيادة، إذا ما غيّرت من تكتيكاتها المتّبعة حاليّاً في مرحلة ما بعد نيفاشا، حسبما سيأتي أدناه.

الحرب الأهليّة: مرحلة التّحرير
بالنّظر إلى الحروب الأهليّة الدّائرة الآن في دارفور والشّرق (وما سيتلوها) نلاحظ أنّها وإن كانت قد تأثّرت كثيراً بالحركة الشّعبيّة في رؤاها، وحتّى في مسمّياتها، إلاّ أنّها في واقع الأمر قد باشرت النّضال من مرحلة الأنانيا. وذلك لأنّ أيّ حرب أهلية لا بدّ لها أن تبدأ بمرحلة الأنانيا طالما كانت حرباً أهلية. فمرحلة الأنانيا أشبه بمرحلة الصّبا والمراهقة في عمر الإنسان إذ لا يلبث أن يتجاوزها. وهذا بالضبط ما حدث الآن، فحروب دارفور والشّرق والإنقسنا وجبال النّوبة تجاوزت مرحلة الصّبا والشباب، وما ذلك إلاّ بفضل ما رفدت به الحركة الشّعبيّة. بيد أن التحدّي الحقيقي لا ينكفئ على تجاوز مراهقة الأنانيا، واستشراف مرحلة الحركة الشّعبيّة لأن هذا حادثٌ لا محالة. يكمن التحدّي الحقيقي في تجاوز العوامل التي صاحبت قيام الحركة الشعبية لتحرير السّودان وذلك باستصحاب دروسها وعبرها.
أول هذه الدّروس والعبر الظّروف والعوامل الجيوبوليتيكيّة التي جعلت الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان تطرح نفسها تنظيميّاً كوعاء جامع لقوى السّودان الجديد، بدلاً من أن تسعى سعياً آخر أكرم وأكثر ديموقراطيّة. فمؤشّر النّضال الخاص بالحركة الشّعبيّة، بوصفها تنظيماً متعيّنا في الزّمان والمكان (أي دون اعتبار كونها مشروعاً وطنيّاً مفتوحاً)، قد بدأ من أفقيّة الحياة العاديّة والسّلميّة، ثمّ تدرّج صاعداً في مضمار الحرب رأسيّاً حتّى بلغ أعلى درجة، ومن ثمّ شرع في النّزول مرّة أخرى إلى أفقيّة الحياة العاديّة السّلميّة ببيّنة التّوقيع على اتّفاقيّة نيفاشا. ولكن المؤشّرات النّضاليّة الخاصّة بباقي وأغلب قوى الهامش نراها في حالة الصّعود رأسيّاً. أي أنّ دالّة النّضال لدى الحركة الشّعبيّة بعيد التّوقيع على اتّفاقيّة نيفاشا، لم تعد تسير في ذات الاتّجاه الذي عليه دوالّ أغلب حركات الهامش الأخرى ـ وفي هذا قد تدخل مناطق كجبال النّوبة والإنقسنا، فتصوّر! فإذا كنتَ تتّجه نزولاً، بينما الآخرون يتّجهون صعوداً، لا يبقى أمامك غير التّنسيق مع هذه القوى الصّاعدة، بأن تعمل على جمع قوى الهامش في تحالف كبير اعترافاً منك بخصوصيّة كلّ تجربة نضاليّة. ذلك بدلاً من أن تفترض بأنّ الجميع ينبغي أن يذوب ويندمج في الوعاء التّنظيمي الخاص بالحركة الشّعبيّة، مثلما رأينا في بعض الحركات التي فعلت هذا، ففقدت بوصلتها النّضاليّة.
ولا يظنّنّ أحد أنّنا ندعو إلى تجاوز الحركة الشّعبيّة، أو إلى إضعاف موقفها؛ لا! بل على العكس من ذلك، ندعوها إلى أن تعي دورها في هذه المرحلة، وهو دور أخطر بكثير ممّا قامت به وهي في حالة الحرب. فالأصل في الأشياء أن تجري الحياةُ على نسق السّلم والطّمأنينة؛ وما الحربُ الأهليّة إلاّ حالة اضطراريّة مصيرها إلى زوال. عليه، النّضال سلميّاً أعمق وأبقى من النّضال عبر الحرب. وما من حركة اضطرّتها ظروفُها إلى حمل السّلاح وإعلان الحرب على الدّولة التي تعيش في كنفها، ثمّ لم تُولِ قطاعاتها المدنيّة السّلميّة ما تستحقّ من تنظيمٍ ورصٍّ للصّفوف، إلاّ وباءت بالفشل والخسران المبين. والآن، وقد ألقت الحركة الشّعبيّة عصا ترحالها نُشداناً للسّلم، هي في أفضل وضع لتعي تماماً أنّ الجيش الشّعبي لتحرير السّودان لم يكن في الواقع أكثر من الجزء البارز لجبلٍ جليدي مدنيّ وسلمي في جزئه الأكبر. ويكمن النّجاح، كلّ النجاح، في تنظيم وتعبئة هذا الجزء الأكبر غير البارز من جبل الجليد. فإذا جاز القول بأنّ ريادة الحركة الشّعبيّة في تدشين حرب الهامش ضدّ المركز قد تأكّدت، لا يجوز القول بأنّ بقاءها على قيادة حركات الهامش أمر مؤكّد أيضاً.
فكيما تحافظ الحركة الشّعبيّة على قيادتها لقوى الهامش، عليها أن تتخلّى عن طموحها غير الواقعي في أن تكون وعاءً جامعاً لقوى الهامش، وذلك إمّا بالاندماج أو الذّوبان فيها ـ ولا فرق بينهما. فعدم واقعيّة هذا التّوجّه يكمن في تعاكس اتّجاه دوال النّضال في الحركة الشّعبيّة من جانب، وفي باقي حركات الهامش من جانب آخر. إذن ما الذي يمكن أن تفعله الحركة الشّعبيّة إزاء هذا التّضاد في اتّجاه الدّوالّ النّضاليّة؟ عليها أوّلاً أن تسعى إلى إقامة تحالف عريض لجميع قوى الهامش، لا تذوب بموجبه حركة في أخرى، أو العكس. ثمّ عليها بعد ذلك، وهذا هو الأهمّ، أن تعمل على رصّ صفوف قطاعات الهامش المدنيّة، أي الجزء غير البارز من جبل الجليد النّضالي لحركات الهامش. فحركات الهامش ذات الخطّ البياني الصّاعد رأسيّاً، لن يكون في مقدورها أن تقوم بهذا، ذلك لأنّها بحكم الحرب ستكون بعيدة عن مواطن المدنيّين، بينما ستكون الحركة الشّعبيّة قريبة منها. ليس هذا فحسب، بل ستجد الحركة الشّعبيّة القطاعات المدنيّة للحركات الأخرى تتشوّف لليوم الذي تمدّ فيه الحركة يد التّعاون والتّكاتف.

الحرب الأهليّة: بناء السّودان الجديد
في الجانب الآخر، على الحركات الصاعدة في الغرب والشرق ثم في جبال النّوبة، ثمّ في شمال السّودان، أن تستمدّ من تجربة الحركة الشّعبيّة الدّروس والعبر، أوّلاً بإدراك المقاصد الإنسانيّة السّامية في مشروع تفكيك آليّات التّمركز والتّهميش؛ وثانياً في تجاوز محدوديّات الحركة الشّعبيّة، وذلك تدشيناً لمرحلة التّحرير الحقيقيّة، إن سلماً أو حرباً. والمدخل إلى جميع ذلك أن تتواضع على تأسيس تحالف جبهوي عريض يهدف إلى تحقيق مشروع السّودان الجديد. في هذا التّحالف لا مجال لأن تذوب أيّ مجموعة في مجموعة أخرى، فكلّ واحدة لها جسمها المستقلّ داخل هذا التحالف. هذا الأمر من شأنه أن يتيح للحركة الشعبية المشاركة فيه من على مستوى القيادة والقاعدة، روحيّاً وفكريّاً، سياسيّاً وميدانيّاً. هذه النّقلة ضروريّة للغاية، ذلك لأنّ من ظنّ أنّ الحرب الأهليّة في السّودان قد دخلت في خريف عمرها، ربّما يكون قد ارتكب خطأً كبيراً. فالحرب الأهليّة الحقيقيّة في السّودان، من حيث كونها حرباً تعمل لتحقيق مشروع تحرير السّودان من ربقة آليّات التّمركز والتّهميش وشطط الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، وهو مشروع واضح في سماته الفكريّة والتّنفيذيّة والتّنظيميّة ـ هذه الحرب ربّما لم تبدأ بعد.
حتّى في حال انفصال جنوب السّودان في غدٍ أو بعد غدٍ، قد يكون ذلك لخير حروب الهامش ضدّ المركز. فلجوء حركات الهامش والمعارضة عموماً لدول الجوار، مثل مصر، أريتريا وغيرها، جعلها جميعاً تتعرّض لأبشع أنواع المساومة بما لا يخدم مصالح السّودان، كما أوقع بعضها في حبائل هذه المساومة التي سعت لاستغلال مآسينا. في حال انفصال جنوب السّودان، ستجد هذه الحركات الملاذ الآمن والحضن الدّافئ؛ وهذا لا يعني أنّ إخوتنا في جنوب السّودان لن تكون لهم أجندة خاصّة بهم في حال انفصالهم. لكن، اتّباعاً للطّبيعة البنيويّة الفصوصيّة لأغلب مجتمعاتنا، وهي الطّبيعة التي يلخّصها المثل القائل "أنا وأخي على ابن عمّي؛ وأنا وابن عمّي على الغريب" ـ اتّباعاً لهذه الطّبيعة، يجوز لنا أن ننظر إلى المسألة بمنطق "مساومة الأخ الشّريك في الوطن الكبير، ولا مساومة الغريب". هذا إذا كان ما سيقوم به الإخوة الجنّوبيّون ممّا يجوز النّظر إليه على أنّه مساومات. وعلى أيّ حال يمكن لحروب التّحرير وتحقيق السّودان الجديد أن تبدأ من الجنوب، تفكيكاً للمركز وآليّات التّمركز والتّهميش وشطط وغلواء الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. أي تحريراً للسّودان وتحقيقاً لمشروع السّودان الجديد الذي دعا له الشّهيد جون قرنق.

تحالف تنظيمات الهامش
الطّبيعة الأفقيّة والرّأسيّة لتنظيمات الهامش
بخصوص توحيد قوى الهامش، علينا أن نمايز بين نوعين منها: 1. التّنظيمات الأفقيّة، و 2. التّنظيمات الرّأسيّة. الأفقيّة نعني بها تلك التي تُمثّل قطاعات عريضة من الشّعب حتّى لو كانت محدودة بالحدود الثّقافيّة والإثنيّة، أو الجغرافيّة الإقليميّة. فهذه طالما كانت برامجها وطنيّة وقوميّة، لا سبيل إلى اتّهامها بالجهويّة. وفي الحقيقة تُشاركها في خصيصة الأفقيّة هذه تنظيمات وطنيّة أخرى، لكن قد يصعب إن لم يكن مستحيلاً، تصنيفها في خانة "قوى الهامش"؛ كمثل لهذه التّظيمات يمكن أن نذكر الأمّة والاتّحادي، والجبهة الإسلاميّة (قبل التّشتّت الإنقاذي الذي كما لو ذهب بريحهم). فهذه جميعُها تنظيمات ذات جماهير عريضة، الأمر الذي يجعلها بالفعل أفقيّة، دون أن تنتمي بالضّرورة إلى قوى الهامش، وذلك ببيّنة برامجها ومواقفها الأيديولوجيّة. أمّا تنظيمات الهامش الأفقيّة، فعادةً ما تنشأ كردّ فعل لظرف خاص بمنطقة بعينها أو مجموعة ثقافيّة بعينها (مثل حالة المناصير أو النّوبيّين أو البجا أو الإنقسنا ... إلخ). وأكثر ما يُعهد في مثل هذه الحركات، بالإضافة إلى نبل النّضال الذي تقوده، فقدانُها لأيّ تجويد نظري لمسألة النّضال الذي يخوضون غماره. فهي إذا كانت تملك جماهيريّة جاهزة، إلاّ أنّها ربّما افتقدت النّضج الفكري والنّظري،وليس بالضّرورة العملي منه ـ هذا باستثناء الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، والتي دفع بها طول العهد بالنّضال إلى مراقي عالية من النّضج الفكري النّظري التي ربّما لم تواتِ الكثير من المثقّفين. وفي الحقيقة يعود نجاح الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان في الصّعود رأسيّاً في الوقت الذي لم تفقد فيه تمدّدها الأفقي، إلى تجويدها لأطروحتها الفكريّة. وهذا هو نفسه السّبب في الجماهيريّة التي داهمتها بعيد التّوقيع على اتّفاقيّة نيفاشا، حتّى أمكن القول بأنّ مواعين الحركة التّنظيميّة قد ضاقت عليها.
والملاحظ في الأمر أنّ باقي التّنظيمات الأفقيّة غير المنتمية إلى قوى الهامش تُعاني أيضاً من عدم تجويد أدائها الفكري والنّظري. في هذا علينا أن نتأمّل ولوغها في وحل الطّائفيّة واستحالة فكاكها منها، أو أن نتأمّل أطروحاتها التي في أغلبها لا تخرج عن كونها شعارات إسلاميّة بلا رؤية فكريّة واضحة، وليس أدلّ على ذلك من الخواء الفكري والبرامجي الماحق الذي تكشّف عن حركة الإخوان المسلمين المسمّاة بالجبهة الإسلاميّة ممثّلةً في نظام الإنقاذ. من جانب تنظيمات الهامش الأفقيّة، أوضح ما يكون القصور الفكري النّظري في الطّريقة التي يُعبّر بها العديد من قيادات حركات الهامش عن أهدافهم وبرامجهم. إذ قد تبدو الغرارة والبراءة، إن لم تكن السّذاجة، في الكثير من الإفادات المتحصّلة من أغلب قياداتهم. وللتّعويض عن هذا النّقص، قد تلجأ هذه الحركات للاستعانة بعدد من أبنائها الذين ربّما تلقّوا تدريباً وتأهيلاً تنظيميّاً وفكريّاً في تنظيمات سياسيّة أخرى.
أمّا التّنظيمات الرّأسيّة فنعني بها تلك التي لا يمكن أن تُحال إلى وضعيّة إثنيّة بعينها، وذلك انطلاقاً من برامجها وأفكارها النّظريّة (دون الغوص في الماورائيّات الأيديولوجيّة). ومثل هذه التّنظيمات عادةً ما تنشأ وتزدهر بين الطّبقة المتعلّمة والمثقّفين، ولهذا كان من الطّبيعي والمتوقّع أن يتّسم أداؤها الفكري بدرجة عالية من التّنظير. ووصفناها بأنّها رأسيّة، لأنّها قد تصعد في مراقي الفكر النّظري باضطراد يتساوق عكسيّاً مع أشراط الجماهيريّة الأفقيّة؛ ولهذا عادةً ما تنكفئ هذه التّنظيمات على الطّبقة المثقّفة والمتعلّمة ـ هذا باستثناء تجربة الحزب الشّيوعي السّوداني في فترة الخمسينات والسّتّينات من القرن العشرين، وذلك عندما نجح في اختراق العديد من القطاعات الطّبقيّة العمّاليّة والزّراعيّة والحرفيّة، فكوّن له فيها جماهيريّة ربّما لم تتأتَّ لغيره، ولا له هو نفسه بعد ذلك. ثمّ وصفناها بأنّها رأسيّة لأنّها تنمو رأسيّاً من ناحية بناء العضويّة، وذلك بتحرّي الاستقطاب، ثمّ التّأهيل الفكري والتّنظيمي، دون أن تُصيب قدراً كبيراً في التّمدّد والانتشار الأفقي الجماهيري.
في هذا ربّما تُمثّل حركة الإخوان المسلمين استثناءً أيضاً، باعتبار أنّها من التّنظيمات الرّأسيّة (المنكفئة على الطّبقة المثقّفة والمتعلّمة ببيّنة نشأتها الأولى) التي نجحت في أن تتحوّل إلى تنظيم أفقي، أي إلى تنظيم جماهيري (ببيّنة جماهيريّة الجبهة القوميّة الإسلاميّة). ولكن، يمكن الدّفع بأنّ هذه الحركة، بالرّغم من صدورها أوّل أمرها من تلقاء الطّبقة المثقّفة والمتعلّمة، لا يمكن تصنيفها كتنظيم رأسي، وذلك ببيّنة غياب التّأسيس الفكري النّظري في جميع مراحلها، بدءاً بحسن البنّا انتهاءً بحسن التّرابي. فهي لم تنشأ فقط على الشّعارات الجماهيريّة الفضفاضة، بل انكفأت عليها ولا تزال حتّى الآن. وهذا ربّما كان مردّ تحوّلها السّريع، نسبيّاً، إلى الأفقيّة والجماهيريّة، ثمّ تحوّلها مؤخّراً إلى مجرّد حركة طائفيّة، حتّى كادت أن ترث طائفتي الختميّة والأنصار في العديد من بيوتاتها المتّشحة بثوب الدّين و/أو الصّوفيّة، فضلاً عن تميّز أرستقراطي زائف يعتمد على تقسيم النّاس إلى أشراف وسادة وأتباع وعبيد ... إلخ.
وبالنّظر إلى واقع اليوم، يستطيع المرء أن يقول باطمئنان كبير إلى أنّه من غير المنظور في المستقبل القريب أن تتطوّر هذه التّنظيمات الرّأسيّة لتصبح ذات ثقل جماهيري أفقي ـ هذا إن كان مقدّراً لها أن تتحوّل أصلاً إلى تنظيمات أفقيّة. في نفس الوقت لا يمكن أن نطلب من تنظيمات الهامش الأفقيّة أن توقف عجلة النّضال قليلاً ريثما تقوم بتجويد أدائها الفكري النّظري. لهذا نرى ضرورة أن تتّحد قوى الهامش بشقّيها، الرّأسي والأفقي، حيث تقوم التّنظيمات الأفقيّة بحشد الجماهير، وتقوم التّنظيمات الرّأسيّة بتجويد الأداء الفكري النّظري، كلّ ذلك وفق المنافيستو الذي أشرنا إلى ضرورة اختطاطه أعلاه. وبهذا تكون قوى الهامش قد سلكت طريقاً مختصرة، به احتفظت على تمدّدها الأفقي الجماهيري، كما تكون قد حقّقت لنفسها مراقي سامقة في الصّعود الرّأسي فكراً ونظراً.
ولإعطاء صورة مقرّبة عمّا نتصوّره بخصوص تحالف قوى الهامش، دعونا نتأمّل الصّورة التّحالفيّة التّالية والتي تجري افتراضاً في مسرح سلمي. فلنتصوّر دائرة انتخابيّة مثل الكلاكلات بجنوب الخرطوم، من المشكوك فيها أن تخلو من أيّ واحدة من المجموعات الثّقافيّة السّودانيّة. دعونا نتصوّر تحالفاً عريضاً للمجوعات التّالية التي تخوض الحملة الانتخابيّة بموجبه، واسمحوا لنا بالتّركيز على المجموعات الكبيرة كمثال فقط:
شمال السّودان: النّوبيّون؛ المناصير، الشّايقيّة، الرّباطاب، وجميع المتأثّرين ببناء الخزّانات والسّدود بشمال السّودان؛
شرق السّودان: هنا يمكن أن نذكر: البجا بمختلف بطونهم وقبائلهم؛ الرّشايدة؛ الفولاني؛ الهوسا؛ البرقو؛ لكنّنا دعونا نكتفي بذكر المجموعات المنتسبة لمؤتمر البجا.
غرب السّودان: بالطّبع يمكن أن نذكر، على سبيل المثال: الفور؛ الميما؛ الزّغاوة؛ الميدوب؛ البرقد؛ الدّاجو؛ المساليت؛ وأيّ مجموعات أخرى؛ لكنّنا هنا سنكتفي بذكر المجموعات المنتسبة إلى حركة تحرير السّودان بجميع فصائلها، وذلك ببيّنة برنامجها الذي يتّفق والمؤشّرات التي ذكرناها أعلاه بخصوص المنافيستو الجامع لحركات الهامش.
جبال النّوبة: ولا نحتاج إلى أن نضرب أمثة بهذا الخصوص، إذ يكفي أن نذكر منسوبي الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان؛
جبال الإنقسنا وأعالي النّيل الأزرق: يمكن أن نذكر في هذا المقام العديد من المجموعات الثّقافيّة، ولكنّنا سنكتفي بمنسوبي الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان.
جنوب السّودان: سنكتفي هنا أيضاً بمنسوبي الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، وذلك تجنّباً لذكر عدد لا متناهي من المجموعات الثّقافيّة.
وسط السّودان: وهنا لا نُريد أن نتورّط بذكر مجموعات بعينها، بالرّغم من قناعتنا بأنّ التّهميش يشمل المجموعات الثّقافيّة التي تعيش بوسط السّودان، حتّى العربيّة المسلمة منها؛ وإلاّ فيم وكيف انضمّ الرّشايدة، الذين ينظر إليهم البعض بوصفهم أصرح العرب، إلى ركب القوى المهمّشة؟ ولكن، في المقابل، لا يمكن لنا أن نتجادل مع النّاس حول ما إذا كانوا ينتمون إلى المهمّشين أم لا. فإذا لم تكتشف مجموع بعينها حقيقة كونها مهمّشة، لا يجوز لنا أخلاقيّاً أن نقسرها على تعريف نفسها على هذا النّحو. ولكن هذا لا يعني البتّة أن نُعامل مثل هذه المجموعات على أنّهم ينتمون إلى المركز. فهؤلاء مكانهم محفوظ ولا ينتظر غير إعطاء الإشارة بأنّهم قد اكتشفوا تهميشهم ليحتلّوا أماكنهم هذه. ولنا أن نتذكّر أن وسط السّودان في أغلبه ما هو إلاّ الهامش السّودانوأفريقي معاد إنتاجه ثقافيّاً وأيديولوجيّاً ليعطينا الهامش السّودانوعروبي. فإذا أرادت مجموعة بعينها أن تقطع خطّ الأيديولوجيا من وإلى، فهذا مشروع ولا ينبغي استنكاره. إذن ينبغي لنا أن نتوقّع من العديد من أبناء ومجموعات الهامش بوسط السّودان الانضمام إلى هذا التّحالف الافتراضي.
ومع هذا، لم نكن نعني هذه المجموعات عندما ذكرنا "وسط السّودان"، بل كنّا نعني تنظيمات الهامش الرّأسيّة، والتي تجوز إحالتها إلى أيّ بقعة بالسّودان بنفس القدر الذي يجوز عدم إحالتها إلى أيّ بقعة ـ حسب الحالة المعيّنة. فأحزاب مثل: حركة القوى الحديثة (حق)؛ حزب المؤتمر السّوداني؛ الحزب الشّيوعي السّوداني، منظّمة العمل الاشتراكي، وغيرها كثير، يمكن أن تنضمّ إلى هذا التّحالف، فتزيد من قدرته في إدارة المعركة فنّيّاً وتكتيكيّاً، ثمّ فكريّاً وأيديولوجيّاً. ليس هذا فحسب، بل هناك تنظيمات أخرى كانت إلى وقت قريب ممّا لا يمكن حسبانها إلاّ ضمن كتلة تنظيمات المركز، مثل البعثيّين والنّاصريّين، ثمّ بعض التّنظيمات ذات التّوجّه الإسلامي الديموقراطي، قد مرّت بمراحل مخاض متأخّرة، بها أدركت أنّها لا يمكن أن يكون لها مجد في السّودان إذا لم تعترف بشطط الغلواء التي تُمارس باسم العروبة والإسلام، ممّا شملناه في مصطلح الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. هذه التّنظيمات تبدو كما لو كانت جاهزة لخوض معاركها الفكريّة القادمة من خندق القوى المهمّشة. وإفساح المجال وتقبّل مثل هذه الحركات لا ينبغي النّظر إليه من زاوية المصالح التّكتيكيّة التي تتمثّل في إمكانيّة درء تهمة معاداة العروبة والإسلام بخطّة كهذي؛ ينبغي التّعامل مع هذا التّحوّل بقدر عالٍ من الشّفافيّة والمصداقيّة، وذلك إلى أن تُبدي لنا الأيّام ما قد يكون خافياً، وليس أسوأ من سوء الظّنّ. فابستعادة ما ذكرناه أعلاه من أنّ مصطبة الهامش ليست جامدة إستاتيكيّة، وأنّ الإقصاء الممنهج ممّا شهدناه في سنيّ الإنقاذ، من شأنه جميعاً أن يُحدث تغييرات كبيرة في البنية الأيديولوجيّة والديموغرافيّة لقوى الهامش. والمحتكم هنا كما ذكرنا المنافيستو الذي ينبغي أن يتمّ اختطاطه بوصفه برنامجاً جبهويّاً يتحرّى الحدّ الأقصى وليس الأدنى. بالطّيع يمكن الدّفع بأنّ البرامج الجبهويّة لا يمكن أن تقوم على الحدّ الأقصى، ولكن في المقابل في زمن الاستقطابات الحادّة ولحظات أن تكون أو لا تكون، يمكن للبرنامج الجبهوي أن يقوم على الجدّ الأقصى. عليه، إذا أبدى حزب الأمّة استعداده للتّوقيع على مثل هذا المنافيستو، عندها يصبح حزب الأمّة ضمن قوى الهامش، وعلى هذا فقِس.
إذن نعود إلى تصوّر القوّة التي يمكن أن يمخّض عنها تحالف بهذا الحجم. في رأينا لا توجد في السّودان حتّى الآن أيّ قوّة تنظيميّة، فرديّة أو تحالفيّة، يمكن أن تهزم مثل هذا التّحالف العريض. وفي رأينا إقامة مثل هذا التّحالف تصبح ضرورة وطنيّة، ينبغي العمل من أجلها، بصرف النّظر أكانت هناك انتخابات أم لم تكن؛ أي إن حرباً أو سلماً. فهذا أو الطّوفان! ذلك لأنّ المخاطر التي تُحدق بالسّودان جعلتنا في موضع أن نكون أو لا نكون [في ذلك راجع: محمّد جلال هاشم، أن يكون أو لا يكون: السّودان على مفترق الطّرق، بالإنكليزيّة، 2004م].

مراجع عربية
* أبكّر آدم إسماعيل (1997). جدلية المركز والهامش (3 أجزاء)، الخرطوم.
* حركة العدل والمساواة (2003). الكتاب الأسود، الجزء الثاني.
* عبد الغفّار محمد أحمد (1988). قضايا للنقاش: في إطار إفريقية السّودان وعروبته، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.
* فيصل محمّد صالح (2007a). جدل الهويّة: فوضى المصطلح وغياب المفاهيم يعيقان الحوار. جريدة الصّحافة. 26 أغسطس 2007. عدد 5100.
* فيصل محمّد صالح (2007b). جدل الهويّة: فوضى المصطلح وغياب المفاهيم يعيقان الحوار. جريدة الصّحافة. 2 سبتمبر 2007. عدد 5110.
* فيصل محمّد صالح (2007c). جدل الهويّة: عرض لرؤى مدرسة المركز والهامش. جريدة الصّحافة. 9 سبتمبر 2007. عدد 5114.
* فيصل محمّد صالح (2007d). جدل الهويّة: مناقشات مع جدل المركز والهامش. جريدة الصّحافة. 16 سبتمبر 2007. عدد 5121.
* منصور خالد [1993]. النخبة السّودانية وإدمان الفشل، جزءان، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة.
* محمّد جلال أحمد هاشم (1997). نحو منهج لإحياء التّراث النّوبي. ورقة قرئت في منتدى الفولكلور. الخرطوم: معهد الدّراسات الأفريقيّة والآسيويّة. قاعة الشّارقة. 30 أكتوبر 1997.
هذا المقال متاح عالميّاً على الشّبكة. مجلّة احترام الإلكترونيّة . طُولع في يوم 10 أبريل 2006:
http://www.sudaneseonline.com/sections/ihtiram/pages/ihti...les/ihtiram2_mjh.pdf
* محمد جلال هاشم (1999). السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين: المشروع الثّقافي لعبدالله علي إبراهيم في السّودان. ورقة قُرئت في مؤتمر "السّودان: الثّقافة والتّنمية الشّاملة: نحو إستراتيجيّة ثقافيّة- مهداة للرّوائـي الطّيّب صالح", مركز الدّراسات السّودانية, القاهـرة, دار الأوبرا المصريّة. الجزيـرة, الأربعـاء 4 أغسطس- السبت 7 أغسطس 1999.
* محمد جلال هاشم (تحت الطّبع). منهج التحليل الثقافي، طبعة خامسة منقّحة ومزيدة. الخرطوم.
* محمد جلال هاشم (تحت الطّبع). رسالة كجبار مرّة أخرى: من أجل السّودان لا من أجل قرية. الخرطوم.
* محمّد علي جادين (2007). باقان أموم والاعتذار السّياسي والمصالحة. [جريدة الصّحافة، 11/ أغسطس 2007، العدد 623]
* الواثق كمير (إعداد وتحرير) [بدون تاريخ]. جون قرنق: رؤبته للسودان الجديد: قضايا الوحدة والهوية، المجموعة الاستشارية لتحليل السياسات والإستراتيجيات، القاهرة.

مراجع إنكليزية

· Afif (al-), al-Baqir (2002). The Crisis of Identity in Northern Sudan : A Dilemma of a Black People with a White Culture. A paper presented to the CODESRIA African Humanities Institute. Tenured by the Programme of African Studies at the Northwestern University , Evanston , USA .
· Amin, S. (1974). Accumulation on a World Scale: A Critique of the Theory of Underdevelopment. New York : Monthly Review Press.
· Amin, S. (1978). The Arab Nation: Nationalism and Class Struggle. London : Zed Press Ltd.
· Hashim, M.J. (2006). Islamization and Arabization of Africans as a Means to Political Power in the Sudan : Contradictions of Discrimination based on the Blackness of Skin and Stigma of Slavery and their Contribution to the Civil Wars. In: Bankie, B.F. & Mchombu, K. 'ed.' (2006). Pan Africanism: Strengthening the Unity of Africa and its Diaspora. Windhoek : Gamsberg Macmillan Publishers. PP 244-267.
· ………………….. (Forthcoming). To be or not to be: Sudan at Cross Roads. Khartoum.
· Mazrui, Ali (1971), “The Multiple Marginality of the Sudan”, in Yusuf Fadl Hasan “ed”, Sudan in Africa, Khartoum University Press, Khartoum.
· Tayeb(El), Galal el-Din (1989). Industry and Peripheral Capitalism in the Sudan : A Geographical Analysis. Khartoum : Khartoum University Press.

Post: #25
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-07-2007, 09:12 AM
Parent: #1

كل الود والتقدير على المداخلة استاذ/ صلاح شعيب .
شكرا على الكلمات الطيبات فى حق د/ الباقر العفيف .

Post: #26
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-07-2007, 09:27 AM
Parent: #1

ورقة الاستاذ/ محمد الفاتح العتيبى
بناء السلام من خلال التعاونيات :-

مدخل

على الرغم من أن التراث السوداني بعاداته وتقاليده و أعرافه العريقة السمحة يجسد في بقاع السودان المختلفة صورة حية و ناصعة لصور التعاون والعون المتبادل ، والمساعدة الذاتية و الاعتماد على النفس، بصورة حققت الكثير من الفوائد والأهداف الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والمجتمع ، إلا أن التعاون في شكله الحديث ( نظام اقتصادي واجتماعي يضم عدداً من الوحدات الاقتصادية المرتبطة يبعضها البعض والقائمة على أساس مبادرات شعبية طوعية وفقاً للأسس الديمقراطية) ، فشل إلى حد كبير في تحقيق أهدافه المعلنة. وصاحب ذلك الفشل الكثير من المشاكل المتراكمة منذ العهد الاستعماري وفي ظل الحكومات الوطنية المتعاقبة لنواجه اليوم بأزمة تعاونية مستفحلة تحتاج لتضافر جهود التعاونيين والدولة على السواء لمواجهتها والخروج منها . أهم أسباب هذه الأزمة طمس "الهوية التعاونية" ، لقصور وتراجع دور الحكومة في علاقتها بالحركة التعاونية علي مر العهود ، ففي العهد المايوي كان واضحاً وجلياً إن اهتمامها بالتعاون لم يكن من أجل نهضة و تطور الحركة التعاونية باعتبارها نظام شعبي، ديمقراطي حر ، حيث قامت الحكومة بإلغاء قانون التعاون لعام 1973م الذي تميز بكثير من المزايا والافضليات واستبدلته بقانون 1982المجحف. في رأينا هذا التراجع يمثل نقطة البداية لانهيار الحركة التعاونية السودانية والذي ساهمت فيه حكومة الانتفاضة و حكومة الديمقراطية الثالثة، حتى أنقضت "الإنقاذ" بشراسة على البقية الباقية محاولة اغتيال الحركة التعاونية وإضعاف هويتها مع سبق الإصرار والترصد.
هذه الورقة محاولة في إطار"وأزمة الهوية السودانية" لتسليط الضوء علي الآثار السالبة والمدمرة لتدخل الدولة السافر في أخص وأعمق شئون العمل التعاوني وهويته ، بقرارات سياسية متعارضة ومتضاربة مع الرأي الفني والعلمي ، مما كان له سود العواقب علي الحركة التعاونية السودانية. وكان هذا التدخل السافر سمة ملازمة لكل الحكومات السودانية علي تفاوت فيما بينها، وكان أشد سفورا وشراسة وضراوة في عهد "الإنقاذ"، في محاولة بائسة ويائسة لاغتيال الحركة التعاونية السودانية معنويا وماديا باستهداف هويتها ومقوماتها ومكتسباتها، وذلك بإضعافها وتفتيتها وبالسطو علي مكتسباتها وتحويل مهامها الي منظماتها الإنقاذية ، وتشريد الكفاءات الديوانية والشعبية ، وتسليم دفة الأمور إلي غير أهلها من خلال لجان التسيير المعينة في مخالفة واضحة وسافرة لكل الأعراف والمواثيق والأسس والمبادئ التعاونية المعروفة والمعمول بها عالميا. كان من المؤمل أن يكون البنيان التعاوني حلقة هرمية تتمدد عضويته في سلسلة متصلة، تشكل صورة مكتملة للحركة التعاونية السودانية تهدف لتوفير الاحتياجات للقاعدة مثل المعدات التكنولوجية والبذور المحسنة والأسمدة، السلع، الخ ولكن ذلك لم يحدث إلا علي الورق فقط. ولم تستطع القيادة التعاونية الشعبية في قمة هرم البنيان التعاوني من رعاية التعاونيات وبخاصة التعاونيات الإنتاجية الزراعية والحرفية والنسوية، وهذا الإخفاق البين في الأداء يرجع بصورة أساسية لتسلط الحكومة وتوهان "الهوية التعاونية"، إلي جانب ضعف الكفاءات القيادية التعاونية الشعبية، خاصة بعد عام 1990،حيث تربعت جل هذه القيادات علي دفة العمل التعاوني بدون الانتخابات التعاونية والديمقراطية المعروفة، تنفيذا لقرار المجلس العسكري لحكومة الإنقاذ رقم 34 بتكوين (لجان التسيير) حيث لا تزال معظم هذه القيادات في مكانها منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
إن السلام حاجة الإنسانية اليوم والنظام التعاوني بمبادئه وأسسه يقوم علي السلام ويدعو له، ومدار "الهوية التعاونية" تحقيق السلام بالتركيز في العمل الاقتصادي علي تقديم الخدمة وليس تحقيق الأرباح ، كما أن النظام التعاوني يعتمد علي الأسلوب الديمقراطي "لكل عضو صوت واحد مهما كان رأس المال". الإنسان مادة التعاون الأساسية ووسيلته وما لم يتوفر الإنسان الذي يمتلك الدوافع الأصلية لخدمة المجتمع فالمعوقات لابد أن تنشأ. أن للبيئة الاجتماعية والتكوين القبلي والديني أثر كبير في تحديد مستقبل التجربة التعاونية في المكان المعين، فالتعاون حركة وسط الناس غايتها الإنسان وهي تتأثر سلباً وإيجاباً بما يكتنف المجتمع من ظواهر وانقسامات وقيم وصراعات وحروب وأزمات مما يؤثر علي "الهوية التعاونية" و الكيان التعاوني ككل. ولذلك علينا أن لا ننظر للتجربة التعاونية في الشمال أن تكون نفسها في الجنوب أو الشرق أو الغرب بل ننظر لكل منطقة على أنها تجربة ثرية تختلف وتزيد من رصيدنا في التجارب والخبرة. ولذلك ليس من المصلحة تجاهل التعاون بقطاعاته وقياداته وإرثه العميق في المجتمع السوداني ودوره المؤكد في تنميته وتطوره.



ثقافة الاختلاف

تبدو غياب ثقافة الاختلاف ( في عمومه ) ظاهرة (1) مسيطرة على المشهد الاجتماعي والسياسي المحلي والعربي، وهي ظاهرة تلقي بظلالها الثقيلة على مختلف جوانب الحياة في مجتمعاتنا النامية والمثقلة أصلاً بأعباء اقتصادية هائلة وهموم تنموية كبيرة. من هنا تكمن أهمية مقاربة هذه الظاهرة المؤسِسة دون أدنى شك لاستشراء هذه المعضلات وتفاقمها ففي مجتمعات أحادية القطب محكومة بآليات تفكير مستبدة (حكيمة وكلية المعرفة بالضرورة !!)، سيبدو من الصعوبة بمكان الإشارة إلى مكامن الخلل ومواضع الوهن المُستشرية هنا وهناك، وسيكون للرأي الأخر ولا أقول بصوابه الحتمي بالضرورة موقع الدونية والإهمال إن لم يصل الأمر حد التخوين (سياسياً ) والزندقة والتكفير (دينياً ) والشذوذ (اجتماعياً) وضعف الوعي والضحالة (علمياً ومعرفياً) والجهل والقصور (ثقافياً). وهي بالمناسبة المصطلحات (التُهم) المعلبة والجاهزة دوماً، لكل من تسول له نفسه بالخروج عن القطيع المُلهَم والتحليق بعيداً عن السرب المُظَفر, ولكل من يجرؤ على تحدي السائد والقول بما يناقض الصحيح واليقيني بحكم شموله وطغيانه ، ولكل ذلك انعكاساته الخطيرة علي موضوع الهوية. والمثير للدهشة ، والفزع في آنٍ واحد ، أن استشراء ثقافة غياب الرأي الآخر وتغييب الاختلاف يكتسب بعداً عامودياً في مجتمعاتنا، ولا يكتفي ببعده الأفقي الظاهر، حيث تولد صفات: الأحادية البطر كية كلية القدرة والمعرفة المُهيمنة على المؤسسات السياسية والدينية والثقافية الحاكمة لمجتمعاتنا نظيراتها على مستوى البني المتعددة داخل المجتمع، تدرجاً حتى الوصول إلى العلاقات الأسرية. والنتيجة مزيداً من حالات الاستلاب لهيمنة الرأي الأوحد والتعود على قبول لا بل والتماهي مع السائد دون أية مقاربات نقدية، والذهاب بعيداً في التعصب والتشبث المرضي والعنيف بما أملك في مواجهة رأي الآخر. فتتولد ظاهرة أخرى غاية في الخطورة تجب التوقف عندها طويلاً وهي غياب آليات الحوار الموضوعي ومفردات النقاش المنفتح، مثل ما يظهر في نقاشات الساسة وسجالات العديد من المفكرين والمثقفين حتى على المنابر الإعلامية (يكفي تذكر بعض البرامج الحوارية التلفزيونية التي تقوم على المواجهات الشرسة لمُتعصبي الفكر ورافضي الآخر). وهو إرهاص خطير لحجم الفقر الذي نعانيه لمفردات الحرية والتعدد، والحاجة الماسة لتبني ثقافة المُشاركة وقبول الآخر، التي لا تعني بأي حال من الأحوال (كما يحلو للبعض أن يصور الأمر) ضعفاً أو ثقةً منقوصة أو علاقة تبعية وارتهان بالآخر. ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصل هذه الظاهرة عن المشكلة الأم : الغياب شبه التام لممارسة الحرية بأشكالها المختلفة وتجلياتها العديدة. ولعل أبرز هذه الممارسات وأكثرها التصاقاً بالمفهوم الإنساني والفلسفي للحرية هي حرية الرأي والتعبير عن الذات. فممارسة حرية الرأي ما هو إلا تحقق لفعل الحرية بأشكاله الأرقى إنسانياً، وما هو في حقيقة الأمر إلا تحول فلسفة الحرية إلى فلسفة فعل، ومعنى هذا أن فلسفة الحرية ليست فلسفة ركود بل هي فلسفة فعل وفعل الحرية يبدأ بالتعبير عن الذات وعن القناعات والمعتقدات والتخلص من أي حواجز وعوائق تمنع هذا التعبير دون وجه حق. والأمر الجدير بالملاحظة في مقاربة الغياب القسري لثقافة الاختلاف والحوار، هو الحضور القانوني والدستوري لكل ما يشرع ويحض على نفي هذا الغياب، لا بل على العكس تعزيز حضور حرية الاختلاف بالرأي وحمايتها ؟ وهو الأمر الذي يبدو أنه لم يعد بقادرٍ على إدهاشنا بسبب من الفجوات الكبيرة والمتزايدة بين ما تنص عليه الدساتير في مجتمعاتنا العربية وبين الممارسة الحياتية اليومية.

الوضع الراهن

رغم إننا نعيش قرناً من الحداثة (2) والتمدن والرفاهية وبخصائصه الإيجابية، ‘إلا أننا عندما نحلل هذا القرن وما سيتمخض منه من قضايا تشغل الإنسانية بأجمعها ويصبح كابوساً يخنق أنفاسها يوماً بعد يوم فرؤية هذه الحقائق بجميع جوانبها توصلنا إلى تحليل صحيح ونتيجة إيجابية لمعرفة أنسب الطرق لحل كافة هذه القضايا. إن إحدى مبادئ الديمقراطية العصرية وخصائصها الهامة هي "المواطنة"، فالمواطنة تلغي كل تمييز بين الأجناس والأقوام، فالناس يولدون متساوون في الحقوق الإنسانية والتي تتمثل اليوم في حقوق الأجيال الثلاثة وكذلك هم متساوون أمام القانون وليس من فارق سوى في الأعمال ودرجة الإبداع والمشاركة في تسيير عجلة الحياة. إن الحضارة الأوروبية لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب لتطبيق جميع مبادئ الديمقراطية والمواطنة رغم التقدم الكبير في هذا المجال مقارنة بالدول المتخلفة ، ويرجع ذلك بصورة أساسية الي تفريط الغرب في الجانب الروحي والإفراط في الجانب المادي فتقدمت "رجل المادة" وتخلف "رجل الروح" مما جعل المجتمع الغربي يسير بخطي مختلة رغم التقدم الذي يبدو عليه ، ولذلك من الخطورة بمكان اعتبار النموذج الأوروبي حلا لجميع

مشاكلنا وقضاينا الراهنة. إن المشاكل الراهنة (3) لأي بلد من البلاد هي ، في حقيقتها ، صورة لمشاكل الجنس البشري برمته ، وهي ، في أسها ، مشكلة السلام علي هذا الكوكب الذي نعيش فيه ، ولذلك فقد وجب ان يتجه كل بلد إلي حل مشاكله علي نحو يسير في نفس الاتجاه الذي بمواصلته تحقق الإنسانية الحكومة العالمية ، التي توحد إدارة كوكبنا هذا وتقيم علائق الأمم فيه علي القانون ، بدل الدبلوماسية ، والمعاهدات ، فتحل فيه بذلك النظام والسلام. المسألة الأساسية التي يجب أن يعالجها دستور أي أمة من الأمم هي حل التعارض البادي بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة ، فان حاجة الفرد الحقيقية هي الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة هي العدالة الاجتماعية الشاملة: فالفرد – كل فرد- هو غاية في ذاته ولا يصح أن يتخذ وسيلة لأي غاية سواه ، والجماعة هي أبلغ وسيلة إلي إنجاب الفرد الحر حرية فردية مطلقة ، فوجب أذن أن ننظمها علي أسس من الحرية والاسماح تجعل ذلك ممكنا.
إننا نعتبر الدستور في جملته عبارة عن المثل الأعلى للأمة ، موضوعا في صياغة قانونية ، تحاول تلك الأمة أن تحققه في واقعها بجهازها الحكومي ، بالتطوير الواعي من إمكانياتها الراهنة ، علي خطوط عملية يقوم برسمها التشريع والتعليم ، وبتنفيذها الإدارة والقضاء والرأي العام. فليس هنالك رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن علي حريات الآخرين ، فثمن الحرية الفردية المطلقة هو دوام سهر كل فرد علي حراستها واستعداده لتحمل نتائج تصرفه فيها ليحقق الدستور كل الأغراض المرجوة منه ، فانا نتخذه من(القرآن) وحده: لا سيما وأن (القرآن) لكونه في آن معا ، دستورا للفرد ودستورا للجماعة قد تفرد بالمقدرة الفائقة علي تنسيق حاجة الفرد إلي الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة إلي العدالة الاجتماعية الشاملة ، تنسيقا يطوع الوسيلة لتؤدي الغاية منها أكمل أداء. أي أن المهمة الأساسية للدستور إتاحة الفرصة الكاملة لممارسة الحقوق الأساسية لأي مواطن سوداني. والحقوق الأساسية(4) هي حق الحياة وحق الحرية وما يتفرع عليهما: ويتفرع على حق الحياة الحقوق الاقتصادية ويتفرع على حق الحرية حرية العقيدة وحرية الرأي ويتفرع على هذه الفروع فروع كثيرة غرضها كرامة حياة بني آدم .. ينصص عليها الدستور ويستوعبها القانون. أن حرية الرأي واحترام الاختلاف (5) لا تتحقق إلا بتحقق حريات أُخرى منضوية تحتها، حرية التعبير التي تسمح لكل مواطن أن يعبر بحرية عن أفكاره وبالشكل الذي يراه مناسباً لذلك (مقال، كتاب، فيلم..) وتتضمن بالتالي حرية الصحافة وأيضاً كافة الاتصالات السمعية البصرية. حرية الاجتماع التي تسمح لجماعة ما من الأشخاص بالاجتماع لكي يتبادلوا الآراء أو لكي يدافعوا عن قضية ما. حرية التظاهر التي تسمح لأشخاص مدافعين عن قضية أو رأي بالتعبير عن موقفهم في الأماكن العامة. وبتعزيز هذه المفاهيم عبر تفعيل جدي للقوانين والمواد الدستورية، سنكون قد قطعنا خطوة عملاقة باتجاه تحقيق مفاهيم احترام الاختلاف وقبول الرأي الآخر، بالطبع مع التوازي في عملية هدم آليات التفكير الاستبدادية وأشكال الاستئثار بالرأي في كافة المؤسسات الثقافية منها والاقتصادية وحتى الدينية، ولهذا أثره علي "الهوية" وتماسكها. هناك بعض المثقفين من (6) المواطنين يشعر بالخطر من قيام دستور إسلامي مزيف ، وقد جعلهم الخوف من هذا الخطر يدعون الى الدستور العلماني وهذا عندنا خطأ من جهتين: أولاهما أن الدستور العلماني ناقص في حد ذاته ، وأنه، بالغ ما بلغ من الكمال ، لن يأتي الى كفاية الدستور الإسلامي الصحيح، وثانيهما أن الدعوة الى الدستور العلماني تترك الميدان الإسلامي خاليا من الدعوة الواعية الرشيدة ولن يستجيب شعبنا لدعوة مدنية ويترك الدعوة الدينية، فكأن من يرون هذا الرأي من قطاعات الشعب قد اختارت أن تترك الشعب نهبا للتضليل المنظم وفي هذا خيانة للشعب وهروب من الميدان .الدستور الإسلامي لا يلتمس في الشريعة الإسلامية وإنما يلتمس في القران ، على أن يفهم القرآن فهما جديدا ، ببعث آياته التي كانت منسوخة في القرن السابع ، لتكون هي صاحبة الوقت اليوم ، وينسخ آياته التي كانت ناسخة وكانت صاحبة الوقت في القرن السابع ، وعليها قامت الشريعة فإنه بغير ذلك لا نصل إلى الحقوق الأساسية ، ولا دستور بغير الحقوق الأساسية. ذلك أن آيات الحقوق الأساسية منسوخة بآيات الإكراه وآيات الوصاية .. فإذا انبعثت الآيات المنسوخة فقد ارتفعنا بالإسلام من مستوى العقيدة الى مستوى الإيقان ، وفي هذا المستوى الناس لا يتفاضلون بالعقيدة ، وإنما يتفاضلون بالعقل والخلق، فلا يسأل الإنسان عن عقيدته وإنما يسأل عن صفاء الفكر وإحسان العمل. ومن هنا لا يقع تمييز ضد مواطن بسبب دينه ولا بسبب عدم دينه .. وهذا الدستور لا يسمى إسلاميا لأنه يسعى لإقامة حكومة دينية وإنما يسعى لإقامة حكومة إنسانية ويستظل بظلها كل البشر بصرف النظر عن ألوانهم، وألسنتهم ، ومعتقداتهم ، على قدم المساواة في الحقوق والواجبات ولكن مصدره القرآن .. وهو إنما مصدره القرآن لأن القرآن موظف لجلاء الفطرة البشرية من حيث هي بشرية .. جلائها من أدران الأوهام التي غطت عليها وشوهت نقاءها، وبذلك تبرز"الهوية الإنسانية". "هذا ، وهناك حق ، كثيرا ما أريد به باطل ،(7) وهو أن الشعب البدائي يحتاج إلي تربية قبل أن يستحق ممارسة السيادة ، وهذا تسويغ للحكم المطلق ، ووجه الحق أن الشعوب تحتاج إلي تربية ، بيد أن الحكم المطلق لا يربيها تربية الأحرار ، وإنما يربيها تربية العبيد ، وهو بذلك لا يعدها للديمقراطية ، وإنما يعدها للاذعان والانقياد ، ونحب أن ننبه إلي الخطر الماحق المترتب علي هذا الاتجاه ، ونحب أيضا أن نؤكد أنه ليس هناك طريق لتربية أي شعب تربية حرة إلا بوضعه أمام مشاكله ، ومحاولة أعانته علي تفهمها ، والتفطن إلي طرائق حلها بنفسه ، حتى يطرد تقدمه إلي تحقيق الديمقراطية المباشرة." لذلك فإن حسّ " الهوية " في الإسلام هو حسّ الوجود المتميّز ، حسّ العدالة العميق ، المتجذّر في النفس البشرية التي تأبى الظلم وتقاومه . إن حسّ العدالة هذا هو جوهر الدين الإسلامي ، والقصد الأساسي في الإسلام هو مبدأ العدالة الناتج من قيمة الإنسان نفسه ، فالإنسان ليس فردا فقط ، فكل فرد يمثل الإنسانية كلها .وهذا ما تقوله الآية الكريمة(مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا). . هذا من ناحية الدستور الذي بدون وجوده وفاعليته لايمكن الخروج من أزماتنا الراهنة ومعضلاتنا المستعصية ومنها موضوع هذه الورقة المتعلق بالتعاونيات والسلام والهوية ، فالدستور العادل الأساس لوجود هوية سودانية جامعة. وترتبط الهوية القومية لأي شعب (8) بسياسته تجاه الآخرين، فتفرز تبعاً لذلك مفاهيم نسبية مثل "أقلية عرقية"، أصولية الخ، وعلى ما يبدو أن الشعوب عامةً، ومنذ بداية تكوينها "كشعوب" تسعى إلى ترسيخ وتعميق هذه الهوية التي تملكها باعتبارها المميز الأساسي لهذا الشعب أو ذاك عن غيره من الشعوب، حيث تخلق هذه الهوية، أياً كانت طبيعتها، مجموعة من القيم التي تصبغ كل فرد من أفراد هذا الشعب بسمة معنية قد يزداد التمسك بها أو ينقص تبعاً لمستوى انتماء هذا الفرد. ولكن الإشكالية الحقيقية تبدأ في اللحظة التي تتم فيها محاولة خلق هذه الهوية، أو بمعنى آخر محاولة دمج مجموعة من الهويات القادمة من ثقافات متفرقة ومتباعدة وتحويلها إلى هوية واحدة، ففي رحلة البحث عن هذه الهوية الواحدة تحدث عدة إشكاليات تؤدي في النهاية، فيما لو نجحت ، إلى خلق كيان قوي معافى ومتماسك ، وإذا فشلت فإنها تنتج كائن مسخ، ذي هوية غير واضحة، لأن الهوية تخلق على امتداد زمني يقيم ويُسقِط، يتجدد ويثبت حتى يصل إلى تعريف واضح ومحدد لهويته الثقافية والقومية. أن مسالة الانتماء إلى هوية أخذت أبعادا جديدة دفعت في بعض الأحيان اللجوء للعنف الدامي ، كما حدث في يوغسلافيا ، كوسوفو ، منطقة القوقاز ، منطقة البحيرات بأفريقيا وغيرها من مناطق أخرى،وأن هذه النزاعات قد قامت حول "الهوية" وتأكيدها والاستماتة من أجل إبْـقائها أو إبرازها ماثلة ومؤثرة، وتجد قوتها القاتلة على أساس افتراض أن هوية ثقافية ـ مزعومة ـ تتناظر بالضرورة مع هوية سياسية ، ولكن مزعومة هي أيضا في الواقع . هذا الحديث يجد سند في الواقع السوداني المتفتت والمتناحر والمتصارع في آن معا وخاصة في ما يتعلق بالصراع المأساوي في دارفور المكلومة، وما ذالك إلا لغياب الدستور الأساسي الذي يحكم السودانيين علي أساس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات ، وكان هذا دافعا وباعثا لحرب الهوية في بلادنا والتي أثرت علي كل مناحي الحياة السودانية ومنها التعاونيات ، فقعدت عن أداء دورها في التنمية والنماء وبناء السلام.
مسألة الهوية اليوم

اكتسح مفهوم الهوية في بحر بضعة عقود مجمل العلوم الإنسانية (9) فقد فرض هذا المفهوم نفسه حتى غدا بمثابة كلمة سحرية، وذلك في تحليل حقائق جد متنوعة مثل علم نفس الأفراد، وتحولات الأديان، والعلاقات بين النساء والرجال، وموضوعات المهن، والحياة الأسرية، والهجرة، والصراعات العرقية. وطُرح سؤال الهوية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر(10) ، ولا يزال وسيبقى يُطرح بصيغتين متباينتين يجوز التعبير عنهما مجازيا "بالصوت والصدى " ، " أو الفعل ورد ّالفعل " إحدى هاتين الصيغتين كانت محور الخطاب النهضوي العقلاني المتجه إلى المستقبل ، والمحفّز على التحرّك ، الخطاب الفعّال المساهم في صناعة التاريخ من موقع قوة، والصيغة الثانية كانت ولا تزال محور الفكر المهزوم والانهزامي ..فكر يستند إلى التسويغ والتبرير والفرار إلى الماضي والاحتماء بمحطاته المضيئة والتغنّي بأمجاده والدفاع الوهمي عن الذات . وتثار مسألة الهوية اليوم،(11) باعتبارها موضوع اللحظة الحضارية الراهنة، و موضوع القرن الواحد و العشرين بلا منازع، وهكذا يمكن أن
نقرأ ملامح البحث عن الهوية والعودة إليها في العديد من مظاهر التوتر المنتشرة هنا وهناك؛ فالحملات في بلدان أوربا ضد الأجانب واللاجئين الوافدين تتم في مجمل صورها في إطار صراع الهوية. ومن الأمثلة أيضا العدوان الذي تمارسه "إسرائيل" علي الشعب الفلسطيني، وحركة الجمهوريات الإسلامية للتحرر من السيطرة السوفيتية سابقا كانت حركة في اتجاه البحث عن استرداد الهوية الإسلامية التي تم قمعها طويلا. وصمود البوسنة ضد الإبادة الصربية كان صمودا للهوية أيضا ونفس الشيء يقال عن كل الأقليات في التخلص من خطر الذوبان والتلاشي ولازالت معظم الصراعات التي تدور في إفريقيا تستند إلى جذور أثنية عرقية. ولا زال سؤال الهوية الذي لعب دورا حاسما في إنهاء معسكر الاتحاد السوفيتي يمارس الفعل نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعتمل كثير من الصراعات والأحقاد العرقية والإثنية التي لا تأمن معها الدولة العظمى الانتهاء إلى مصير التفكك نفسه، بصيغة أو بأخرى. ان العديد من الشروط والحيثيات الحضارية والتاريخية تتحكم في سيرورة موضوع الهوية و تحولاته عند المجتمعات البشرية، وهي التي تفسر امتداده ، ذلك أنـه قد يكون بالفـعل "بمثابة رد فعل سياسي اختياري من قبل المجموعة البشرية، صغيرة كانت أم كبيرة، حينما تشعر أنها مهددة بالانقراض و التبعية" كما يقول .Anarrdaw .P .Guruge فهذا الشعور بالقلق على الهوية يزداد حدة كلما لامست المجموعة مظاهر الاختـراق الخارجي لأنساقها القيمية ومعايرها المتميزة وهذا هو الذي يبرر لماذا "كانت المطالبة بالهوية في العصر الراهن أكثر حدة قوميا أو محليا، أو حين الهجرة الجماعية، وأيضــا حينما تبتنى قيم وخصائص ثقافية أجنبية من قبل فئة داخل الجماعة نفسها". بهذا المعنى يكون بحث التكتلات البشرية في حالات الأزمة عن هويتها، نوعا من العودة إلى الذات سعيا للانفلات من خطر الانقراض أمام التحديات الخارجية التي قد تهزها بعنف. جميع هذه العوامل، وغيرها تجعل موضوع الهوية بتعبيرC .L .Strauss "ينفتح على العديد من المنعطفات، باعتباره يهم بشكل إجرائي كل الأنساق والأنظمة وكل المجتمعات التي يشتغل عليها الأنتربولوجيون خاصة" ولهذا فإن موضوع الهوية سيكون معضلة القرن الكبرى.
إن الإشكالية المعاصرة لمفهوم الهوية(12) لا تعود في أصلها إلى التراث الميتافيزيقي فبعد عشرين قرناً، تحددت المسألة، وبدأت تقترب بما يشغل العلوم الإنسانية والاجتماعية حالياً، وذلك بفضل الطريقة التي طرح بها الفلاسفة الإمبريقيون،وعلى رأسهم دافيد هيوم وجون لوك"مشكلة الهوية الشخصية" كيف يمكن التفكير في وحدة الأنا في الزمان؟ هل أنا الشخص نفسه الذي كنته قبل عشرين سنة؟ لوك اقترح حل إشكال الهوية الشخصية بفكرة الذاكرة: إذا كنت الشخص ذاته الذي كان قبل عشرين سنة، فلأنني أذكر مختلف المراحل التي مر بها وعيي أو شعوري. إن الإشكال وحله قضيتان عصيبتان، تظلان محصورتين في إطار الفلسفة،وتبقى الهوية الشخصية مسألة تقنية دقيقة من اختصاص الفلاسفة أما بالنسبة للرأي العادي لعموم الناس، فالجواب نعم، فأنا هو نفسه من كان قبل سنتين، فهذا أمر بديهي.
تعريف الهوية
"الهوية" (13) مصطلح جديد في الحياة السياسية والثقافية، ففي العديد من البلدان العربية يطلقون كلمة هوية للبطاقة التعريفية ويمكن تبسيط المعنى بأنهم يقصدون معلومات تميز شخصيتك وهي بهذا الفهم ـ أي الهوية ـ هي منظومة العناصر المكونة لشعب من الشعوب أو مجموعة سكانية وهذه العناصر تتضمن الحضاري والاجتماعي والثقافي ، ويمكن إن يكون الشعب المعني محدداً بحيز جغرافي واجتماعي وتربطه قواسم مشتركة." ويؤكد مصطفى المسعودي (14) ان " الهوية " في اللغة العربية مصدر صناعي ، يتكون من ضمير الغائب المفرد ' هو ' المعرف ب 'ال' ومن اللاحقة المتمثلة في الياء المشددة إلى جانب ثاء التأنيث. ويذهب معظم الباحثين إلى أن اسم " الهوية " ليس عربيا وإنما كلمة مولدة اشتقها المترجمون القدامى من ال " هو " أي حرف الرباط .. الذي يدل عند العرب على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره، وهو حرف " هو " في قولهم: زيد هو حيوان أو إنسان "، ولينقلوا، بالتالي، بواسطتها، و كما يقول الفارابي، "المعنى الذي تؤديه كلمة ' هست ' بالفارسية وكلمة 'استين' باليونانية، أي فعل الكينونة في اللغات الهندو- أوربية الذي يربط بين الموضوع والمحمول، ثم عدلوا عنها ووضعوا كلمة 'الموجود ' مكان ال ' هو' و 'الوجود' مكان 'الهوية ' ". إن غياب مفهوم الهوية بهذا المعنى الفلسفي تعضده المعاجم العربية القديمة ففي " لسان العرب " مثلا لا نقف على تخريجا للكلمة يؤرخ لامتداده في الذاكرة العربية القديمة. وبالمقابل نجد ذكر المفهوم عند فلاسفة العرب والمسلمين القدامى من أمثال ابن رشد في " تفسير ما بعد الطبيعة " وابن سينا والفارابي ، والجرجاني الذي عرفها ب"الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق". وتلتقي تعريفات الفلاسفة المسلمين مع ما نجده عند فلاسفة اليونان القدامى خاصة أرسطو الذي يعرف الهوية باعتبارها: "وحدة الكائن، أو هي وحدة لتعدد الكائنات، أي وحدة الكائن الواحد المنظور إليه باعتباره متعددا؛ إذ حينما نقول – على سبيل المثال – إن الشيء الواحد متطابق في ذاته، إنما ننظر إليه في نفس الآن كما لو كان شيئين". و في نفس المنحنى يذهب كثير من فلاسفة ' الأنوار ' بأوربا حيث نجد عند ' فولتير ' التحديد التالي لمفهوم " الهوية ": "هذا المصطلح العلمي لا يعني سوى الشيء نفسه، ويمكن ترجمته إلى اللغة الفرنسية بمعنى التساوي". ولا يخرج " هيجل " وغيره من فلاسفة الغرب عن هذا الجذر التعريفي المؤسس لمفهوم " الهوية " والذي نقلت المعاجم و الموسوعات الفلسفية المعاصرة صياغته بنفس المعنى؛ حيث دأبت على اعتبار "الهوية" هي " مقولة تعبر عن تساوي و تماثل موضوع أو ظاهرة ما مع ذاته، أو تساوي موضوعات عديدة. في الثلاثينات قام (15) عالم النفس إ. إريكسون صاحب مفهوم الهوية بدور مركزي في انتشار استخدام هذه الكلمة وتوسع شعبيتها في العلوم الإنسانية من خلال عمله في المحميات الهندية لقبائل السيو بداكوتا الجنوبية وفي قبيلة يوروك بكاليفورنيا الشمالية، ودرس "الاجتثاث الثقافي" لهؤلاء الهنود المعرضين لموجة الحداثة. ثم نشر في سنة 1950 كتاب "طفولة ومجتمع"، حاول فيه تجاوز نظرية فرويد بالتأكيد أكثر على دور التفاعلات الاجتماعية في بناء الشخصية. فاعتبر أن الهوية الشخصية تتطور طوال وجودها عبر ثمانية مراحل تقابلها ثمانية أعمار في دورة الحياة، و "أزمة الهوية" (هذا التعبير الذي نقرؤه اليوم في كل مكان،هو من صياغة إريكسون) تتطابق مع تحول يقع في مسيرة تطور الهوية. ويكاد الجميع يتفق على أن إريكسون هو أب كلمة "الهوية" بالمعنى المعاصر. ولم يحتل مفهوم الهوية أهمية حاسمة في معجم علم الاجتماع إلا بواسطة "التفاعلية الرمزية"؛ فهذه المدرسة تبحث بالضبط في الطريقة التي تشكل عبرها التفاعلات الاجتماعية -وبناء على أنساق رمزية مشتركة- وعي الفرد بنفسه، وهذا بحث في صميم إشكالية الهوية. وبالرغم من ذلك لم يستعمل التفاعليون في البداية هذا اللفظ. ولهذا تفسير قريب، ذلك أن الآباء المؤسسين لمنهج المدرسة -شارل كولي وجورج ميد- تكلما عن "الذات" Soi، وهو المصطلح الذي راج بين التفاعليين في الستينات. ثم إن التفاعلية الرمزية انتقلت من استعمال اصطلاح الذات إلى استخدام اصطلاح الهوية بدءاً من سنة 1963، وذلك حين نشر إيرفين جوفمان -أحد رؤوس هذه المدرسة-: "آثار الجراح: ملاحظات على أسلوب التعاطي مع هوية مدمرة" وفي السنة ذاتها شهر بيتر برجر مفهوم الهوية وساهم في انتشار استعماله، بكتابه: "دعوة إلى دراسة علم الاجتماع" ، وذلك حين خصّص له حيّزاً هاماً في تقديمه لنظريات الأدوار والجماعة المرجعية، وكذا من خلال المقاربة الظاهراتية التي طورها في كتابه هذا.
إن فهمنا للهوية ينبني (16) على تراثنا الحضاري، فالهوية في ثقافتنا العربية الإسلامية هي الامتياز عن الأغيار من النواحي كافة. ولفظ الهوية يطلق على معان ثلاثة: التشخص، والشخص نفسه، والوجود الخارجي. وجاء في كتاب (الكليات) لأبي البقاء الكفوي، أن ما به الشيء هو باعتبار تحققه يسمى حقيقة وذاتاً، وباعتبار تشخصه يسمى هوية، وإذا أخذ أعم من هذا الاعتبار يسمى ماهية. وجاء في هذا الكتاب أيضاً أن الأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب (ماهو) يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار يسمى هوية. والهوية عند الجرجاني في (التعريفات) الحقيقة المطلقة، المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق. وتستعمل كلمــة (هوية) في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة identityالتي تعبرعن خاصية المطابقة: مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقته لمثيله. وفي المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون، فالهوية هي: "حقيقة الشيء، أو الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميزه عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات". ولذلك فإذا اعتمدنا المفهوم اللغوي لكلمة (هوية)، أو استندنا إلى المفهوم الفلسفي الحديث، فإن المعنى العام للكلمة لا يتغير، وهو يشمل الامتياز عن الغير، والمطابقة للنفس، أي خصوصية الذات، وما يتميز به الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ومميزات، ومن قيم ومقومات. أن

الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري، والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية، طابعاً تتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى. وتُعرف الهوية أيضا بمعنى " التفرّد " (17) ، فالهوية الثقافية تعني التفرّد الثقافي بكل ما يتضمنه معنى الثقافة من عادات وأنماط سلوك وميل وقيم ونظرة إلى الكون والحياة . ويفسرها تركي الحمد في كتابه : "الثقافة العربية في عصر العولمة " (( الهوية طالما أنها مركب من عناصر فهي بالضرورة متغيرة في الوقت ذاته تتميز فيه بثبات معيّن ، مثل الشخص الواحد يُولد ويشبّ ويشيخ وتتغيّر ملامحه وتصرّفاته وأحيانا ذوقه ، لكنه يبقى في الخير هو نفس الشخص وليس شخصا آخر. )) د. أحمد بن نعمان يذهب في تعريفه للهوية يقول : (( إن مفهوم " الهوية " من ناحية الدلالة اللغوية هي كلمة مركبة من ضمير الغائب " هو " مضاف إليه ياء النسبة ، لتدلَّ الكلمة على ماهية الشخص أو " الشيء " المعني كما هو في الواقع بخصائصه ومميزاته التي يُعرفُ بها . والهوية ـ الكلام لابن نعمان ـ بهذا المعنى هي اسم الكيان أو الوجود على حاله ، أي وجود الشخص أو الشعب أو الأمة كما هي بناء على مقومات ومواصفات وخصائص معينة تمكن من معرفة صاحب الهوية بعينه ، دون اشتباه مع أمثاله من الأشباه .)). وفي كتابه "تلخيص ما بعد الطبيعة" (18) يقول الفيلسوف الكبير ابن رشد "إن الهوية تقال بالترادف للمعني الذي يطلق علي اسم الموجود وهي مشتقة من "ال هو" كما تشتق الإنسانية من الإنسان" ، وهو بهذا يعود بنا إلي مفهوم الهوية أو الذاتية في منطق أرسطو باعتبارها تماثل الشيء في ذاته. فألف هي ألف وليست لا ألف ، ولذا نري في "التعريفات" للجرجاني "إن الهوية هي الأمر المتعقل من حيث امتيازه علي الأغيار"، والامتياز هنا بمعني الخصوصية والاختلاف , لا بمعني التفاضل. ولعل ابن خلدون إستصاع أن يبرز هذا المعني أكثر وضوحا في "المقدمة" بقوله "لكل شيء طبيعة تخصه". وعلي هذا فانتفاء خصوصية الشيء هو انتفاء لوجوده. من ذلك يتضح إن لمعني الهوية(19) أوجه عديدة الا أن جميعها تقوم علي أصل واحد هو الشعور بالانتماء إلي جماعة ،فالإنسان كائن اجتماعي لا يمكن أن يجد نفسه بل من المؤكد أنه لا يستطيع إن يحافظ علي حياته أو استمرارها أو استمرار نوعه بدون الانتماء إلي جماعة أي بدون ان تكون له هوية وهذا الوجه الاجتماعي لمعني للهوية ن إما الوجه القانوني فقد تبلور فيما يعرف بالحق في الجنسية. وبذلك يمكن الحديث عن عدة هويات: الهوية القبلية ، الهوية الدينية ،الهوية العنصرية ، الهوية الثقافية ،الهوية اللغوية الهوية اللونية، الهوية الطائفية ،الهوية العقائدية وهوية المواطنة ، ويضيف الباحث هنا الهوية التعاونية والهوية الإنسانية.

تعريف التماهي :-Identification
عن التماهي يذكر الباقر العفيف (20) إن (قاموس العلوم الاجتماعية يعرف التماهي باعتباره "الميل للتقليد،و/ أو عملية تقليد سلوك شئ ما. وربما يدل كذلك على عملية التمازج العاطفي، أو حالة هذا التمازج الناجزة، مع هذا الشيء ذاته." وقد استخدم س. فرويد، هذا المصطلح في علم النفس، لأول مرة عام 1899، إذ قال أن "التماهي هو التعبير المبكر عن الرابطة العاطفية مع شخص أخر". يتماهي الفرد مع شخص أخر "كمثال للذات " بوصفه شخصاً يريد أن يكونه، أكثر مما يريد أن يمتلكه. وهذا ما يجعله مهماً في سلوك المجموعات. وهو يفسر حاجة الفرد ومقدرته علي الارتباط، وقوة الروابط العاطفية، المشار إليها، كخصائص جوهرية للبشر. وهو يذكر في نفس الوقت" الأصل الطفو لي لعملية التماهي، ويفترض أن هذا الأصل الطفولي هو الذي يفسر بقاءها على مستوي اللاوعي، وقوتها كعامل تحفيزي، وتظاهراتها اللاعقلانية والنكوصية في بعض الأحيان. ولكن التماهي بالنسبة إليه ليس مجرد محاكاة، بل هو بالأحرى تمثل يستند إلى سلسلة سببية متشابهة.). وبهذا المعني يمكن تصور لماذا تماهى الشماليون مع العرب؟ وتفسير دوافع انقلاب الهوية الذي حدث لهم ، ومعرفة ما ا لذي يسّر للشماليين، بل لشعوب عديدة عبر العالم الإسلامي، أن تتعلق بالأصل العربي.



أزمة وإشكالية الهوية
أن إشكالية الهوية وخطابها الفكري لا يزالان سائديْن بشدة في أيامنا هذه حيث أن العلاقة بين الثقافة والهوية علاقة تلاحم وكل خلخلة أو اختراق للثقافة سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف لمكونات الهوية إنْ لم نقلْ تفتيتا لها مستقبلا. إن الخطاب حول " الهوية " أصبح سائدا في كل ساحات النقاش الفكري ، ليس في الدول الضعيفة فحسب ، بل حتى في الدول المتقدمة ، فالاتحاد الأوروبي الذي أصبح يشكل قطبا سياسيا واقتصاديا وثقافيا كبيرا في العالم ، يتوجّس خيفة من الاختراق الثقافي الأمريكي ، ويتخذ العديد من القرارات العملية لمواجهة مكونات النـمط الثقافي الأمريكي. الصحفي والكاتب الفرنسي أريك دوبان في (21) يستهل في كتابه الذي عنْونه ب :{هستيريا الهوية } بعبارة مَنْ أنا ؟ ) إذْ يرى بأن فكرة الهوية تعدّت ما هو معروف ومتداول لدى أغلب المفكرين والمثقفين ورجال الإعلام ..و يؤكد مباشرة وبوضوح ، بأن الألفية الثالثة تبدأ في ظل حالةٍ من تفاقم اللامساواة بين فقراء العالم وأغنيائه ، بل وداخل كل شعب وأمة ، وهذا بعد قرن من سيادة النزعة الداعية إلى " المساواة " وإتاحة الفُرص للجميع في ظل الأيديولوجيا الشيوعية والنظام الاشتراكي ..لكن مع فقدان هذه الأفكار مصداقيتها في أرض الواقع ، فقدت نزعةُ المساواة المطلقة أيضا الكثير من حضورها ؛ في الوقت نفسه بدا أن التمركز الذي كان حول التأكيد على المساواة ، قد أخْلى المكان للتأكيد على " الهوية " ، فتضاءلت الرغبة أن يكون المرْء " مثل الآخرين " وهو ما كانت تدعو إليه " فكرة المساواة " ، بينما بالمقابل تعاظمت الرغبة أن يكون المرْء " مختلفا عن الآخرين". وبذلك تتضح الأزمة ويبقى سؤال الهوية في مقدمة الأسئلة الفكرية والمعرفية الأكثر إلحاحا من أنا ؟ ما علة وجودي وما غايته ؟ ومن هو هذا الآخر ؟ ما الذي يميزني عنه ؟ ما يربطني به ؟ ما وجوه الاختلاف بيننا ؟ ولكم نخطئ عندما نحصر سؤال الهوية في صيغة: من نحن ؟ ومن هو الآخر ؟ ولا نحصره في الآتي : كيف نحن ؟ وكيف هو الآخر؟ " السؤال في الصيغتين هو سؤال الهوية ، بيْـد أن الصيغة الأولى تُـحيــلنا على مــاهية " الهوية " وجوهرها .أمّا الصيغة الثانية فتُـحيلنا على الواقع والتاريخ .الصيغة الأولى تدعو إلى التأمل وإعْمال الفكر .بينما الصيغة الثانية تدعو إلى التحرّك الإيجابي الفعّال والمشاركة ليس في صياغة التاريخ ، بل في صنعه إلى جانب الآخر .صيغة تحصر " الهوية " في مجال الفكر والثقافة ، بل هناك من يُغلِّـب عليها " التراث والفلكلور والثقافة الشعبية" يتحوّل لديها مفهوم الهوية إلى مفهوم الجوهر الثابت السرمدي ، وصيغة ثانية تضعها كما سبق في مجال التاريخ والصيرورة الاجتماعية للتاريخ المتحرّك أماما وليس خلْفا ..تاريخ إنتاج البشر لوجودهم في كل مجالات الحياة ، فيرتبط لديها مفهوم " الهوية " بالفاعلية الإنسانية الحيّة وبفكرة التغير والتقدم .الصيغة الأولى تقليدية في نظرتها إلى " الهوية " ترفض الاختلاف والتعدّد ، نافية للواقع الفعلي ، نافية للحرية الفردية ، فالجماعية .
ويمكن لأزمة الهوية (22) أن تحدث علي المستويين، الشخصي والاجتماعي. على المستوي الشخصي، تنشأ الأزمة عندما تحين لحظة إحداث التوافق بين التماهيات الطفولية وبين تعريف جديد وعاجل للذات، وأدوار مختارة لا يمكن النكوص عنها. يضاف إلى ذلك أن الهوية الشخصية تقوم علي جهد يستمر كل الحياة، كما يقول إريكسون، والفشل في تحقيقها يسبب أزمة ربما تكون لها نتائج مدمرة على الأفراد. أما على المستوى الاجتماعي، فتنشأ الأزمة عندما يفشل الناس، وهم يصنعون هوياتهم، في العثور على نموذج يناسبهم تماماً، أو عندما "لا يحبون الهوية التي اختاروها أو اجبروا على تبنيها"، ولأن الهويات الاجتماعية يتم تكوينها عادة "من التشكيلة المتاحة من التصنيفات الاجتماعية، فإن ظهور الخلعاء يكون حتمياً". كذلك يمكن أن تحدث الأزمة عندما يسود الغموض نظرة الناس إلى هويتهم، أو يفتقرون إلى هوية واضحة. وفى حالة أخرى يمكن أن تنشأ أزمة الهوية عندما يكون هناك تناقض بين هوية الشخص ونظرة الآخرين إلى الهوية ذاتها. وأخيراً يمكن أن توجد أزمة الهوية إذا كان مركز الهوية، أي الجهة التي تملك صلاحيات إصباغ الشرعية، لا تعترف بادعاءات الهامش. يمكن للمرء أن يضع اليد علي ثلاثة عوامل، تستطيع إذا ما تفاعلت مع بعضها البعض، أن تفسر كل هوية اجتماعية. العامل الأول هو تصور المجموعة لنفسها. العامل الثاني هو تصور الآخرين للمجموعة. العامل الثالث هو الاعتراف أو عدمه من قبل مركز الهوية بهذه المجموعة. إذا تفاعلت هذه العوامل الثلاثة بصورة منسجمة، أي إذا كان تعريف
الناس لأنفسهم مقبولاً وواقعياً، وكان تعريف الآخرين لهم منسجماً مع الرؤية الذاتية للجماعة، وإذا كان مركز تلك الهوية يمحضها اعترافه، حينها يقال أن تلك المجموعة تعيش في توازن. وهنا تتقدم النخبة الثقافية والسياسية لإعطاء هذا التوازن معناه، مزودة إياه بمنظومة من المعتقدات، والقيود، والمبادئ، الأساطير والنظام الرمزي. ويحاول النظام الرمزي إشاعة الانسجام في كل العالم المحيط بهذه المجموعة أو بمعني آخر، يحاول جعل العالم كله يبدو وكأنما ينبثق من الذات الجماعية للمجموعة، أو كأنما هو بعد واحد من أبعاد هويتهم. في هذه المرحلة يمكن وصف المجموعة بأنها صارت ذاتها، وأنها ترى العالم بعيونها أصالةً. أحد الأمثلة على الكيفية التي يشتغل بها النظام الرمزي، هو الكيفية التي أعادت بها الثقافات الغربية رسم صورة المسيح لجعله شبيهاً بالانجلو-ساكسون. وقد حدث هذا رغم حقيقة أنه يهودي، ولم يكن له بأي حال من الأحوال شعر أشقر ولا عيون زرقاء. ومع ذلك كانت إعادة التركيب والصياغة هذه ضرورية من أجل تحقيق الانسجام في هوية البيض، لأن الناس يدركون العالم بصورة أفضل، عندما يعبدون إلهاً يشبههم، وليس إلهاً غريباً عنهم. ومن الجانب الآخر، إذا تفاعلت العوامل الثلاثة بصورة متناقضة، إي إذا كانت تصورات الناس لأنفسهم لا تنسجم مع الطريقة التي يعرفهم بها الآخرون؛ أو، وهذا أخطر الأمور؛ إذا كانت القوى المالكة لصلاحيات إضفاء الشرعية، لم تقبل تعريف الجماعة لنفسها، فإن هذه الجماعة توصف بأنها تعيش تناقضاً، وعدم انسجام. في هذه الحالة لا ينبثق النظام الرمزي من الذات الجماعية للجماعة، بل يكون مستعاراً في العادة من مركز الهوية التي تهفو إليها تلك الجماعة، وترغب أن "تكونها". هذه الشروط تعد المسرح لبروز تناقضات الهوية، ولزحف عدم الاستقرار إلى خلايا المجتمع، ولتفاقم أزمة الهوية حتى تسد عليه الأفق.
أما في السودان فلم يطرح أمر الهوية بحده ، بمثلما هو مطروح الآن (23) الأمر الذي نقل الموضوع من دائرة الحوار والعطاء المتبادل إلى دائرة الصراع والجدل السياسي، في ظل واقعنا الاجتماعي والاقتصادي المغبون والمشحون بعناصر التوتر والنزاع بعد حروب طويلة ساهمت في زرع بذور الشك وعدم الثقة بين مكونات السودان الاجتماعية والحضارية. إن الذي قفز بموضوع الهوية إلى سطح الأحداث السياسية والحربية هو الأزمة الوطنية نتيجة لتراكمات من الأخطاء ارتكبتها الأنظمة الوطنية التي تعاقبت على سدة الحكم منذ الاستقلال 1956م ، بل يرجع البعض جذور الأزمة إلى ما قبل ذلك ويربطها بالمخطط الاستعماري البريطاني الذي حاول منع اندماج المجتمع السوداني ، بحزمة سياسات عرفت بقانون المناطق المقفولة. والذي أوصل الموضوع إلى حافة الهاوية هو السياسات التي اتبعتها السلطة الحاكمة بعد 30 يونيو 1989م حيث ارتكبت أوزارا باسم الإسلام والعروبة وهي سياسات لا تشبه الدين الإسلامي والثقافة العربية في شئ ولكنها ولدت تيارات متطرفة رافضة لاى علاقة تربط السودان بالهوية الثقافية والحضارية التي تميزه مما زاد من حدة التوتر والاستقطاب في دوائر الصراع ، السودان الأفريقي أم العربي؟. فالسودان افريقي - عربي بانتمائه الجغرافي وجذوره وثقافاته المتعددة و تتداخل تكويناته الاجتماعية والثقافية والحضارية في كل تلك الدوائر ولا يمنع ذلك من الإقرار والاعتراف بالتمايز الثقافي والحضاري لجنوبه عن شماله. واختلاف في درجة الاندماج والانصهار لاقاليم الشمال لظروف عديدة مثل جبال النوبة والنيل الأزرق وبعض مناطق متفرقة من اطرافه، وهي لها الحق في تطوير ثقافاتها وتنميتها في إطار الوطن الواحد أو ما أطلق عليه الوحدة في التنوع ، أو التنوع في إطار الوحدة. ويجب علينا كسودانيين إن نعلي من شأن قيم الحوار والتثاقف بين مكونات المجتمع السوداني وان نبرز الموروث الايجابي لشعبنا فهو الذي أعطى بلادنا هذه الخصوصية المميزة التي نفاخر بها وان نكف عن التعامل الانتهازي مع دوائر انتماءاتنا فقد درج المسئولون وموظفو أجهزة الإعلام والمعنيون بالشأن العام عدم التعرض لمفاهيم ومصطلحات الأمة العربية أو الوحدة العربية والمصير المشترك والإخوة العربية والأشقاء العرب إلا عندما يحل بين ظهرانينا مسئول أو وفد من دولة عربية وكأننا ننافق الآخرين علنا ولا نتحدث عن خصوصية علاقتنا الأفريقية ودور السودان في دعم حركات التحرر الأفريقي منذ باتريس لوممبا إلى «نلسون مانديلا» إلا إذا ساءت علاقتنا مع إحدى دول الجوار وهكذا. فالهوية ليست اختياراً بل هي قدر علينا إن نحياه بمحبة اما الاختيار يمكن ان تتراجع عنه إذا لم تجد فيه ما تصبو وتريد.


الحركة التعاونية عالميا ومحليا

الشعار التعاوني المتفق عليه دولياً (24) الثلاث حلقات المتصلة والتي تعني ( اتحاد ، قوة ، عمل ) وأينما شوهد هذا الشعار على اللافتات والمباني في مدن وأرياف العالم يتذكر المرء ان هذا موقع او مقر لتعاونية ما أو للإدارات التعاونية . وتعتبر التعاونيات Co-operatives نوع من أنواع التنظيم ترتبط فيه جماعه من الناس ارتباطاً اختيارياً بصفتهم الإنسانية على قدم المساواة لإعلاء شأن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية. عبارة بصفتهم الإنسانية هذه تعني ان ينضم العضو للجمعية دون أي تأثير أو حسبان لمركزه المالي او الاجتماعي او السياسي او الديني كما ان هذه المراكز لا تعطيه أية امتيازات في الجمعية على الآخرين. والتعاون كظاهرة اجتماعية، قديم قدم البشرية، وشمل العديد من أنماط النشاط الجماعي بين الأفراد المتمثل في العون والتضامن والمساعدة المتبادلة وذلك لتحقيق أهداف اقتصادية لا يمكن أن تتحقق بالمجهود الفردي، وسوف ينصب حديثاً عن التعاون المنظم كوسيلة وأداة أصلاحية وتصحيحية في المجتمع والذي برز بصورة واضحة في أعقاب الثورة الصناعية بأوربا في منتصف القرن الثامن عشر كرد فعل للمساوئ الناجمة عن فشل الرأسمالية، خاصة بالنسبة للفلاحين والطبقة العاملة، وتمثلت هذه الآثار السيئة للنظام الرأسمالي المتدهور في الاستغناء عن أعداد كبيرة من العمال، وانتشار العطالة انخفاض وتدني مستوى المعيشة، استغلال النساء والأطفال في الإنتاج الرأسمالي لانخفاض أجورهم وظهور كثير من الأمراض والعلل الاجتماعية الخطيرة. ويعتبر روبرت أوين 1771- 1858 الأب الروحي للتعاون والذي حاول تطبيق أفكاره الإصلاحية عن طريق جمع جهود العمال تعاونياً، وعلى الرغم من الإخفاقات التي لازمت التجربة إلا أنها كانت كافية لانطلاق التجربة التعاونية العالمية الرائدة لرواد روتشيديل، حيث اجتمع في 15 أغسطس 1843، 28 عاملاً من بينهم امرأة بمدينة روتشيديل الإنجليزية معلنين أول جمعية تعاونية في العالم. وشهد العام 1844 بزوغ الحركة التعاونية العالميةً بتأسيس أول جمعية تعاونية ناجحة في العالم هي جمعية رواد روتشديل التعاونية حيث قام "رواد روتشديل المنصفين" (Rochdale Equitable Pioneers) بإنشاء أول متجر لهم في تود لين، بروتشديل "وهي بلدة صغيرة في مقاطعة لانكشاير بانجلترا". ثم توالى تأسيس التعاونيات بانجلترا من مختلف الأنواع والغايات، وفي نفس فترة ازدهار التعاونيات في انجلترا انتشرت هذه الجمعيات في كافة أقطار أوروبا ثم إلى كافة أنحاء العالم وتنوعت بتنوع حاجات المجتمعات الاستهلاكية والزراعية والإسكانية والصحية وصيد الأسماك والنقل والتسويق والأعمال النسائية والمدرسية والعمالية وأعمال أخرى كثيرة. لقد أكدت الحركة التعاونية هويتها وشعبيتها على مر العصور وانتمائها لمصلحة الأفراد والجماعة لتحقيق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها , واستطاع التعاون نتيجة النجاحات التي حققها نقل الاهتمام به من الإطار الوطني إلى الإطار الدولي حيث تم تأسيس الحلف التعاوني الدولي بلندن عام 1895 وقد تم الاحتفال في السادس من يوليو 1995 بمرور مائة عام على تأسيسه وتم ترسيخ تعريف التعاونية بأنها "منظمة ذاتية الإدارة تتكون من أشخاص يتحدون اختياريا لمواجهة احتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وأمالهم من خلال مشروع ملكية مشتركة ويدار ديمقراطيا ". ويجب هنا أن نفرق بين التعاون الفطري التلقائي المتمثل في العمل الجماعي المشترك ، مثل النفير والفزع و"الختة" عند النساء ، وبين الشكل الحديث للتعاون "الذي (25) يتمثل في أن "التعاون نظام اقتصادي واجتماعي يضم عدد من الوحدات الاقتصادية والتي ترتبط يبعضها البعض وتقوم علي أساس مبادرة شعبية بشكل طوعي".
في السودان شهدت أواخر العشرينات من القرن الماضي (26) المحاولات الأولى لإقامة شكل تعاوني منظم، وذلك بتشجيع من حكومة المستعمر، ولا جدال في أن البدايات الأولى للحركة التعاونية السودانية كانت زراعية بظهور جمعيات التسليف الزراعي بدلتا طوكر، وبتشجيع من الحكومة لحماية المزارعين من استغلال التجار والمرابين الذين يقدمون سلفيات مجحفة لزراعة القطن الذي توسعت فيه الحكومة، والغرض الأساسي ليس حماية المزارعين ومصالحهم بل ضمان تحقيق إنتاجية عالية مع إمكانية تسويق هذا الإنتاج بما يعود بالمصلحة والدفع للحكومة، ولقد أدى ذلك إلى فشل التجربة واتجاه الحكومة إلى زراعة وإنتاج القطن طويل التيلة بمشروع الجزيرة بالتعامل مع المزارعين مباشرة دون تنظيمهم في شكل جمعيات تعاونية. في عام 1937 تكونت أول جمعية تعاونية بمبادرة شعبية سميت بالشركة التعاونية توالت بعدها التعاونيات في المديرية الشمالية ثم ظهرت أول جمعية تعاونية لمشروع الجزيرة بقرية ودسلفاب لطحن الغلال واستجلاب الجرارات والمحاريث وكان ذلك في عام 1944، وفي العام 1948 اتخذت الحركة التعاونية شكلها القانوني اثر المذكرة التي قدمها (27) المستر كامل
للإدارة البريطانية معلنة صدور أول قانون للتعاون بالبلاد، والذي اكتمل في العام 1952. لقد ركز هذا القانون على الجانب الاقتصادي أكثر من الجانب الاجتماعي(28) ، لذلك ولعدة أسباب أخرى لم ينل هذا القانون ثقة الحركة التعاونية الوطنية، فعلى الرغم من أنه في العام 1948 نفسه قد شهد تسجيل أول جمعية تعاونية وهي جمعية ودرملي التعاونية الزراعية، إلا أن ما تم تكوينه من جمعيات تحت هذا القانون قليل ، بالإضافة لقلة وضعف العضوية ومن ثم ضعف أثر التعاونيات اقتصادياً واجتماعياً.
ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلي تدهور التعاونيات وبخاصة التعاونيات الإنتاجية الحرفية والزراعية إغفال الدولة "للهوية التعاونية" وللدور الحيوي والبارز للتعاون بصورة عامة والتعاون الزراعي بصورة خاصة بعدم إسناد دور يذكر للتعاونيات في خطط وبرامج التنمية , بالإضافة إلي المشاكل المتعلقة بعدم استخدام التكنولوجيا الزراعية والاعتماد في الغالب علي التكنولوجيا المستوردة والتي كثيرا ما لاتكون ملائمة للواقع السوداني. والحقيقة إن الحركة التعاونية نشأت في الزراعة ثم أصبحت بشكل متزايد استهلاكية التوجيه وتجنح للتمركز في المراكز الحضرية، "فالهوية التعاونية" ريفية زراعية تضامنية وإنتاجية.إن التعاونيات الزراعية محدودة الأثر في الإنتاج والمنتجات والمدخلات الزراعية وفى التصنيع الزراعي ، و تواجه مشاكل ومعوقات كثيرة ، وخير مثال لذلك التعاونيات الإنتاجية الزراعية المنضوية تحت الإتحاد العام النوعي التعاوني لمنتجي الأصماغ الطبيعية.
وفي نهاية السبعينيات ظل القطاع التقليدي الهام خارج قطاع التعاون ودائرة التمويل المؤسس وتركزت التسهيلات الائتمانية للبنك الزراعي على المستثمرين من قطاع الزراعة المطرية الآلية، وبدرجة أقل من مشاريع الدولة بالقطاع المروى وفى الزراعة النيلية الصغيرة . وعند ولوج التمويل المؤسس لهذا القطاع ارتبط ذلك باستقطاب العون الأجنبي . ومنذ ثمانينات القرن الماضي واجه القطاع التعاوني تنافساً شديداً من القطاع الخاص ليس فقط بالنظر إلى الموارد الذاتية للقطاع الأخير بل بقدرته على الحصول على الأموال العامة المخصصة للقطاع التعاوني والتغول على الأموال التعاونية ، ثم كانت الطامة الكبرى في اغتيال الحركة التعاونية بقيام "الإنقاذ" في 1989 م. ولاتزال الغالبية العظمى من الجمعيات القاعدية وهى أساس الحركة التعاونية والوحدة الأساسية التي تبدأ منها تعبئة – الموارد وينبغي إن تكون مصب الخدمات والمدافع ، تشكو من توفر التمويل المؤسس على مستواها المحلى ، وسواء عبر تنظيماتها الثانوية أو مباشرة. بالرغم من الأهداف الرسمية المعلنة لإشراف الدولة ورعايتها للتعاون لم تتطور الحركة التعاونية كمكون أصيل لإستراتيجية تنمية طويلة المدى ، وكانت النتيجة تكاثر "بروس" للجمعيات الاستهلاكية في المراكز الحضرية الآهلة بالسكان وخاصة العاصمة للتغلب على مشاكل الندرة في السلع المحلية والمستوردة ونتج عن هذا الوضع أمران ولهما ما يمكن أن نطلق علية مصطلح ابتذال الفكرة التعاونية وتحجيم الدورالاقتصادى الاجتماعي للجهد التعاوني في أذهان الشعب وبالتالي طمس "الهوية التعاونية" وإضعافها، وثانيهما شغل الجهاز الديواني عن متابعة وتقديم الإرشاد والتوجيه الفني للجمعيات الزراعية والاكتفاء بشكل إجراءات التسجيل ومراجعة الحسابات. لقد منح قانون سنة 1973م الجمعيات التعاونية (29) إعفاءات من بعض الضرائب والرسوم كما منحها العديد من المزايا دعما وتشجيعاً لها ولكن الإعفاءات والمزايا جاءت بصورة مطلقة ودون الأخذ في الاعتبار وجود قوانين ونظم أخرى تتعارض معها. ولهذا ظل بعضها حبراً على ورق ولم يجد طريقة للتنفيذ لهذا نقترح استصدار قرار سياسي بإعفاء الجمعيات التعاونية من جميع أو بعض الضرائب والرسوم والعوائد وتأكيد المزايا المتعلقة بمنح أي جمعية تخفيضاً في أجور النقل بواسطة وسائل النقل التابعة للدولة وتخفيضاً بنسبة 5% من إثمان البذور والتقاوي والأسمدة والمبيدات ومستلزمات الإنتاج , وكذلك الأفضلية في المعاملات وفى الحصول على قطع الاراضى اللازمة لإغراضها وفى إسناد الأعمال والخدمات الخاصة بالوحدات الحكومية ومؤسساتها للتعاونيات، و إعطاء أفضلية لتوزيع السلع التموينية لكسر حدة السوق السوداء وتركيز أسعار السلع خاصة الضرورية .

الهوية التعاونية

الشعب السوداني عرف ثمار تطبيقات التعاون(30) وله استعداد لتطبيقات جديدة تقدم له احتياجاته وطموحاته في التنمية، كما أن الحكومات يمكنها الاعتماد علي تطبيقات التعاون كوسيلة للتنمية من خلال القدرات الذاتية للأفراد بجمعهم في تجمعات سكنية ، وبما يفيد في إمكانية الوصول إليهم لتقديم الخدمات مثل التعليم والصحة والإحصاء والانتخابات .. الخ. كما أن تطبيقات التعاون من مبادئها وشعارها تعلم الناس أسس الديمقراطية السليمة والحقوق
والواجبات وتنمي القيم الفاضلة. إن الثروات القومية السودانية سريعة العائد إذا ما استخدمت فيها الطرق الاقتصادية المعتمدة علي التكنولوجيا وفي مقدمها النظام الاقتصادي التعاوني لامكن إحداث التنمية بأسلوب تطبيقات التعاون الذي لا يكلف الحكومات غير الإشراف والتوجيه. فمثلا (31) مبدأ (الباب المفتوح للعضوية) وكل مبادئها تكفل وتؤمن (الحرية والعدالة والمساواة) . لهذا تتمتع الحركة التعاونية بالأمن والأمان و السلام لها و للملتزمين بمبادئها لانها تأخذ بهذا المبدأ ضمن مبادئها في المجتمع. إن العمل التعاوني يقدم خدماته للبشر دون تفرقة بينهم لأي سبب، كما إنه وسيلة الفقراء أوالضعفاء من أجل العيش العفيف الكريم. إن التعاون يهدف للبناء والإعمار والتنمية ولا يهدف أبداً إلي الحرب أو الدمار، ولا ينتهز ظروف الحرب ليحقق الأرباح كما يحدث في النظم الاقتصادية الأخرى ومنها النظام الرأسمالي. تؤكد "الهوية التعاونية" إن أحد أهم مبادئ التعاون هوالحياد السياسي والديني والعرقي وهنا مهمته كمهمة الطبيب الذي يعالج، فيعالج الجريحين المتحاربين دون انحياز.وتتبلورالهوية التعاونية وتظهر في مقومات ومكونات الحركة التعاونية ومبادئها المشكلة والمجسدة للصبغة والصفة التعاونية المميزة للعمل التعاوني المنظم و المتمثلة في:
أولا: الجمعية التعاونية

جاء في الجريدة الرسمية للاتحاد الأوروبي {إن التعاونيات عبارة عن مجموعات أولية تضم مجموعة من الأشخاص لإدارة مصالحهم الاقتصادية بصورة جماعية وعلي الأسس التعاونية الديمقراطية لكل عضو صوت واحد بغض النظر عن ما يملكه من رأسمال في التعاونية أي "رجل واحد صوت واحد" }. والجمعية التعاونية منظمة (32) عادلة ينشئها الأفراد لتباد المساعدة بقصد رفع مستواهم الاقتصادي والاجتماعي . فالتعاون هو تجميع واتحاد، لبعض الأشخاص وجهودهم بغرض تحقيق هدف مشترك وذلك عن أقصر الطريق وبأقل تكلفة وعلي أحسن وجه وهذا الهدف ينتهي إلي رفع المستوي الاجتماعي للأعضاء عن طريق زيادة الدخل أو الاقتصاد في التكاليف والسبيل إلي تحقيق هدف الأعضاء المتعاونين هو إنشاء منظمة اجتماعية تعمل بوسائل اقتصادية. المنظمة التعاونية ليس هدفها التخفيف من الموقف الذي خلقه الاقتصاد التجاري بل هو أكثر من ذلك – إذ يتلخص هدفها في ماهية وتحرير أعضائها من السيطرة الاجتماعية والاستغلال الاقتصادي اللذين يتمتع بهما المسيطرون علي المواقع الإستراتيجية التي خلقها الاقتصاد التجاري مما يرفع من مستوي معيشة أعضائها المتعاونين بزيادة دخولهم الحقيقية بمختلف الوسائل الإنتاجية والتسويقية الاقتصادية. ولذلك تتميز المنظمة التعاونية عن المنظمات الأخرى من حيث أهدافها ومن حيث الطرق التي تتبعها لتحقيق هذه الأهداف. وتحقيقا لهذه الأهداف يجب أن تقوم أية منظمة تعاونية علي أساس عنصرين أساسيين اجتماعي،اقتصادي يفسران علي أن المنظمة التعاونية تتكون من1)ترابط بين أشخاص أدركوا وما زالوا يدركون أن هناك تشابها بين بعض احتياجاتهم وان إشباع هذه الحاجة بالأسلوب التعاوني وبتكوين منشأة تعاونية يكون أحسن بكثير من إشباع هذه الاحتياجات بالطرق الفردية.(2)منشأة اقتصادية لها هدف مطابقا تماما للحاجيات التي يراد إتباعها وهكذا تري أن الروابط هو أصل الفكرة التعاونية وهو السبب المباشر في وجود المنظمة التعاونية.
ثانيا: المبادئ التعاونية

أكدت الحركة التعاونية (33) شعبيتها على مر العصور وانتمائها لمصلحة الأفراد والجماعة لتحقيق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها, واستطاع التعاون نتيجة النجاحات التي حققها نقل الاهتمام به من الإطار الوطني إلى الإطار الدولي حيث تم تأسيس الحلف التعاوني الدولي بلندن عام 1895واحتفل في يوليو عام 1995بمرور مائة عام على تأسيسه وتم ترسيخ تعريف التعاونية بأنها منظمة شعبية طوعية ذاتية الإدارة تتكون من أشخاص يتحدون بمحض اختيارهم لمواجهة احتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وأمالهم من خلال مشروع ملكية مشتركة ويدار ديمقراطيا.وقد اعتمد الحلف التعاوني الدولي المبادئ التالية:
(1) العضوية الاختيارية المفتوحة : التعاونيات منظمات مفتوحة لكل الأشخاص دون تميز جنسي أو اجتماعي أو عرقي أو سياسي أو ديني وتتمتع التعاونيات بالحياد تجاه الجميع .
(2) الإدارة الديمقراطية للتعاونيات: التعاونيات منظمات ديمقراطية يحكمها أعضاؤها ويشاركون في سياساتها واتخاذ القرار عن طريق ممثليهم المنتخبين ديمقراطيا والممثلين مسئولين أمام ناخبيهم وللأعضاء حقوق تصويت متساوية عضو واحد صوت واحد وعلى المستويات الأعلى تدار التعاونيات وتنظم بأسلوب ديمقراطي.
(3) مساهمة العضو الاقتصادية : يساهم الأعضاء بعدالة في رأس مال تعاونيتهم الذي يكون ملكية تعاونية , ويتلقى الأعضاء تعويضا عن رأس المال المسهم ويمكن تخصيص الفائض لتطوير التعاونية و دعم الأنشطة الاخري التي يوافق عليها الأعضاء ويوزع الباقي على الأعضاء بنسبة تعاملهم مع التعاونية .
(4) الإدارة الذاتية المستقلة :التعاونيات منظمات ذاتية الإدارة يديرها أعضاؤها ويؤمنون تمويلها المالي ويمكن لهم التعاون مع منظمات أخرى أو مع الحكومات سواء بالإدارة أو التمويل شرط تأكيد الإدارة الديمقراطية لأعضائهم والمحافظة على التحكم الذاتي التعاوني .
(5) التعليم والتدريب والإعلام : تقدم التعاونيات التدريب والتعليم لأعضائها بالتعاونيات ولقياداتها المنتخبة ومديرها وموظفيها ليستطيعوا أن يساهموا بفعالية لتنمية تعاونياتهم ، مع تنوير الرأي العام عن طريق الإعلان والإعلام وخاصة الشباب وقادة الرأي عن طبيعة ومزايا التعاون عن طريق التثقيف والتوعية التعاونية.
(6) التعاون بين التعاونيات : تخدم التعاونيات أعضاءها بكفاءة أكثر وتقوى الحركة التعاونية بالعمل سويا من خلال المؤسسات والمنظمات والاتحادات التعاونية المحلية والإقليمية والدولية.
(7) الاهتمام بالمجتمع : تعمل التعاونيات من أجل التنمية الاجتماعية المتواصلة فتقدم خدماتها في مجال الصحة والتعليم وتوفير مياه الشرب الخ لمجتمعاتها بموافقة الأعضاء.
إن عدم مراعاة "الهوية التعاونية"و التقيد والتنفيذ الصارم لهذه المبادئ يؤدى إلي عواقب وخيمة وضارة تذهب بالصفة التعاونية والشعبية والديمقراطية التي تتميز بها التعاونيات ، كما أنها تؤدي إلي الفشل و الإخفاق الذر يع. إن عدم إتباع المبادئ والأسس التعاونية التي أنشأت علي أساسها الكثير من المشاريع التعاونية وبصفة خاصة الجانب الإداري ، انعكس سلبا علي الأداء وبصفة خاصة في المجال التسويقي ، إذ اعتمدت هذه المشاريع في إدارتها علي أساس التعيين من قبل الوزير المختص مما يتنافى مع المبادئ والقوانين التعاونية. وذلك لأن التعاونيات ووفقا للمبدأ الثاني من المبادئ التعاونية ، منظمات ديمقراطية، يتحكّم بها أعضاؤها الذين يشاركون بفعالية في وضع السياسات واتخاذ القرارات. ولقد أثبتت التجارب العالمية أن مراعاة التقيد والتنفيذ الصارم لهذه المبادئ يؤدى إلى الاحتفاظ بالصفة التعاونية والشعبية للتعاونيات والحفاظ أيضا علي الديمقراطية التي تتميز بها التعاونيات، كما أنها تجنب التعاونيات الفشل و الإخفاق في تحقيق أهدافها. لقد كان للالتزام بالمبادئ التعاونية وبخاصة الديمقراطية، الأثر الكبير في استمرار الحركة التعاونية الأوروبية وتقدمها عالميا.

ثالثا: المبادئ العامة للإدارة التعاونية . أن المبادئ العامة للإدارة التعاونية مقارنة بإدارة(34) المؤسسات التجارية الخاصة والمؤسسات الحكومية تختلف اختلافاً بيناً وواضحاً. فبينما نجد أن المؤسسات التجارية الخاصة تعتبر الحصول على أكبر ربح هو المقياس السائد، فإن الجمعية التعاونية لها حافزان: الربح والخدمة. إذ أن للمؤسسة الحكومية أيضاً حوافز الربح والخدمة وأيضاً حافز التنمية. ولكن المؤسسات تدار من أعلى، والجمعية التعاونية تتضمن عاملاً قوياً هو اشتراك أعضائها في إدارتها. ومن المؤكد أن مشاركة الأعضاء هو أهم سمات المؤسسة التي يجب أن يضعها في الاعتبار كل من يهتم بنشر الفكر التعاوني لأنه من صميم "الهوية التعاونية". ولقد فشلت الحركة التعاونية في كثير من الدول النامية لأن الفكر التعاوني قد فرض على الناس فرضاً، حيث نجد أن الأعضاء قد حصلوا على المسئوليات الاقتصادية ولم يحصلوا على المشاركة الضرورية في صنع القرارات أو الشعور الضروري بالمسئولية التضامنية،لاعتقاد البعض استحالة تعليم الفلاحين والمواطنين الأميين ليشاركون مشاركة فعالة في إدارة الجمعية التعاونية ولا اعتقد أن هذا صحيح، زد على ذلك فإن فكرة التعاون تتفق تماماً مع التنظيم التقليدي للمجتمع القبلي.
رابعا: الديمقراطية التعاونية
إن التعاون نظام لتحرير الاقتصاد وإطلاق للقوى المنتجة من(35)عقالها وهو يمكن أن يكون الدواء الناجع لعلاج الكثير من المشكلات اليومية للسوق التي أصبحت اليوم مشكلات مزمنة بل أدت إلى اختناقات تموينية.. وفي آخر الأمر إلى ضائقة الغلاء.. بل أن الحركة التعاونية بما يمكن أن نضيفه من ثقافة جديدة في الوعي الزراعي والتجاري والإنتاجي، وبما تثري به المواطن من تجارب في المجالات الاقتصادية, وبما تبتدع من وسائل علمية لتطوير الإنتاج والعلاقات الإنتاجية، وبأثرها السلوكي على البناء القومي للمجتمع فإنها وسيلة حية لتعليم الشعب وتربيته. فالشعوب تتعلم بالممارسة وهي تتعلم أسرع عن طريق العمل الجماعي وبصفة خاصة عندما تكون
وسيلة العمل الأساسية هي الديمقراطية التعاونية التي تتيح للأعضاء حرية التعبير عن الرأي وتساعد على التوصيل للقرارات الرشيدة عن طريق الحوار الهادف.. ثم هي تشعر الأعضاء بأنهم يصنعون مستقبلهم بأفكارهم وتخطيطهم ومجهودهم في العمل مما يجعل الوحدة في الفكر وفي العمل شاملة للتخطيط والتنفيذ. إن جوهر التعاون وطبيعته وظروف نشأته تقضي بحرية واستقلال ومساواة أعضاء التعاونية وتسيير ورقابة جمعيتهم التعاونية وهو ما يعبر عنه ويترجمه مبدأ الديمقراطية التعاونية الذي يعني الاعتراف بالسلطة العليا وعلي قدم المساواة لكافة الأعضاء الذين تكونت منهم ومن أجلهم الجمعية التعاونية فيكون لهم حق وسلطة قيادتها وتقرير مصيرها بحيث لا تكون حركة جمعيتهم مفروضة بواسطة سلطة خارجية وإنما تكون هذه الحركة خاضعة للإرادة الجماعية للأعضاء كما تكون معبرة عن مصالحهم ومشبعة (36) لحاجاتهم المشتركة والتي تكونت الجمعية بغرض إشباعها أفضل إشباع ممكن. يتحقق ذلك في الواقع العملي عن طريق ممارسة الأعضاء لحقوقهم وسلطاتهم كمنتجين وزراعيين وكأعضاء تعاونيين من خلال تشكيلاتهم الديمقراطية وأهمها الجمعية العمومية ومجلس الإدارة. ولا شك إن الديمقراطية التعاونية تعتبر بمثابة الأصل التعاوني العام الذي يتعين احترامه كقاعدة عامة تحكم الجمعيات التعاونية بكافة أنواعها.
خامسا: البنيان التعاوني الشعبي

يتكون البنيان التعاوني الشعبي من أربعة مستويات:- الجمعيات التعاونية الأولية في الأحياء والقرى، الاتحادات التعاونية علي المستوي المحلي، الاتحادات التعاونية علي المستوي والولائي،الاتحاد التعاوني علي مستوي القطر (الاتحاد التعاوني القومي). بالإضافة إلي ذلك توجد ثلاث إتحادات تعاونية متخصصة وهي: أ- الإتحاد التعاوني الحرفي(ولاية الخرطوم ومقره الخرطوم). ب- الإتحاد العام النوعي التعاوني لمنتجي الأصماغ الطبيعية ومقره الخرطوم. ج- الإتحاد التعاوني للتجاريين ومقره أمدرمان. ولتوضيح الصورة لذهن القارئ نفيد بأن السودان مقسم إلى ولايات (25 ولاية) وكل ولاية إلى محليات (110 محلية) ويوجد في العاصمة الاتحادية الخرطوم الاتحاد التعاوني القومي والإتحاد التعاوني الولائي لولاية الخرطوم وهذا بدوره يتكون من اتحادات محلية وهي: الاتحاد التعاوني لشرق النيل – والاتحاد التعاوني غرب النيل – والاتحاد التعاوني بين النيلين وتحت كل اتحاد محلي قاعدته من الجمعيات في أحياء المحلية. وهكذا في كل محليات ولايات السودان، وجملة البنيان نحو(135) اتحاداً. من البديهي والمفترض أن تكون مجالس إدارات الاتحادات التعاونية منتخبة من عضويتها القاعدية بمعني أن مجلس إدارة الاتحاد علي مستوي القطر منتخبة من مجالس إدارات الاتحادات الولائية، كما أن عضوية مجالس الاتحادات الولائية منتخبة من أعضاء مجالس إدارات الاتحادات المحلية في كل ولاية، ولكن هذا لم يحدث منذ عام 1989 إلا في قلة من الاتحادات المحلية الولائية.
سادسا: العلاقة بين الدولة والحركة التعاونية

هناك دول تعمل لحماية مصالح السواد الأعظم من الشعب وبالتالي لا خلاف لها(37) مع الحركة التعاونية.. بل إذ نجدها تحتضن الحركة التعاونية وتساعدها في الوقوف على قدميها، ولا غرابة في ذلك لأن النشاط التعاوني في ظل مثل هذه الدولة هو بالتأكيد نشاط مساعد ومكمل للخطة الاقتصادية والسياسية للدولة بل هو جزء لا يتجزأ من تلك الخطة. و هناك دول تستولي فيها على وسائل الإنتاج حفنة من الأفراد وهي التي تتحكم في دفة الحكم.. وهذه الطبقة لا تتماشى مصالحها مع مصالح السواد الأعظم للشعب بل تتعارض معها وذلك لأنها لا تقوم بالإنتاج وإنما تسيطر على نتائجه حارمة المنتجين الحقيقيين من ذلك، وذلك لأنها تمتلك وسائل الإنتاج وتضع قوانين ونظم لتحديد علاقات بصورة كفيلة بأن تضمن لتك الحفنة الاستيلاء على مجهودات المنتجين وابتزازهم. فإن كانت الجمعيات التعاونية تأتي لتحقيق أو إلغاء ذلك الاستغلال فمما لا شك فيه أنها لن تجد ترحيباً من مثل تلك الدولة للتعارض الواضح في الهدف، وهنا يحدث صراع بين "الهوية التعاونية" الديمقراطية التوجه وهوية الدولة الدكتاتورية الفاشية والشمولية المستبدة. إن أسوء الدول تلك التي تستند علي الأسس الفاشية والشمولية، لأن الشمولية ليست نظام للحكم فحسب، وإنما هي التعبير السياسي عن نظام اقتصادي اجتماعي تمدد الدولة فيه إخطبوط تسلطها إلي النظام الاقتصادي فتحتكر وسائل الإنتاج، وإلي النظام السياسي فتحتكر وسائل التنظيم، والي النظام الاجتماعي فتقدم نفسها بديلا عن مؤسساته، وتستبدل الأيدلوجيات المتنافسة بأيدلوجيات التسلط والإرهاب وقيمه الأصيلة بقيم الاستهلاك المتعي، وحضارته بحضارة الخوف و الرعب. ومن ذلك يتضح أن النظام الشمولي نظام لايعترف بالآخر ويتعسف في معاملة المختلفين معه أيدلوجيا إذ يستند في تفاعله مع أفراد المجتمع علي القمع والقهر. وأن كل نشاط يقع خارج نطاق الحزب أو الدولة لا يحظي بالاعتراف من قبلها، فضلا عن سيطرتها المطلقة علي وسائل الإعلام كواحدة من القنوات التي تمارس عبرها تأثيرا علي أفراد المجتمع في محاولة منها لإلغاء ثقافتهم وتذويبها في إطارها الأمر الذي يؤدي لأن تكون الدولة و الحزب وآلياته هي الجهات الوحيدة الموجودة علي الساحة السياسية مما يكرث الأحادية وعدم الاعتراف بالمكونات الاخري التي يمكن أن تشكل عنصرا فرعيا داعما للنظام السياسي الرئيسي وذلك من قبيل الأحزاب والأيدلوجيات المغايرة للأيدلوجية الرئيسية وجماعات الضغط والدستور الذي يساهم كل المجتمع بمختلف قطاعاته في وضعه.
والسمات العامة للنظام الشمولي تتمثل في حزب سياسي مسيطر له أيدلوجية شاملة تحدد شكل الدولة والمجتمع، من خلال مؤسسة بوليسية ذات طابع تعسفي و سيطرة علي وسائل الإيصال الجماهيري والهيمنة علي المؤسسة العسكرية والاقتصاد والتوسع خارج الحدود.ولكل ذلك فإن اتخاذ القرار في السودان في الغالب لا يتم عبر المؤسسات الرسمية التي حددها الدستور إنما يتم خارجها. بمعني أن القرارات يتم اتخاذها خارج المؤسسات الدستورية بغض النظر عن النظام الحاكم، فصناعة القرار Decision Making تتم خارج المؤسسات الرسمية واتخاذ القرارTaking Decision تقوم به المؤسسات المعنية ولكن بدون أن يعطيها صناع القرار إلا خيارا واحدا و من هنا أتت التبعية وأصبح القرار من خارج المؤسسات. من معالم الاستبداد أن تنتقل الدولة من كونها تعبيرا عن جماعة وأداة للحكم بين الناس إلى التمركز حول شخص الحاكم، والتعبير عن مصالح نخبة ضيقة من بطانته، دونما اعتبار للناس ومصالح المواطنين، فلا يبقى ثمة وجود لقوى سياسية اجتماعية تتجاوز إرادة الدولة وهيمنتها. إننا في السودان نعاني من كل ذلك خاصة فيما يتعلق "بالهوية التعاونية" التي تتعارض مع الدولة "المتشسخنة" التي تحول النظام السياسي والاقتصادي والبيروقراطي بمؤسساتها من نظام قانوني يناط به الفصل بين الناس بالعدل وإدارة دولاب الحكم، إلى الاندماج في المؤسسات القائمة على التنفيذ المحض لإرادة الحاكم المستبد، وخاضعة للإرادة الشخصية المتوحدة المتسيدة على قمة هرم الدولة. وتسود في هذا النظام التفسيرات والاجتهادات التي تدعم الوضع القائم، وتفرغ الدلالات القانونية المرتبطة بعمومية القاعدة القانونية وتجريدها، فتفرغ القانون من هذا المحتوى الموضوعي ليصير ذا مؤدى شخصي ومتشخصن لصالح أفراد وأناس بعينهم ذوي علاقات شخصية برأس الدولة ومن يحيطون به.

الأثار السالبة لضعف وفقدان الهوية التعاونية
تبعية الجهاز الديواني :
تنقلت تبعية الجهاز الحكومي الديواني للحركة التعاونية بين الوزارات منذ إنشائه وفيما يلي التطور لذلك :- السكرتير الإداري . وزارة الحكومات المحلية . وزارة الشئون الاجتماعية والعمل . وزارة التخطيط الاقتصادي . وزارة التجارة والتعاون والتموين . وزارة التعاون والتنمية الريفية . وزارة المالية والاقتصاد الوطني . وزارة التعاون . وزارة التجارة والتموين . وزارة التجارة والصناعة .وزارة التجارة الخارجية (حالياً) . في حالة التبعية للوزارات يتعدل الاسم فتارة مصلحة التعاون وتارة قطاع التعاون و الآن الأمانة العامة للتعاون.
لقد كان هذا الوضع السيئ للجهة الإدارية المختصة بالتعاون من الأسباب الأساسية التي أثرت علي "الهوية التعاونية" مما أفقد الحركة التعاونية الكثير من حقوقها ، فلازال السيد الأمين العام لأمانة التعاون يشغل منصبه بدون تكليف رسمي لما يزيد عن السنتين رغم الترشيح الرسمي الصادر من السيد وزير التجارة الخارجية التي تتبع لها الأمانة إداريا ، وذلك بعدم توقيع السيد وزير مجلس الوزراء بالموافقة النهائية. أما في ما يتعلق بمكانة التعاون في التركيب الهيكلي لأجهزة الدولة يعتبر التعاون قسماً تابعاً لإدارة قطاع الخدمات. ولقد ضعت الحركة التعاونية في قطاع الخدمات تركيزا علي نشاطها الخدمي مما أدي إلي إهمال النشاط الإنتاجي للحركة التعاونية وعدم التركيز عليه. ولقد أدي هذا الوضع الشاذ إلي التركيز علي الجانب الخدمي للتعاونيات وأفقدها علاقاتها مع القطاعات الأخرى و التي تتشابه مع مناشطها. فالواقع التعاوني يؤكد عدم وجود صلات حقيقية واضحة للحركة التعاونية بقطاع الصناعة بالرغم من وجود التعاونيات الحرفية ، وصلتها بقطاع الزراعة ضعيفة بالرغم من أنها تضم تعاونيات زراعية منتجة. هذا قبل ظهور "الإنقاذ" أما بعدها فلقد فقد التعاون وخاصة التعاون الزراعي حتى تلك الأهمية النسبية التي كان يتمتع بها سابقا. ويظهر ذلك بصورة واضحة لا لبس فيها , بإسقاط التعاون باعتباره أداة أونظاما للتغيير والتنمية والنماء ، من أي خطط أو إستراتيجيات تضعها الدولة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية
مثل: برنامج الألفية الثالثة ، وبرامج محاربة الفقر ، وحتى برامج مايطلق عليه "النهضة الزراعية" أو "النفرة الخضراء" ويمثل ذلك تجاهلا للهوية التعاونية وتهميشا لهذا القطاع الحيوي الهام.
هشاشة المحتوى الديمقراطي وضحالة التجربة الانتخابية

كشفت الانتخابات التعاونية التي جرت في السنوات العشر الأخيرة لاختيار القيادات التعاونية الجديدة ، عن الأزمة التعاونية المتمثلة في هشاشة المحتوى الديمقراطي للعملية الانتخابية في بلادنا، سواء على مستوى الثقافة والفهم أم على مستوى الممارسة والفعل أم على مستوى المؤسسات والشخوص، أم على مستوى النخبة التعاونية و القيادات الشعبية، إلى درجة يمكن فيها توصيف الحالة الانتخابية التعاونية بأنها محاولة لبناء ديمقراطية بلا ديمقراطيين. فثمة ضحالة هائلة في التجربة الانتخابية، حيث لا توجد طبقة تعاونية متمرسة في العمل التعاوني باستثناء قلة قليلة من التعاونيين الشعبيين، ويعود هذا إلى سببين الأول منهما هيمنة الأنظمة الدكتاتورية لمدة طويلة تعذر معها نشوء طبقة تعاونية ديمقراطية متمرسة، من جهة، وبقاء كثير من التعاونيين خارج إطار العمل التعاوني من جهة ثانية. وثمة هشاشة كبيرة في الالتزام بقواعد العملية الديمقراطية، فضلا عن السطحية في فهمها وقبولها والاستعداد للالتزام بها والعمل بموجبها. حيث كانت التسويات القائمة على أساس التنازلات المتبادلة تمثل واحدة من هذه القواعد مما جعل هناك إصراراً غريباً على المواقف والمواقع يمنع حصول أي حراك وتزحزح، وظهور قيادة جديدة منتخبة.
وثمة فقر مدقع في الثقافة الديمقراطية والفهم الواعي للتعاون لدى النخب والجمهور في آن واحد.والطرفان معذوران كون الأنظمة السابقة وخاصة نظام "الإنقاذ" قد حرم أصلاً تداول هذا النوع من الثقافة، وعلى مدى حوالي عقدين من الزمان، مما أنتج نخباً وجمهوراً تعاونيا ليس لهما من الثقافة الديمقراطية إلا الشيء القليل الذي لا يغني ولا يسمن عن جوع. وتكشف عن هذا الفقر في الثقافة الديمقراطية وممارستها حيث لا يوجد فيها ما يؤمن إشاعة الثقافة الديمقراطية والمبادئ التعاونية بين صفوف المواطنين والتعاونيين. وثمة ضعف ينتاب المؤسسات التعاونية التي تمثل العمود الفقري للديمقراطية وفي مقدمتها مجالس إدارات التعاونيات وخاصة الإتحادات التعاونية وبصورة أخص الإتحاد التعاوني القومي والتي أصبحت مجالس صورية ليس لها من الدور القيادي الا الشيء اليسير والقدر النزير حيث تمت إدارة العمل التعاوني وراء جدران سميكة لغرف ذات ابواب محكمة الغلق، تصادر حق التعاونيين في ان يعرفوا ما يدور، وإنما تهمش دور مجالس الإدارات المنتخبة بشكل يجعلها هياكل بلا فعالية وأجساما بلا حياة.
فلتعاونيات تغطي بأنواعها المختلفة، استهلاكية، زراعية، خدمية، وحرفية مناطق واسعة من الريف السوداني، وأطراف المدن الكبيرة، وتضم هذه المناطق نسبة عالية من الأميين ومنهم المواطنون الأعضاء بالتعاونيات، مما يعني ان هناك صعوبة حقيقية لإلمام أعضاء التعاونيات بحقوقهم وواجباتهم وبمسؤولياتهم وبالمسئوليات والأعمال التي تؤديها جمعياتهم مما يضعف هذه التعاونيات والبنيان التعاوني السوداني بأسره، وليس أدل على ذلك من إن غالبية التعاونيات والمنظمات التعاونية لم تتمكن رغم الجهود الجبارة لإدارة التعاون- من عقد جمعياتها العمومية لانتخاب مجالس الإدارات الجديدة في الوقت المحدد، مما عطل تغيير الإدارات الحالية في الاتحادات القمة بالولايات والاتحاد التعاوني القومي في سابقة خطيرة جعلت هناك الكثير من هذه القيادات "قابعة" بمجلس الإدارة لعشرات السنين بدون فاعلية ولا نشاط، وأصبح جل تلك القيادات أرقاما سالبة بعيدة عن الواقع التعاوني وهمومه وآلامه وأحلامه.
ومن الطبيعي أن تهتم الحكومات والأحزاب السياسية بالتنظيمات الجماهيرية ومنظمات المجتمع المدني فهي لا يمكن أن تغفل التنظيمات الجماهيرية النقابية والتعاونية والطلابية والشبابية والنسائية وغيرها من المنظمات الأخرى بل أن من واجب هذه الحكومات والأحزاب دعم النمو الطبيعي لهذه المنظمات والتنظيمات والعمل على ازدهارها وتفعيل نشاطها والتنسيق معها واجتذابها سياسيا للعمل من خلال نشاط مشترك يراعي كيانها وخصوصيتها واستقلاليتها بعيدا عن أساليب الإغراء والإكراه والغرض .
وبالرغم من العلاقات المتداخلة والمركبة بين التعاونيات كتنظيمات جماهيرية شعبية ديمقراطية حرة والحكومات وأحزابنا السياسية المختلفة، إلا أن الملاحظ هذه العلاقة تتسم بالضعف والضمور فيما بين التعاونيات والأحزاب السياسية ومنذ الاستقلال وحتى اليوم لا تشكل التعاونيات أي ثقل أو ذكر في برامج الأحزاب السياسية وهي قضية خطيرة يستثنى من ذلك الحركة الشعبية والتي ركزت على التعاون كأسلوب لحل قضايا المواطنين في الجنوب
ويتضح ذلك بجلاء من خلال إنشاء وزارة التعاون والتنمية الريفية مما يؤكد عمق الفهم والإدراك لدى قادة الحركة الشعبية وذلك بربطهم للتنمية الريفية بالعمل التعاوني الذي يعتمد على تجميع الجهود الذاتية المبعثرة في كيان واحد فعال تحت إشراف ودعم الدولة. قد فشل التعاون إلى حد كبير في تحقيق أهدافه المعلنة، وصاحب ذلك الفشل الكثير من المشاكل المتراكمة منذ العهد الاستعماري وفي ظل الحكومات الوطنية المتعاقبة لنواجه اليوم بكارثة تعاونية مستفحلة، يتباري في صناعتها التعاونيون أنفسهم وخاصة أصحاب الشأن، التعاونيون الشعبيون وبصورة أخص القيادات العليا منهم، بالإضافة للحكومة وكافة الأحزاب السياسية التي أهملت القطاع التعاوني ولم تعيره أي نظرة مع أنها تتسابق لتسجل حضورا مكثفا في انتخابات الطلاب مما يعني مدي القصور في النظر في الأولويات والتعامل معها بالجدية اللازمة.

انحراف بنك التنمية التعاوني
لقد كان قيام بنك لتمويل القطاع التعاوني أملاً من آمال التعاونيين طالبوا به، وسعوا إليه حتى كلل نضالهم بقيام بنك التنمية التعاوني الإسلامي والذي من أهم أهدافه دعم وتطوير القطاع التعاوني وتوفير التمويل للجمعيات التعاونية. التعاون طريقة جيدة للعمل، وغالباً هي أفضل طريق ولكن هناك بعض المهام التي لا تناسب التعاونيات هذه المهام يجب تركها حتى لا تتسبب في فشل التعاونيات وبالتالي تسئ إلى اسم التعاون. ومن أهم أسباب ذلك ما هو متعلق بالسياسات العامة والمتمثلة في السياسات والتوجيهات والإجراءات التي يصدرها البنك المركزي (بنك السودان) والتي تطبق على جميع البنوك التجارية دون اعتبار لأهداف البنك التنموية ودوره تجاه الجمعيات التعاونية ونذكر من تلك السياسات اشتراط دفع هامش جدية (المقدم الفوري) وهو لا يقل عن 25% من قيمة التمويل متضمناً هامش المرابحة وقد أثبتت التجربة أن ذلك يشكل عبئاً ثقيلاً على الجمعيات التعاونية والمزارعين خاصة في مجال التمويل قصير الأجل لمدخلات الإنتاج (الاسبيرات،التعاوني،المحروقات،السماد الخ) وعدم توفر هذا الجزء لديهم يدفعهم إلى العزوف عن التعامل مع البنك وربما اللجوء إلى تجار الشيل. ولم يقدم هذا البنك شيئا يذكر للحركة التعاونية السودانية وخاصة التعاونيات الزراعية، وأنتهي به الأمر أن بيع لمستثمر عربي دون الرجوع للقواعد التعاونية في سابقة خطيرة تؤكد الإستخفاف بالتعاونيات وممتلكاتها وأصولها وقواعدها. بل الأدهى والأمر إن ضعف الإدارة بالبنك إنعكس علي أدائه والذي أثار الكثير من التشويه والتشويش علي الحركة التعاونية لأنه يحمل صفة التعاون وهو غير تعاوني لأنه مسجل وفقا لقانون الشركات وليس بقانون التعاون.
جاء في صحيفة السوداني الغراء، العدد 196 الموافق الثلاثاء 23 مايو 2006 إن هناك مخالفات حدثت في ثلاثة بنوك منها بنك التنمية التعاوني الإسلامي فرع الخرطوم، وإنها حدثت في الحسابات الجارية للعملاء وذلك بإجراء قيود محاسبية بقيمة شيكات وهمية خصماً على حساب الرئاسة أو الفروع وأضافتها لحساب جار للعملاء ومن ثم صرفها. وحمل تقرير المراجع العام أسباب هذه التجاوزات ومسؤولية ذلك إلى ضعف المتابعة والرقابة اللصيقة على الموظفين، هذا الخبر الفضيحة. قد أضر ضرراً بليغاً بالحركة التعاونية والتعاونيين، وذلك لأن هذا البنك وان سمي تعاونياً فهو بنك قطاع خاص تابع لمستثمر أجنبي بعد ان تم بيعه ، بدون الرجوع للقواعد التعاونية مما يعد خروجاً صارخاً على أساس ومبادئ التعاون المعمول بها والتي يرجع في اتخاذ القرارات فيها دائماً إلى العضوية التعاونية وفقاً للديمقراطية المعمول بها في التعاونيات. والضرر الناتج يتمثل في إن القراء- والذين يستقبلون الكثير من التشويش عند سماعهم أو قراءتهم عن الحركة التعاونية السودانية- هؤلاء القراء يقوم في بالهم ان هذا البنك مازال تحت مظلة الحركة التعاونية، وما هو بذلك، فيقوم في ذهنهم- إن هذا الخلل البائن، نتيجة للممارسات التعاونية من قبل التعاونيين مما يضع الحركة التعاونية في وضع لا تحسد عليه، بعد إن نالها ما نالها في عهد (الإنقاذ) من تحطيم وتفتيت، وان عدم تصحيح هذا الوضع يضعف من جهود بعض التعاونيين المخلصين الذين يعملون على إعادة الحركة التعاونية لموقع الريادة فيما يتعلق بتحسين المستوى الاقتصادي والاجتماعي للمواطن السوداني عبر التعاونيات، لقد تعرضت الحركة التعاونية بالحق والباطل في كثير من الأحيان لتشويه متعمد لأهدافها وغاياتها ووسائلها وانجازاتها التي لا تتكرر، وعليه يجب فوراً على إدارة هذا البنك، وعلى المختصين من التعاونيين في جهات الاختصاص العمل على سحب هذا الاسم (التعاوني) لأن هذا مخالف للدستور والقانون، فقانون التعاون الساري الآن لعام 1999 ينص في المادة 16 (2) لا يجوز لأية جهة غير مسجلة بموجب أحكام هذا القانون إن تستعمل كلمة (تعاون) أو (تعاوني) أو أية كلمة مماثلة إلا بموافقة المسجل العام وهو ما تنص عليه كل القوانين والتشريع والأسس والمبادئ التعاونية في العالم.
وفقاً للمبادئ التعاونية والتي تلزم كل من يطلق عليه (تعاوني) أو (تعاون) أو (تعاونية) ان يتقيد بالمبادئ والأسس التعاونية والتي تعتمد على العضوية الطوعية والاختيارية، والديمقراطية والمشاركة الاقتصادية والاستقلال والاستقلالية، التعليم والتدريب والإعلام، التعاون بين التعاونيات والاهتمام بشؤون المجتمع المحلي. وهذا البنك لا يتقيد في عمله وأدائه بهذه المبادئ التعاونية بالإضافة إلى انه غير مسجل كجهة تعاونية. وان هذه الصفة سقطت فور بيعه وبذلك ومن الناحية المهنية (التعاونية) أو من الناحية القانونية حسب قانون التعاون المسنود بالدستور. هذا البنك لا يحمل هذه الصفة (التعاوني) لذلك هذه الفضيحة وهذا الفساد لا علاقة له بالحركة التعاونية السودانية... وان المؤسف حقاً إن يحدث مثل هذا في الصحف السيارة مما يشوه وجه الحركة التعاونية في ظل صمت رهيب للاتحاد التعاوني القومي راعي الحركة التعاونية السودانية بالاسم وليس بالفعل. فاين هذا الاتحاد... وأين الاتحادات والمنظمات الأخرى في القيام بدورها تجاه قواعدها من العضوية التعاونية العريضة؟، بعدما فرطت هذه الاتحادات وقياداتها في البنك وغيره من مكتسبات التعاونيين!!.

المركز القومي لتدريب التعاونيين ... التعدي والاغتصاب
إن تقدم ونجاح واستمرار العمل التعاوني فى شتى مجالاته المتعددة والمتنوعة ينبع في الأساس من الجانب التعليمي والتدريبي، ولاشك إن غياب هذا الجانب يقف حجر عثرة أمام كل المحاولات والتجارب المبذولة لتنظيم تعاونيات تتأسس على فهم راسخ وقبول واعي بالمبادئ التعاونية التي تشكل "الهوية التعاونية" وتميز الشكل التعاوني من غيره من الأشكال والتنظيمات ألاقتصاديه والاجتماعية الاخري. وموضوع بنك التنمية التعاوني الإسلامي مرتبط أيضا بالتعدي علي مباني ومقر المركز القومي لتدريب التعاونيين بالخرطوم حيث استولت ولاية الخرطوم علي مقر المركز ومبانيه في مساحة 18000 م.م منذ عامين دون وجه حق، في تحد سافر لكل القوانين والأعراف القومية والدولية، وتم تشريد المدربين التعاونيين، والذين يتنقلون من مكان آخر،دون وجود مقر دائم، حيث فقدت وتبعثرت المكتبة التعاونية القيمة والوحيدة بالسودان، وحتى الآن لايعرف أحد إلي أين يتجه مصير هذا المركز العريق الذي باشر دوره الطليعي في التعليم والتدريب التعاوني في العام 1976 م.

ممتلكات الحركة التعاونية والأثمان البخسة(38)
أما ممتلكات الحركة التعاونية فقد بيعت وبأثمان بخسة، ولقد تعرضنا لهذا الأمر وتناولناه كثيرا بكتاباتنا في الصحف ولا حياة لمن تنادي، ومن ضمن ماكتبنا ماجاء بصحيفة "السوداني" اليومية في العدد رقم: 530 بتاريخ 2007-05-04 الآتي {في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر مدراء التعاون بالولايات الذي انعقد في صباح يوم السبت الموافق 7/4/2007م بمقر الأمانة العامة للتعاون بالخرطوم، خاطب السيد وزير الدولة بوزارة التجارة الخارجية، الحاضرين من ومن جملة ما قاله (إنه بعد العام 1989م أخواننا التعاونيين لم يستطيعوا التكيف مع التحول الاقتصادي وسياسات التحرير التي أعلنتها الدولة وقاموا ببيع ممتلكات التعاون وبأثمان بخسة، وان التعاونيين لم يصمدوا في مواجهة الواقع الجديد) وأضاف (إن الدولة لم تحل التعاون ولم تصدر قراراً بوفاته بل إن التعاونيين باعوا الممتلكات الخاصة بالتعاون بأثمان بخسة وبصورة تصل للمساءلة الجنائية وأكد (أن التعاون مافي زول (حٌلاهو) ولابد لنا من وقفة جديدة) انتهى كلام السيد الوزير. هذا حديث شجاع لمسئول حكومي يعتبر الراعي والمشرف على الحركة التعاونية والمسئول الحكومي والسياسي والإداري الأول عن العمل التعاوني بالبلاد.. وهو حديث خطير يستوجب منا وقفة جادة وعمل صادق لاسترداد أملاك التعاونيين الضائعة وحقوقهم المسلوبة والمهدرة، وهي مسؤولية السيد الوزير في المقام الأول بالإضافة إلى الاتحاد التعاوني القومي، قمة الحركة التعاونية والشعبية إلى جانب جميع التعاونيين وكل الحادبين على أمر الوطن والمواطن السوداني المغلوب على أمره. جاء في المادة (6) من قانون التعاون لعام 1999م (ترعى الدولة الحركة التعاونية باعتبارها نشاطاً جماعياً يخدم أغراض الفرد والمجتمع وتعمل ـ الدولة ـ على تفعيل دور الحركة التعاونية، وتمكينها من القيام بواجبها في كل المجالات تحقيقاً لأهدافها الكلية) وتنصص المادة (3) بأن الوزير المختص بشؤون الحركة التعاونية هو وزير التجارة الخارجية كما تنص المادة(8) ـ1 ـ على رئاسة الوزير للمجلس القومي لرعاية وتنمية الحركة التعاونية والذي تحدد المادة (9) اختصاصاته والتي منها وضع سياسات وخطط وبرامج الحركة التعاونية والإشراف عليها ومتابعتها وتقديم النصح لها. اما المادة (21) من قانون التعاون لسنة 1999م فتحدد بصورة قاطعة ان الجمعيات التعاونية تخضع لإشراف الوزير ورقابة المسجل العام للتعاونيات الذي يعينه السيد الوزير. هذا باختصار غير مخل فيما يتعلق بالوضع القانوني للسيد الوزير، اما بالنسبة للاتحاد التعاوني القومي، فتحدد المادة(23) بوضوح تام دور الاتحاد ومسؤوليته في تنفيذ خطة الدولة في القطاع التعاوني، وتمثيل الحركة التعاونية في الداخل والخارج والعمل على نشرها وربطها بالجماهير وإعداد القيادات الواعية والصالحة لتسيير الحركة التعاونية والواقع يثبت انه من الناحية الفكرية والنظرية والقانونية، المسؤولية المباشرة للسيد الوزير والاتحاد التعاوني القومي، تجاه الحركة التعاونية السودانية.
وعلى ضوء ماتقدم به تبرز للسطح العديد من الأسئلة الملحة، والتي نتمنى إن تجد الإجابة عليها بكل الوضوح والشفافية والشجاعة من السيد الوزير، والسادة أعضاء مجلس إدارة الاتحاد التعاوني القومي..وهي: من الذي قام ببيع ممتلكات الحركة التعاونية بأثمان بخسة؟ وهل هم التعاونيون الشعبيون أم الديوانين؟ أم هم الذين نسبوا للحركة التعاونية بعد قرار (الإنقاذ) رقم 34 الشهير بتكوين لجان التسيير والتي خلت محل التعاونيين المنتخبين ديمقراطياً؟ ومن وماهي تلك الجهات التي استولت على هذه الممتلكات نظير هذه الأثمان البخسة؟ هل هي حكومية أم شركات قطاع خاص أم أفراد؟ وكيف تم ذلك؟ ومتى؟ وما الذي تم حيال هذه التصرفات وهذا الفساد؟ وماهو دوركم (السيد الوزير، والسادة، أعضاء مجلس إدارة الاتحاد التعاوني القومي)؟ وماهو الدور الواجب الذي قام به السادة الوزراء السابقون؟ لقد جاء في المادة(28) ـ1ـ أموال الجمعية التعاونية ملك لأعضائها وجاء في المادة (25) من قانون التعاون البند ـ2ـ لايجوز لأية جمعية تعاونية التصرف بالبيع أو الرهن أو ترتيب أي حق على أصولها الثابتة والمنقولة إلا بقرار من الجمعية العمومية وموافقة المسجل العام، على إن تحتفظ الجمعية التعاونية بسجل لكل التصرفات والرهونات والقيودات بالطريقة التي تحددها اللوائح). فكيف جاز لهؤلاء وأولئك التصرف في ممتلكات التعاون والتعاونيات دون الرجوع إلى أهلها وأصحابها؟؟؟ إن ما قاله السيد الوزير أمام المؤتمرين صباح السبت 7/4/2007م حق !! ولكنه ليس كل الحق!!! لقد حاول السيد الوزير أن يثبت الخلل البائن في الحركة التعاونية على التعاونيين وحدهم.. وهذا مجاف للحقيقية.. والحقيقة أن (الإنقاذ) قصدت وحاولت اغتيال الحركة التعاونية السودانية الشعبية التوجه، الحرة ، الديمقراطية في أساليبها وغاياتها.. وذلك بكل الشراسة، مستخدمة كل الأسلحة، من التشريد والإقصاء للكفاءات التعاونية النادرة، وتفتيت الجهاز الإداري الحكومي المختص بالتعاون، الذي تفرقت مهامه وسلطاته هدراً بين مدراء المالية بالولايات، وفي عهد (الإنقاذ) تم بيع بنك التعاون، الذي أسسه التعاونيون، واغتصبت مباني ومقار المركز القومي لتدريب التعاونيين، بصورة مخالفة لكل الأعراف والمواثيق الدولية في سابقة هي الأولى والأخطر على مستوى الحركة التعاونية العالمية. في عهد (الإنقاذ) جرت محاولات مستميتة لتفتيت البنيان التعاوني الشعبي، وطوعت معظم التعاونيات والاتحادات التعاونية وفي قمتها الاتحاد التعاوني القومي من خلال لجان التسيير الموالية (للإنقاذ) لتكون رافداً من روافدها، بالرغم من مقاومة بعض أعضاء مجالس إدارات التعاونيات لهذه الهجمة الشرسة.
إذا أردت الحق، السيد الوزير حكومة (الإنقاذ) هي التي كانت وراء بيع ممتلكات الحركة التعاونية من خلال تهاونها في حسم هذا الأمر.. ثم إن البيع بأثمان بخسة ليس بغريب على (الإنقاذ) والتي باعت الكثير من ممتلكات هذا الشعب، وخير مثال لذلك بنك الخرطوم العريق العتيد...وبذلك إذا كان رب البيت بالدف ضارباً،فشيمة اهل البيت الرقص فلا غرو ولا غرابة، أن تباع ممتلكات التعاونيات في زمن (الإنقاذ) بعد ما حافظ عليها التعاونيون منذ الثلاثينيات من القرن الماضي حتى العام 1989م، وعضوا عليها بالنواجذ، فجاءت (الإنقاذ) وبعثرت هذا التراث السوداني الثر الفريد، هذه هي الحقيقة الناصعة.. وعلى الرغم من ذلك فالتعاونيون لهم دور في ذلك، حيث إن هناك قلة انساقت وراء (الإنقاذ) رغبة أو رهبة مما فاقم من الكبوة التي لحقت بالحركة التعاونية، والتي إن شاء الله، سوف تقوم منها وهي أكثر قوة، بفضل الله ثم بفضل أبنائها التعاونيين الذين لايزالون يرابطون في الولايات والمحليات والقرى والفرقان والاحياء.. في بقاع السودان المختلفة وهم يصارعون الظروف السياسية والاقتصادية والمعاشية السيئة، من أجل كرامة المواطن السوداني الحر، ينشئون التعاونيات وينشرون الفكر التعاوني، يدفعهم لذلك، وطنيتهم وإخلاصهم للعمل التعاوني والذي هو مسؤولية، وعقيدة وإيمان. السيد الوزير أبدؤوا بالإصلاح.. و(تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) والناس بخير ما تعاونوا السيد الوزير..انها فرصة لن تتكرر ..وضياعها، بعد التحرك الفوري لرد هذه الممتلكات يعني مزيداً من التدهور، وتكريساً للظلم وضياع الحقوق.

الخاتمة
من العرض السابق في هذه الورقة يتضح أثر الصراع علي الهوية بصورة عامة والهوية التعاونية بصورة خاصة ، علي مجمل أداء العمل التعاوني ، وظهر ذلك جليا في المكتسبات التي فقدتها الحركة التعاونية السودانية ، مثل بنك التنمية التعاوني ، مباني ومقار مركز التدريب التعاوني ، تشريد الكفاءات التعاونية ، نهب الممتلكات التعاونية وبيعها بأثمان بخسة. و نحب أن نقرر هنا أن معالجة مشاكل التعاون في الإطار الحالي للهياكل الأساسية للاقتصاد السوداني لن يحرره من أسر المشاكل التقليدية المزمنة التي ظلت تلازمه وقتاً طويلاً... ما لم تحدث قفزة في التصور وفي التخطيط تضع التعاون موضعاً جديداً وفريداً وما لم يحدث تغيير فعلي وجذري بعيد ترتيب وتنظيم البنية الفوقية للاقتصاد السوداني ليعطي التعاون دوراً طليعياً وأساسياً في الحركة التنموية فإن الحديث عن إزالة سلبيات الحركة التعاونية وهدم السياسات الخاطئة التي سجنت التعاون في إطار ضيق سيكون عبثاً وطحنا بلا طحين. إن تحديد أي تصور جديد لموقع العمل التعاوني لابد أن يكون منطلقاً من مقومات "لهوية التعاونية" ومن التجربة الماضية ليعطي الأبعاد لما يجب أن يؤديه التعاون في رفع معدلات الدخل القومي، وفي مجالات الإنتاج وكسب الأرصدة الأجنبية للبلاد ومجالات تحريك المدخرات المحلية الضعيفة لتجميعها وتحويلها إلى قوة اقتصادية مؤثرة – خاصة وأن الواقع التعاوني تؤكد ضعف المخصص للادخار من الفائض المتحقق في دخول أعضاء التعاونيات برغم عدم توفر هذا الفائض لغالبية الأعضاء بجانب ما يمكن أن يلعبه التعاون في دفع الثورة الاجتماعية على امتداد قطاعات المجتمع بما ينمي من قيم العمل الجماعي في الإدارة الديمقراطية والروح الجماعية، وبما يقدمه من خدمات في مجال الضروريات مثل الصحة والتعليم والإسكان... الخ. إن التعاون لا يمكن بحال من الأحوال أن يفصل من عملية الثورة الاجتماعية ولا يمكن أن ينظر غليه كقطاع للتطور الوئيد فهو قطاع ثوري له دور ثوري إيجابي.. ودور متميز في اقتصاديات التحول، دور أساسي في عمليات تغيير القطاع التقليدي الذي يشمل أكبر مساحة من الأرض الصالحة للزراعة وأكبر عدد من المواطنين – وتحويله إلى قطاع حديث ورائد وفق برنامج متكامل للإصلاح الزراعي.. أن النمو الأفقي والرأسي للقطاع الزراعي، والرعوي وخلق كيان اقتصادي متماسك لفقراء المزارعين ومتوسطي الحال منهم... واستبعاد الاستغلال الربوي (نظام الشيل) والتجاري.. وحمايتهم من الغلاء وتسهيل العمليات الزراعية بالمشاركة الجماعية في عمليات الحصاد بالآلة وبالوسائل التقليدية، وتغيير الوسائل العاجزة في التسويق والتخزين عمل يتم بصورة أسرع وأكفأ عن طريق التعاون إذ أن العمل التعاوني يتميز بالقدرة على إعطاء الحافز الطبيعي والصحي للعمل.. فدافع الإنتاج هو تلك الفائدة المباشرة والحاسمة التي يجنيها باذل الجهد وتجنيها المجموعة.. والتعاون علاقة مباشرة تلغي عملية الوسيط بين المنتج والمستهلك وتخلق مسارات سليمة وطبيعية للاستهلاك... بل هي بدون شك تزيل الافتراق الإنتاجي إذ تعطي الفرصة الواسعة لانتقال السلعة من الإنتاج للاستهلاك تحت رعاية القوى المنتجة، وهي بذلك تؤدي إلى نمو السوق المعتدل الذي يبرأ من الأنشطة الطفيلية التي تضيف إلى قيمة السلعة قيمة غير حقيقية مما يؤدي إلى نمو السوق السوداء والمضاربات التجارية التي تضر أشد الضرر بالمستهلك وبالوضع العام للاقتصاد.. إن الشعار العالمي الذي رفعه الحلف التعاوني الدولي للعام الماضي 2006 هو "بناء السلام من خلال التعاونيات" يحتم علينا استثمار هذا الشعار وترجمته علي أرض الواقع بأن تكون هناك حركه تصحيح للمسار التعاوني يقودها ويوجهها التعاونيون. كما لابد أن يكون للتعاون الزراعي من خلال الجمعيات التعاونية المختلفة , دور رائد في ذلك. لذلك لا بد من بدء مرحله جديدة بإعادة هيكله وتطويرا لنظام التعاوني بما يتماشى مع الاقتصاد الحر والشراكة مع القطاع الخاص مع الحفاظ علي "الهوية التعاونية"، في إطار دور جديد للدولة تلبية للاحتياجات المتعددة والمتجددة للحركة التعاونية السودانية وفي ظروف التحول من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام والتي يجب أن تلعب التعاونيات وخاصة الإنتاجية الزراعية دورها المنتظر في هذا الظرف الجديد وهي جديرة بذلك وأهل له‏ بإذن الله.‏ كل ماسبق يصب في صالح الجهود المبذولة لتحقيق السلام وبذلك يصبح فعلا لا شعارا تحقيق السلام من خلال التعاونيات.



الهوامش
(1) د. رولى إيليا موسى ، حرية اختلاف الرأي و قبول الآخر June 27, 2007 ،www.tharwacommunity.typepad.com

(2) ديلمون كريم الحوار المتمدن - العدد: 1698 - 2006 / 10 / 9 http://www.rezgar.com/m.asp?i=1471
(3) محمود محمد طه ، أسس دستور السودان ، الحزب الجمهوري ، أمدرمان- الموردة ص.ب 46نوفمبر 1968، الطابعون: مطابع سودان ايكو (ص2)
(4) محمود محمد طه ، أسس حماية الحقوق الأساسية ، منشور الحزب الجمهوري ، 20 مارس 1969
(5) د. رولى إيليا موسى ، حرية اختلاف الرأي و قبول الآخر، مرجع سابق زكره

(6) محمود محمد طه ، أسس حماية الحقوق الأساسية مرجع سابق زكره
(7) محمود محمد طه ، أسس دستور السودان ، مرجع سابق زكره ، ص 5
(8) خالد جمعة ، قراءة في كتاب ، إشكالية الهوية في إسرائيل http://www.sis.gov.ps/arabic/roya/images/baner.jpg
(9) كاترين هالبيرن مفهوم الهوية: تاريخه وإشكالاته ترجمة د.إلياس بلكا http://www.fursah.net/articles/alhaweea.htm
(10) بشير خلف ، سؤال الهوية وصدمة العولمة ، http://www.aklaam.net/aqlam/showthis.php?id=276
(11) مصطفى المسعودي ، سؤال الهوية:في تعريف الهوية حول تنامي الوعي بالهوية www.albadilalhadari.com .
(12) كاترين هالبيرن مفهوم الهوية: تاريخه وإشكالاته ، مرجع سابق زكره
(13) أحمد مختار أحمد الهوية في السودان قدر أم اختيار 22-7-1428 هـ http://www.sudaneseonline.com/index.htm
(14) مصطفى المسعودي ،.سابق ذكره
(15) كاترين هالبيرن مفهوم الهوية: تاريخه وإشكالاته ، مرجع سابق زكره
(16) أ.د عبد العزيز بن عثمان التويجري ، الهوية والعولمة من منظور حق التنوع

(17) بشير خلف ، سؤال الهوية وصدمة العولمة مرجع سابق ذكره

(18) د. محمود أمين العالم ، حول مفهوم الهوية ، مجلة العربي ، العدد 437 ، أبريل 1995

(19) طه إبراهيم ، الهوية السودانية وعلاقة الدين بالدولة ، مركز الدراسات السودانية ، أكدال – الرباط – المغرب ، 1992، ص 3

(20) د. الباقر العفيف أزمة الهوية في شمال السودان متاهة قوم سود...ذوو ثقافة بيضاء ترجمة الخاتم عدلان ، 1999 ص 3

(21) بشير خلف ، سؤال الهوية وصدمة العولمة مرجع سابق ذكره


(22) د. الباقر العفيف المصدر السابق ذكره ص 6 - 7

(23) أحمد مختار أحمد الهوية في السودان قدر أم اختيار ، مرجع سابق ذكره


(24) محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي ، الطريق نحو إصلاح تعاوني عاجل "تطوير وتنمية الجهاز الإداري والحكومي المختص بالتعاون" ، وزارة التجارة الخارجية (الأمانة العامة للتعاون) ، ورقة عمل مقدمة الي مؤتمر مديري إدارات التعاون بالولايات ، الخرطوم ، 7 - 8 أبريل 2007 ، ص 5 - 6

(25) حسن الوديع السنوسي – تطور الحركة التعاونية السودانية – مؤتمر التنمية التعاونية الشاملة – المركز القومي لتدريب التعاونيين – الخرطوم – السودان – 22-26 فبراير 1987 م. ص 3

(26) د. حسن الوديع السنوسي – الحركة التعاونية بالسودان تحت الحكم البريطاني – مجلة محاور ، المجلد الاول ، العدد الاول – مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية، جامعة امدرمان الاهلية– السودان – يوليو 1998 م. ص 99

(27) المصدر السابق زكره ص 100

(28) محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبى ، دور جديد للدولة في دعم التعاونيات الزراعية المنتجة "الجمعيات التعاونية لمنتجي الأصماغ الطبيعية نموذجا"، ندوة دور تنظيمات المزارعين في ترقية الإنتاج تجربة إتحادات المزارعين وجمعيات منتجي الأصماغ الطبيعية، (مؤسسة النيل الأبيض برس - الهيئة القومية للغابات - إتحاد عام مزارعي السودان) قاعة إتحاد عام مزارعي السودان ، الخرطوم ، 7/9/2006 ، ص 5 - 6

(29) جعفر محمد يوسف ، التعاونيات الاستهلاكية في السودان ومعوقاتها الاساسية ، بحث لنيل دبلوم معهد التخطيط القومي ، القاهرة ، مصر ، 1986 ص 38

(30) محمد عبد الرازق سيد أحمد - تطبيقات اقتصاديات التنمية في تكوينات الجمعيات التعاونية بالسودان1945م – 2005م - رسالة ماجستير (أكاديمية السودان للعلوم برامج البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وزارة العلوم والتقانة + معهد الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية – الخرطوم - سبتمبر 2005م ص 8

(31) محمد عبد الرازق سيد أحمد - المرجع السبق زكره

(32) محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبى ، آثار القرار السياسي على دور ومستقبل التعاون الزراعي ، ورقة عمل مقدمة الي ورشة عمل"دور ومستقبل التعاون الزراعي والزراعة التعاونية" ، وزارة الزراعة و الغابات الخرطوم، 30/8/2006 ص

(33) منشورات منظمة العمل الدولية – "التعاونيات" مقتطف من البيان حول الهوية التعاونية، الذي اعتمدته الجمعية العامة للاتحاد الدولي للتعاونيات، 1995 – منظمة العمل الدولية – مكتب العمل الدولي – الطبعة الأولى - جنيف – سويسرا – 2000www.ica.coop

(34).محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي ، الحركة التعاونية السودانية وفرص التنمية المهدرة "التعاون الزراعي نموزجا" ورقة مقدمه لمؤتمر مركز الأرض حول "مستقبل التعاون الزراعى فى ضوء التغيرات السياسية الراهنة إهدار حق التنظيم للفلاحين فى مصر.... مسئولية من ؟"، 8/9 يونيو 2007 ، فندق رويال جاردنز – القاهرة – مصر ، ص 18

(35)د.فرح حسن أدم و د.كامل إبراهيم حسن ، الحركة التعاونية بين النظرية و إمكانية التطبيق ، المجلس القومي للبحوث ، مجلس لأبحاث الاقتصادية والاجتماعية ، الخرطوم – يناير 1980م.

(36) هناءعلي كريم هن لي كريم (دكتور) – أصول الشرعية والفعالية التعاونية– كلية الحقوق –– جامعة القاهرة فرع الخرطوم – الخرطوم 1993م.

(37) محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبى،اثار القرار السياسي على دور ومستقبل التعاون الزراعي ، مرجع سابق ذكره

(38)محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي – إختصاصي التعاون والتنمية الريفية – مقال بصحيفة "السوداني" ، الخرطوم العدد رقم: 530 ، 2007-05-04


Post: #27
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-07-2007, 10:11 AM
Parent: #1

ورقة د/ ناهد :-
الاسقاطات النفسية لقضية الهويّة فى الاحاجى الشعبية

د ناهد محمد الحسن على
مقدّمة :
منذ ان ارست (تركيا) فى السودان اولى هياكل وملامح الدولة القوميّة , بدأت تتشكل فى السودان بذرة وعى جديد بالهوية الجامعة والمحاطة بحدود تفترض تمايزنا عن من هم خارج هذه الحدود.وممّا لا شكّ فيه ان هذا الوعى قد نضج وتشكل تحت سعير المعارك التى خاضها السودانيون كإخوة ضد الاستعمار التركى تحت راية وحيدة هى راية الامام المهدى , نزفنا تحتها لاجل وطن واحد يسع الجميع .وفى عهد الحكم الانجليزى _المصرى , اكسبت المعارف الانسانية التى تطورت وقتها بالعلم والتجارب المشابهة فى افريقيا والعالم الكبير , الوعى بالهوية القومية بعدا قيميا آخر, تؤدى فيه الهوية وظيفة نفسية هامّة تدافع عن الذات الانسانية وتحميها .
والآن وبعد نصف قرن , لازالت الهوية فى السودان سؤال اسلحته مشرعة , فى وجه النوايا المريبة . فهل ضقنا برحابة التعددية الثقافية والاثنية وفشلنا فى ادارة هذا التنوع الثّر , تحت دثار الاحادية الثقافية الضيقة ؟! ام اننا لا نعى حقيقة من نحن؟! ومن نكون؟!
لوهلة يبدو لى جهلنا فى قرارة انفسنا بمن نحن ؟! مخيفا جدّاً ولائقا اكثر برجل مثل (هنتنغتون) كتب عن إشكالية الهوية الامريكية تحت عنوان(من نحن؟!)(1) وهو سؤال معقول لامّة زحفت من انحاء الارض المختلفة ونزلت بأرض الاخرين , عاركتهم وتعاركت فيما بينها قبل ان تخلق لها علما تتعلم منه هويتها الموحّدة ومعنى وجودها . لكن ان يحضر هذا السؤال فى بلد كالسودان لولا واقعه التاريخى والجغرافى لسرعان ما غدا لونا واحداً , هو ما يجعل هذا السؤال مخيفاً وكارثياً, إذ يدلل على اننا لم نبذل اىّ جهد بهذا الخصوص , واننا الى الان لانعى حقيقة من نحن؟ّّّ فى قرارة انفسنا ..عرب ام افارقة ام حالة وسطية فيزيائية بين العروبة والافريقانية , ام هنالك شخص رابع اسمه السودانى , حاضر فى كل التنوع الثقافى الموجود , يشكل العلاقة بين القبائل السودانية المختلفة التى تلتقى فيما بينها فى خصائص سودانوية تمنحها هويتها القومية وتميزها عن الاخرين .
من هذا المنطلق يبدو سؤال من نحن ؟ّ! ليس بريئاً تماما ولا بدهيّاً .. إذ انّه يحمل فى طيّاته كل خصائص الاسئلة الموقوتة , والتى ما ان تنزع فتيلها حتى تنفجر بالشكوك.
يرى ( هنتنغتون) ان( الجدال حول الهوية القومية هى صفة لازمة لهذا العصر ..فى اى مكان الناس يتساءلون , ويعيدون تقسيم وتعريف ماذا لديهم فى العموم ومالذى يميزهم من الاخرين ..من نحن ؟ والى اين ننتمى ؟ ,اليابانيون يتساءلون ان كان موقعهم وثقافتهم وتاريخهم تجعلهم آسيويين, او ثروتهم وديموقراطيتهم وتطورهم تجعلهم غربيين . وصفت إيران بانها (امّة تبحث عن هوية ) ,جنوب افريقيا متورطة ( فى البحث عن هوية ), والصين فى (سؤال الهوية الهوية القومية ), بينما تايوان ( فى اذابة واعادة بناء الهوية القومية ). سوريا والبرازيل قيل عنهم انهم يواجهون ( ازمة هوية ), كندا ( ازمة هوية مستمرة ), والدنمارك ( مشكلة هوية حادّة ) ,الجزائر ( ازمة هوية محطمة ) , تركيا ( ازمة هوية متفردة ) .. تقود الى جدال حار حول ( الهوية القومية ) , وروسيا ( ازمة هوية عميقة )..)(2) ,
هذا يعنى ان التطورات التى حدثت وتحدث فى العالم باتجاه القرية الكونية هى التى جعلت الاجابة على هذا السؤال حتمية ..اذ تعانى الذات بظهور مجتمع النحن / فى مقابل مجتمع الهم , من خطر التلاشى فى ظل العولمة .
تهتم هذه الدراسة بمحاولة ايجاد ملامح للشخصية السودانية الاساسية
BasicCharachtor
ان وجدت ..انطلاقا من فرضية ان توتر العلاقة بالاخر المختلف يرجع الى وقوف الثقافة بصلابة ضد إذابة الحدود مع الاخر وبالتالى يطغى المكون القبلى العرقى على المكون القومى . ولان القبيلة تقوم على اسس عصبية فى الاساس للحفاظ على وحدتها وبقائها اعتمادا على التراتبية الهرمية , التى تطالب افرادها بالاذعان التام حرصا على المصالح الاقتصادية والاجتماعية والامنية والنفسية فتسود مقولة :
وما انا الا من غزية ان غزت * غزوت وان ترشد غزية ارشد
فتنفجر صراعات الهوية الى ان نعثر على هوية قومية جامعة نرضاها .
تدخل هذه الدراسة فى نطاق علم الانثربولوجيا النفسية والتى تعنى بتأثير الثقافة فى الشخصية والشخصية فى الثقافة .. مستهدية بطرق البحث المعروفة فى هذا المضمار والتى يقول عنها الدكتور عاطف وصفى ما يتعلق بالانثربولوجيا النفسية , فانها تجمع بين طرق بحث علم نفس الشخصية , وتتلخص اهم تلك الطرق فى ملاحظة السلوك ودراسة سير الحياة وتفسير الاحلام والرؤى والاختبارات الاسقاطية ودراسة الادب الشعبى والفن واخيرا الدراسات الترابطية )(3)
وستكتفى هذه الدراسة بجزئية ضئيلة من هذا المبحث الهام وهى دراسة الاحاجى الشعبية , بايراد نماذج مختلفة من الاحاجى الشعبية من انحاء السودان المختلفة واخضاعها لمنهج تحليلى تفكيكى وتحليلى نفسى يبحث عن الاسقاطات النفسية الشعورية و الا شعورية التى تعطى دلالة ما عن العلاقة بالاخر المختلف , وهل يمكن ايجاد نسق قومى موحد ؟ ..وهذه الدراسة بالطبع لن تقدم سوى خطوط عريضة فى هذا الشأن تكتمل وتتعمق بدراسة النواحى الاخرى فى التراث السودانى والمحددات الجغرافية والتاريخية التى حكمت وجوده . والتعمف فى الادب الشعبى الذى تشكل الاحاجى طرفا منه , يسهّل معرفة القيم والاتجاهات الاساسية فى شخصية وثقافة الانسان السودانى..
ويرى علماء الانثربولوجيا ( ان اتجاه التحليل التفصيلى للادب الشعبى فى مجتمع ما يقوم على افتراضين , افتراض وجود شخصية رئيسية او منوالية فى المجتمع قيد البحث , وافبراش ان التكامل الثقافى يميل الى تأكيد نوع من الثبات والتماسك فى الادب الشعبى , وبالتالى يمكن استنتاج بعض خصائص الشخصية الرئيسية فى المجتمع قيد البحث عن طريق تحليل ادبه الشعبى )(4).
تقوم هذه الدراسة بتوظيف الاحاجى الشعبية ما امكن للحصول على اجابة لسؤال من نحن وكيف نرى الاخر ؟ مع محاولة لتلمس منشأ التوترات النفسية المصاحبة لهذه القضية التى تجعل شخص ما مستعد ان يقتل من اجل هويته ...وهنا يبرز دور التحليل النفسى فى تقصى الاسقاطات النفسية والرؤى والاتجاهات الشعورية والا شعورية والتى تقدم لها الحكاية قالبا دسما للدراسة حين تردى الحكاية فى بعض الاحيان وظيفة نفسية لتفريغ العواطف والانفعالات ..يقول د.عاطف وصفى(ان الحكايات الشعبية فى مجتمع ما تمثل شاشة لاسقاط المشاعر والاتجاهات التى تكبت او تعارض عن طريق ثقافة ذلك المجتمع , وهى المشاعر والاتجاهات التى لاتهتم بها الثقافة بصورة ظاهرة والموضوعات التى يركز عليها الادب الشعبى فى تلك الثقافة )(5)
تأتى هذه الدراسة فى فصل واحد وثلاثة مباحث وخاتمة :
المبحث الاول :
يهتم بدراسة الوظيفة النفسية للهوية على مستوى الذات الفردية والجماعية واهمية الانتماء من منظور علم النفس ودلالات الهوية من ذات المنطلق.
المبحث الثانى :
يهتم بدراسة الاحجية الشعبية من منظور الرواة وتأثيرات الاحجية فى الشخصية السودانية , وهل لازالت اداة تحليلية فاعلة فى ظل انقراض مؤسسة( الحبوبة) ...
المبحث الثالث :
دراسة القيم والاتجاهات العامة للشخصية السودانية وموقفها من قضية الهوية بايراد نماذج من هذه الاحاجى .
خاتمة :
تحمل الخاتمة تلخيصا لاهم السمات الاساسية فى هذه الدراسة فى محاولة لتعرية مناطق الضعف فى الشخصية السودانية التى تقف ضد الوحدة القومية والسلام , وايجاد مسارات اخرى اكثر انفتاحا لمستقبل جديد وواعد .

الفصل الاول
المبحث الاول :
الوظيفة النفسية للهوية :
حين نرى البعض يتقاتلون من اجل هويتهم , يلوح لنا ان نتساءل : هل يحتم تأكيد الهوية ا العداء مع الاخر المختلف ؟ ام يعتبر هذا العداء نتاج لاسواء نفسى يحتاج الى تمرير طاقة سالبة ما نحو الاخر لحماية الذات من التلاشى ؟
يتطلب الاجابة على هذه الاسئلة , الالمام بمعنى الهوية من منظور علم النفس والوظيفة التى تؤديها للانسان .
يقول امين معلوف تتألف هوية كل انسان من جملة عناصر لا تقتصر بدهيا فحسب على تلك الواردة فى السجلات الرسمية , ومن بينها بالنسبة الى السواد الاعظم من الناس , الانتماء الى مذهب دينى وجنسية واحيانا جنسيتين , ومجموعة اثنية او لغوية ..واسرة قد تكبر او تصغر , ومهنة ومؤسسة , ومحيط اجتماعى معين ..غير ان القائمة تطول ولا تنتهى من الناحية الافتراضية , فقد يشعر المرء بانتماء قوى بهذا القدر او ذاك الى إقليم او قرية او حى او عشيرة او فريق رياضى او جماعة مهنية ....الخ )(6)
يعتبر هذا التعريف الذى شرحه أمين معلوف , والذى يتحدث عن الهوية كشعور بالانتماء تعريفاً شائعا عن الهوية انتقل به ( هنتنغتون ) خطوة مقاربا لتخوم علم النفس حين قال عن الهوية انها إحساس الجماعة او الفرد بالذات , وهى نتاج وعى ذاتى باننى او نحن نمتلك ميزات هوية محددة تميزنى /نا , عنك وعنهم .(7)ووفقا لهذا التعريف يفترض ( هنتنغتون ) وجود الوعى يالذات والجماعة كمكون اساسى لادراك الهوية وهو ما يتفق معه علماء النفس . فمثلا تقدم النظرية الاجتماعية النفسية للعلامة اريكسون إطاراً منظما لتطور الفرد ضمن المنظور التطورى الاجتماعى النفسى والتى تقوم على فكرة ( ان عملية انتقال القيم والمعرفة عبر الاجيال تحتاج الى نضج الافراد القادرين على تحويل المعرفة الى ملكية داخلية لدى الطفل , والتواؤم معها ونقلها للآخرين .ينمو الناس ويتغيرون فى اتجاه منظم يثرى إمكاناتهم وقدراتهم الكامنة للقيام بما يلزمهم وما يلزم الاجيال التى ستليهم )(8). يتحدث اريكسون عن مهام تطورية لكل مرحلة عمرية يمر بها الانسان . ووفقا لاركسون تعتبر مهمة مرحلة المراهقة الاولية (12_18)سنة ,الشعور بهوية المجموعة مقابل مقابل التخلص من احاسيس الغربة, وهى مرحلة ضرورية تسبق وتهئ عند اركسون للمرحلة الثانية من (18_21)سنة والتى تهتم بخلق هوية فردية واضحة المعالم والحدود .(9) يعرف علماء النفس الهوية الفردية هىself-image(ego identity مجموعة من المعتقدات يحملها الانسان عن نفسه , تقوم على الانجاز والتداخل الاجتماعى الذى يتحكم فى المعنى والسلوك الشخصى .فى العادة يحتوى على دائرة مركزية مكونة من الاسم والنوع والعمر , ودائرة طرفية كالمهنة والدين والانجاز , والذى يجعل كل شخص مختلف عن الاخر .(10) ومن من الواضح ان اركسون كغيره يؤمن بان الانسان (حيوان اجتماعى ), يحتاج الى الانتماء لاخر لكى ينتمى لنفسه !مما يعنى ان وعينا بذاتنا يأتى نتاج وعينا بالمجموعة التى ننتمى اليها .وهذا هو روح نظرية الهوية الاجتماعية
Social Identity Theory
والتى تقوم على فرضية ( ان جزء من الطريقة التى نرى بها انفسنا لها علاقة لصيقة بالمجموعة التى ننتمى اليها . وانتماءنا الى جماعة بعينها له اثر فعل فى الطريقة التى نعامل بها الاخرين الى درجة انها تلون وتحدد علاقاتنا الشخصية والسبب فى هذا ان هويتنا الاجتماعية مربوطة بحافز شخصى هو تقدير الذات والحصول على الاحترام الاجتماعى )(11).
هنالك ثلاثة اليات نفسية ضرورية لفهم عملية الهوية الاجتماعية يشرحها علماء النفس كالاتى( (1) التصنيف , اى بقصد التبسيط للادراك
(2) والمقارنة,وهى عملية تقييمية اكثر من التصنيف وفى مجملها مقارنة جماعة باخرى ..فى عالم متساوى , انتماءنا الى جماعة او اخرى قد لا يؤثر كثيرا .. لكن العالم ليس متساوى . الجماعات تختلف من بعضها البعض فى القوة والوضع وهذه الاختلافات مهمة وهذه تقودنا الى الآلية الثالثة للهوية الاجتماعية وهى الميل الانسانى للحصول على مصدر ايجابى لتقدير الذات.
(3) وتقدير الذات الايجابى, وهذه الية محفزة نحتاج ان نشعر بالرضا عن الذات كما اننا محفزون بصورة عالية للحصول على الاحترام من الاخرين . لذلك الوضع الاجتماعى للجماعة التى ننتمى اليها هو عامل هام للهوية الجماعية حيث اننا قد نغضب او نتحول الى مدافعين ان انتقد احدهم الجماعة التى ننتمى اليها . لانه يعنينا ان تكون جماعتنا محترمة )(12) وهذا بالطبع يرجح ميل الانسان وفقا لظروف نفسية محددة الى السلوك الانحيازى والعصبية للجماعة وكما تقول ( نيكى هيز) ( يلوح لى ان البحوث الاولي عن الهوية الجماعية افترضت ان تصنيفك تبعا لجماعة محددة يقود الى الانحياز مع الجماعة ضد ما هو خارجها in group/out group bias
حيث يبدا الناس بتفضيل جماعتهم التى ينتموا اليها والتفاعل غير المفضل مع الجماعات الاخرى(13).لكن حتى فى هذه المجموعات هنالك بعض الاختلافات الشخصية فى استجابة البعض .
يتضح مما ذكرناه ان الهوية ضرورية لتقدير الذات , والعلاقة مع الاخر , الذى ليس بالضرورة عدوّا ما دمت انا متماسكا نفسيا ..وبالتالى تكتنف عملية الهوية وادراكها مشقة ووعورة قد تنتهى بنتيجة كارثية ان اردنا تأكيد هويتنا على حساب الاخرين,وعلينا ان نتعامل معها بحذر ووعى حتى نجيب على سؤال امين معلوف بنضج اكثر ترى اين ينتهى التأكيد المشروع للهوية واين يبدأ انتهاك حقوق الاخرين )(14)
يدخل فى مهام هذه الدراسة البحث عن معوقات العلاقة مع الاخر فى نص الاحجية الشعبية بتتبع الاسقاطات النفسية ولابد لنا هنا من وقفة لشرح مصطلح الاسقاط النفسى .
الاسقاط :
وفقا لفرويد هى احدى دفاعات الذات الغير ناضجة والا واعية ضد القلق الذى يسببه وعيك بدافع غير مقبول لديك وبالتالى تقوم بالتخلص منه عبر اسقاطه فى الاخرين والاشياء .(15)وقد تم استخدام تحليل الاسقاطات النفسية لدى المرضى النفسيين عبر اختبارات شهيرة عرفت باختبارات الاسقاط النفسى ( وهى صورة مبهمة او موقف غامض او سلوك ناقص يعرض على الشخص فى صورة تشكيلية او لفظية ويعرض بمنبهات بصرية او منبهات سمعية , ثم يطلب من المختبر تأويله على حسب ما يدركه منه , فيسقط المختبر فى هذا التأويل محتويات حياته النفسية الشعورية والا شعورية من مخاوف وصراع وقلق , ولذلك سميت هذه الاختبارات بالاسقاطية ..الخ)(16)



المبحث الثانى :
مدخل الى تحليل الاحاجى الشعبية :
تستلهم هذه الدراسة روح نظرية ( كاردينر )التى تقول بان ( كل مجتمع يتميز افراده ببناء اساسى للشخصية ..ويتشكل هذا البناء عن طريق النظم الاولية السائدة فى هذا المجتمع وعن طريق عمليات اسقاطية يشكل البناء الاساسى للشخصية النظم الثانوية السائدة فى هذا المجتمع ..)(17) ..بالتالى تشكل الاحاجى الشعبية مادة دسمة لتحليل الاسقاطات النفسية ..لكن هل لا زال بمقدورنا اعتبار الاحجية الشعبية رافدا للثقافة السودانية التى يسعنا ان نبنى عليها فى تحليلنا ؟
الحقيقة ان الاحاجى الشعبية فى السودان فى طريقها للانقراض بمعنى ان تأثيرها على ملامح جيل قادم بات شبه معدوم وان ظلت الحكاية فى الارياف لها طابعها وحضورها قبل ان تختفى فى إثر مؤسسة (الحبوبة ), واحاجيها الليلية على ضوء النار .رغم هذا تظل الحكايا الشعبية حاضرة فى تعبيرها عن ثقافتنا ..وقد سبق واثيرت اعتراضات حول امكانية اعتبار الاحاجى الشعبية مصدرا للتعرف على الاتجاهات والقيم الاساسية للشخصية , يقول الدكتور عاطف وصفى يقول البعض ان الادب الشعبى قد يعكس انماطا ثقافية وسمات للشخصية قديمة لم يعد لها وجود فى الوقت الحاضر , ولكن يمكن الرد على ذلك الاعتراض من زاوية ان الادب الشعبى ينقرض فى حالة عدم تعبيره عن الثقافة الموجودة . ويتمثل الاعتراض الثانى فى القول بان الحكايات الشعبية من شأنها الانتشار من مجتمع الى اخر وبالتالى لا تعبر بدقة عن قيم المجتمع قيد البحث , لانها قد تكون مستعارة من مجتمع اخر , ويمكن الرد على هذا الاعتراض من ناحية ان الاستعارات الثقافية تتعرض دائما للتعديلات التى تجعلها فى النهاية متفقة مع ومعبرة عن قيم المجتمع المنقولة اليه , ونصل الان الى الاعتراض الاخير وهو القول انه من الصعب معرفة ما اذا كانت القيم والاتجاهات المتعددة فى الادب الشعبى تعبر عن اتجاهات وقيم موجودة فعلا فى ثقافة المجتمع قيد البحث , او مجرد امنيات وتمنيات وصور من ردود الفعل موقت ويمكن الرد على هذا الاعتراض ايضا بالقول ان معرفتنا الوثيقة بثقافة المجتمع قيد الدراسة تمكننا من التأكيد ما اذا كانت تلك الاتجاهات والقيم امورا حقيقية ام مجرد تمنيات .ومن الواضح ان المناقشة الشابقة تؤكد ان الادب الشعبى يعبر عن قيم وشخصية الثقافة قيد البحث وهى حقيقة عرفها منذ زمن ليس بقريب الانثربولوجى الكبير (بواز) وله كتاب بعنوان ( ثقافة كيوكيوتل ممثلة فى الاساطير )(18).
اذا تعتبر الاحاجى الشعبية احدى الوسائل التى يرتب بها الانسان نفسه فى عالم مليئ بالكائنات ..يقول ريمون كاربانتيه ( ان الانسان كتعود فى مجرى الاف السنين ان يدافع عن حياته , وان يؤمن اذدهار وجوده ضد الطبيعة والاخرين ولهذا قد خلق علمه وفلسفته واساطيره وميثولوجيته ضمانا لفهم هذه الغزوات وبعث الحماس فيها والقدرة على ارساء مفاهيمها ..ولكن هل عرف ان يفهم الاخرين كعنصر لهذه الطبيعة ؟)(19)هذا ما سنحاول الاجابة عليه بتوظيف الاحجية والاسطورة.
من هم رواة هذه الاحاجى ؟
لا شك ان هذا السؤال قد شغل الباحثين فى هذا المجال باعتبار دلالته التحليلية وادراك الاسقاطات النفسية للنوع ...يقول الدكتور عبد الله على ابراهيم يبدو ان دراسة الحكايا السعبية فى اوروبا قد يئست من الوصول الى استنتاجات ذات معنى حول حكى النساء فقد استقرت تلك الدراسة فى الوقت الحاضر على فكرة ان الرجال هم رواة تلك الحكايات بين الشعوب الاوروبية بعد ان نبذت اعتقادها السابق بأن النساء هن حارسات كنوز الحكاية )(20)وفى معرض حديثه عن الحكايا الشعبية فى افريقيا يضيف ( وخلافا لاوروبا فان دارس الحكاية الشعبية الافريقية والشرق اوسطية قد علقوا اهمية خاصة على حكى النساء , فعلماء الانثربولوجيا والفلكلور التزموا بالمفاهيم التى رأينا الدارسين الاوروبيين قد طرقوها فالحدوتة او الحجوة فى قول حسن الشامى الفلكلورى المصرىوالمقيم بالولايات المتحدة مرتبكة عادة بالنساء وهى غالبا ما اعتبرت شغل نسوان )(21).. وسواء اكان الراوى ذكرا او انثى , يرى بعض الباحثين انه لافرق فى ذلك , اذ تصدر جميع الروايات من وجهة نظر رجالية ..بمعنى ان المرأة تستبطن عادة الموقف الرجولى وتفرزه ..( خلصت اريكا فريدل من من تحليل بعض نصوص الحكايات الشعبية الفارسية الى القول بانه رغم ان هذه الحكايات تصور بدقة دونية المرأة فى المجتمع الفارسى , الا انه لادور محسوس لنوع الراوى ذكرا كان ام انثى فى وجهة النظر التى تتخذها لحكاية ذاتها .وتعتقد فريدل ان الرواة من النساء مثلهن مثل الرجال يحكين الحكايات من وجهة نظر رجالية )(22)

المبحث الثالث :
الاحاجى الشعبية قراءة نفسية :
نقوم هذه الدراسة بتحليل الاحاجى الشعبية التى اوردها ووثق لها نفر من المهتمين بحفظ التراث السودانى ومن ذلك :
1_ (21 ) احجية جمعها البروفسور عبد الله الطيب فى كتاب يحمل اسم ( الاحاجى السودانية )(22 ).
2_(22) احجية جمعها الاستاذ يحيى فضل الله فى كتاب(حكايات واساطير سودانية )(23).
3_(11) احجية جمعها الاستاذ محمد الهادى حسن هاشم فى كتاب باللغة الانجليزية واللهجة المحلية يحمل عنوان (حكايات نوبية ) (24).
لتقوم هذه الدراسة بمهمتها على الوجه الاكمل يفترض فيها ان تقوم بتحليل تفصيلى للاحاجى موضع الدراسة لمعرفة القيم والاتجاهات العامة للشخصية ودلالات الهوية فى هذا الامر ..وهذا بالطبع اكبر من مهمة هذه الورقة , وجديرة بكتاب تفصيلى .وسأكتفى هنا باستعراض نماذج خمسة لطريقة التحليل فى ملحق خاص بهذه الورقة مع ايراد ملخص لهذه النصوص ودراسة تحليلية عامة مصاحبة
اول سؤال نبتدر به هذه الدراسة هو هل يوجد شكل وحيد للاحجية السودانية ؟
تظهر الاحجية السودانية نسقا مشتركا فى شكل الاحجية وطولها كما هنالك ملامح خاصة بمناطق معينة كحضور الانشودة داخل النص فى احاجى شمال ووسط وغرب السودان كاحجية (دبلوك ), من احاجى قبيلة التعايشة , و(الوعل ) من احاجى الرزيقات (ويا جلابة) من شمال ووسط السودان (25).
والاحجية عادة من طويلة الى متوسطة عدا فى الجنوب اذ يغلب عليها القصر ..وهى عادة ما تسهب فى التفاصيل غير واضحة الاهداف, بعكس الاحجية الجنوبية والنوبية التى تصاغ فى قالب فلسفى عالى له هدف محدد كاحجية (الاسراف )لقبيلة الزاندى و(السلم ) ,و(الحبل ) من قبيلة الكوكو.وقصة ( الفأر) و(الضفدع)من القصص النوبية فى الشمال والتى تدعو جميعها الى قيم انسانية عليا بإتجاه الاهتمام بالدواخل دون المظاهر الخارجية وعدم التعويل على القبح الخارجى فى الحكم على الاخرينوعدم الاستهانة بالصغار والضعفاء ونحوذلك.
تميزت الاحاجى فى شرق وشمال السودان بوجود الالغاز كمكون اساسى داخل النص تدور حوله الحكاية مثال لذلك( مدنفرأو ) من احاجى اهلنا البجة فى شرق السودان ( راجع الملحق ) واحجية ( الاخوان الثلاثة ) و( الفتاة التى تشبهت بالولد)من احاجى النوبة فى شمال السودان .
تختلف الحجوة فى مضامينها وتتباين شكل واضح بين الشمال والجنوب, إذ يظهر فى الاحاجى النوبية الشمالية المؤثرات الثقافية العروبية, على سبيل المثال (احجية الاخوان الثلاثة )التى بها فقرات تشابه ما تم سرده فى قصص (الفراسة ) العربية واحجية ( الفتاة التى تشبهت بالولد)لاتعدو ان تكون المثل العربى الشهير (وافق شنّ طبقة ).كما هنالك حضور طاغى للاسماء العربية ذات الدلالة الاسلامية, خصوصا محمد وفاطمة وحسن وعلى وزينب على حساب الاسماء ذات اللهجات المحلية والشائعة وسط الشماليين النوبيين مثل ساتى, واوشى,دولى,كدوده وغيرها .
تحمل الاحجية فى جنوب السودان دلالات الاساطير المحلية والافريقية ولا تظهر مثاقفات عروبية وتغلب عليها آثار الدين المسيحى والحضارات القديمة السابقة ... كأسطورة آكاى الجميلة عروس النيل الجنوبية التى القاها شعبها فى النيل ليكف عن الفيضان. وهو طقس مشابه فى السلوك ومختلف فىالاسباب عن طقس عروس النيل المصرية التى تلقى فى النيل ليفيض (26). وعلى عكس الشمال , تمتلئ الاحاجى الجنوبية بالاسماء ذات اللهجات المحلية مثل آكاى , بوشاى , دينق , أكيدول وغيرها .
الاتجاه القيمى :
تحمل الاحاجى الشعبية فى شمال ووسط وجنوب السودان على طول النيل (السودان النيلى)_إن جاز التعبير _ قيم المجتمع الامومى..فتظهر الزراعة والارض بدلالات مختلفة وارتباط قيمى بالارض , ففى حجوة ( ياجلابة ), معالجة نصية ضد هجرة الارض من اجل التجارة وغيرها من المهن فالتى تحجّى تخاف من السفر كام وزوجة لذا تخوف طفلها من السفر وتطرح الزراعة كبديل للكسب . والزراعة هى الارض وهى الخصب,الام والاستقرار بجوار الاسرة والابناء وهى الامان المادى والامان من الفرقة( راجع الملحق الاول ). تظهر الحيوانات فى هذه المجتمعات ذات علاقة بالاستقرار والزراعة كالطيور والثيران والابقار فى احاجى الجنوب والفأر والضفادع فى احاجى الشمال والجنوب .كما هنالك ظلال للتأثر الثقافى بقيم المجتمع الامومى فى شرق السودان( للبجاوى بخشوم بيوته المختلفة علاقة خاصّة مع الحيوان, تظهر ابعادها الاجتماعية فى هذه الحجوة , ان المكافأة الحقيقية لمدنفرأو على صدقه كانت بالماشية .والتضحية التى قام بها كان من ضمن اسبابها ايضا ان يسقى الماشية . كما ان الامتحان الاول والاخير للابن كان عن علاقته بالماشية . حيث ابتدأ بالسؤال عن الذبيحة , احسن ما فيها واقبح ما فيها . فبدت الذبيحة وكأنها قربان حقيقة اولى , تساعد الرجل فى الاهتداء الى شكوكه والتغلب عليها ) ( راجع ملحق رقم 4).
هنالك ميل الى الخؤولة مقابل العمومة فى احاجى الشمال واعراف الجنوب _ إذ عادة ما يتبنى الطفل الصغير اخواله لامه_- وفى حجوة ياجلابة موقف واضح من العمومة الى حد القتل . (كما ان هذا العداء للعم , هو عداء توجهه الامهات فى المجتمع الامومى الذى يعول على الخؤولة باعتبارها مصدر الحنان والتضامن مع الابناء . فتظهر عبارات من نوع ( الخال شريك الوالد ) . ( الجنى خال). اما لفظة (البت عمّة ) , فهى ليست حسنة النية تماما , (فالبت ضرّة امّها) , و(مكنسة بيت امها) , والاخيرة ليست مدحا اذ انها تعنى انها تفرغ بيت امها من الاثاث وتحمله الى بيت زوجها . وللمدرسة الفرويدية رأى فى هذا الشأن , الذى رتب علافة الطفل بوالديه وفقا للدافع الجنسى , ففى المرحلة العمرية بين الثالثة والنصف والخامسة يمر الاطفال عند فرويد بمرحلة تسمى ( المرحلة الاوديبية Odepal phase ) نسبة الى اوديب ملكا رواية ( سوفولوكيس ), التى عشق فيها اوديب امه وتزوجها , وتحتوى المرحلة على دلالة مقاربة , اذ يظهر الطفل تعلقا بالوالد من الجنس المغاير , وفى حالات التى يعامل فيها هذا الميل بقسوة , ينمو الطفل بعقدة اوديب اذا كان ذكرا وعقدة الكترا اذا كان انثى , وهى شخصية غير ناضجة عاطفيا تستبطن ميلا جنسيا لاواعيا تجاه الوالد مصدر التنازع , يظهر فى الاحلام وفى الخيارات المستقبلية عند الزواج وبالتالى يشوب العلاقة مع الوالد من نفس النوع عداء مستبطن على شاكلة لن اعيش فى جلباب ابى . وفى الحجوة وجه هذا العداء الى الاب البديل والذى عادة ما يحل مكان الاب عند غيابه او موته , فينافس الطفل فى حب امه . وللعداء تجاه العم وجه اخر , سببه المال , حيث يرث العم مال الاب الذى لاابن ذكر له , وهذا ما استبطنته الحجوة , حين دفع محمد دون اخته من دمه ثمن القندول , حتى يخلو الطريق الى المال)( راجع الملحق الاول ).
تتميز المجتمعات الامومية بتقديس المرأة , إذ انها القربان والاله..وفى احاجى الشمال هنالك إسقاط لهذا الدور التاريخى للمرأة الكنداكة فى السودان , ففى احجية على حجى, لا يعدو دور على حجى وحضوره البطولى داخل النص هذا العنوان الشكلى للاحجية , إذ ان زوجته زينب حجى هى بطلة الرواية النبيلة والمصادمة ذات المواقف البطولية الحقيقية . لا شك إن المؤثرات الثقافية العروبية الذكورية لها ظلالها فى تغيير اوضاع المرأة فى هذه المجتمعات ففى حجوة يا جلابة , استنجدت فاطة بالقافلة لنصرتهافالمرأة فى الاسقاط الاواعى لدورها النوعى فى المجتمع , انها لا تقدر على المواقف المصادمة والمباشرة التى تحتاج للقوة البدنية فتستعيض عن ذلك بالمكر والحيلة وما أكثر الاحاجى التى تتحدث عن تنكر فاطمة فى زى العجور او زى تاجر كما فى حجوة الملك البخيل ) , و( البنت التى تشبهت بالولد ) وغيرها , كما هنالك احاجى كثيرة تتحدث عن المرأة التى ساعدت الرجل _البطل _ حتى قوى عوده وعاد لياخذ حقه كاملا كما فى احجية الوعل )( راجع الملحق 5 ), واحجية الفارس دبلوك وغيرها . رغم هذا تسللت العقلية الذكورية فى الوصايةعلى المرأة ففى احجية يا جلابة (ا ان استهداف محمد بالعقوبة به ظلال ذكورية , تعفى المرأة وتحّمل الرجل الوصى عليها المسؤلية , وهذه طريقة فى التربية , لاتعلم البنت تحمل تبعات سلوكها وقراراتها , كما ان الحرية ستكون وقتها تجربة لاتكترث لها المرأة كثيرا , ومن هنا تسللت الينا فكرة (تغفيل) الحارس ..)( راجع الملحق الاول ).
فى اعراف جنوب السودان , المرأة هى التى تملا الزريبة بالخير بينما يفرغها الرجل , وهى قربان النيل المقدس , ورغم هذا تسللت الظلال الذكورية عبر الاسرائيليات الى هذه الثقافة لتصبح المرأة هى مصدر الخطيئة الاولى فى اساطير الدينكا ( راجع الملحق الثانى ), وفى احجية ( السلم )هى التى قطعت الصلة بالسماء .كما تأثرت المجتمعات الامومية بالعقلية الذكورية البدوية أثرت فيها ومثال لذلك احاجى القبائل ذات الاصول العربية فى السودان كاحاجى الرزيقات وغيرهم بالاضافة الى احاجى شرق السودان(يفتخر البجاوى بالانتساب الى ابنته فهو ابو أمنة وابو رقية . ومن الواضح فى هذه الحجوة ان المرأة العجوز لها قداسة خاصة , تحيط بها هالة غيبية تحيلها الى قدرة مريدة لها سلطتها , فما كان مدنفرأو ليعطى هديته الوحيدة وعذر غيابه اليتيم لاى عابر سبيل عادى من منطق الكرم المجرد . كما ان الامتثال والطاعة للعجوز هما من جلبا الخير والفلاح للرجل .و الحكمة والفراسة التى ميزت بها الاحجية الرجل , عادت وردتها فى رمزية عالية الى المرأة التى علمت مدنفرأو الحكمة . وما انقذ امرأة مدنفرأو من شكه الا حكمته التى تعلمها من امرأة , وبذا تكون المرأة هى الحكيمة والمعلمة والحامى للمرأة والرجل من رعونة الرجال وتسرعهم . تفعل المرأة البجاوية هذا فى سرية تامة اذ تغيب عن النص وتظل فيه حضورا اصيلا كتميمة مقدسة . تحمى البيت فى الغياب ومن الغياب , حيث ترعى النسل و(العقاب) , وتقف لترد جزاء سنمار فى العرف الرجولى بالصمت الذى يعلى العفيفة البجاوية فوق المظان التى نسجتها السنون والغياب الطويل) ( راجع الملحق 4) .كما جاء فى تحليل احجية الوعل ( راجع الملحق 5)( المرأة عند الرزيقات وان لم تكن فارسة بالشكل الذى يجعلها تحمى مال ابيها الا انها لاتعوزها الحيلة ولا الادراك السليم وحسن التصرف . فالفتاة لم تصدق خديعة اعمامها ولم تمكنهم من التخلص منها بتزويجها , وهى التى انقذت فتاها ووقفت خلفه تشد من ازره حتى انتصر وعلى زغاريد جمولة بدا جمول اكثر فروسية وارهابا. ومن عينى فتاته , يستمد الفارس الرزيقى ايمانه بفروسيته ويصدق ان صدقت المرأة واعلنت ذلك بالزغاريد.فبالتالى المرأةهى الحكم الذى ينصب الفرسان ويحرم !)..لهذا تستمر سلطة المرأة السودانية حتى فى المجتمعات ذات الاصول العروبية والبدوية ..وكلنا يعلم ان لسان الحكامة فى غرب السودان امضى من سيف الفارس والسلطان!
تحصل المرأة العجوز فى المجتمع السودانى على قداسة خاصة وكأن ما فعلته الثقافة العروبية الوافدة هو مصادرة سنوات الخصب للمرأة خوفا من العار ..تعود بعده المرأة الى عرشها الامومى معززة مكرمة .. (اما العجوز فى الحكاية , فهى العجوز فى كل الاحاجى السودانية من حلفا الى نمولى, مصدر المعرفة والحكمة الانسانية . والذات المجردة لخدمة الغير ,بتفانى نادر وانكار ذات .وكأنها روح مرسلة من اجل الخير ..وهنا ايضا تظهر ثقافة الدينكا كقبيلة تقدس الاسلاف وتوقرهم.) ( راجع الملحق 5).
تتميز الاحاجى السودانية بفكرة الانجاز الفردى والبطل الوحيد مما يدلل على حضور التراتبية الهرمية فى الاوعى السودانى , هنالك شخص وحيد ذو مهارات عالية وقدرات غيبية ننتظره بفارغ الصبر لينقذنا ويدعمنا ويحمينا وهو دعم لا شعورى لفكرة العبد/السيد , الشيخ / الحوار, القائد/ التابع و نحو ذلك .
فى السودان يغلب اللون الاسمر الغامق( الاخدر)علىى سحناتنا . وتمتلئ الاحاجى فى الشمال والوسط بوصف شكلى محبب للرجل انطلاقا من القيم اللونيةمثل احجية (اخدر عزاز فى قزاز) وفى احجية يا جلابة ( تحمل الغنوة داخل النص , شكلا للاب هو فى داخله شكلا للحبيب , ففى وقت لم يكن يسمح للنساء فيه بالتعبير عن عواطفهن لاباس ان تمدح المرأة الرجل الذى تحب باسم ابنتها ! وهو اخدرن طويل , لديه المال والجمال وشالو شال حرير , على وزن ( الجلابية السكروتة ) , والجلابية الدلع والحرير ومن جلد النمر جزمة.) راجع الملحق الاول .وهذا الشكل المختار لا يخلو فى نظر فرانسيس دينق من عنصرية تجاه الجلابى باعتباره النموذج الجمالى الجدير بالسيادة ( ولذات السبب تركز العزة العرقية الشمالية على اللون البنى الصحيح للبشرة , الذى يعتبر نموذجا للشمالوبالتالى للسودان , واذا ما كان لون البشرة فاتحا اكثر مقارنة بالقياس فقد تكون المخاطرة فى إعتبار الشخص (خواجة )اجنبى ( اوروبى ) او عربى من الشرق الاوسط او فىاسوأ الاحوال (حلبى ), وهو اللفظ المستعمل للمجموعة العرقية من الغجر الذين يعدّون الادنى بين الاجناس فاتحة اللون . والوجه الاخر للعمله بالطبع النظرة الدونية للجنس الاسود كعنصر منحط الحالة التى تمكن المرء التخلص منها لحسن الحظ , ولهذا فإن عنصرية السودانى الشمالى ونظرته الثقافية القومية الشوفينية تدين كل من كان اكثر سوادا وكل م كان لونه فاتحا اكثر )27)
تقع مسؤلية رعاية المنزل فى السودان على المرأة (فالغياب المغفور له باذن الله يكاد يكون صفة رجولية ملازمة لاى سودانى , بحثا عن الرزق او العمل او الانجاز . وهى مبررات تفقد معناها حين يطول الغياب ليبلغ العشرة والعشرين من السنوات. وتكاد البيوت السودانية تنمو فى ظل غياب الرجل الذى عاد من التراث ليتعلم الاغتراب والهجرة . ولتجزر هذا الغياب فى الشخصية السودانية , يمكن للرجل ان يعود بعد ما يشاء من السنين خالى الوفاض او حاملا هدية صغيرة , او شكوكه وحسب ! وعلى المرأة ان تظل انتظارا ابديا قانعا وعفيفا .وهكذا تفقد الاسرة خصوصيتها كهدف اصيل , يستمد الرجل منه معنى لبقائه وتضحياته , اذ يبدو الرجل الذى ياتى بعد عشرين سنة معنيا بذاته وبقائه , وعلى الاخرين ان يشعروا بالامتنان لانه تذكرهم وعاد من غيبوبته الذاتية المقدسة . لذلك لايخجل مدنفرأو وهو يعد الاختبارات لولده فمجرد الحصول على اسمه هو فى نظره مكافأة تعدل خطيئة الغياب . كما ان الابوة هى تسيد واستعباد فى مقابل الامومة العطاء والدفء والتضحيات .عدا هذا تعد صفات الكرم والشجاعة والصدق والفراسة والذكاء صفات رجولية اساسية .) ( راجع الملحق 4).
تعتبر حجوة ( دريس ) من احاجى قبيلة الحمران فى غرب السودان نموذجا للاعتداد القبلى ..اذ يعتبر دريس لحن القبيلة الخاص بها ..وهى مهمة قريبة من العرض والشرف لذلك يكون الحمرى مستعدا للحرب من اجلها .. لذلك انتهت الحجوة بتضحية العروس ( المرأة الحكيمة ) فى القبيلة مجروحة العرض حين تغنى ضيفها بلحنها الخاص فارتبكت ازاء حق الضيف وشرف القبيلة فتنازلت العروس عن مهرها للضيف اى افتدت اللحن والضيف مقابل ان لا يعزف الضيف لحن القبيلة المقدس .وتظهر هذه الحجوة الحدود القبلية العاصفة والمتعصبة كشرط اساسى لتأكيد الهوية الجماعية التى تحمى الذات من التلاشى .
ظهرت عبارة ( عبد ) بصريح العبارة فى معظم الاحاجى الشعبية التى جمعها عبد الله الطيب , وفى الاحاجى النوبية ..وهى توثيق لفترة الرق فى السودان التى خلفت فينا ذهنية رق تحكم علاقتنا بالاخر وتجعلنا فى هروب دائم من صفات شكلية وجسمانية ولونية محددة ركضا وراء سيادة متوهمة وهربا من تاريخ رق مخزى .
تعتبر حجوة غيبوبة من احاجى غرب السودان نموذجا لاستبطان الوعى الاستعلائى وافرازه من قبل الاخر الضحية( الحجوة تبدو مكيدة ضد الحب , تقلل من شأنه وتحط من قدره باعتبار انه عاجز عن اقناع فضيل ود طه بالبقاء . وان كانت الحجوة تستبطن موقفا اخرى هو فى نظرى المكيدة الحقيقية , تظهر عندما نقوم بعملية ابدال لرواة هذه الحجوة ..فمن الذى صاغ هذه الحجوة وما مصلحته فى ذلك فالقصة ليست قصة حب بريئة بقدر ما انها موقف من زيجات الجلابة او تبرير لئيم لموقف هذه الزيجات !
لنقل ان نساء الجلابة فى الشمال والوسط حيث تصدر مثل هذه القوافل او الرحلات باتجاه الغرب او الجنوب هن الائى صغن هذه الحكاية , فستبدو هذه الحجوة مبررا منطقيا يداوى جرحها النرجسى وهى الفتاة او الزوجة التى تم هجرها الى فراش اخرى, لاترى فيها من موقع الاستعلاء العرقى والثقافى الذى تصدر فى الغالب منه اى شىء يستدعى هذا السلوك اللهم الا السحر والعين والكتابة . وهذا الثالوث وبلا مبالغة هو افيون الشعب السودانى وشماعته التى ان انكسرت انكسرت صورة الذات عنده . وكل سودانى ما نجح فى المدرسة ( لانو فى واحد قاصدو او قاصد اهلو فيهو او كتبتو مرت ابو !) , وهكذا التى لم تتزوج , والتى لم تنجب , والذى لم يحصل على عمل , والذى لايثابر او يستقر فى عمله و...و .. الخ . وهذا هو سر الهلع المصاحب لمقولة احدهم لزوجته انا سأصحب هذه القافلة وتلك . كما انها وراء الجزم بعبارة مشى الغرب , الله اعلم يجى راجع تانى !
او لنقل ان هذه الحجوة هى مبرر الجلابة للسلوك الغير مسؤل فى الهجرة من ارض الاهل وترك الخطيبة او الزوجة معلّقة . وهى الاعتذار للقبيلة التى تصر على الزواج من بنت العم حسب العرف والتقاليد التى تجعل غيبوبة فضيل محض ادعاء صاغه العشق غير المشروط لشامة قدم الحمامة . والذى يعرف العشق يعرف انه السحر الاعظم الذى يختبى الى الابد فى قرعة لا يعبث بها الا قدر عشق جديد . وهو السبب فى ثقل الاقدام عندما يعقد احد العاشقين عزمه على الرحيل ليستأنف قدره . كما انه السبب وراء زغللة العيون ( وطشاشها ) فلا تبصر درب القافلة , طريق القطار , البص و لاحتى الطائرة .
وربما صاغ هذه الحجوة عشاق شامة المحليين ليوقفوا هذه الاغارات على قلوب فتياتهم من قبل الجلابة الغرباء , فمن الذى لايحب شامة ؟ لهذا تصبح هذه الحجوة رسالة تحذير الى الفتيات المتضررات من هجر الجلابة , والى الجلابة انفسهم بتشويه فكرة الحبيبة بت الغرب عندهم , حين لا يعدو عشقها ان يكون محض سحر ينسيك الاهل والديار والالتزام . وهو تحذير يليق بمتضرر من هجر شامة , وهكذا نشأ نادى القلوب المهجورة باحاجيه التى تكرس للتفرقة بين قلبين جمعهم الحب وفرقتهم الانتماءات القبلية فراقا يجيب الندامة .) ( راجع الملحق 3)
خاتمة :
عمدت هذه الدراسة الى القاء الضوء على الطريقة التى نرى بها انفسنا والاخرين .لكن ليس بمقدورها الجذم بشئ عدا بعض الترجيحات وفقا للنصوص المتاحة فتحليل الشخصية السودانية واتجاهاتها القيمية الاساسية يحتاج الى توسيع هذه الدراسة لتشمل مناحى التراث الاخرى من عناء وموسيقى ورسم ونحت وشعر ومسرح وسينما ومحددات بيئية جغرافية وتاريخية ودراسات مباشرة على الانسان السودانى.ومما يبدو من هذه المقاربات التحليلية اننا كسودانيين نلتقى فى كثير من الاتجاهات القيمية فى رؤيتنا للاسرة والعلاقة الزوجية والصداقة والكرم والشجاعة وتوقير الكبار والتسليم للغيب والاذعان للسلطة الهرمية وانعدام المبادرة والقادة فى انتظار البطل الوحيد وتبجيل الانجازات الفردية والعلاقة بالحيوان وغيرها .وما عدا هذا الاتجاه العام تبدو الخصوصية الثقافية لكل منطقة فى السودان حاضرة بجمالياتها . غير اننا جميعا اسرى القبيلة والعصبية الى حد العداء والحرب مع الاخر المختلف . وبروز هذه الحدود القبلية بوضوح فى الوعى او الاوعى هو ما يتطلب العمل بشأنه ..إذ علينا كسودانيين ان نعمل على إذابة الفواصل بإتجاه الهوية القومية الجامعة بأن نبدأ فى التعرف على الاخر دون محاكمة مسبقة وتحامل لنتعرف على ثقافته بحياد من شأنه تعديل المفاهيم السالبة , فكما يقول علماء النفس يبدأ السلوك بفكرة ..فعلينا ان نعمل على هذه الافكار فى مهدها قبل ان تنتهى الى سلوك عدائى ناضج الى حد الاحتراق .



الملاحق:
ملحق (1)
ملخص حكاية (يا جلاّبة):
سافر الرجل الى الحج وترك ولده (محمد) ,وبنته(فاطمة ) مع اخيه وغاب طويلا هناك, وحين جاء الخريف وخرج الناس للزراعة, خرج محمد واخته وزرعا . طال الزرع وامر العم محمدا واخته بحراسة العيش من الطير وصنع العم لكل منهما (همبول),كما حذّرهما من اكل الزرع وكان حريصا ويقوم بعد السنابل كل يوم ليتأكد ان محمد واخته لم يأكلا منها . وفى يوم جاع محمد جوعا شديدا فقام بقطع قندول واكله بالاقتسام مع اخته واتفقوا ان يخبروا عمهم ان القندول اكلوا( الزرزور) , وقامو بدفن بقاياه فى الارض, وحين سأله العم عن القندول , قال : القندول اكلو (الزرزور), فاستدرج العم محمد بخدعة ان شعره طويل ويحتاج الى قص , فتمكن منه وذبحه ورأت اخته المشهد فصرخت واخذ العم يلاحقها , فقالت للواطه : ابلعينى , فابتلعتها . والعم قبع بانتظارها , وكلما سمعت فاطمة صوت قافلة مارة بالقرب من المكان تخرج اليهم وتغنى اغنية حزينة تسأل فيها القوم ان رأو والدها :
سلام سلام يا جلابة
ابوى اخدرن طويل
يا جلابة سوطه الوروير
يا جلابة توبو توب حرير
ياجلابة عمى اخو ابوى
ياجلابة كتل محمد اخوى
يا جلابة فيشان قندول
ياجلابة القندول اكلو الزرزور
ياجلابة وطار وقع فى سبعة بحور
وحين يسألها الجلابة عن الامر يظهر لهم العم مدعيا انها ( شاردة منّو ), وينتهى الامر بمساعدة الجلابة للعم فى القبض على فاطمة التى تسأل ا########## ان تبتلعها فتبلعها, وهكذا يتكرر الامر , وفى المرة الثالثة , سمعها والدها الذى كان فى القافلة , وخرج يطارد العم , الذى سأل ا########## ان تبلعه فرفضت , فذبحه الاب وحرقه وذرى رماده مع الريح ..
حكاية من شمال ووسط السودان
يحيى فضل الله – حكايات واساطير سودانية – المركز السودانى للثقافة والاعلام
تشبه الحجوة فى شكلها معظم الاحاجى السودانية , الغنوة الشعبية جزء اصيل فى تفاصيلها حتى انها تتداول بذات اللحن . كما انها تحمل رمزا خاصا او لغزا خفيا , لايفهمه الا الشخص المقصود بالاغنية ! ولان الحجوة للاطفال فالابطال فى الغالب اطفال , تعينهم الطبيعة والاشياء المادية على الانتصار. فى الغالب , قام بصياغة هذه الاحاجى على مر التاريخ العديد من النساء , واختلطت فيها الاسطورة بالواقع , حتى صارت لصيقة جدا بالاوعى الجمعى والوجدان الشعبى . وفى هذه الحكاية يختلط الدين الاسلامى بالدين الشعبى ( مذهب حيوية المادة Animism ). فمحمد وفاطمة والحج هى مظاهر اسلامية , والارض التى تتكلم هى جزء من الدين الذى يعتقد بحلول الروح فى المادة , وان لاشىء يموت فى هذا الكون وهى عادة روح طيبة ومتعاونة , ( فا########## بلعت فاطمة ورفضت تبلع العم الشَرير).
. والاطفال فى مرحلة من مراحل تطورهم العقلى يعتقدون بهذا ايضا لهذا فى عمر معين اذا قمت بتهدأة الطفل الذى سقط للتو بان تعاقب له الارض بالضرب , فانه سيبدو مقتنعا انها تلقت العقاب الذى تستحقه, وفى السابق وعلى ضوء الاحاجى والمعارف الغيبية المتاحة كان الاطفال يستمرون الى سن الخامسة او السابعة حتى وهم يقتنعون بهذا , لكن اليوم وفى غياب الحجوة وظهور ابطال الديجتال فانه بعد الثانية غالبا ما (يمصمص لك فمه مستعجبا من طريقتك البدائية فى التفكير) .
فى هذه الحجوة الاب غائب لمدة طويلة , للحج او للتجارة او لمآرب اخرى . وهذا الغياب الذى تسلل الى سمر النسوة , ليحشرج الاغانى الحزينة لايمكن ان يكون عابرا, او مجرد حالة فردية . فالحجوة تجرم السفر الطويل باعتباره السبب الذى ضاعت به الاسرة , وهى تقول ذلك برمزية عالية ولوم حنين . فما كان الاب ليقتل ابنه فى قندول واحد وبشبهة اكله ! والتى تحجّى تخاف من السفر كام وزوجة لذا تخوف طفلها من السفر وتطرح الزراعة كبديل للكسب . والزراعة هى الارض وهى الخصب,الام والاستقرار بجوار الاسرة والابناء وهى الامان المادى والامان من الفرقة . لابد ان هذه الحجوة خرجت لمكافحة داء السفر , وجنون البعض بالجلابة . ولازال الرجال فى الشمال والوسط مسقط رأس الحكاية , يثابرون على الرحيل والنساء على الاغانى والبكاء . ومن ذلك اغنية الشايقية الرقيقة ( عافية منك وراضية عنك ياجنايا ). بدأت الام فى هذه الاغنية بدحض مبررات السفر , وان المال الذى بحوزتهم يكفى ويزيد وهى على استعداد لان تبيع مصاغها , وهى تفعل ذلك وتذكّره بضرورة طاعتها , وتحنن قلبه بانها صارت كبيرة فى السن وبحاجته . ثم تنتقل الى اثارة نخوته بانها ستعتمد على غيره من اصحاب المروءة اذا اصرّ على السفر ثم تختم بتهديده وانه حين يعود بالمال الوفير سيجدها ميتة و( حينها ما بتنفع قروشك وما بتجيبلك ام سوايا ), وصارت هذه الاغنية موضوع التلفزيون السودانى المفضل فى ابتزاز عواطف الشباب ! وليس كل السفر شر لكن تسافرالى الابد , هذا الذى دونه الاغانى !
الغريبة ان الام ايضا غائبة فى هذه الحجوة , صحيح ان الراوى لم يذكر عنها شيئا , فلا هى ميتة ولاهى مطلقة ولافى سفر ..فأين هى ؟ تغييب الام فى الحكاية هو تغييب لاواعى لسلطة الام فى المجتمع الذى غزته الثقافة الابوية الوافدة . ففى غياب الاب وحضور العم لايمكن ان يكون للام سلطة . كما ان هذا العداء للعم , هو عداء توجهه الامهات فى المجتمع الامومى الذى يعول على الخؤولة باعتبارها مصدر الحنان والتضامن مع الابناء . فتظهر عبارات من نوع ( الخال شريك الوالد ) . ( الجنى خال). اما لفظة (البت عمّة ) , فهى ليست حسنة النية تماما , (فالبت ضرّة امّها) , و(مكنسة بيت امها) , والاخيرة ليست مدحا اذ انها تعنى انها تفرغ بيت امها من الاثاث وتحمله الى بيت زوجها . وللمدرسة الفرويدية رأى فى هذا الشأن , الذى رتب علافة الطفل بوالديه وفقا للدافع الجنسى , ففى المرحلة العمرية بين الثالثة والنصف والخامسة يمر الاطفال عند فرويد بمرحلة تسمى ( المرحلة الاوديبية Odepal phase ) نسبة الى اوديب ملكا رواية ( سوفولوكيس ), التى عشق فيها اوديب امه وتزوجها , وتحتوى المرحلة على دلالة مقاربة , اذ يظهر الطفل تعلقا بالوالد من الجنس المغاير , وفى حالات التى يعامل فيها هذا الميل بقسوة , ينمو الطفل بعقدة اوديب اذا كان ذكرا وعقدة الكترا اذا كان انثى , وهى شخصية غير ناضجة عاطفيا تستبطن ميلا جنسيا لاواعيا تجاه الوالد مصدر التنازع , يظهر فى الاحلام وفى الخيارات المستقبلية عند الزواج . وبالتالى يشوب العلاقة مع الوالد من نفس النوع عداء مستبطن على شاكلة لن اعيش فى جلباب ابى . وفى الحجوة وجه هذا العداء الى الاب البديل والذى عادة ما يحل مكان الاب عند غيابه او موته , فينافس الطفل فى حب امه . وللعداء تجاه العم وجه اخر , سببه المال , حيث يرث العم مال الاب الذى لاابن ذكر له , وهذا ما استبطنته الحجوة , حين دفع محمد دون اخته من دمه ثمن القندول , حتى يخلو الطريق الى المال . كما ان استهداف محمد بالعقوبة به ظلال ذكورية , تعفى المرأة وتحّمل الرجل الوصى عليها المسؤلية , وهذه طريقة فى التربية , لاتعلم البنت تحمل تبعات سلوكها وقراراتها , كما ان الحرية ستكون وقتها تجربة لاتكترث لها المرأة كثيرا , ومن هنا تسللت الينا فكرة (تغفيل) الحارس . لذلك رغم ان البنت اطّلعت على تفاصيل المؤامرة , الا انها لم تجد ما تفعله غير الغناء والبحث عن الرجل المخلّص والذى يمثله الاب فى هذه الحجوة . وموقف الجلابة من قصة فاطمة كان سلبيا يعكس ثقافتنا المجتمعية التى لاتلقى بالا الى ما يقول الصغار , مهما كان مايقولونه مخيفا ويستحق الاهتمام , ونميل عادة الى تصديق الكبار الذين يجيدون الكذب والتلفيق ! ومن هذا الباب تسللت الينا الاساءة الى الاطفال بكل انواعها بما فيها الاساءة الجنسية !.
وربما لاحظتم ان الرقم ثلاثة له حضور مميز فى الثقافة السودانية , ( فالتالتة واقعة ) ! وربما تعلمت المرأة بشكل لاواعى ان ( تفرمل ) , فى الرقم 3 ! تحمل الغنوة داخل النص , شكلا للاب هو فى داخله شكلا للحبيب , ففى وقت لم يكن يسمح للنساء فيه بالتعبير عن عواطفهن لاباس ان تمدح المرأة الرجل الذى تحب باسم ابنتها ! وهو اخدرن طويل , لديه المال والجمال وشالو شال حرير , على وزن ( الجلابية السكروتة ) , والجلابية الدلع والحرير ومن جلد النمر جزمة.

ملحق (2)
ملخص حجوة من اساطير الدينكا :
فى البدء كانت الصلة بين الارض والسماء قريبة ومتصلة فالله لم يكن بعيدا عن الانسان كبعده اليوم . فى تلك الايام فأن الانسان كان يعيش حياة جميلة وممتعة . اذ ان الشيخوخة لم تكن آفة تخيف البشرية ذلك لان الشخص الذى يبلغ مرحلة الشيخوخة كان يسافر من الارض الى السماء حيث يقيم الله . وهنالك فى السماء لايعود المسافر الا اذا اعاد الله اليه شبابه وهكذا يبدل الله الشيخوخة بالشباب . كما ان المسافر لايعود الى الارض الا مع ظهور الهلال . وقد كانت الرحلة تتم عبر حبل ممدود بين السماء والارض .ولما لم يكن هنالك شيخوخة لم يكن هنالك موت . حتى اتت انثى طائر تدعى ( اتوش ), لتضع حدّا لديمومة الحياة عند الدينكا . حين قامت امرأة بقتل احدى صغار ( اتوش ), وهى تحاول دفعهم سلميا بعيدا عن الذرة التى كانت تقوم بطحنها . فغضبت ( اتوش )وانتقمت من الانسان بقطع الحبل لتفقده الحياة ومتعتها . وبحلول الهلال لم يعد الذين سافروا الى السماء لتجديد الشباب .. وقد انتظر الاهل والاصدقاء طويلا ودون جدوى , ومنذ ذلك الحين اصبح الموت يحاصر البشرية .
يحيى فضل الله _ حكايات واساطير سودانية

تقوم هذه الاسظورة على ثلاثة مرتكزات اساسية : (1) العلاقة بالله .(2) العلاقة بثلاثية الحياة , الشيخوخة , الموت . (3) العلاقة بالحيوان .

(1) العلاقة بالله :
العلاقة مع الله عند الدينكا علاقة حب , فالله فى عليائه مادّا حبل وصله .. منعما على الدينكا بالحياة والخلود والشباب .الانسان هو الذى يصعد الى الاله ويبقى عنده حتى يحقق مطلبه كدلالة على ان مفهوم الاله هو بعيد كل البعد عن كل ما هو بشرى و ارضى. والبشر يديرون ارضهم كيف يشاءون ويلجأون للاله فقط للشباب والخلود .فيستمد الانسان كماله من الحرية الممنوحة له فى التصرف وهو المدلل صنيعة الاله المتعالى . يسأل فيمنح , متى رغب فى ذلك. ولاوجود لاله قاس, مانع او بنوازع بشرية كالآلهة الاغريقية مثلا , التى تنزل الى البشر لتشيع الفوضى بينهم وتتآمر عليهم , تعشق زوجاتهم وتخطف حبيباتهم . فيستمد الانسان قوته وكماله من صراعه معها .. موظفا الخصومات بين الآلهة لصالحه فيحصل على الدعم الذى يمكنه من التغلب عليها . كما ان الحكاية تجسد الحاجة الى الاله المحسوس والقريب , لان الانسان البسيط يجد نفسه ضعيفا وقليل الحيلة امام قوى الطبيعة وغوائلها . حين لايسند الظواهر الطبيعية اى منطق علمى , فذات النيل الذى يفيض فى الجنوب بكثرة مخيفة تفسر عند الاديان الشعبية بغضب الالهة يفسر عدم فيضانه فى الشمال بالسبب عينه !فتلقى القرابين من النساء الجميلات فى كلا المنطقتين ليكف النيل غضبه عن ارض الدينكا ويطرح رحمته على ارض مصر. وكلما تطورت علاقة الانسان بالعلوم جنح الى التجريد وانحسرت الخرافة , لتصبح مجرد حنين الى الماضى قريب من القلب وبعيد عن العقل والمنطق .فاذا كانت الحاجة الى الله المرئى من اجل الامن فى عالم غريب وغامض على انسان بسيط , فان الله الغيبى والمطلق هو مراد الانسان الذى قهر الطبيعة ووقف على تخوم الغيب طارحا الاسئلة الصعبة عن كنه الغيب وطبيعة الما وراء .وبالتالى ينتقل الاحتياج العاطفى من حيز المحسوسات الى الوله باله مطلق وبعيد عن الادراك البشرى . وهذا ما فطن اليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين تحدث الى الحجر الاسود بقوله , ما كنت لاقبلك لو لم ار رسول الله (ص) يقبلك ! باعتبار ان الرسول (ص) ادرك ببعد نظره الحاجة الى المقدسات المحسوسة فى مجتمع كانت آلهته بقربه طوال الوقت , تصحبه فى حلّه وترحاله , تبارك تجارته وتحمى حربه .. الخ وهذا ماراهن عليه السامرى حين اضل قوم موسى عليه السلام , باتخاذهم العجل , متسللا من ثقوب الحنين الى المحسوس ومشوشا على تجربة العقل الواعى عن الاله الحاضر بارادته والغائب بحجب ذاته عن الكشف والاحاطة والادراك . لذلك كان التدرج الطبيعى لدى الدينكا بعد انقطاع الحبل الدخول الى حيز محسوس آخر هى عقيدة ( الطوطم ) وتقديس الاسلاف .

ثلاثية الحياة –الشيخوخة – الموت :
عدا الشيخوخة , لم تحمل الحكاية اى اشارة لاسباب اخرى للموت عند الدينكا , لذلك يتم تفسير الموت والامراض الفتاكة التى تصيب الصغار فتودى بحياتهم باعتبارها لعنة او عقوبة تقام لها طقوس خاصة عند المرض والاحتضار. فمثلا عندما تتعسر احدى النساء فى الولادة , تطالبها النسوة بالاعتراف بخطاياها حتى تتخلص من الاثم واللعنة وتنجو بحياتها . وعلى خلفية الاسطورة تعتبر ( الشيخوخة ) , هى عقوبة للانسان الذى وظّف شبابه وعافيته فى ايذاء الاخرين . فارتبط الشباب بالعنفوان والرعونة , والشيخوخة بالحكمة والرأفة . وان كانت دلالات الشيخوخة جميلة الا انها لا تستطيع ان تعبر حاجزا نفسيا عند الدينكا باعتبارها عقوبة مفروضة ودرس بالاكراه , دفع الدينكا ثمنه غاليا من شبابهم وخلودهم .. لذلك يبرز هذا الحاجز فى اشعارهم :
جميل ان تترعرع فى العمر
نعم يا ثورى اقانى ..
لكن الكبر امر سىء
نعم يا ثورى ماكير
فهو يقود الرجل نحو الضعة
( وربما لذلك هنالك تقليد لا يسمح بترك زعماء الدينكا يموتون موتا طبيعيا , بل يتم دفنهم احياء عندما يصيرون فى سن متقدمة يكونون فيها غير قادرين على التصرف )- فرانسيس دينق , الدينكا فى السودان .وقد اتى ( الموت ) فى هذه الحكاية عقوبة على عدم تقدير الحياة .. فقتل الطائر كان بمثابة تبذير لطاقة الحياة عند من استغرقتهم ديمومة الحياة , فلم يعودوا يشعرون بقيمتها . وكرد فعل على حقيقة الموت المخيفة , ابتكر الدينكا عقيدة الخلود عبر النسل . لذلك يحافظون على نسلهم باعتباره وعاءا مقدسا عبر طقوس معينة فى الزواج والانجاب وتباعد الولادات , ومثال على ذلك فان الرجل غير مسموح له بممارسة الجنس مع زوجته الا بعد فطام الصغير وانتقاله الى عشيرة امّة ليتلقى الرعاية . اما الارواح التى لم تقترح لها الحكاية بالموت قبرا بعينه , تظل حائمة حول العشيرة تتعهدها بالرعاية وهى ما يطلق عليها الدينكا (ييث ), فى مقابل الارواح الطليقة ( جاك) . وهذه الارواح كما يقول فرانسيس تظهر ثنائية اخلاقية وظيفيةهامّة بين هذه الفئات الروحية . اذ ان ارواح العشيرة _ الاسلاف _ منحازة وتوفر الحماية , بينما تكون الارواح الطليقة حرّة وفى الغالب الاعم مدمرة . ومن ذلك فان هذا الدمار الذى يمكن ان تلحقه ( جوك ) ليس سلبيا على الدوام .. اذ يمكن ان يكون لجوءا الى شر ضرورى من اجل فرض او تأكيد فضيلة . وتحل هذه الارواح فى كائن حى بالقرب من العشيرة او البيت ( عقيدة الطوطم ) .لذلك لبعض الحيوانات قداسة خاصة , كالطيور والثيران والابقار .. كما يظهر هذا الشعر :
يا عشيرة بول ... يا عشيرة بول
لست طائرا من عالمكم ..
بل طائرا من عالم السماوات
ارسلنى اليكم ابى
اذهب وتفقد عشيرة بول العظيم
تفقدهم وعد الى البيت

العلاقة مع الحيوان :
فى هذه الحكاية , جلبت الاساءة الى الحيوان على بنى البشر الشيخوخة والفناء . لذلك هنالك علاقة خاصة عند الدينكا بالطيور كرمز تكفيرى عن خطيئة الانسان الاول . لذلك تقبع هذه الطيور بالقرب من او مع الساحر ( الكجورى ) , لتضفى عليه ظلا غيبيا مهيبا , موظفا الاسطورة وندم الانسان وتهيبه فى ابتزاز القداسة .
ايا دينق ..
هلا احضرت حبل طائر البرقش
حتى نجتمع فى محيط واحد
نحن والقمر والاله
اعطنا حبل طائر البرقش
حتى نجتمع فى مكان واحد مع القمر
وفى الحكاية قصد واضح لابعاد الاله عن اى دور فى اضرار البشر . فالله لم يتدخل لانصاف اتوش التى انتقمت لوليدها ولحزنها من الانسان بقطع الصلة الحسية بالله .لكن الاله بعدم تدخله وكأنه يقر العقوبة التى تلقاها شعب الدينكا . وهذا الموقف من الاله , جعل الدينكا يحيدون الاله تحيدا اظهر عقيدة الدينكا , كأنها عقيدة تؤمن بتعددية الالهة . حيث يتم تصفية حسابات الخطايا والآثام بصورة ارضية تماما . يتم فيها تقديس الارواح النافقة بغض النظر عن صلاحها .. كروح مطلق يقوم بادارة العالم الارضى ويمنح الخير والشر وفقا لاعمالك .
ملاحظات عامة على النص :
تظهر فى الاسطورة ظلال التأثر بالثقافات الاخرى او ربما .. هى وحدة التجربة الانسانية .. على كلّ فى الاسرائيليات عن خلق آدم وحواء والخطيئة الاولى التى تسببت بطردهم من الجنة , ثلاثة عناصر مشتركة , هى الخطيئة , الاكل والمرأة .كما ان العقوبة بها وجه الشبه ففى رواية أدم امر بالهبوط . ومنع الدينكا من الهبوط ( لم يعد الذين ذهبوا ) والصعود . ووجود الاله وجنته فى السماء مفهوم عقائدى شائع فى الكثير من الاديان وان كان البعض يفسرون لفظة ( اهبطوا ), فى القرآن بمعنى لفظة قرآنية مشابهة وهى ( اهبطوا مصرا ). معنى لا يحصر الهبوط من السماء فقط .اذ يمكن ان يهبط الانسان من ارض الى ارض . كما ان ربط المرأة بالخطيئة لايعدو ان يكون تلاقحا ثقافيا وافدا من مجتمع ذو ذهنية ذكورية باعتبار ان مجتمع الدينكا ينتمى الى ما يعرف بمجتمعات الخصب وهى مجتمعات تقدس المرأة .
اما ظهور الهلال كتوقيت يعود فيه الراحلون الى الارض , ربما ليسترشدوا بنوره .. حتى لايضلوا طريقهم الى العشيرة... والذى يشابه اشكالا رمزية فى عقائد اخرى كديانة الموقد عند شعوب اثينا القديمة . وهى عبارة عن نار توضع فى موقد ويحافظ على اشتعالها الدائم لتبقى الارواح فى عالمنا وليسترشدوا بها . وربما لهذا يحافظ بعض الاوروبيين على تقليد وضع الشموع فى الجنائز او الفوانيس فى نافذة بالبيت تظل مشرعة باستمرار ويضاء بها الفانوس ليلا.. حتى لا تضل روح الميت طريقها الى البيت ...

ملحق (3)
ملخّص ( غيبوبة ):

تحكى الحجوة عن فضيل ود طه ود فضيل الذى صحب قافلة الجلابة التجارية فى رحلاتها المختلفة , حتى وقفت قافلته امام قرية عند الظهيرة التى سبقتها امطار خفيفة , اهدت سماء تلك القرية الوان قوس قزح , الامر الذى جعل اصحاب تلك القافلة لايملكون الا التريث ولو قليلا ومن ثم يواصلون سيرهم جنوبا حيث يقصدون . ومن ثم انتقلت الحجوة من الحديث عن الماء الى الخضرة ثم الى الوجه الحسن والمحنة العاطفية التى المّت بفضيل ود طه حين رأى ( شامة ), وتبعها كالمسحور الى دارها .. ورأته شامة واحبته فسحرت له بقص شعرات من رأسه وضعتها داخل قرعة ثقبتها بمسلة وحينها اصبح يشعر بألفة متناهية مع المكان وبدا غير مستعد لمفارقة شامة التى علقت القرعة فى سقف القطية وعلق معها قلب فضيل وقدره الى الابد فرفض فضيل ان يفارق مع القافلة رغم الحاح اقاربه , حتى رحلت بدونه . فصار فضيل كالعاشق المجنون يتغنى بحب شامة
شامة
قديم الحمامة
فراقك يجيب الندامة
وعشقك حلال
وفيهو السلامة
وهكذا تزوج فضيل شامة وانجب منها عثمان , مريم وحمدين . وحين مرضت شامة وشارفت على الموت طلبت من اختها ان تدفن معها القرعة , وهكذا فعلت , فخرج فضيل بعد موتها من القطية وصار لاينام الا بالقرب من القبر رغم الحاح ابناءه ورجال القرية الى ان عبثت بعض الاغنام بالقبر فاخرجت القرعة وبعثرت ما فيها ليفيق فضيل من غيبوبته بعد خمسة وعشرين عاما ليسأل عن القافلة التى اقلته .
الحجوة تبدو مكيدة ضد الحب , تقلل من شأنه وتحط من قدره باعتبار انه عاجز عن اقناع فضيل ود طه بالبقاء . وان كانت الحجوة تستبطن موقفا اخرى هو فى نظرى المكيدة الحقيقية , تظهر عندما نقوم بعملية ابدال لرواة هذه الحجوة ..فمن الذى صاغ هذه الحجوة وما مصلحته فى ذلك فالقصة ليست قصة حب بريئة بقدر ما انها موقف من زيجات الجلابة او تبرير لئيم لموقف هذه الزيجات !
لنقل ان نساء الجلابة فى الشمال والوسط حيث تصدر مثل هذه القوافل او الرحلات باتجاه الغرب او الجنوب هن الائى صغن هذه الحكاية , فستبدو هذه الحجوة مبررا منطقيا يداوى جرحها النرجسى وهى الفتاة او الزوجة التى تم هجرها الى فراش اخرى, لاترى فيها من موقع الاستعلاء العرقى والثقافى الذى تصدر فى الغالب منه اى شىء يستدعى هذا السلوك اللهم الا السحر والعين والكتابة . وهذا الثالوث وبلا مبالغة هو افيون الشعب السودانى وشماعته التى ان انكسرت انكسرت صورة الذات عنده . وكل سودانى ما نجح فى المدرسة ( لانو فى واحد قاصدو او قاصد اهلو فيهو او كتبتو مرت ابو !) , وهكذا التى لم تتزوج , والتى لم تنجب , والذى لم يحصل على عمل , والذى لايثابر او يستقر فى عمله و...و .. الخ . وهذا هو سر الهلع المصاحب لمقولة احدهم لزوجته انا سأصحب هذه القافلة وتلك . كما انها وراء الجزم بعبارة مشى الغرب , الله اعلم يجى راجع تانى !
او لنقل ان هذه الحجوة هى مبرر الجلابة للسلوك الغير مسؤل فى الهجرة من ارض الاهل وترك الخطيبة او الزوجة معلّقة . وهى الاعتذار للقبيلة التى تصر على الزواج من بنت العم حسب العرف والتقاليد التى تجعل غيبوبة فضيل محض ادعاء صاغه العشق غير المشروط لشامة قدم الحمامة . والذى يعرف العشق يعرف انه السحر الاعظم الذى يختبى الى الابد فى قرعة لا يعبث بها الا قدر عشق جديد . وهو السبب فى ثقل الاقدام عندما يعقد احد العاشقين عزمه على الرحيل ليستأنف قدره . كما انه السبب وراء زغللة العيون ( وطشاشها ) فلا تبصر درب القافلة , طريق القطار , البص و لاحتى الطائرة .
وربما صاغ هذه الحجوة عشاق شامة المحليين ليوقفوا هذه الاغارات على قلوب فتياتهم من قبل الجلابة الغرباء , فمن الذى لايحب شامة ؟ لهذا تصبح هذه الحجوة رسالة تحذير الى الفتيات المتضررات من هجر الجلابة , والى الجلابة انفسهم بتشويه فكرة الحبيبة بت الغرب عندهم , حين لا يعدو عشقها ان يكون محض سحر ينسيك الاهل والديار والالتزام . وهو تحذير يليق بمتضرر من هجر شامة , وهكذا نشأ نادى القلوب المهجورة باحاجيه التى تكرس للتفرقة بين قلبين جمعهم الحب وفرقتهم الانتماءات القبلية فراقا يجيب الندامة .

ملحق (4)
ملخص الحجوة :

خرج ( مدنفرأو) من بيته باحثا عن العمل وتاركا خلفه زوجته التى كانت فى بدايات حمل لاعلم له به . فغاب اكثر من عشرين عاما, وعندما هم بالرجوع الى اهله اشترى ثوبا لزوجته التى غاب عنها طويلا . فطلبت منه عجوز كانت قد التقته فى الطريق ان يعطيها الثوب فاعطاها له رغم انه لايملك غيره . فشكرته وقالت له لا املك الا ان اقدم لك ثلاث نصائح جزاءا على فضلك معى : ان تصدق فى القول مهما كان الموقف , ان لاتضر احدا وان لاتخاف من شىء , اى مشكلة تواجهك او تتعرض لها ليلا ان تتأنى بها حتى الصبح . وهى نصائح وجد الرجل نفسه بحاجة اليها عند اول اختبار , حين وجد بئرا مزدحمة بالمواشى والناس الذين عجزوا عن السقيا . وكلما انزلوا رجلا الى البئر اختفى . فعرضوا على مدنفرأو نصف المواشى باصنافها مقابل ان يسقيهم . وعندما نزل رجلنا الى البئر ظهر له جنى وجنية , وكان الجنى يحمل سكينا , فسال مدنفرأو بذمته من هو الاجمل هو ام الجنية , فتذكر الرجل نصيحة العجوز وهو يهم بالكذب امام تهديد الجنى القبيح . فعدل رايه واقر للجنية الجميلة بالجمال , فاختفى الجنى فى الحال وخرج مدنفرأو , وسقى القوم العطشى وحمل هديته من الماشية وقفل من ليلته تلك الى اهله عائدا . وحين وصل بيته وجد شابا وسيم الطلعة , مفتول العضلات . ولولا وصية العجوز لهمّ بقتله , لكنه تريث حتى الصباح . فسمع زوجته تنادى الولد بمحمد وتسأله ان يوقد النار لوالده . لكن مدنفرأو شك فى نسب الفتى فاراد ان يمتحنه ليعرف ان كان الفتى يحمل من حكمته وفراسته شيئا . فسأله ان يذبح ذبيحة وياتى باسوأما فيها واحسن ما فيها , فاتى الولد بالقلب قائلا لااعرف احسن من القلب عندما يكون حسنا واسوأ منه عندما يكون سيئا . ثم توالت الاختبارات , سأله عن الشىء الذى له اثر جميل فقال الفتى : المطر .ثم عن احسن ظل يستظل به المرء فقال القبيلة .واخيرا ساله ان يصطحب تيسا من الماعز يذهب به الى السوق و يبيعه وياتى بالنقود وان ياتى منه لحما وان ياتى به حيا . فحلق الفتى التيس وباع صوفه وخصاه فعاد لوالده بالمال واللحم والتيس حيا . فتأكد انه ابنه .

تشبه الحجوة فى فكرتها احاجى كثيرة سودانية وعربية وعالمية ترتكز على اللغز الفلسفى , لتأسيس طقس حكاية بمقدوره تحمل الابعاد الفلسفية للثقافة محور السرد . واشهر هذه الحكايات رواية اوديب ملكا للكاتب الاغريقى ( سوفوكليس ). فلقد سأل الوحش اوديب عن الذى يمشى على اربع واثنين وثلاثة فأجاب بانه الانسان فانتصر على الوحش واصبح ملكا وتزوج من امه التى لم يكن يعرف انها امه وعندما عرف وعرفت , انتحرت الام وفقأ اوديب عينيه . تاركا لنا اسمه نحن اهل الطب النفسى لنعقد منه العقد متى عنّ لنا ذلك ! وبعيدا عن التثاقف والتلاقح والتشابه , تمس الحكاية الكثير من المواقف والمعتقدات فى علاقة البجاوى بالمرأة والاسطورة والقيم المجتمعية والقيم الرجولية وغيرها من المناخات البجاوية المختلفة .
العلاقة بالمرأة :
يفتخر البجاوى بالانتساب الى ابنته فهو ابو أمنة وابو رقية . ومن الواضح فى هذه الحجوة ان المرأة العجوز لها قداسة خاصة , تحيط بها هالة غيبية تحيلها الى قدرة مريدة لها سلطتها , فما كان مدنفرأو ليعطى هديته الوحيدة وعذر غيابه اليتيم لاى عابر سبيل عادى من منطق الكرم المجرد . كما ان الامتثال والطاعة للعجوز هما من جلبا الخير والفلاح للرجل .و الحكمة والفراسة التى ميزت بها الاحجية الرجل , عادت وردتها فى رمزية عالية الى المرأة التى علمت مدنفرأو الحكمة . وما انقذ امرأة مدنفرأو من شكه الا حكمته التى تعلمها من امرأة , وبذا تكون المرأة هى الحكيمة والمعلمة والحامى للمرأة والرجل من رعونة الرجال وتسرعهم . تفعل المرأة البجاوية هذا فى سرية تامة اذ تغيب عن النص وتظل فيه حضورا اصيلا كتميمة مقدسة . تحمى البيت فى الغياب ومن الغياب , حيث ترعى النسل و(العقاب) , وتقف لترد جزاء سنمار فى العرف الرجولى بالصمت الذى يعلى العفيفة البجاوية فوق المظان التى نسجتها السنون والغياب الطويل .
الاسطورة :
للعالم الماورائى حضور جسدته ظلال الجنى والجنية فى تداخل اسطورى يمد مخلب العالم الغيبى ليتسلط على الحاضر الآنى . ويتسلح البجاوى فى وجه الغيب بدين خليط من القيم الانسانية , التى توقر الشيخوخة وتعتبرها منبعا للمعرفة والحكمة الانسانية وخلاص للبشرية من مجاهل الغيب . كما تعتبر القيم الانسانية مثل الكرم, الصدق , الصبر وعدم ايذاء الآخرين , مرتكزات الخلاص البجاوى لامتحانات الحياة المقبلة . وتقديس كبار السن اتضح انه ملمح سودانى اصيل , رأيناه قبلا فى ثقافة الدينكا , كما امتلأت به الاحاجى الاخرى من مناطق السودان المختلفة .وهو امتداد لعقيدة الطوطم وديانات الموقد الاغريقية وتعاليم الاسلام السمحة فى توقير الكبار . كما انه تقليد سودانى اصيل( فالماعندو كبير يشترى ليهو كبير ), وهم الاجاويد وناس الشورة , وفى غرب السودان عبارة شايبى للوالد ..عبارة حنينة مغلفة بالوقار والقداسة .
القيم الرجولية :
يقول محمد المكى ابراهيم ( خير من اعتذر):
سأعود لا ابلا وسقت ولا بكفىّ الحصيد روائعا
مدّوا بساط الحب واغتفروا الذنوب وباركوا هذى الشهور الضائعة

الغياب المغفور له باذن الله يكاد يكون صفة رجولية ملازمة لاى سودانى , بحثا عن الرزق او العمل او الانجاز . وهى مبررات تفقد معناها حين يطول الغياب ليبلغ العشرة والعشرين من السنوات. وتكاد البيوت السودانية تنمو فى ظل غياب الرجل الذى عاد من التراث ليتعلم الاغتراب والهجرة . ولتجزر هذا الغياب فى الشخصية السودانية , يمكن للرجل ان يعود بعد ما يشاء من السنين خالى الوفاض او حاملا هدية صغيرة , او شكوكه وحسب ! وعلى المرأة ان تظل انتظارا ابديا قانعا وعفيفا .
يقول ود المكى فى ذات الشرف الجديدة :

واذل ايامى اذا دمعت عيون الشيخ , قالت طفلتى : اين القصور ؟
وزخرفت امى حماقات الشهور الضائعة
ياعفّة الكذب الرؤوم تنزّلى بردا عليه ,
وطيّبيه ,وفتّقى لخطاه صحراء النزوح مشارعا
لله ما احلى تنفسه هواء البيت , ما احلى تسلّطه وسهد كتابه
ويحا لرمحته وطيش شبابه
وهكذا تفقد الاسرة خصوصيتها كهدف اصيل , يستمد الرجل منه معنى لبقائه وتضحياته , اذ يبدو الرجل الذى ياتى بعد عشرين سنة معنيا بذاته وبقائه , وعلى الاخرين ان يشعروا بالامتنان لانه تذكرهم وعاد من غيبوبته الذاتية المقدسة . لذلك لايخجل مدنفرأو وهو يعد الاختبارات لولده فمجرد الحصول على اسمه هو فى نظره مكافأة تعدل خطيئة الغياب . كما ان الابوة هى تسيد واستعباد فى مقابل الامومة العطاء والدفء والتضحيات .عدا هذا تعد صفات الكرم والشجاعة والصدق والفراسة والذكاء صفات رجولية اساسية .
ملاحظات عامّة حول النص :
للبجاوى بخشوم بيوته المختلفة علاقة خاصّة مع الحيوان, تظهر ابعادها الاجتماعية فى هذه الحجوة , ان المكافأة الحقيقية لمدنفرأو على صدقه كانت بالماشية .والتضحية التى قام بها كان من ضمن اسبابها ايضا ان يسقى الماشية . كما ان الامتحان الاول والاخير للابن كان عن علاقته بالماشية . حيث ابتدأ بالسؤال عن الذبيحة , احسن ما فيها واقبح ما فيها . فبدت الذبيحة وكأنها قربان حقيقة اولى , تساعد الرجل فى الاهتداء الى شكوكه والتغلب عليها .
ملحق (5):
ملخص حجوة ( الوعل )
توفى رجل ثرى وترك توأما هما (جمل ) و(جمولة )وشقيقهما الاصغر عبد الرحمن .ولما كانت امهم قد توفت سابقا , فقد اصبحوا نهبا لمطامع الغير .ومن ذلك ان اعمامهم تشاوروا فيما بينهم, كيف يسعهم ان يتخلصوا من ابناء اخيهم ليحصلوا على المال .فقالوا نزوج جمولة وعبد الرحمن تلفان لاخوف منه ولكن المشكلة جمول , فقال لهم احد الاعمام ( لو قمنا بقتله قهذا عيب واذا طردناه من البلد سوف يعود لذلك سنمسك به ونربطه على ظهر وعل برى ونترك له يد واحدة دون قيد حتى يستطيع ان يلقط ويأكل بها ويغرف الماء ويشرب, والوعل لن يقترب من القرية وبالتالى لن يعرف احد ما حصل . وهكذا اصطحبوه الى الصيد ونفذوا خطتهم .عاد الاعمام من الخلاء ليخبرواالجميع ان جمول ضاع منهم فى الخلاء , صدق الجميع الا جمولة التى اخذت بالبكاء على اخيها, ورفضت ان تتزوج بابن عمها ولاذت ببيت ابيها مع اخيها التلفان عبد الرحمن . ظل الوعل يركض فى البرية بجمول الذى يرد الماء ليلا وهو يغنى "ورد العقص فى الليل لم انكبن نجوم الليل "وفى القرية جملة تغنى : جمول وليد امى وين ". وهكذا حين يرد الماء يناغى جمول اخاه عبد الرحمن "عبد الرحمن برارى شن تنطيك" ويصل صوته فى الليل الى القرية , فيرد عليه عبد الرحمن " تنطينى القنقو بالدبان تفزعنى باطول الزملان ". حينها عرف جمول بتعاسة اخته جملة .سمعت عجوز هذه المناغاة فتقصت الخبر ووقفت على حقيقته من جمول حين ورد الماء , فاستدرجت العجوز جملة واخبرتهاالقصة وساعدتها على انقاذ اخيها الذى صار هزيلا .فخبأته جملة عند العجوز وراحت تخترع الاسباب لاعمامها كى يذبحوا ثورا كرامة لحلمها باخيها , وهى تخبأ الطعام لاخيها, حتى قوى عوده , فسألت اعمامها ان يعطوها جواد أخيها وسيفة وحربته وسرجه لتضعهم امام البيت يوم العيد علّ رؤيتهم تفرح قلبها , استهجن بعض الاعمام موقفها الا ان البعض وافق طمعا فى ان ترضى جمولة بابن عمها .وهكذا سألت جمولة شقيقها ان يركب فرسه ويأخذ سيفه وحربته ويخرج لاعمامه امام الناس ويسترد حقه . البست جملة جمول ملابس بيضاء وخرج بفرسه على المصلين وجمولة تزغرد وقص على الناس قصته وانه يريد مال ابيه ..فقال له الناس المال مال ابيك وانت سيدو ..اخذ جمول ماله ومال اخته وقرر الرحيل من القبيلة تاركا اعمامه غارقين فى الفضيحة والعيب .
يحيى فضل الله .اساطير وحكايات سودانية
تحكى هذه الحجوة شيئا من القيم السائدة فى مجتمع الرزيقات , كالدين والخلفية الثقافية والعلاقة بالمرأة والحيوان ومفاهيم العدل والحق والانصاف .
الدين والخلفية الثقافية :
من الواضح ان الحجوة تحمل الكثير من الظلال العروبواسلامية , فاطلاق اسم الجمل على بطلى هذه الحجوة , لايخرج عن الاطار الطبيعى للمجتمعات البدوية التى تعلى من شأن الجمل كحيوان له تقديره وخصوصيته على نحو ما اوضحنا فى معرض حديثنا عن الهمباتة , وفى المثل السودانى :لوسرقنا بنسرق جمل وان عشقنا بنعشق قمر ..وقد رأينا كيف ان سرقة الجمال عند الهمباتة مجلبة للفخروليس العار على عكس غيرها من الحيوانات. واسم عبد الرحمن الذى يبدو شبيها بالاسماء الاكثر انتشارا فى الوسط والشمال كملمح له علاقة بالاستقراروالزراعة ..وقد اعلت الحجوة الاسماء البدوية على الاسم النيلى , فجمل هو الفارس المنقذ وعبد الرحمن هو الدرويش التلفان, الذى يعى بادراك خاص اذ سمع واجاب على اغانى اخيه لكن دون رد فعل ملموس , كما فعلت جملة من حيث انها جملة وليست مجرد امرأة .
تظهر المظاهر الاسلامية فى مؤامرة الاعمام الشبيهة بمؤامرة اخوان يوسف حين انتصر رأى اطرحوه ارضا على اقتلوه ..كما ان خيار الجب هو خيار ابعاد كان متاحا لاخوان يوسف مقابل خيار الوعل الذى لايرد الحى ابدا . والدافع فى الحالتين هو امتلاك ما فى ايدى الخصم مما يفتقده المتآمرون ويحول ضحيتهم بينهم وبينه ..يخل لكم وجه ابيكم ..كان الدافع العاطفى وراء الخطيئة التى ارتكبها اخوان يوسف , بينما الدافع المادى وراء اعمام جمل واخوته . وفى كلتا الحالتين لم يبلغ الطمع ذلك الحد الذى يحيل صاحبه الى قاتل ..ولقصة واقعية كقصة اخوان يوسف , يبدو هذا الاقتراح مناسبا جدا لاخوان نبى وابناء نبى . لكن غياب العنف القاتل فى هذه الحجوة له مؤشرات ودلالات عميقة يجب ان لانتجاهلها بل نراهن عليها ..فما اسهل القتل فى الاحاجى والحكايات, بمبرر ودون مبرر موضوعى . وفى هذه الحجوة برزت مبررات كثيرة للقتل كالطمع والثأر, غير انه لم تراق قطر دم واحدة بشرية .فقط دماء الكرامات والاضاحى على نحو ما اباح الدين . وفى رأيى ان قبيلة الرزيقات قد تأثرت بالقبائل النيلية ومنها الدينكا , وهى قبيلة يقوم دينها الوطنى على فكرة تقديس الارواح التى يعزى الى تبديدها حرمان الدينكا من الخلود والعلاقة الحسية المباشرة مع الاله, على النحو الذى ذهبنا اليه فى حجوة الدينكا , كما ان الدين الاسلامى هو دين التسامح والمحبة . وبالتالى تبدو قصص المذابح والحروب الدموية قصة طارئة لاتليق بالمكون الثقافى لقبيلة الرزيقات وموروثها الثقافى المسالم . وكما ذكرنا تتدخل اسباب اخرى فى صياغة الشخصية بما فى ذلك جغرافيا المكان, مناخه وتاريخه .تظهر الملامح الدينية فى اقتراح الثياب البيضاء كثياب فروسية جديرة بالحق والعدل والانصاف ولتلقى على المشهد الحكائى رهبة الحضور الدينى الذى يختار وقت الصلاة وزى الصلاة للتدليل على النصرة والمباركة الالهية.كما ان صلاة العيد هى ميقات له حضور غيبى فى وجدان السودانيين وله نفحاته وبركاته. كما له دلالاته كدينونة صغرى لخاطئين . ولوهلة تبدو العقوبة التى اختارها جمل لاعمامه متسامحة..فتركهم غارقين فى العيب والفضيحة , اهون من الاقتصاص منهم بالقتل . ولكن الذى يتفرس فى قيم المجتمع البدوية يدرك ان الحياة بعار العيب والفضيحة افضل منها الموت كالفرسان. واكتفاء جمل بهذه العقوبة يعلى قدره كفارس قدر وعفا دمه . كما ان رحيله واهله من القبيلة عار لا يمكن لبدوى احتماله , وهم الايتام رعايا القبيلة الذين ظلموا وانتصروا ورحلوا ليحتمو بالاغراب ! كما ان مشهد ظهور جمل على فرسه بملابسه البيضاء وهويحمل سيفه وحربته تتبعه زغاريد اخته . له مشهد ترتعش له دماء اى فارس بدوى .ويدلل على المكون الشكلى للفروسية .
المرأة :
المرأة عند الرزيقات وان لم تكن فارسة بالشكل الذى يجعلها تحمى مال ابيها الا انها لاتعوزها الحيلة ولا الادراك السليم وحسن التصرف . فالفتاة لم تصدق خديعة اعمامها ولم تمكنهم من التخلص منها بتزويجها , وهى التى انقذت فتاها ووقفت خلفه تشد من ازره حتى انتصر وعلى زغاريد جمولة بدا جمول اكثر فروسية وارهابا. ومن عينى فتاته , يستمد الفارس الرزيقى ايمانه بفروسيته ويصدق ان صدقت المرأة واعلنت ذلك بالزغاريد.فبالتالى المرأةهى الحكم الذى ينصب الفرسان ويحرم !
اما العجوز فى الحكاية , فهى العجوز فى كل الاحاجى السودانية من حلفا الى نمولى, مصدر المعرفة والحكمة الانسانية . والذات المجردة لخدمة الغير ,بتفانى نادر وانكار ذات .وكأنها روح مرسلة من اجل الخير ..وهنا ايضا تظهر ثقافة الدينكا كقبيلة تقدس الاسلاف وتوقرهم.
هذه النماذج من كتاب يحيى فضل الله .حكايات واساطير سودانية . نشرت فى جريدة السودانى الاسبوعى تحت عنوان الاحاجى الشعبية مقاربة لشخصية سودانية .

مراجع و إحالات

1-Samuel.p.Humtington, who are we? Americas Great debate ,p12.
2_المصدر السابق .ص13 .
3_الدكتور عاطف وصفى ,الثقافة والشخصية .دار المعارف .الطبعة الثانية 1977 .ص180.
4_المصدر السابق .ص 180.
5_المصدر السابق . ص180.
6_أمين معلوف . الهويات القاتلة .ترجمة نهلة بيضون.دار الجندى . الطبعة الاولى ...1999 , ص19_20 .
7_ هنتنغتون .مصدر سابق .ص21 .
8_د. حسين ابو رياش,د.عبد الحكيم عبد الصافى ,د.اميمة عمور,د.سليم شريف . الاساءة والجندر .دار الفكر .الطبعة الاولى 2006 .ص26_27 .
9_الاساءة والجندر .مصدر سابق .
10_ د.عبد الغنى فضل الله .محاضرة فى علم النفس . مجلس التخصصات الطبية _السودان .يونيو /2006 .
11_ Nicky Hayes. Foundation of Psychology.Thomoson publishing company. Second edition1998. P382.
12_نيكى هيز .مصدر سابق .
13_نيكى هيز .مصدر سابق .
14_ أمين معلوف . مصدر سابق .
15_Kaplan and Sadock.Synopsis of Psychiatry. Williams and Wilkins. Seventh edition1994.p 250.
16_د.عاطف وصفى.مصدر سابق .ص191 .
17_د.عاطف وصفى . مصدر سابق .ص156 .
18_ د.عاطف وصفى.مصدر سابق.ص 198 .
19_ريمون كاربانتييه.معرفة الغير .ترجمة نسيم نصر. دار منشورات عويدات .بيروت .الطبعة الثالثة 1984 .ص7 .
20_د.عبد الله على ابراهيم .وراء حجاب احاجى المرأة .مجلة الدراسات السودانية .دار جامعة الخرطوم للنشر ومعهد الدراسات الافريقية والاسيوية .العدد ½ مزدوج المجلد الحادى عشر اكتوبر 1991 .ص81 .
21_ د.عبد الله على ابراهيم . مصدر سابق .ص82 .
_د.عبد الله على ابراهيم .مصدر سابق ص82 .
22_د. عبد الله الطيب. الاحاجى السودانية . مطبعة جامعة الخرطوم .الطبعة الثالثة 2004.
23_يحيى فضل الله .حكايات واساطير سودانية.المركز السودانى للثقافة والاعلام .
24_M. Elhadi Hassan Hashim.Nobiin Stories Volume one. Nubian
pressBerlin2005.
25_( سلام سلام يا جلابة
أبوى اخدرن طويل
ياجلابةجمله الهدير
ياجلابة سوطه الوروير
ياجلابة توبو توب حرير
ياجلابة )
26_د.ناهد محمد الحسن. اساطير وتراث الدينكا وحدة التجربة الانسانية ام حوار الثقافات .ندوة التنوع الثقافى_مركز الدراسات السودانية 2002 .
27_ د. فرانسيس دينق .صراع الرؤى نزاع الهويات فى السودان . ترجمة د. عوض حسن . مركز الدراسات السودانية . الطبعة الثانية 2001 .ص13 .

Post: #28
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-07-2007, 10:44 AM
Parent: #1

العزيز طلة الشهير ب استاذ/ طلال عفيفى
الوطن يحتاج لكل الجهود وتشابك الايدى من اجل نشر الاستنارة والعقلانية

Post: #29
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-07-2007, 11:00 AM
Parent: #1

استاذ/ عبدالغفار محمد سعيد
طبعا ضحكتا من قصة الحسادة على حضور المؤتمر
يا زول ولا يهمك الجايات اكتر , واتمنى اشوفك بينا فى الفعاليات القادمة
الاوراق كلها والصور ح تنزل تباعا
اجزل الشكر والتحايا .

Post: #30
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: omar ali
Date: 10-08-2007, 04:10 PM
Parent: #1

مع هذه البداية القوية لمركز الخاتم عدلان للاستنارة
نتمني ان تكون المناشط الثقافية والفكرية القادمة مسجلة
بالفيديو حتي يتمكن المتلقي ان يحيط بكامل المحاضرات
والندوات.. وما تلك بامنية مستحيلة في عصر الثورة
المعلوماتية.

Post: #31
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: yumna guta
Date: 10-08-2007, 05:07 PM
Parent: #30

سلامات شاهين
عمل جميل و قيم
تشكر علي التوثيق و المتابعة التي مكنتنا من الحضور معكم رغم المسافات

Post: #32
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: Tragie Mustafa
Date: 10-08-2007, 06:12 PM
Parent: #31

شاهين
عيد مبارك
وماشاء الله نشاط تمام
وبالله بلغ تحياتنا للرجال القامه الباقر العفيف.
(عيدية) الباقر العفيف لابناء الهامش....حقيقة الرغبه في ...سود للذات الشماليه!!

Post: #33
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-10-2007, 10:20 AM
Parent: #1


د. امين مكى مدنى فى مداخله وتساؤلات

وبروفسير محمد الامين التوم وعرض شيق حبس الانفاس حال واقع التعليم بالحقائق والارقام

ولفيف من قيادات المجتمع المدنى وفخرنا من الشباب الاستاذ مجدى النعيم والاستاذ امير محمد سليمان والاستاذ
منعم الجاك .. ومن الخلف الاستاذ السر السيد

د. منصور خالد ود. امين مكى مدنى ود. الباقر العفيف يواصلون الجدل خارج القاعة

وزحام فى القاعة اجبرنا على المتابعة وقوفا عفوا استاذنا مرتضى الغالى فقد عودتنا انك منا

وصورة تجمع بين د. ناهد ود. منصور

Post: #34
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-10-2007, 10:49 AM
Parent: #1


وجانب من الحضور يبدو فى الامام الاستاذ عبد الله فضل الله

المنصه

url=h[ttp://www.sudaneseonline.com/][/url]
والرائعة جدا اروى الربيع

والرصينة البليغة رشا عوض ،، تميز المؤتمر باستضافته والاستماع للشباب فى حضرة اساتذة اجلاء

الاستاذ نبيل اديب يقول ،،، صراع الهوية بخفى صراع حقيقى اخر

والتقى جيل البطولات بجيل التضحيات الدكتورة سارة نقدالله

الدكتور فاروق جاتكوث لم يتوقف من مداخلاته الساخنة واللاذعة وهو يتساءل من قال
انو الجلابية والعمة للرجال والثوب للنساء هما الذى الوطنى للسودانيين ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

Post: #35
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-10-2007, 11:46 AM
Parent: #1


د. بابكر محمد الحسن نقيب اساتذة جامعة الخرطوم

وتابعة لصيقة لجميع الاوراق من د. عدلان الحردلو



الدكتور محمد احمد خليفة مدير جامعة امدرمان الاهلية



صورة نادرة تجمع عقد فريد من الدكاترة الاجلاء د. فاروق احمد ابراهيم د. محمد جلال د. عدلان حردلو ود. ادريس سالم


والاستاذ طه ابراهيم ومتابعة للمتحدثين


جانب من الحضور


وصورة نادرة اخرى د. سليمان بلدو .... ومن خلفه يظهر د. ابكر ادم اسماعيل

Post: #36
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-12-2007, 12:57 PM
Parent: #1


د. محمد الامين البشير يواصل معارضته للاوراق المطروحه



د.عبد الحليم صبار( من عندنا) وقد اضاف الكثير المثير عن خبايا قضية الهوية


Post: #37
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-12-2007, 03:40 PM
Parent: #1

المتداخلات والمتداخلين
كل عام وانتم بخير وشكرا جزيلا ساعود اليكم واحدا واحدا

وتابعوا معى بقية الاوراق والكثير من الصور حسب طلبات زوار البوست المحترمين

Post: #38
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-13-2007, 07:48 AM
Parent: #1

up

Post: #39
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: دينا خالد
Date: 10-13-2007, 03:58 PM
Parent: #1

شاهييين ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
والله الاصعب من موضوع الهوية قراية الاوراق دى !!

وبعدين الكلام دراب دراب ،، يعنى الناس دى ما قادرة تفهم
انو ممكن تكون مثقف وتحل المشكلات بكلام بسيط وساااهل
كان الله فى عونهم ،، غايتو الخاتم ما عندنا فيه كلام لكن
الفيهم عرفناها

Post: #40
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-13-2007, 05:17 PM
Parent: #1

كل سنة والجميع بخير

Post: #41
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-13-2007, 11:36 PM
Parent: #1

لمزيد من القراءة والاطلاع

Post: #42
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-15-2007, 04:15 PM
Parent: #1

فى خضم زخم المناقشات اثناء المؤتمر كان هناك وعد من دكتور/ الباقر العفيف مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية بعقد ندوة مفتوحة لمناقشة جدلية المركز والهامش لاتاحة مزيد من الحوار .
وبالفعل تشرفنا بحضور السادة
1 دكتور / محمد جلال هاشم .
2 دكتور / ابكر ادم اسماعيل .
فى مساء الاثنين الثانى من اكتوبر الساعة التاسعة مساء فى الفناء الخارجى للمركز وكان الحضور
ابتدر الحديث د/ محمد جلال هاشم وهذه ابرز النقاط التى تحدث فيها سيادته :-
* علاقة المركز والهامش ليست علاقة جدلية بل علاقة ظالمة .
* عن جدلية الحرب والسلام ليست علاقة جدلية بينهما فى عصر الحروب الاهلية .
* اتفاقية نيفاشا لم تنهى الحرب بل ازدادت .. احتمال انفصال اصبح واردا .
* مفهوم المركز والهامش وظهور المصطلح نتيجة تداعيات ومسارات اقتصادية وسياسية وثقافية .
* المزروعى هو اول من اطلق هذا المصطلح .
وكانت هناك عدة نقاط تحدث فيها دكتور / ابكر اسماعيل :-
تركزت حول الربط بين مفهوم الهوية والمدرسة الاقتصادية .
(سوف اقوم بتفريغ شريط الندوة وعرض اهم النقاط لان الاوراق التى بين يدى الخط فيها غير واضح )

Post: #43
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-15-2007, 04:20 PM
Parent: #1

تحية استاذ/ عمر على
اقتراح جيد للغاية حول انزال فعاليات المركز صوت وصورة
فى البال انشاء موقع خاص على الشبكة العنكبوتية .. شكرا لك .

Post: #44
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-15-2007, 04:24 PM
Parent: #1

سلامات استاذ/ بهاء بكرى وانت تسير على درب الراحل الكبير استاذنا الخاتم.

Post: #45
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-19-2007, 11:05 PM
Parent: #1

لمزيد من المناقشة حول الاوراق

Post: #46
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-22-2007, 01:35 PM
Parent: #1

شكرا على المداخلة استاذة/ رجاء العباسى
كل الود والتحايا .

Post: #47
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-22-2007, 01:44 PM
Parent: #1

تحايا قلبية حارة استاذ/ نادوس .

Post: #48
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 10-28-2007, 11:14 AM
Parent: #1

up

Post: #49
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: omar ali
Date: 10-28-2007, 04:11 PM
Parent: #1

فـــوق مـن اجــل الاستنــارة
والمزيــد مــن الاستنـــارة

Post: #50
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 11-01-2007, 07:14 AM
Parent: #1

omar ali
thank u very much

Post: #51
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 11-04-2007, 01:50 PM
Parent: #1

.

Post: #52
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 11-05-2007, 08:18 AM
Parent: #1

تحيات استاذة/ تراجى

Post: #53
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: Rawia
Date: 11-05-2007, 09:34 AM
Parent: #52

سلامات شاهين
مرحب بمركز الخاتم للاستنارة ومبروك على مواطني السودان عموما
والمؤتمر ومن خلال الصور بس شكله انه ناجح
لدي سؤال
هل في النية عقد مؤتمرات او اقامة فعاليات في بقية مدن السودان الاخرى ولا حتقتصرالنشاطات على الخرطوم

عموما حاضرين للدعم بكل اشكاله

ويارجاء شاهين ياهو شاهين

Post: #54
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: shaheen shaheen
Date: 11-10-2007, 09:57 PM
Parent: #1

العزيزة راوية
شكرا كتير لمداخلتك وكلماتك الطيبات
وتقدير كبير لما ابديتيه من مساندة ومؤازرة
ومدخرنك للكبيره ...
المركز بصدد تسجيل فروعة بمدن السودان المختلفة
بعد ان تم تسجيلة اتحاديا ... فقط الامر محتاج لاجراءت طويلة
وجديدة لتسجيل اى فرع !!

Post: #55
Title: Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)
Author: Nasr
Date: 11-11-2007, 01:36 AM
Parent: #1

تحايا وتهاني لهذا الجهد الجبار
ولهذا الخيط المفيد جدا
الهي يقدرنا علي القراية وعلي الفهم كمان