الديوم الشرقية :{ مهبط الوعي والفن وقلعة نضال ومرتع جمال }

Quote: الحبيب...عبدالرحمن والأسرة الكريمة الفاضلة إجترار الذاكرة فى الزمن الموات،حياة ومنتدى، الديم....يملؤني اشراق حد (الشرقة) ويدعوني لممارسة طقوس قد يفهموها القاصي والداني بشروط ولادتها. لك التحية...ولكل من يحلق بجانحين أو بدونهما. لنا وله عطر الحكي والنكهة. لقد انزلت هذا البوست الأتي فى منتدى خريجي جامعات المغرب منذ اسبوع دون اي تعديل و )القلوب شواهد...أو عند بعضِها. قمر الديم ينام على مخدة النيل،فى كل ليلة - 1 – كانت الشمس تسقط عمودية في الخرطوم. الأشعة كمثل أسنَّة الرماح. تذكر بالرماح التي بَنَتها وبتلك التي غَزَتها. وبدت كأنها تلتهم نفسها، فيما تُشعل كل شيء. وكانت أبنية القصر الراسخة، على شاطئ النيل، هي وحدها التي تعرف البرودة، وتكتنز الظل في ذلك الحريق الشمسي المُهيمن. ابنية القصر: بقايا معمارٍ باذخ يصارع الوقت فيما يعقد مع العسكر صلحاً الى آخر الأزمنة. اهبط أيها المساء، عجّل. ضفاف النيل تتنهد، والمقهى الذي ينتظرنا بين أحضان ذاكرة المغرب، آخذٌ في التمسرح، وفي بسط تقاليده. - 2 – صدفة كانت زيارتي له في بيته، اثناء مطاردات الأمن. طبيب انسان يرسخ جذور العلاقة بين الطبابة والحس المطلبي في التراث السوداني. حقاً، الكتابة طب آخر. - تذكر؟ تعارفنا في الديم منذ السبعينات في بيت سيدة جميلة كريمة، كانت تُكن لك مودة عالية، وتعتز بصداقتها جدتي والحي: حجة زرقا. بدا، فيما يُصغي إليّ، كأنه ينتشي، محوّلاً فصول كتاب الأمن الى هيكل أحلام وخواطر. وبدا كأنه يستعيد تلك الأيام التي سبقت فصله من جامعة الخرطوم. وكان في كل كلمة يتفوه بها يبدو كأنه يبتكر وجهين: وجهاً لديم الالفة، ووجهاً لحوش حجة زرقا. كانت الديوم في تلك اللحظة، فصلاً في الحب، وفصلاً في الذكرى. وخُيّل إليّ كأنه يُمسك بالتاريخ، ويزرعه كما يزرع الكلى. - 3 – في طريقنا من امدرمان على شاطئ النيل والى الديم، زرنا مدينة بحري. قرأنا فيها خطوات لسماء هبطت مرة على ترابها وغابت. قال: بأن وثائق صناعة النسيج العالية الجودة كانت اختصاصها الأول، اضافة الى الصناعات التقليدية فى امدرمان. (صناعتان تنتحران فى السودان، لكن بدلاً، على الأقل، من المحافظة على مستواهما الأول، أو تطويرهما في أشكال أكثر تنوعاً وكمالاً، تموتان دون انجاب). وتوضح الوثائق القليلة الناجية من الحريق والخراب، أن الفنانين فيها، وبخاصة صناع المراكب، كانوا يستخدمون لتجويد أعمالهم موادّ متنوعة، فيما يؤكد براعة التفنن، ومهارته. -4- قمر الديم ينام، على مخدة النيل. - 5 – نهر النيل أوبرا شواطئ للصم وعُمال وأجنحة. - 6 – الطريق بين شارع النيل والديم ركامٌ ونفايات – وتبدو أكياس البلاستيك السوداء، البيضاء كمثل رؤوس بشر تتدلى من الشجر، ومن أعمدة الكهرباء على جانبي الطريق. الهواء نفسه يكاد ان يختنق فيما يمر على الطريق. لماذا؟ ألأن الطريق ليس ملكاً فردياً؟ ولماذا يغيبُ الحسُّ بالمشترك العام الوطني الذي يتخطى حدود الفردية؟ ولماذا يبدو الفرد في السودان كأنه لا ينجح إلا إذا فكر وسلك وعمل كما لو أنه البلاد كلها؟ ولماذا لا يفكر ولا يُعنى إلا بما ملكت يداه، وإلا ببيته وحدوده المباشرة؟ ولماذا يدير ظهره لكل ما عدا ذلك، ولو كان تلة من النفايات تجثم أمام بيته؟ ولماذا يبدو العام كأنه مجرّد وسيلة للخاص، أو كأنه مجرد حقيبة في يد الخاص؟ من أين لك هذا، أيها الخاص؟ وأنتَ أيها العام، من أين لك هذا، أيضاً؟ ألهذا نجد في الشمال (وفي الجنوب كذلك وفى كل الجهات) أنواعاً كثيرة من الشمال؟ ألهذا يكاد كل بيت ان يكون وطناً قائماً بذاته؟ ألهذا نرى ملايين الأوطان الخاصة في الوطن الذي يفترض أن يكون وطن الجميع بالتساوي؟ ألهذا نجد الإنسان أحد اثنين: تابعاً (صالحاً ومحموداً) أو مبتدعاً (طالحاً ومذموماً)؟ في السياسة وفي الدين، في الأدب والفن والفكر، في النظر وفي العمل، في الحياة وفي الموت. إنه الموت. كأن الموت هو الذي يقود الحياة. السودان، من أين لكِ هذا؟ وقل لي، يا علي فضل، لماذا يكون للماء في الديم طعمٌ يجيء من السبلوقة؟ ولماذا كانت الإنقاذ، والمشروع الحضاري، والاتفاقيات إكسيراً فريداً شربه السودانيون، فازدادوا شتاتاً وتفككاً، وازدادوا فقراً؟ و بفضل هذا الإكسير تخلّف التعليم كذلك، وانهارت الثقافة وغاب العلاج. - 7 – أحياناً، يجري التاريخ في جسدك كأنه نيلٌ ثانٍ. أحياناً، تسأل نفسك: هل الحضارة أسراب طيور لا تهاجر إلا لكي تقيم، أو لا تقيم إلا لكي تهاجر؟ - 8 – العلاقة، فنياً، بالجنوب في معظم بلدان العالم تستثير أسئلة كثيرة. الفن شمالي. في الشمال، يتآخى الفقر فى البيت والشارع. الشمال أقرب الى الحلم، والغضب، والتمرد. لكن، قد يكون السودان استثناء. شماله فنٌ وجنوبه فنّ. شماله بيت «الروح» التي هي جسدٌ ثانٍ، وجنوبه بيت «الجسد» الذي هو روح ثانية. . كنت شخصياً أود أن أرى الجعلي والفوراوي والشايقي و الشُكري والمحسي والدينكاوي... إلخ، مصغياً اليهم ينطقون – كلٌ بلغته، وتقاليدها. وكنت أشتهي أن أنظر اليهم كيف يعيشون معاً في أخوة كاملة، وفي مواطنية عادلة وحرة، تحت سماء السودان كما كانوا فى الديم. يتنوعون، يتعددون، يتلاقون، يتآلفون، من دون ان يذوب أحدهم في الآخر – باسم اللغة، أو القومية، أو الدين. وتلك هي سماء السودان: تتلألأ فيها جميع الكواكب، حرة، ومن دون تمييز. - 9 – ثمة مفاتيح، لا تُستخدم، ويا للأسف، إلا لكي تغلق جميع الأبواب. - 10 – سأظل أصفح عنك، أيها المعتدي، أياً كنت، حتى ولو اتهمتني بأنني أخاف، وبأنني لا أعرف الشجاعة. - 11 – الخرطوم- صعدنا على السلم الذي يصعد عليه التاريخ، وتهبط منه الأنظمة وسياساتها. الديم: الروح كتابٌ، والمادة حركاته ونقاطه وفواصله. كان الأفق يكتب، والشمس تقرأ، وكنّا الأذن التي تُصغي. كل حجر أنشودة. كل جدارٍ لوحة. وانظروا الى تلك الغيوم السابحة في الحجر والتي تسوق التاريخ. كلا، ليس الموت عدو الانسان. الانسان هو، وحده، عدو الانسان. واهاً منك، وواهاً عليك أيها الفضاء القيد. كان التاريخ يتمدد على الجدران، وعلى وجه التراب. ورأينا للسماء جذوراً تتغلغل في الحجر والغبار. كان الزمن مُرهقاً وأحسسنا كأن رأسه يكاد أن يميل. أسند رأسك، اتكئ، ايها المريض العابر. - 12 – أكانت هذه البلاد بلادي، حقاً؟ - 13 – سمعنا كلاماً يردده الصمت. رأينا فضاء تتطاير فيه أشلاء المعنى. قرأنا جراحنا، وفضضنا أختامها. هل تقولون لي، أيها الأصدقاء، بماذا نُصارح هذه الشمس التي تطاردنا، وبأي منديل نمسح دموع حجة زرقا وجدتي؟ كيف يحدث لبلاد هي في أساس بناء العالم ،أن تدير ظهرها له – كأنها تنقرض؟ ولماذا يعجز الفرد ويضيق وينكمش حتى انه لا يعود يهتم إلا بخبزه؟ وكيف يحدث أن ثقافة التراث والماضي التي تشرب يومياً مع الماء، تتحول في الممارسة الى تمجيد للعائلة والطائفة والحزب، والى دعوة لرياضات العنف؟ وقولوا كيف يمكن أن يكون الفرد طائراً في بلاد ليست إلا قفصاً؟ وكيف يمكن أن يكون أفقاً في وطن ليس إلا كهفاً؟ أو كيف يحدث لبلاد ليست إلا شمساً، أن تنقلب الى مجرد مسرح للظل؟ . .......................... بتصرف من مقال لأدونيس، نشر فى جريدة الحياة بتاريخ22/9/2005